روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

Translate

الاثنين، 23 مايو 2022

كتاب : القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد محمد بن علي بن محمد الشوكاني

كتاب : القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد محمد بن علي بن محمد الشوكاني 

 

القول المفيد للشوكاني

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله تعالى وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه و سلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار
وبعد
فيقول العالم الإمام المجتهد المجاهد محمد بن علي الشوكاني
طلب مني بعض المحققين من أهل العلم أن أجمع له بحثا يشتمل على تحقيق الحق في التقليد أجائز هو أم لا على وجه لا يبقى بعده شك ولا يقبل عنده تشكيك

ولما كان هذا السائل من العلماء المبرزين كان جوابه على نمط علم المناظرة فنقول وبالله التوفيق

أدلة القائلين بجواز التقليد لما كان القائل بعدم جواز التقليد قائما من مقام المنع وكان القائل بالجواز مدعيا كان الدليل على مدعي الجواز وقد جاء المجوزون بأدلة
أولا
منها قوله تعالى فأسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون قالوا فأمر سبحانه وتعالى من لا علم له أن يسأل من هو أعلم منه
والجواب أن هذه الآية الشريفة واردة في سؤال خاص خارج عن محل النزاع كما يفيده ذلك السياق المذكور قبل هذا اللفظ الذي استدلوا به وبعده قال ابن جرير البغوي وأكثر المفسرين أنها نزلت على رد المشركين لما أنكروا الرسول بشرا وقد استوفى ذلك السيوطي في الدر المنثور وهذا هو المعنى الذي يفيده السياق قال الله تعالى وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وقال تعالى أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم وقال تعالى

وما أرسلنا من قبلك إلا رجال نوحي إليهم من أهل القرى وعلى فرض أن المراد السؤال العام فالمأمور بسؤالهم هم أهل الذكر والذكر هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم لا غيرهما ولا أظن مخالفا يخالف في هذا لأن هذه الشريعة المطهرة إما من الله عز و جل وذلك هو القرآن الكريم أو من رسول الله صلى الله عليه و سلم وذلك هو السنة المطهرة ولا ثالث لذلك وإذا كان المأمور بسؤالهم هم أهل القرآن والسنة فالآية المذكورة حجة على المقلدة وليست بحجة لهم لأن المراد أنهم يسألون أهل الذكر ليخبروهم به فالجواب من المسؤولين أن يقولوا قال الله كذا فيعمل السائلون بذلك وهذا هو غير ما يريده المقلد المستدل بالآية الكريمة فإنه إنما استدل بها على جواز ما هو فيه من الأخذ بأقوال الرجال من دون سؤال عن الدليل فإن هذا هو التقليد ولهذا رسموه بأنه قبول قول الغير من دون مطالبة بحجة فحاصل التقليد أن المقلد لا يسأل عن كتاب الله ولا عن سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم بل يسأل عن مذهب إمامه فقط فإذا جاوز ذلك إلى السؤال عن الكتاب والسنة فليس بمقلد وهذا يسلمه كل مقلد ولا ينكره وإذا تقرر بهذا أن المقلد إذا سأل أهل الذكر عن كتاب الله وسنة رسوله

صلى الله عليه و سلم لم يكن مقلدا علمت أن هذه الآية الشريفة على تسليم أن السؤال ليس عن الشيء الخاص الذي يدل عليه السياق بل عن كل شيء من الشريعة كما يزعمه المقلد تدفع في وجهه وترغم أنفه وتكسر ظهره كما قررناه
ثانيا
ومن جملة ما استدلوا به ما ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال في حديث صاحب الشجة ألا سألوا إذ لم يعلموا إنما شفاء العي السؤال وكذلك حديث العسيف الذي زنى بامرأة مستأجرة فقال أبوه سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وإن على امرأة هذا الرجم وهو ثابت في الصحيح قالوا فلم يفكر عليه تقليد من هو أعلم منه
والجواب أنه لم يرشدهم صلى الله عليه و سلم في حديث صاحب الشجة إلى السؤال عن آراء الرجال بل أرشدهم إلى السؤال عن الحكم الشرعي الثابت عن الله ورسوله صلى الله عليه و سلم ولهذا دعا عليهم لما أفتوا بغير علم فقال صلى الله عليه و سلم قتلوه قتلهم الله مع أنهم قد أفتوا بآرائهم فكان الحديث حجة عليهم لا لهم فإنه اشتمل على أمرين أحدهما الإرشاد لهم إلى السؤال عن الحكم الثابت بالدليل والآخر الذم لهم على اعتماد الرأي والإفتاء به وهذا معلوم لكل عالم

فإن المرشد إلى السؤال هو رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو باق بين أظهرهم فالإرشاد منه إلى السؤال وإن كان مطلقا ليس المراد به إلا سؤاله صلى الله عليه و سلم أو سؤال من قد علم هذا الحكم منه والمقلد كما عرفت سابقا لا يكون مقلدا إلا إذا لم يسأل عن الدليل أما إذا سأل عنه فليس بمقلد فكيف يتم الاحتجاج بذلك على جواز التقليد وهل يحتج عاقل على ثبوت شيء بما ينفيه وعلى صحة أمر بما يفيد فساده فانا لا نطلب منكم معشر المقلدة إلا ما دل عليه ما جئتم به فنقول لكم اسألوا أهل الذكر عن الذكر وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم وأعملوا به واتركوا آراء الرجال والقيل والقال ونقول كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا تسألون فإنما شفاء العي السؤال عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم لا عن رأي فلان ومذهب فلان فإنكم إذا سألتم عن محض الرأي فقد قتلكم من أفتاكم به كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في حديث صاحب الشجة قتلوه قتلهم الله وأما السؤال الواقع من والد العسيف فهو إنما سأل علماء الصحابة عن حكم مسئلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم ولم يسألهم عن آرائهم ومذاهبهم وهذا يعلمه كل عالم ونحن لا نطلب من المقلد إلا أن يسأل كما سأل والد العسيف ويعمل على ما قام عليه الدليل الذي رواه له العالم المسئول ولكنه أقر على نفسه بأن لا يسأل إلا

عن رأي إمامه لا عن روايته فكان استدلاله بما استدل به ههنا حجة عليه لا له والله المستعان
ثالثا
ومن جملة ما استدلوا به ما ثبت أن أبا بكر رضي الله عنه قال في الكلالة أقضي فيها فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه وهو ما دون الولد والوالد فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر وصح أنه قال لأبي بكر رأينا تبع لرأيك وصح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يأخذ بقول عمر رضي الله عنه وصح أن الشعبي قال كان ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يفتون الناس ابن مسعود وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي بن كعب وأبو موسى رضي الله عنهم وكان ثلاثة منهم يدعون قولهم لقول ثلاثة كان عبد الله يدع قوله لقول عمر وكان أبو موسى يدع قوله لقول علي وكان زيد يدع قوله لقول أبي بن كعب
والجواب عن قول عمر أنه قد قيل أنه يستحي من مخالفة أبي بكر في اعترافه بجواز الخطأ عليه وإن كلامه ليس كله صوابا مأمونا عليه الخطأ وهذا وإن لم يكن ظاهر لكنه يدل عليه وما وقع من مخالفة عمر لأبي بكر

في غير مسألة كمخالفته له في سبي أهل الردة وفي الأرض المغنومة فقسمها أبو بكر ووقفها عمر رضي الله عنهما وفي العطاء فقد كان أبو بكر يرى التسوية وعمر يرى المفاضلة وفي الاستخلاف فقد استخلف أبو بكر ولم يستخلف عمر بل جعل الأمر شورى وقال أن استخلف فقد استخلف أبو بكر وإن لم استخلف فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يستخلف قال ابن عمر فوالله ما هو إلا أن ذكره رسول الله صلى الله عليه و سلم فعلمت أنه لا يعدل برسول الله صلى الله عليه و سلم أحدا وإنه غير مستخلف وخالفه أيضا في الجد والأخوة فلو كان المراد بقوله أنه يستحي من مخالفة أبي بكر في الكلالة هو ما قالوه لكان منقوضا عليهم بهذه المخالفات فإنه صح خلافه له ولم يستحي منه فما أجابوا به في هذه المخالفات فهو جوابنا عليهم في تلك الموافقة وبيانه إنهم إذا قالوا خالفه في هذه المسائل لأن اجتهاده كان على خلاف اجتهاد أبي بكر قلنا ووافقه في تلك المسألة لأن اجتهاده كان موافقا لاجتهاده وليس من التقليد في شيء وأيضا قد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقر عند موته بأنه لم يقض في الكلالة بشيء واعترف أنه لم يفهمها فلو كان قد قال بما قال به أبو بكر رضي الله عنه تقليدا له لما أقر بأنه لم يقض فيها بشيء ولا قال أنه لم يفهمها ولو سلمنا أن عمر قلد أبا بكر في هذه المسألة لم تقم بذلك حجة لما تقرر من عدم حجة أقوال

الصحابة وأيضا غاية ما في ذلك تقليد علماء الصحابة من مسألة من المسائل التي يخفى فيها الصواب على المجتهد مع تسوية المخالفة فيما عدا تلك المسألة وأين هذا مما يفعله المقلدون من تقليد العالم في جميع أمور الشريعة من غير التفات إلى دليل ولا تعريج على تصحيح أو تعليل وبالجملة فلو سلمنا أن ذلك تقليد من عمر كان دليلا للمجتهد إذا لم يمكنه الاجتهاد في مسألة وأمكن غيره من المجتهدين الاجتهاد فيها أنه يجوز لذلك المجتهد أن يقلد المجتهد الآخر ما دام غير متمكن من الاجتهاد فيها إذا تضيقت عليه الحادثة وهذه مسألة أخرى غير المسالة التي يريدها المقلد وهي تقليد عالم من العلماء في جميع مسائل الدين وقبول رأيه دون روايته وعدم مطالبته بالدليل وترك النظر في الكتاب والسنة والتعويل على ما يراه من هو أحقر الآخذين بهما فإن هذا هو عين اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا كما سيأتيك بيانه وأيضا لو فرض ما زعموه من الدلالة لكان ذلك خاصا بتقليد علماء الصحابة في مسألة من المسائل فلا يصح إلحاق غيرهم بهم لما تقرر من المزايا التي للصحابة البالغة إلى حد يقصر عنه الوصف حتى صار

مثل جبل أحد من متأخري الصحابة لا يعدل المد من متقدميهم ولا نصيغه وصح أنهم خير القرون فكيف نلحق بهم غيرهم وبعد الليتا والتي فبما أوجدتمونا نصا في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه و سلم وليست الحجة إلا فيهما ومن ليس بمعصوم ولا حجة لنا ولا لكم في قوله ولا في فعله فما جعل الله الحجة إلا في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه و سلم عرف هذا من عرفه وجهله من جهله والسلام
وأما ما استدلوا به من قول عمر لأبي بكر رضي الله عنهما رأينا لرأيك تبع فما هذا بأول قضية جاءوا بها على غير وجهها فإنهم لو نظروا في القصة بكمالها لكانت حجة عليهم لا لهم وسياقها في صحيح البخاري هكذا عن طارق ابن شهاب قال جاء وفد من أسد وغطفان إلى أبي بكر رضي الله عنه فخيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية فقالوا هذه المجلية قد عرفناها فما المخزية فقالوا ننزع منكم الحلقة والكراع ونغنم ما أصبنا منكم وتردون علينا ما أصبتم منا وتودون لنا قتلانا ويكون قتلاكم في النار وتتركون أقواما يتبعون أذناب الإبل حتى يري الله خليفة رسوله صلى الله عليه و سلم والمهاجرين أمرا يعزونكم به فعرض أبو بكر ما قال على القوم فقام عمر بن الخطاب فقال قد رأيت رأيا وسنشير عليك أما ما ذكرت من الحرب المجلية أو السلم المخزية فنعم ما ذكرت وأما ما ذكرت تدون قتلانا

ويكون قتلاكم في النار فإن قتلانا قاتلت فقتلت على أمر الله أجورها على الله ليس لها ديات فتتابع القوم على ما قال عمر ففي هذا الحديث ما يرد عليهم فإنه قرر بعض ما رآه أبو بكر رضي الله عنه ورد بعضه وفي بعض ألفاظ هذا الحديث قد رأيت رأيا ورأينا لرأيك تبع فلا شك أن المتابعة في بعض ما رآه أو في كله ليس من التقليد في شيء بل الاستصواب ما جاء به في الآراء والحروب وليس ذلك بتقليد وأيضا قد يكون السكوت عن اعتراض بعض ما فيه مخالفة من آراء الأمر لقصد إخلاص الطاعة للأمراء التي ثبت الأمر بها وكراهة الخلاف الذي أرشد صلى الله عليه و سلم إلى تركه نعم هذه الآراء إنما هي في الحروب وليست في مسائل الدين وإن تعلق بعضها بشيء من ذلك فإنما على طريق الاستتباع وبالجملة فاستدلال من استدل بمثل هذا على جواز التقليد تسلية لهؤلاء المساكين من المقلدة بما لا يسمن ولا يغني من جوع وعلى كل حال فهذه الحجة التي استدلوا بها عليهم لا لهم لأن عمر رضي الله عنه قرر من قول أبي بكر ما وافق اجتهاده ورد ما خالفه وأما ما ذكره عن موافقة ابن مسعود لعمر رضي الله عنهما وأخذه بقوله وكذلك رجوع بعض الستة المذكورين من الصحابة إلى بعض ليس

ببدع ولا مستنكر فالعالم يوافق العالم في أكثر مما يخالفه من المسائل ولاسيما إذا كانا قد بلغا أعلى مراتب الاجتهاد فإن المخالفة بينهما قليلة جدا وأيضا قد ذكر أهل العلم إن ابن مسعود خالف عمر في نحو مائة مسألة وما وافقه إلا في نحو أربع مسائل فأين التقليد من هذا وكيف صلح مثل ما ذكر للاستدلال به على جواز التقليد وهكذا رجوع بعض الستة المذكورين إلى أقوال بعض فإن هذا موافقة لا تقليد وقد كانوا جميعا هم وسائر الصحابة إذا ظهرت لهم السنة لم يتركوها لقول أحد كائنا من كان بل كانوا يعضون عليها بالنواجز ويرمون بآرائهم وراء الحائط فأين هذا من جمع المقلدين الذين لا يعدلون بقول من قلدوه كتابا ولا سنة ولا يخالفونه قط وإن تواتر لهم ما يخالفه من السنة ومع هذا فإن الرجوع الذي كان يقع من بعض الصحابة إلى قول بعض إنما هو في الغالب رجوع إلى روايته لا إلى رأيه لكونه أخص بمعرفة ذلك المروى منه بوجه من الوجوه كما يعرف هذا من عرف أحوال الصحابة وأما مجرد الآراء المخطئة فقد ثبت عن أكابرهم النهي عنها والتنفير منها كما سيأتي بيان طرف من ذلك إن شاء الله تعالى وإنما كانوا يرجعون إلى الرأي إذا

أعوزهم الدليل وضاقت عليهم الحادثة ثم لا يبرمون أمرا إلا بعد التراود والمفاوضة ومع ذلك فهم على وجل ولهذا كانوا يكرهون تفرد بعضهم برأي يخالف جماعتهم حتى قال أبو عبيدة السلماني لعلي بن أبي طالب لرأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك
رابعا
واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه و سلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وهو طرف حديث العرباض ابن سارية وهو حديث صحيح وقوله صلى الله عليه و سلم اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر وهو حديث معروف مشهور ثابت في السنة وغيرها والجواب إن ما سنه الخلفاء الراشدون من بعده فالأخذ به ليس إلا لأمره صلى الله عليه و سلم بالأخذ به فالعمل بما سنوه والإقتداء بما فعلوه هو لأمره صلى الله عليه و سلم لنا بالعمل بسنة الخلفاء الراشدين والإقتداء بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يأمرنا بالإستنان بسنة عالم من علماء الأمة ولا أرشدنا إلى الإقتداء بما يراه مجتهد من المجتهدين فالحاصل إنا لم نأخذ بسنة الخلفاء ولا اقتدينا بأبي بكر وعمر إلا امتثالا لقوله صلى الله عليه و سلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وبقوله اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر فكيف يسوغ لكم أن تستدلوا بهذا الذي ورد فيه النص على ما لم يرد فيه فهل

تزعمون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال عليكم بسنة أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل حتى يتم لكم ما تريدون فإن قلتم نحن نقيس أئمة المذاهب على هؤلاء الخلفاء الراشدين فيا عجبا لكم كيف ترتقون إلى هذا المرتقى الصعب وتقدمون هذا الإقدام في مقام الإحجام فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما خص الخلفاء الراشدين وجعل سننهم كسنته في إتباعها لأمر يختص بهم ولا يتعداهم إلى غيرهم ولو كان الإلحاق بالخلفاء الراشدين سائغا لكان إلحاق المشاركين لهم في الصحبة والعلم مقدما على من لم يشاركهم في مزية من المزايا بل النسبة بينه وبينهم كالنسبة بين الثرى والثريا فلولا أن هذه المزية خاصة بهم مقصورة عليهم لم يخصهم بها رسول الله صلى الله عليه و سلم دون سائر الصحابة فدعونا من هذه التحولات التي يأباها الإنصاف وليتكم قلدتم الخلفاء الراشدين لهذا الدليل أو قلدتم ما صح عنهم على ما يقوله أئمتكم ولكنكم لم تفعلوا بل رميتم بما جاء عنهم وراء الحائط إذا خالف ما قاله من أنتم أتباع له وهذا لا ينكره إلا مكابر معاند بل رميتم بصريح الكتاب ومتواتر السنة إذا جاء بما يخالف من أنتم له متبعون فإن أنكرتم هذا فهذه كتبكم أيها المقلدة على البسيطة عرفونا من تتبعون من العلماء حتى نعرفكم بما ذكرناه
خامسا دون جملة ما استدلوا به حديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم

والجواب إن هذا الحديث قد روى من طريق عن جابر وابن عمر رضي الله عنهما وصرح أئمة الجرح والتعديل بأنه لم يصح منه شيء وأن هذا الحديث لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد يحكم عليه الحفاظ بما يشفي ويكفي فمن رام البحث عن طرقه وعن تضعيفها فهو ممكن بالنظر في كتاب من كتب هذا الشأن وبالجملة فالحديث لا تقوم به حجة ثم لو كان مما تقوم به الحجة فمالكم أيها

المقلدون وله فإنه تضمن منقبة للصحابة ومزية لا توجد لغيرهم فماذا تريدون منه فإن كان ما تقلدونه منهم احتجنا إلى الكلام معكم وإن كان من تقلدونه من غيرهم فاتركوا ما ليس لكم ودعوا الكلام على مناقب خير القرون وهاتوا ما أنتم بصدد الاستدلال عليه فإن هذا الحديث لو صح لكان الأخذ بأقوال الصحابة ليس إلا لكونه صلى الله عليه و سلم أرشدنا إلى أن الإقتداء بأحدهم أهدى فنحن إنما امتثلنا إرشاد رسول الله صلى الله عليه و سلم وحملنا على قوله وتبعنا سنته فإنما جعله محلا للإقتداء يكون بثبوت ذلك له بالسنة وهو قول رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم نخرج عن العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا قلدنا غيره بل سمعنا الله يقول وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وسمعناه يقول قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم وكان هذا القول من جملة ما آتانا به فأخذناه واتبعناه فيه ولم نتبع غيره ولا عولنا على ما سواه فإن كنتم تثبتون لأئمتكم هذه المزية قياسا فلا اعجب مما افتريتموه وتقولتموه وقد سبق الجواب عنكم في البحث الذي قبل هذا وبمثل هذا الجواب يجاب عن احتجاجهم بقوله صلى الله عليه و سلم إن معاذا قد سن لكم سنة وذلك في شأن الصلاة حيث أخر قضاء ما فاته مع الإمام ولا يخفى عليك أن فعل معاذ هذا إنما صار سنة بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم لا بمجرد فعله فهو إنما كان السبب بثبوت السنة ولم تكن تلك سنة إلا بقول

رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا واضح لا يخفى وبمثل هذا الجواب على حديث أصحابي كالنجوم يجاب عن قول ابن مسعود في وصف الصحابة فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم
خلاصة لما سبق تم ههنا جواب شمل ما تقدم من حديث عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين وحديث اقتدوا باللذين من بعدي وحديث أصحابي كالنجوم وقول ابن مسعود وهو أن المراد بالاستنان بهم والإقتداء هو أن يأتي المستن والمقتدي بمثل ما أتوا به ويفعل كما فعلوا وهم لا يفعلون فعلا لا يقولون قولا على وفق فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم وقوله فالإقتداء بهم هو إقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم والاستنان بسننهم هو استنان بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما أرشد الناس إلى ذلك لأنهم المبلغون عنه الناقلون شريعته إلى من بعده من أمته فالعقل وأن كان لهم فهو على طريق الحكاية لعقل رسول الله صلى الله عليه و سلم كأفعال الطهارة والصلاة والحج ونحو ذلك فهم رواة له وإنما كان منسوبا إليهم لكونه قائما بهم وفي التحقيق هو راجع إلى ما سنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فالإقتداء بهم إقتداء به والاستنان بسنتهم بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وإذا خفي عليك هذا فانظر ما كان يفعله الخلفاء الراشدون وأكابر الصحابة من عباداتهم فانك تجده حكاية لما كان

يفعله رسول الله صلى الله عليه و سلم وإذا اختلفوا في شيء من ذلك فهو لاختلافهم في الرواية لا في الرأي وقل أن تجد فعلا من تلك الأفعال صادرا عن أحد منهم لمحض رأي رآه بل قد لا تجد ذلك لا سيما في أفعال العبادات وهذا يعرفه كل من له خبرة بأحوالهم وعلى هذا فمعنى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خاطب أصحابه أن يقتدوا بما يشاهدونه بفعله من سننه وبما يشاهدون من أفعال الخلفاء الراشدين فإنهم المبلغون عنه العارفون بسنته المقتدون بها فكل ما يصدر عنهم في ذلك صادر عنه ولهذا صح عن جماعة من أكابر الصحابة ذم الرأي وأهله وكانوا لا يرشدون أحدا إلا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم لا إلى شيء من آرائهم وهذا معروف لا يخفى على عارف وما نسب إليهم من الاجتهادات وجعله أهل العلم رأيا لهم فهو لا يخرج عن الكتاب والسنة أما بتصريح أو بتلويح وقد يظن خروج شيء من ذلك وهو ظن مدفوع لمن تأمل حق التأمل وإذا وجد نادرا رأيت الصحابي يتحرج أشد التحرج ويصرح بأنه رأيه وإن الله بريء من خطئه وينسب الخطأ إلى نفسه وإلى الشيطان والصواب إلى الله تعالى كما تقدم عن الصديق في تفسير الكلالة وكما يروى عنه وعن غيره في فرائض الجد وكما كان يقول عمر في تفسير قوله تعالى وفاكهة وأبا وهذا البحث نفيس فتأمله حق تأمله تنتفع به

سادسا ومن جملة ما استدلوا به قوله تعالى وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم وقالوا وأولوا الأمر هم العلماء وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به
والجواب أن للمفسرين في تفسير أولي الأمر قولين أحدهما أنهم الأمراء والثاني أنهم العلماء ولا تمتنع إرادة الطائفتين من الآية الكريمة ولكن أين هذا من الدلالة على مراد المقلدين فإنه لا طاعة للعلماء ولا للأمراء إلا إذا أمروا بطاعة الله على وفق شريعته وإلا فقد ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وأيضا العلماء إنما أرشدوا غيرهم إلى ترك تقليدهم ونهوا عن ذلك كما سيأتي بيان طرف منه عن الأئمة الأربعة وغيرهم فطاعتهم ترك تقليدهم ولو فرضنا أن في العلماء من يرشد الناس إلى التقليد ويرغبهم فيه لكان مرشدا إلى معصية الله ولا طاعة له بنص حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما قلنا أنه مرشد إلى معصية الله لأن من أرشد هؤلاء العامة الذين لا يعقلون الحجج ولا يعرفون الصواب من الخطأ إلى التمسك بالتقليد كان هذا الإرشاد منه مستلزما لإرشادهم إلى ترك العمل بالكتاب إلا بواسطة آراء العلماء الذين يقلدونهم فما عملوا به عملوا به وما لم يعملوا به لم يعملوا به ولا يلتفتون إلى كتاب ولا سنة بل من شرط التقليد الذي أصيبوا به أن يقبل من إمامه رأيه ولا يعتزل عن روايته ولا يسأله عن

كتاب ولا سنة فإن سأله عنهما خرج عن التقليد لأنه قد صار مطالبا بالحجة
ومن جملة ما تحب فيه طاعة أولي الأمر تدبير الحروب التي تدهم الناس والانتفاع بآرائهم فيها وفي غيرها من تدبير أمر المعاش وجلب المصالح ودفع المفاسد الدنيوية ولا يبعد أن تكون هذه الطاعة في هذه الأمور التي ليست من الشريعة في المرادة بالأمر بطاعتهم لأنه لو كان المراد طاعتهم في الأمور التي شرعها الله ورسوله لكان ذلك داخلا تحت طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه و سلم ولا يبعد أيضا أن تكون الطاعة لهم في الأمور الشرعية في مثل الواجبات المخيرة وواجبات الكفاية أو ألزموا بعض الأشخاص بالدخول في واجبات الكفاية لزم ذلك فهذا أمر شرعي وجبت فيه الطاعة وبالجملة فهذه الطاعة لأولي الأمر المذكورة في الآية هذه هي الطاعة التي تثبت في الأحاديث المتواترة في طاعة الأمراء ما لم يأمروا بمعصية الله أو يرى المأمور كفرا بواحا فهذه الأحاديث مفسرة لما في الكتاب العزيز وليس ذك من التقليد في شيء بل هو في طاعة الأمراء الذين غلبهم الجهل والبعد عن العلم في تدبير الحروب وسياسة الأجناد وجلب مصالح العباد وأما الأمور الشرعية المحضة فقد أغنى عنها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم

سابعا وأعلم أن هذا الذي سقناه هو عمدة أدلة المجوزين للتقليد وقد أبطلنا ذلك كله كما عرفت ولهم شبه غير ما سقناه وهي دون ما حررناه كقولهم أن الصحابة قلدوا عمر في المنع من بيع الأمهات الأولاد وفي أن الطلاق يتبع الطلاق وهذه فرية ليس فيها مرية فإن الصحابة مختلفون في كلتا المسألتين فمنهم من وافق عمر اجتهادا لا تقليدا ومنهم من خالفه وقد كان الموافقون له يسألونه عن الدليل ويستروونه النصوص وشأن المقلد أن لا يبحث عن دليل بل يقبل الرأي ويترك الرواية ومن لم يكن هكذا فليس بمقلد
ثامنا ومن جملة ما تمسكوا به أن الصحابة كانوا يفتون والرسول صلى الله عليه و سلم بين أظهرهم وهذا تقليد لهم ويجاب عن ذلك بأنهم كانوا يفتون بالنصوص من الكتاب والسنة وذلك رواية منهم ولا يشك من يفهم أن قبول الرواية ليس بتقليد فأن قبول الرواية هو قبول للحجة والتقليد إنما هو قبول الرأي وفرق بين قبول الرواية وقبول الرأي فإن قبول الرواية ليس من التقليد في شيء بل هو عكس رسم المقلد فاحفظ هذا فإن مجوزي التقليد يغالطون بمثل ذلك كثيرا فيقولون مثلا أن المجتهد هو مقلد لمن روى له السنة ويقولون أن من التقليد قبول قول المرأة أنها قد طهرت وقبول قول المؤذن أن الوقت قد دخل وقبول الأعمى لقول من أخبر بالقبلة بل وجعلوا من التقليد قبول شهادة

الشاهد وتعديل وجرح الجارح ولا يخفى عليك أن هذا ليس من التقليد في شيء بل هو من قبول الرواية لا من قبول الرأي إذ قبول الراوي للدليل والمخبر بدخول الوقت وبالطهارة وبالقبلة والشاهد والجارح والمزكي هو من قبول الرواية إذ الراوي إنما أخبر المروى له بالدليل الذي رواه ولم يخبره بما يراه من الرأي وكذلك المخبر بدخول الوقت إنما أخبر بأنه شاهد علامة من علامات الوقت ولم يخبر بأنه قد دخل الوقت برأيه وكذلك المخبر بالطهارة فإن المرأة مثلا أخبرت أنها قد شاهدت علامة الطهر من القصة البيضاء ونحوها ولم تخبر بأن ذلك رأي رأته وهكذا المخبر بالقبلة أخبر أن جهتها أو عينها ههنا حيثما تقتضيه المشاهدة بالحاسة ولم يخبر عن رأيه وهكذا الشاهد فإنه أخبر عن أمر يعلمه بأحد الحواس ولم يخبر عن رأيه في ذلك الأمر وبالجملة فهذا أوضح من أن يخفى والفرق بين الرواية والرأي أبين من الشمس ومن التبس عليه الفرق بينهما فلا يشغل نفسه بالمعارف العلمية فإنه بهيمي الفهم وإن كان في مسلاخ إنسان
قال ابن حزيز منداد البصري المالكي التقليد معناه في الشرع الرجوع الى قول لا حجة لقائله عليه وذلك ممنوع منه في الشريعة والإتباع ما ثبت عليه الحجة إلى أن قال والإتباع في الدين متبوع والتقليد ممنوع وسيأتي

مثل هذا الكلام لإبن عبد البر وغيره
تاسعا وقد أورد بعض اسراء التقليد كلاما يؤيد به دعواه الجواز فقال ما معناه لو كان التقليد غير جائز لكان الاجتهاد واجبا على كل فرد من أفراد العباد وهو تكليف ما لا يطاق فإن الطباع البشرية متفاوتة فمنها ما هو قابل للعلوم الاجتهادية ومنها ما هو قاصر عن ذلك وهو غالب الطباع وعلى فرض إنها قابلة له جميعها فوجوب تحصيله على كل فرد يؤدي إلى تبطيل المعايش التي لا يتم بقاء النوع بدونها فإنه لا يظفر برتبة الاجتهاد إلا من جرد نفسه للعلم في جميع أوقاته على وجه لا يشتغل بغيره فحينئذ يشتغل الحراث والزراع والنساج والعمار ونحوهم بالعلم وتبقى هذه الأعمال شاغرة معطلة فتبطل المعايش بأسرها ويفضي ذلك إلى إنحزام نظام الحياة وذهاب نوع الإنسان وفي هذا من الضرر والمشقة ومخالفة مقصود الشارع ما لا يخفى على أحد
ويجاب عن هذا التشكيك الفاسد بأنا لا نطلب من كل فرد من أفراد العباد أن يبلغ رتبة الاجتهاد بل المطلوب هو أمر دون التقليد وذلك بأن يكون القائمون بهذه المعايش والقاصرون إدراكا وفهما كما كان عليه أمثالهم في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم خير القرون الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وقد علم كل عالم أنهم لم يكونوا

مقلدين ولا منتسبين إلى فرد من أفراد العلماء بل كان الجاهل يسأل العالم عن الحكم الشرعي الثابت في كتاب الله أو بسنة رسوله صلى الله عليه و سلم فيفتيه به ويرويه له لفظا أو معنى فيعمل بذلك من باب العمل بالرواية لا بالرأي وهذا أسهل من التقليد فإن تفهم دقائق علم الرأي أصعب من تفهم الرواية بمراحل كثيرة فما طلبنا من هؤلاء العوام إلا ما هو أخف عليهم مما طلبه منهم الملزمون لهم بالتقليد وهذا هو الهدى الذي درج عليه خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم حتى استدرج الشيطان بذريعة التقليد من استدرج ولم يكتف بذلك حتى سول لهم الاقتصار على تقليد فرد من أفراد العلماء وعدم جواز تقليد غيره ثم توسع في ذلك فخيل لكل طائفة أن الحق مقصور على ما قاله إمامها وما عداه باطل ثم أوقع في قلوبهم العداوة والبغضاء حتى إنك تجد من العداوة بين أهل المذاهب المختلفة ما لم تجده بين أهل الملل المختلفة وهذا يعرفه كل من عرف أحوالهم فانظر إلى هذه البدعة الشيطانية التي فرقت بين أهل هذه الملة الشريفة وصيرتهم على ما

يراه من التباين والتقاطع والتخالف فلو لم يكن من شؤم هذه التقليدات والمذاهب المبتدعات إلا مجرد هذه الفرقة بين أهل الإسلام مع كونهم أهل ملة واحدة ونبي واحد وكتاب واحد لكان ذلك كافيا في كونها غير جائزة فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان ينهى عن الفرقة ويرشد إلى الاجتماع ويذم المتفرقين في الدين حتى أنه قال في تلاوة القرآن وهو من أعظم الطاعات إنهم إذا اختلفوا تركوا التلاوة وأنهم يتلون ما دامت قلوبهم مؤتلفة وكذا ثبت ذم التفرق والاختلاف في مواضع من الكتاب العزيز معروفة فكيف يحل لعالم أن يقول بجواز التقليد الذي كان سبب فرقة أهل الإسلام وانتشار ما كان عليه من النظام والتقاطع بين أهله وإن كانوا ذوي أرحام
عاشرا وقد احتج بعض أسراء التقليد ومن لم يخرج عن أهله وإن كان عند نفسه قد خرج منه بالإجماع على جوازه وهذه دعوى لا تصدر من ذي قدم راسخة في علم الشريعة بل لا تصدر من عارف بأقوال أهل العلم بل لا تصدر من عارف بأقوال أئمة أهل المذاهب الأربعة فإنه قد صح عنهم المنع من التقليد
أقوال العلماء في النهي عن التقليد قال ابن عبد البر أنه لا خلاف بين أئمة أهل الأعصار في فساد التقليد وأورد فصلا طويلا في محاججه من قال بالتقليد وإلزامه بطلان ما يزعمه من جوازه فقال يقال لمن قال بالتقليد لم قلت به وخالفت السلف في ذلك به فإنهم لم يقلدوا فإن قلت قلدت لأن كتاب الله تعالى لا علم لي بتأويله وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم لم أحصها والذي قد قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم مني قيل له أما العلماء إذا أجمعوا على شيء من تأويل كتاب الله أو حكاية لسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض فما حجتك في تقليد بعض دون بعض وكلهم عالم ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه فإن قال قلدته لأني علمت أنه صواب قلت له علمت ذلك بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع فإن قال نعم فقد أبطل التقليد وطولب بما ادعاه من

الدليل وإن قال قلدته لأنه أعلم مني قيل له فقلدت كل من هو أعلم منك فإنك تجد من ذلك خلقا كثيرا ولا تخص من قلدته إذ علمك فيه أنه أعلم منك فإن قال قلدته لأنه أعلم الناس قيل له فهو إذا أعلم من الصحابة وكفى بقوله مثل هذا قبحا اه ما أردت نقله من كلامه وهو طويل وقد حكى في أدلة الإجماع على فساد التقليد فدخل فيه الأئمة الأربعة دخولا أوليا
وحكى ابن القيم عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنهما قالا لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه وهذا هو تصريح بمنع التقليد لأن من علم بالدليل فهو مجتهد مطالب بالحجة لا مقلد فإنه الذي يقبل القول ولا يطالب بحجة وحكى ابن عبد البر أيضا عن معن بن عيسى بإسناد متصل به قال سمعت مالكا يقول إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه
ولا يخفى عليك أن هذا تصريح منه بالمنع من تقليده لأن العمل بما وافق الكتاب والسنة من كلامه هو عمل بالكتاب والسنة وليس بمنسوب إليه وقد أمر أتباعه بترك ما كان من رأيه غير موافق للكتاب والسنة وقال سند بن عنان المالكي في شرحه على مدونة سحنون

المعروفة بالأم ما لفظه أما مجرد الاقتصار على محض التقليد فلا يرضى به رجل رشيد وقال أيضا نفس المقلد ليس على بصيرة ولا يتصف من العلم بحقيقة إذ ليس التقليد بطريق إلى العلم بوفاق أهل الرفاق وإن توزعنا في ذلك أبدينا برهانه فنقول قال الله تعالى فاحكم بين الناس بالحق وقال بما أتاك الله وقال ولا تقف ما ليس لك به علم وقال وإن تقولوا على الله ما لا تعلمون ومعلوم أن العلم هو معرفة المعلوم على ما هو به فنقول للمقلد إذا اختلفت الأقوال وتشعبت من أين تعلم صحة قول من قلدته دون غيره أو صحة قربة على قربة أخرى ولا يبدر كلاما في ذلك إلا انعكس عليه في نقيضه سيما إذا عرض له ذلك في مزية لإمام مذهبه الذي قلده أو قربه يخالفها لبعض أئمة الصحابة إلى أن قال أما التقليد فهو قبول قول الغير من غير حجة فمن أين يحصل به علم وليس له مستند إلى قطع وهو أيضا في نفسه بدعة محدثة لأنا نعلم بالقطع أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكن في زمانهم وعصرهم مذهب لرجل معين يدرك ويقلد وإنما كانوا يرجعون في النوازل إلى الكتاب والسنة أو إلى ما يتمحض بينهم من النظر عند فقد الدليل وكذلك تابعوهم أيضا يرجعون إلى الكتاب والسنة فإن لم يجدوا نظروا إلى ما

أجمع عليه الصحابة فإن لم يجدوا اجتهدوا واختار بعضهم قول صحابي فرآه الأقوى في دين الله تعالى ثم كان القرن الثالث وفيه كان أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل فإن مالكا توفي سنة تسع وسبعين ومائة وتوفي أبو حنيفة سنة خمسين ومائة وفي هذه السنة ولد الإمام الشافعي وولد ابن حنبل سنة أربع وستين ومائة وكانوا على منهاج من مضى لم يكن في عصرهم مذهب رجل معين يتدارسونه وعلى قريب منهم كان ابتداعهم فكم من قوله لمالك ونظرائه خالفه فيها أصحابه ولو نقلنا ذلك لخرجنا عن مقصود ذلك الكتاب ما ذاك إلا لجمعهم آلات الاجتهاد وقدرتهم على ضروب الاستنباطات ولقد صدق الله نبيه في قوله خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ذكر بعد قرنه قرنين والحديث في صحيح البخاري
فالعجب من أهل التقليد كيف يقولون هذا هو الأمر القديم وعليه أدركنا الشيوخ وهو إنما حدث بعد مائتي سنة من الهجرة وبعد فناء القرون الذين أثنى عليهم الرسول صلى الله عليه و سلم أه
وقد عرفت بهذا أن التقليد لم يحدث إلا بعد انقراض

خير القرون ثم الذين يلونهم وإن حدوث التمذهب بمذاهب الأئمة الأربعة إنما كان بعد انقراض الأئمة الأربعة وإنهم كانوا على نمط من تقدمهم من السلف في هجر التقليد وعدم الاعتداد به وإن هذه المذاهب إنما أحدثها عوام المقلدة لأنفسهم من دون أن يأذن بها إمام من الأئمة المجتهدين وقد تواترت الرواية عن الإمام مالك أنه قال له الرشيد أنه يريد أن يحمل الناس على مذهبه فنهاه عن ذلك وهذا موجود في كل كتاب فيه ترجمة الإمام مالك ولا يخلو من ذلك إلا النادر وإذا تقرر أن المحدث لهذه المذاهب والمبتدع لهذه التقليدات هم جملة المقلدة فقط فقد عرفت مما تقرر في الأصول أنه لا اعتداد بهم في الإجماع وإن المعتبر في الإجماع إنما هم المجتهدون وحينئذ لم يقل بهذه التقليدات عالم من العلماء المجتهدين أما قبل حدوثها فظاهر وأما بعد حدوثها فما سمعنا عن مجتهد من المجتهدين أنه يسوغ صنيع هؤلاء المقلدة الذين فرقوا دين الله وخالفوا بين المسلمين بل أكابر العلماء منكر لها

وساكت عنها سكوت تقية لمخافة ضرر أو لمخافة فوات نفع كما يكون مثل ذلك كثيرا لا سيما من علماء السوء وكل عاقل يعلم أنه لو صرح عالم من علماء الإسلام المجتهدين في مدينة من مدائن الإسلام في أي محل كان بأن التقليد بدعة محرمة لا يجوز الاستمرار عليه ولا الاعتداد به لقام عليه أكثر أهلها إن لم يقم عليه كلهم وأنزلوا به الإهانة والإضرار بماله وبدنه وعرضه بما لا يليق بمن هو دونه إذا سلم من القتل على يد أول جاهل من هؤلاء المقلدة ومن يعضدهم من جهله الملوك والأجناد فإن طبائع الجاهلين بعلم الشريعة متقاربة وهم لكلام من يجانسهم في الجهل أقبل من كلام من يخالفهم في ذلك من أهل العلم ولهذا طبقت هذه البدعة جميع البلاد الإسلامية وصارت شاملة لكل فرد من أفراد المسلمين فالجاهل يعتقد أن الدين ما زال هكذا ولن يزال إلى الحشر ولا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا وهكذا من كان من المشتغلين بعلم التقليد فإنه كالجاهل بل أقبح منه لأنه يضم إلى جهله وإصراره على بدعة التقليد وتحسينها في عيون أهل الجهل الازدراء بالعلماء المحققين والعارفين بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه و سلم ويصول عليهم ويجول وينسبهم إلى الابتداع ومخالفة الأئمة والتنقص

بشأنهم فيسمع ذلك منهم الملوك ومن يتصرف بالنيابة عنهم من أعوانهم فيصدقونه ويذعنون لقوله إذ هو مجانس لهم في كونه جاهلا وإن كان يعرف مسائل قلد فيها غيره لا يدري أهو حق أم باطل لا سيما إذا كان قاضيا أو مفتيا فإن العامي لا ينظر إلى أهل العلم بعين مميزة بين من هو عالم على الحقيقة ومن هو جاهل وبين من هو مقصر ومن هو كامل لأنه لا يعرف الفضل لأهل الفضيل إلا أهله وأما الجاهل فإنه يستدل على العلم بالمناصب والقرب من الملوك واجتماع المدرسين من المقلدين وتحرير الفتاوى للمتخاصمين وهذه الأمور إنما يقوم بها رؤوس هؤلاء المقلدة في الغالب كما يعلم ذلك كل عالم بأحوال الناس في قديم الزمن وحديثه وهذا يعرفه الإنسان بالمشاهدة لأهل عصره وبمطالعة كتب التاريخ الحاكية لما كان عليه من قبله وأما العلماء المحققون المجتهدون فالغالب على أكثرهم الخمول لأنه لما كثر التفاوت بينهم وبين أهل الجهل كانوا متقاعدين لا يرغب هذا في هذا ولا هذا في هذا ومنزلة الفقيه من السفيه كمنزلة السفيه من الفقيه فهذا زاهد في حق هذا وهذا أزهد منه فيه ومما يدعو العلماء إلى مهاجرة أكابر العلماء ومقاطعتهم إنهم يجدونهم غير راغبين في علم التقليد الذي هو رأس مال فقهائهم وعلمائهم والمفتين منهم بل يجدونهم مشتغلين بعلوم الاجتهاد وهي عند هؤلاء المقلدة

ليست من العلوم النافعة بل العلوم النافعة عندهم هي التي يتعجلون نفعها بقبض جرايات التدريس وأجرة الفتاوى ومقررات القضاء ومع هذا فمن كان من هؤلاء المقلدة متمكنا من تدريسهم في علم التقليد إذا درسهم في مسجد من المساجد أو في مدرسة من المدارس اجتمع عليه منهم جمع جم يقارب المائة أو يجاوزها من قوم قد ترشحوا للقضاء والفتيا وطمعوا في نيل الرياسة الدنيوية أو أرادوا حفظ ما قد ناله سلفهم من الرياسة وبقاء مناصبهم والمحافظة على التمسك بها كما كان عليه أسلافهم فهم لهذا المقصد يلبسون الثياب الرفيعة ويديرون على رؤسهم عمائم كالروابي فإذا نظر العامي أو السلطان أو بعض أعوانه إلى تلك الحلقة البهيمية المشتملة على العدد الكثير والملبوس الشهير والدفاتر الضخمة لم يبق عنده شك أن شيخ تلك الحلقة ومدرسها أعلم الناس فيقبل قوله في كل أمر يتعلق بالدين ويؤهله لكل مشكلة ويرجو منه من القيام بالشريعة ما لا يرجوه من العالم على الحقيقة المبرز في علم الكتاب والسنة وسائر العلوم التي يتوقف فهم المعلمين عليها ولا سيما غالب المبرزين من العلماء وتحت ذيول الخمول إذا درسوا في علم بين علوم الاجتهاد فلا يجتمع عليهم في الغالب إلا الرجل والرجلان والثلاثة لأن البالغين من الطلبة إلى هذه الرتبة المستعدين لعلم الاجتهاد هم أقل

قليل لأنه لا يرغب في علم الاجتهاد إلا من أخلص النية وطلب العلم لله عز و جل ورغب عن المناصب الدنيوية وربط نفسه برباط الزهد وألجم نفسه بلجام القنوع فلينظر العاقل أين يكون محل هذا العالم على التحقيق عند أهل الدنيا إذا شاهدوه في زاوية من زوايا المسجد وقد قعد بين يديه رجل أو رجلان من محل ذلك المقلد الذي اجتمع عليه المقلدون فإنهم ربما يعتقدون أنه كواحد من تلامذة المقلد أو يقصر عنه لما يشاهدون من الأوصاف التي قدمنا ذكرها ومع هذا فإنهم لا يقفون على فتوى من الفتاوى أو سجل من السجلات إلا وهو بخط أهل التقليد ومنسوب إليهم فيزدادون لهم بذلك تعظيما ويقدمونهم على علماء الاجتهاد في كل اصدار وإيراد فإذا تكلم عالم من علماء الاجتهاد والحال هذه بشيء يخالف ما يعتقده المقلدة قاموا عليه قومه جاهلية ووافقهم على ذلك أهل الدنيا وأرباب السلطان فإذا قدروا على الإضرار به في بدنه وماله فعلوا ذلك وهم بفعلهم مشكورون عند أبناء جنسهم من العامة والمقلدة لأنهم قاموا بنصرة الدين بزعمهم وذبوا عن الأئمة المتبوعين وعن مذاهبهم التي قد اعتقدها أتباعهم فيكون لهم بهذه الأفعال التي هي عين الجهل والضلال من الجاه والرفعة عند أبناء جنسهم ما لم يكن في حساب

وأما ذلك العالم المحقق المتكلم بالصواب فبالأحرى أن لا ينجو من شرهم ويسلم من ضرهم وأما عرضه فيصير عرضه للشتم والتبديع والتجهيل والتضليل فمن ذا ترى ينصب نفسه للانكار على هذه البدعة ويقوم في الناس بتبطيل هذه الشنعة مع كون الدنيا مؤثرة وحب الشرف والمال يميل بالقلوب على كل حال فانظر إليها أيها المنصف بعين الإنصاف هل يعد سكوت علماء الاجتهاد على إنكار بدعة التقليد مع هذه الأمور موافقة لأهلها على جوارها كلا والله فأنه سكوت تقية لا سكوت موافقة مرضية ولكنهم مع سكوتهم عن التظاهر بذلك لا يتركون بيان ما أخذ الله عليهم بيانه فتارة يصرحون بذلك في مؤلفاتهم وتارة يلوحون به وكثير منهم يكتم ما يصرح به من تحريم التقليد إلى ما بعد موته كما روى الأرتوي عن شيخه الإمام ابن دقيق العيد أنه طلب منه ورقة وكتبها في مرض موته وجعلها تحت فراشه فلما مات أخرجوها فإذا هي في تحريم التقليد مطلقا ومنهم من يوضح ذلك لمن يثق به من أهل العلم ولا يزالون متوارثين لذلك فيما بينهم طبقة بعد طبقة يوضحه السلف للخلف ويبلغه الكامل للمقصر وأن انحجب ذلك عن أهل التقليد فهو غير محتجب عن غيرهم وقد رأينا في زماننا مشايخنا

المشتغلين بعلوم الاجتهاد فلم نجد فيهم واحدا منهم يقول أن التقليد صواب ومنهم من صرح بانكار التقليد من أصله وإن كان في كثير من المسائل التي يعتقدها المقلدون فوقع بينه وبين أهل عصره قلاقل وزلازل ونالهم من الامتحان ما فيه توفير أجورهم وهكذا حال أهل سائر الديار في جميع الاعصار
وبالجملة فهذا أمر يشاهده كل أحد في زمنه فإنا لم نسمع بأن أهل مدينة من المدائن الإسلامية أجمعوا أمرهم على ترك التقليد وإتباع الكتاب والسنة لا في هذا العصر ولا فيما تقدمه من العصور بعد ظهور المذاهب بل أهل البلاد الإسلامية أجمع أكتع مطبقون على التقليد ومن كان منهم منتسبا إلى العلم فهو إما أن يكون غلب عليه معرفة ما هو مقلد فيه وهذا عند أهل التحقيق ليس من أهل العلم وإما أن يكون قد اشتغل ببعض علوم الاجتهاد ولم يتأهل للنظر فوقف تحت ربقة التقليد ضرورة لا اختيارا وإما أن يكون عالما مبرزا جامعا لعلوم الاجتهاد فهذا الذي يجب عليه أن يتكلم بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم إلا لمسوغ شرعي وأما من لم يكن منتسبا إلى العلم فهو إما عامي صرف لا يعرف التقليد ولا

غيره وإنما ينتمي إلى الإسلام جملة ويفعل كما يفعله أهل بلده في صلاته وسائر عباداته ومعاملاته فهذا قد أراح نفسه من محنة التعصب التي يقع فيها المقلدون وكفى الله أهل العلم شره فهو لا وازع له من نفسه يحمله على التعصب عليهم بل ربما نفخ فيه بعض شياطين المقلدة وسعى إليه بعلماء الاجتهاد فحمله على أن يجهل عليهم بما يوبقه في حياته وبعد مماته
وأما أن يكون مرتفعا عن هذه الطبقة قليلا فيكون غير مشتغل بطلب العلم لكنه يسأل أهل العلم عن أمر عبادته ومعاملته وله بعض تمييز فهذا هو تبع لمن يسأله من أهل العلم إن كان يسأل المقلدين فهو لا يرى الحق إلا في التقليد وإن كان يسأل المجتهدين فهو يعتقد أن الحق ما يرشدونه إليه فهو مع من غلب عليه من الطائفيين وأما أن يكون ممن له اشتغال بطلب علم المقلدين وأكباب على حفظه وفهمه ولا يرفع رأسه إلى سواه ولا يلتفت إلى غيره فالغالب على هؤلاء التعصب المفرط على علماء الاجتهاد ورميهم بكل حجر ومدر وإيهام العامة بأنهم مخالفون لإمام المذهب الذي قد ضاقت أذهانهم عن تصور عظيم قدره وامتلأت قلوبهم من هيبة من تقرر عندهم أنه في درجة لم تبلغها الصحابة فضلا عمن بعدهم وهذا وأن لم يصرحوا به فهو ما تكنه صدورهم ولا تنطق به

ألسنتهم فمع ما قد صار عندهم من هذا الاعتقاد في ذلك الإمام إذا بلغهم أن أحد علماء الاجتهاد الموجودين يخالفه في مسألة من المسائل كان هذا المخالف قد ارتكب أمرا شنيعا وخالف عندهم شيئا قطعيا وأخطأ خطئا لا يكفره شيء وإن استدل على ما ذهب إليه بالآيات القرآنية والأحاديث المتواترة لم يقبل منه ذلك ولم يرفع لما جاء به رأسا كائنا من كان ولا يزالون منتقصين له بهذه المخالفة انتقاصا شديدا على وجه لا يستحلونه من الفسقة ولا من أهل البدع المشهورة كالخوارج والروافض ويبغضونه بغضا شديدا فوق ما يبغضون أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن أنكر هذا فهو غير محقق لأحوال هؤلاء
وبالجملة فهو عندهم ضال مضل ولا ذنب له إلا أنه عمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم واقتدى بعلماء الإسلام في أن الواجب على كل مسلم تقديم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم على قول كل عالم كائنا من كان
أقوال الأئمة الأربعة في النهي عن التقليد ومن المصرحين بهذه الأئمة الأربعة فإنه قد صح عن كل واحد منهم هذا المعنى من طرق متعددة قال صاحب الهداية في روضة العلماء أنه قيل لأبي حنيفة إذا قلت قولا وكتاب الله يخالفه قال اتركوا قولي بخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقيل له إذا كان قول الصحابي يخالفه فقال اتركوا قولي بقول الصحابي اه وقد روى عنه هذه المقالة جماعة من أصحابه وغيرهم وذكر نور الدين السنهوري نحو ذلك عن مالك قال ابن مديني في منسكه روينا عن معن بن عيسى قال سمعت مالكا يقول إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي كل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه اه ونقل الأجهوري والخوش هذا الكلام وأقراه في شرحيهما على مختصر خليل وقد روى ذلك عن مالك جماعة من أهل مذهبه وغيرهم

وأما الإمام الشافعي فقد تواتر عنه ذلك تواترا لا يخفى على القصر فضلا عن كامل فإنه نقل عنه غالب أتباعه ونقله أيضا عنه جميع المترجمين له إلا من شذ
ومن جملة من روى ذلك البيهقي فإنه ساق إسنادا إلى الربيع قال سمعت الشافعي وسأله رجل عن مسألة فقال يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال كذا فقال له السائل يا أبا عبد الله أنقول بهذا فارتعد الشافعي واصفر وحال لونه وقال ويحك وأي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا ولم أقل به يعم على الرأس والعين نعم على الرأس والعين
وروى البيهقي أيضا عن الشافعي أنه قال إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ودعوا ما قلت
وروى البيهقي عنه أيضا قال إذا حدث الثقة عن الثقة حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يترك لرسول الله صلى الله عليه و سلم حديث أبدا إلا حديث وجد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حديث يخالفه
وروى البيهقي أيضا عنه أنه قال له رجل وقد روى حديثا أنأخذ به فقال متى رويت عن رسول الله

صلى الله عليه و سلم حديثا صحيحا فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب
وحكى ابن القيم في أعلامه الموقعين أن الربيع قال سمعت الشافعي يقول كل مسألة يصح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد مماتي
وقال حرملة بن يحيى قال الشافعي ما قلت وكان النبي صلى الله عليه و سلم قد قال بخلاف قولي فما صح من حديث النبي صلى الله عليه و سلم أولى ولا تقلدوني
وقال الحميدي سأل الرجل الشافعي عن مسألة فأفتاه وقال قال النبي صلى الله عليه و سلم كذا وكذا فقال الرجل أتقول بهذا يا أبا عبد الله فقال الشافعي أرأيت في وسطي زنارا أتراني خرجت من الكنيسة أقول قال النبي صلى الله عليه و سلم وتقول لي أتقول بهذا أروي عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا أقول به اه
ونقل إمام الحرمين في نهايته عن الشافعي أنه قال إذا صح خبر يخالف مذهبي فاتبعوه واعلموا أنه مذهبي أه
وقد روى نحو ذلك الخطيب وكذلك الذهبي في تاريخ الإسلام والنبلاء وغير هؤلاء ممن لا يأتي عليه الحصر

وقال الحافظ بن حجر في توالي التأسيس قد اشتهر عن الشافعي إذا صح الحديث فهو مذهبي وحكى عن السبكي أن له مصنفا في هذه المسألة
وأما الإمام أحمد بن حنبل فهو أشد الأئمة الأربعة تنفيرا عن الرأي وأبعدهم عنه وألزمهم إلى السنة وقد نقل عنه ابن القيم في مؤلفاته كأعلام الموقعين ما فيه التصريح بأنه لا عمل على الرأي أصلا وهكذا نقل عنه ابن الجوزي وغيره من أصحابه وإذا كان من المخالفين للرأي المنفرين عنه فهو قائل بما قاله الأئمة الثلاثة المنقولة نصوصهم على أن الحديث مذهبهم ويزيد عليهم بأنهم سوغوا الرأي فيما لا يخالف النص وهو منعه من الأصل وقد حكى الشعراني في الميزان أن الأئمة الأربعة كلهم قالوا إذا صح الحديث فهو مذهبنا وليس لأحد قياس ولا حجة اه
إجماع الأئمة الأربعة على تقديم النص وإذا تقرر لك إجماع أئمة المذاهب الأربعة على تقديم النص على آرائهم عرفت أن العالم الذي عمل بالنص وترك قول أهل المذاهب هو الموافق لما قاله أئمة المذاهب والمقلد الذي قدم أقوال

أهل المذاهب على النص هو المخالف لله ولرسوله ولإمام مذهبه ولغيره من سائر علماء الإسلام
ولعمري إن القلم مبري بهذه النقول على وجل من الله وحياء من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيا لله العجب أيحتاج المسلم في تقديم قول الله أو رسوله صلى الله عليه و سلم على قول أحد من علماء أمته إلى أن يعتضد بهذه النقول يا لله العجب أي مسلم يلتبس عليه مثل هذا حتى يحتاج إلى نقل هؤلاء العلماء رحمهم الله في أن أقوال الله وأقوال رسوله صلى الله عليه و سلم مقدمة على أقوالهم فإن الترجيح فرع التعارض ومن ذاك الذي يعارض قوله قول الله أو قول رسوله صلى الله عليه و سلم حتى نرجع إلى الترجيح والتقديم سبحانك هذا بهتان عظيم فلا حيا الله هؤلاء المقلدة الذين ألجأوا الأئمة الأربعة إلى التصريح بتقديم أقوال الله ورسوله على أقوالهم لما شاهدوهم عليه من الغلو المشابه لغلو اليهود والنصارى في أحبارهم ورهبانهم
وهؤلاء الذين ألجؤونا إلى نقل هذه الكلمات وإلا فالأمر واضح لا يلتبس على أحد ولو فرضنا والعياذ بالله أن عالما من علماء الإسلام يجعل قوله كقول الله أو قول رسوله

صلى الله عليه و سلم لكان كافرا مرتدا فضلا على أن يجعل قوله أقدم من قول الله ورسوله فإنا لله وإنا إليه راجعون ما صنعت هذه المذاهب بأهلها وإلى أي موضع أخرجتهم وليت هؤلاء المقلدة الجناة الأجلاف نظروا بعين العقل إذ حرموا النظر بين العلم ووازنوا بين رسول الله صلى الله عليه و سلم وبين أئمة مذاهبهم وتصوروا وقوفهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فهل يخطر ببال من بقيت فيه بقية من عقل هؤلاء المقلدين أن هؤلاء الأئمة المتبوعين عند وقوفهم المعروض بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يردون عليه قوله أو يخالفونه بأقوالهم كلا والله بل هم أتقى لله وأخشى له فقد كان أكابر الصحابة يتركون سؤاله صلى الله عليه و سلم في كثير من الحوادث هيبة وتعظيما وكان يعجبهم الرجل العاقل من أهل البادية إذا وصل يسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم ليستفيدوا بسؤاله كما ثبت في الصحيح وكانوا يقفون بين يديه كأن على رؤوسهم الطير يرمون بأبصارهم إلى ما بين أيديهم ولا يرفعونها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم احتشاما وتكريما وكانوا أحقر وأقل عند أنفسهم من أن يعارضوا رسول الله صلى الله عليه و سلم بآرائهم وكان التابعون يتأدبون مع الصحابة بقريب من هذا الأدب وكذلك تابعوا التابعين كانوا يتأدبون من قريب من آداب التابعين مع الصحابة فما ظنك أيها المقلد لو

حضر إمامك بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا فاتك يا مسكين الاهتداء بهدى العلم فلا يفوتنك الاهتداء بهدى العقل فإنك إذا استضأت بنوره خرجت من ظلمات جهلك إلى نور الحق فإذا عرفت ما نقلناه عن أئمة المذاهب الأربعة من تقديم النص على آرائهم فقد قدمنا لك أيضا حكاية الإجماع على منعهم التقليد وحكينا لك ما قاله الإمام أبو حنيفة وما قاله إمام دار الهجرة مالك بن أنس من ذلك أو لاح لك مما نقلناه قريبا ما يقوله الإمام محمد بن إدريس الشافعي من منع التقليد وقد قال المزني في أول مختصره ما نصه اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله لأقراه على من أراده مع إعلامه بنهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه اه فانظر ما نقله هذا الإمام الذي هو من أعلم الناس بمذهب الشافعي رحمه الله من تصريحه بمنع تقليده وتقليد غيره
وأما الإمام أحمد بن حنبل فالنصوص عنه في منع التقليد كثيرة قال أبو داود قلت لأحمد الأوزاعي أتبع أم مالك فقال لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء ما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه فخذ به وقال أبو داود سمعته يعني أحمد بن حنبل يقول الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه من هو من التابعين بخير اه

فانظر كيف فرق بين التقليد والإتباع وقال لي أحمد لا تقلدني ولا مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا وقال من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال قال ابن القيم ولأجل هذا لم يؤلف الإمام أحمد كتابا في الفقه وإنما دون أصحابه مذهبه من أقواله وأفعاله وأجوبته وغير ذلك
وقال ابن الجوزي في تلبيس إبليس أعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد وفي التقليد إبطال منفعة العقل ثم أطال الكلام في ذلك
وبالجملة فنصوص أئمة المذاهب الأربعة في المنع من التقليد وفي تقديم النص على آرائهم وآراء غيرهم لا تخفى على عارف من أتباعهم وغيرهم وأما نصوص سائر الأئمة المتبوعين على ذلك الأئمة من أهل البيت عليهم السلام فهي موجودة في كتبهم معروفة قد نقلها العارفون بمذاهبهم عنهم ومن أحب النظر في ذلك فليطالع مؤلفاتهم وقد جمع منها السيد العلامة الإمام محمد بن إبراهيم الوزير في مؤلفاته ما يشفي ويكفي لا سيما في كتابه المعروف بالقواعد فإنه نقل الإجماع عنهم وعن سائر علماء المسلمين سلام على تحريم تقليد الأموات وأطال في ذلك وأطاب وناهيك بالإمام الهادي يحيى بن الحسين فإنه الإمام الذي صار أهل الديار اليمنية مقلدين له متبعين لمذهبه من عصره وهو

آخر المائة الثالثة إلى الآن مع أنه قد اشتهر عند أتباعه والمطلعين على مذهبه أنه صرح تصريحا لا يبقى عنده شك ولا شبهة بمنع التقليد له وهذه مقالة مشهورة في الديار اليمنية يعلمها مقلدوه فضلا عن غيرهم ولكنهم قلدوه شاء أم أبى
وقالوا قد قلدوه وإن كان لا يجوز ذلك عملا بما قاله بعض المتأخرين أنه يجوز تقليد الإمام الهادي وإن منع من التقليد وهذا من أغرب ما يطرق سمعك إن كنت ممن ينصف وبهذا تعرف أن مؤلفات أتباع الإمام الهادي في الأصول والفروع وإن حرموا في بعضهم بجواز التقليد فهو على غير مذهب إمامهم وهذا كما وقع لغيرهم من أهل المذاهب

القول بإنسداد باب الاجتهاد بدعة شنيعة وقد كان أتباع هذا الإمام في العصور السابقة وكذلك أتباع الإمام الأعظم زيد بن علي عليه السلام فيهم أنصاف لا سيما في فتح الاجتهاد ولتسويغ دائرة باب التقليد وعدم قصر الجواز على إمام معين كما يعرف ذلك من مؤلفاتهم بخلاف غيرهم من المقلدة فإنهم أوجبوا على أنفسهم تقليد المعين واستروحوا إلى أن باب الاجتهاد قد انسد

وانقطع التفضل من الله به على عباده ولقنوا العوام الذين هم مشاركون لهم في الجهل بالمعارف العلمية ودونوا لهم في معرفة مسائل التقليد بأنه لا اجتهاد بعد استقرار المذاهب وانقراض أئمتها فضموا إلى بدعتهم بدعة وشنعوا شنعتهم بشنعة وسجلوا على أنفسهم الجهل فإن من يتجارى على مثل هذه المقالة وحكم على الله سبحانه بمثل هذا الحكم المتضمن تعجيزه عن التفضل على عباده بما أرشدهم إليه من تعلم العلم وتعليمه لا يعجز عن التجارؤ على أن يحكم على عباده بالأحكام الباطلة ويجازف في إيراده وإصداره ويا لله العجب ما قنع هؤلاء الجهلة الندكاء بما هم عليه من بدعة التقليد التي هي أم البدع ورأس الشنع حتى سدوا على أمة محمد صلى الله عليه و سلم باب معرفة الشريعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم وأنه لا سبيل إلى ذلك ولا طريق حتى كأن الأفهام البشرية قد تغيرت والعقول الإنسانية قد ذهبت وكل هذا حرص منهم على أن تعم بدعة التقليد كل الأمة وأن لا يرتفع عن طبقتهم السافلة أحد من عباد الله وكأن هذه الشريعة التي بين أظهرنا من كتاب الله وسنة رسوله قد صارت منسوخة والناسخ لها ما ابتدعوه من التقليد في دين الله فلا يعمل الناس بشيء مما في الكتاب والسنة بل لا شريعة لهم إلا ما قدرته في المذاهب أذهبها الله فإن يوافقها ما في الكتاب والسنة فبها ونعمت والعمل على المذاهب لا على ما وافقها

منهما وإن يخالفها أحدهما أو كلاهما فلا عمل عليه ولا يحل التمسك به هذا حاصل قولهم ومفاده وبيت قصيدهم ومحل نشيدهم ولكنهم رأوا التصريح بمثل هذا يستنكره قلوب العوام فضلا عن الخواص وتقشعر منه جلودهم وترجف له أفئدتهم فعدلوا عن هذه العبارة الكفرية والمقالة الجاهلية إلى ما يلاقيها في المراد ويوافقها في المفاد ولكنه ينفق على العوام بعض نفاق فقالوا قد أنسد باب الاجتهاد ومعنى هذا الانسداد المفترى والكذب البحت أنه لم يبق في أهل هذه الملة الإسلامية من يفهم الكتاب والسنة وإذا لم يبق من هو كذلك لم يبق سبيل إليهما وإذا انقطع السبيل إليهما فكم حكم فيهما لا عمل عليه ولا التفات إليه سواء وافق المذهب أو خالفه لأنه لم يبق من يفهمه ويعرف معناه إلى آخر الدهر فكذبوا على الله وادعوا عليه سبحانه أنه لا يتمكن من أن يخلق خلقا يفهمون

ما شرعه لهم وتعبدهم به حتى كأن ما شرعه لهم من كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه و سلم ليس بشرع مطلق بل شرع مقيد مؤقت إلى غاية هي قيام هذه المذاهب وبعد ظهورها لا كتاب ولا سنة بل قد حدث من يشرع لهذه الأمة شريعة جديدة ويحدث لها دينا آخر وينسخ بما رآه من الرأي وما ظنه من الظن ما يقدمه من الكتاب والسنة وهذا وإن أنكروه بألسنتهم فهو لازم لهم لا محيص لهم عنه ولا مهرب وإلا فأي معنى لقولهم قد انسد باب الاجتهاد ولم يبق إلا مخرج التقليد فإنهم أن أقروا بأنهم قائلون بهذا لزمهم الإقرار بما ذكرناه وعند ذلك نتلو عليهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وأن أنكروا القول بذلك وقالوا باب الاجتهاد مفتوح والتمسك بالتقليد غير حتم لهم فما بالكم يا لوكاء ترمون كل من عمل بالكتاب والسنة وأخذ دينه منهما بكل حجر ومدر وتستحلون عرضه وعقوبته وتجلبون عليه بخيلكم ورجلكم
وقد علموا وعلم كل من يعرف ما هم عليه أنهم مصممون على تغليق باب الاجتهاد وانقطاع السبل إلى معرفة الكتاب والسنة فلزمهم ما ذكرناه بلا تردد فانظر أيها المنصف ما حدث بسبب بدعة التقليد من البلايا الدينية والرزايا الشيطانية فإن هذه المقالة بخصوصها أعني انسداد باب

الاجتهاد ولو لم يحدث من مفاسد التقليد إلا هي لكان فيها كفاية ونهاية فإنها حادثة رفعت الشريعة بأسرها واستلزمت نسخ كلام الله ورسوله وتقديم غيرهما واستبدال غيرهما بهما ... يا ناعي الإسلام قم وانعه ... قد زال عرف وبدا منكر ...
وما ذكرنا فيما سبق من أنه كان في الزيدية والهدوية في الديار اليمنية انصاف في هذه المسألة بفتح باب الاجتهاد فذلك إنما هو في الأزمنه السابقة كما قررناه فيما سلف وأما في هذه الأزمنة فقد أدركنا منهم من هو أشد تعصبا من غيرهم فإنهم إذا سمعوا برجل يدعي الاجتهاد ويأخذ دينه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم قاموا عليه قياما تبكي عليه عيون الإسلام واستحلوا منه ما لا يستحلونه من أهل الذمة من الطعن واللعن والتفسيق والتنكير والهجم عليه إلى دياره ورجمه بالأحجار والاستظهار وتهتك حرمته وتعلم يقينا لولا ضبطهم سوط هيبة الخلافة أعز الله أركانها وشيد سلطانها لاستحلوا إراقة دماء العلماء المنتمين إلى الكتاب والسنة وفعلوا بهم ما لا يفعلونه بأهل الذمة وقد شاهدنا من هذا ما لا يتسع المقام لبسطه

والسبب في بلوغهم هذا المبلغ الذي ما بلغ غيرهم أن جماعة من شياطين المقلدين الطالبين لفوائد الدنيا بعلم الدين يوهمون العوام الذين لا يفهمون من الأجناد والسوقة ونحوهم بأن المخالف لما قد تقرر بينهم من المسائل التي قد قلدوا فيها هو من المنحرفين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وأنه من جملة المبغضين له الدافعين تفضله وفضائله المعاندين له وللأئمة من أولاده فإذا سمع منهم العامي هذا مع ما قد ارتكز في ذهنه من كون هؤلاء المقلدة هم العلماء المبرزون لما يبهره من زيهم والاجتماع عليهم وتصدرهم للفتيا والقضاء حسب ما ذكرناه سابقا فلا يشك أن هذه المقالة صحيحة وأن ذلك العالم العامل بالكتاب والسنة من أعداء القرابة فيقوم بحمية جاهلية صادرة عن واهمة دينية قد ألقاها إليه من قدمنا ذكرهم ترويجا لبدعتهم وتنفيقا لجهلهم وقصورهم على من هو أجهل منهم وإنما أوهموا على العوام بهذه الدقيقة الإبليسية لما يعلمونه من أن طبائعهم مجبولة على التشجيع إلى حد يقصر عنه الوصف حتى لو أن أحدهم سمع التنقص

بالجناب الإلهي والجناب النبوي لم يغضب له عشر معشار ما يغضبه إذا سمع التنقص بالجناب العلوي بمجرد الوهم والإيهام الذي لا حقيقة له
فبهذه الذريعة الشيطانية والدسيسة الابليسية صار علماء الاجتهاد في القطر اليمني في محنة شديدة بالعامة والذنب كل الذنب على شياطين المقلدة فإنهم هم الداء العضال والسم القتال ولو كان للعامة عقول لم يخف عليهم بطلان تلبيس شياطين المقلدة عليهم فإن من عمل شيئا من عباداته ومعاملاته بنص الكتاب والسنة لا يخطر ببال من له عقل أن ذلك يستلزم الانحراف وأين هذا من ذلك ولكن العامة قد ضموا إلى فقدان العلم فقدان العقل لا سيما في أبواب الدين وعند تلبيس الشياطين فإنا لله وإنا إليه راجعون ما للعامة الذين قد أظلمت قلوبهم لفقدان نور العلم وللاعتراض على العلماء والحكم عليهم وما بال هذه الأزمنة جاءت بما لم يكن في الحساب فإن المعروف من خلق العامة في جميع الأزمنة أنهم يبالغون في تعظيم العلماء إلى حد يقصر عنه الوصف وربما ازدحموا عليهم للتبرك بتقبيل أطرافهم ويستجيبون منهم الدعاء ويقرون بأنهم حجج الله على عباده في بلاده ويطيعونهم في كل ما يأمرونهم به ويبذلون أنفسهم وأموالهم بين أيديهم لا جرم حملهم على هذه الأضاليل الشيطانية

والأخلاق الجاهلية أباليس المقلدة للأربعة التي أسلفنا بيانها فانظر هل هذه الأفعال الصادرة من مقلدة اليمن هي أفعال من يعترف بأن باب الاجتهاد مفتوح إلى قيام الساعة وأن تقليد المجتهدين لا يجوز لمن بلغ مرتبة الاجتهاد وأن رجوع العالم إلى اجتهاد نفسه بعد إحرازه الاجتهاد ولو في فن واحد ومسألة واحدة كما صرح لهم بذلك المؤلفون لفقه الأئمة وحرروه في الكتب الأصولية والفروعية كلا والله بل هو صنع من يعادي كتاب الله وسنة رسوله الطالب لهما والراغب فيهما ويمنع الاجتهاد ويوجب التقليد ويحول بين المتشرعين والشريعة ويحيلها عليهم فهما وإدراكا كما صنعه غيرهم من مقلدة سائر المذاهب بل زادوا عليه في الغلو والتعصب بما تقدم ذكره
ومع هذا فالأئمة قد صرحوا في كتبهم الفروعية والأصولية بتعداد علوم الاجتهاد وأنها خمسة وأنه يكفي المجتهد في كل فن مختصر من المختصرات وهؤلاء المقلدة يعلمون أن كثيرا من العلماء العالمين بالكتاب والسنة المعاصرين لهم يعرفون من كل فن من الفنون الخمسة أضعاف القدر المعتبر ويعرفون علوما غير هذه العلوم وهم وإن كانوا جهالا لا يعرفون شيئا من المعارف

لكنهم يسألون أهل العلم عن مقادير العلماء فيفيدونهم ذلك
وبهذا تعرف انه لا حامل لهم على ذلك إلا مجرد التعصب لمن قلدوه وتجاوز الحد في تعظيمه وامتثال رأيه على حد لا يوصف عندهم للصحابة بل لا يوجد عندهم لكلام الله ورسوله صلى الله عليه و سلم
إبطال التقليد أخرج البيهقي وابن عبد البر عن حذيفة بن اليمان أنه قيل له في قوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله أكانوا يعبدونهم فقال لا ولكن يحلون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه فصاروا بذلك أربابا وقد روى نحو ذلك مرفوعا من حديث ابن حاتم كما قال البيهقي وأخرج نحو هذا التفسير ابن عبد البر عن بعض الصحابة بإسناد متصل به قال أما أنهم لو أمروهم أن يعبدوهم ما أطاعوهم ولكنهم أمروهم فجعلوا حلال الله حراما وحرامه حلالا فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية وفي قوله تعالى وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم فآثروا الإقتداء بآبائهم قالوا إ نا بما أرسلتم به كافرون وقال عز و جل إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم

الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار وقال الله عز و جل ما هذه التماثيل التي أنتم عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين وقال إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل فهذه الآيات وغيرها مما ورد في معناه ناعية على المقلدين ما هم فيه وهي وإن كان تنزيلها في الكفار لكنه قد صح تأويلها في المقلدين لاتحاد العلة وقد تقرر في الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وإن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما
وقد احتج أهل العلم بهذه الآيات على إبطال التقليد ولم يمنعهم من ذلك كونها نازلة في الكفار
وأخرج ابن عبد البر بإسناد متصل عن معاذ رضي الله عنه أنه قال وراءكم فترة يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والأسود والأحمر فيوشك أحدكم أن يقول قد قرأت في القرآن فما أظن يتبعوني حتى ابتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع فإن كل بدعة ضلالة
و أخرج أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال

ويل للأتباع من عثرات العالم قيل كيف ذلك قال يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه و سلم منه فيترك قوله ثم يمضي الأتباع
وأخرج أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال يا كل أن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعى للخير والناس ثلاثة فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق
وأخرج عنه أيضا أنه قال إياكم والاستنان بالرجال فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار
وأخرج عن ابن مسعود أنه قال ألا لا يقلدن أحدكم دينه أن آمن آمن وأن كفر كفرفإنه لاأسوة في الشر
وروى ابن عبد البر بإسناده إلى عوف بن مالك الاشجعي قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون ما أحل الله ويحلون به ما حرم الله
وأخرج البيهقي أيضا قال ابن القيم بعد إخراجه من

طرق هؤلاء بعين رجال إسناده كلهم ثقات حفاظ إلا جرير بن عثمان فإنه كان منحرفا عن علي رضي الله عنه ومع هذا احتج به البخاري في صحيحه وقد روى عنه أنه تبرأ مما نسب إليه من الانحراف
وروى ابن عبد البر بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه فقال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله وبرهة بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم يعملون بالرأي فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا وأخرجه أيضا بإسناد آخر فيه جبارة ابن المغلس وفيه مقال وروى أيضا بإسناد إلى عمر بن الخطاب أنه قال وهو على المنبر يا أيها الناس إن الرأي إنما كان من رسول الله صلى الله عليه و سلم يقينا لأن الله كان يريه وإنما هو منا بالظن والتكلف
وأخرجه البيهقي في المدخل وروى ابن عبد البر بإسناده إلى عمر أيضا أنه قال أهل الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها ووتفلتت عنهم أن يرووها فاتقوا الرأي
وروى ابن عبد البر بإسناده إليه أيضا قال اتقوا الرأي في دينكم وروي عنه أيضا قال إن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يحفظوها وتفلتت عنهم

أن يعوها واستحيوا حين يسألوا أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم وأخرج ابن عبد البر بإسناده إلى ابن مسعود قال ليس عام إلا الذي بعده شر منه لا أقول عام أبتر من عام ولا عام أخصب من عام ولأمير خير من أمير ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فيهدم الإسلام وينثلم وأخرجه البيهقي بإسناد رجاله ثقات
وأخرج أيضا ابن عبد البر عن ابن عباس قال إنما هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم فمن قاله بعد ذلك برأيه فما أدرى أفي حسناته أم في سيئاته
وأخرج أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال تمتع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال عروة نهى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما عن المتعة فقال ابن عباس أراهم سيهلكون نقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وتقول قال أبو بكر وعمر
وأخرج أيضا عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال من يعذرني من معاوية أحدثه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ويخبرني برأيه ومثله عن عبادة رضي الله عنه
وأخرج أيضا عن عمر رضي الله عنه قال السنة ما سنه رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة

وأخرج أيضا عن عروة بن الزبير أنه قال لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى أدركت فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوا بني إسرائيل
وأخرج أيضا عن الشعبي أنه قال إياكم والمقايسة فو الذي نفسي بيده لئن أخذتم بالمقايسة لتحلن الحرام ولتحرمن الحلال ولكن ما بلغكم ممن حفظ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فاحفظوه وروى ابن عبد البر أيضا في ذم الرأي والتبري منه والتنفير عنه بكلمات تقارب هذه الكلمات عن مسروق وابن سيرين وعبد الله بن المبارك وسفيان وشريح والحسن البصري وابن شهاب
وذكر الطبري في كتاب تهذيب الآثار له بإسناده إلى مالك قال قال مالك قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد تم هذا الأمر واستكمل فإنما ينبغي أن تتبع آثار رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا تتبع الرأي فإنه متى اتبع الرأي جاء رجل آخر اقوى في الرأي منك فاتبعته فأنت كلما جاء رجل عليك اتبعته أرى هذا لا يتم
وروى ابن عبد البر عن مالك بن دينار أنه قال لقتادة أتدري أي علم رعوت قمت بين الله وعباده فقلت هذا لا يصلح وهذا يصلح وروى ابن عبد البر

أيضا عن الاوزاعي أنه قال عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول
وروي أيضا عن مالك أنه قال ما علمته فقل به ودل عليه وما لم تعلم فاسكت وإياك أن تقلد الناس قلادة سوء
وروي أيضا القعنبي أنه دخل على مالك فوجده يبكي فقال وما الذي يبكيك فقال يا ابن قعنب أنا لله على ما فرط مني ليتني جلدت بكل كلمة تكلمت بها في هذا الأمر سوطا ولم يكن فرط مني ما فرط مني من هذا الرأي وهذه المسائل وقد كان لي سعة فيما سبقت إليه
وروي أيضا عن سحنون أنه قال ما أدري ما هذا الرأي الذي سفكت به الدماء واستحلت به الفروج واستحقت به الحقوق
وروي أيضا عن أيوب أنه قيل له مالك لا تنظر في الرأي فقال أيوب قيل للحمار ما لك لا تجتر قال أكره مضغ الباطل وروي عن الشعبي أيضا أنه قال والله لقد بغض إلي هؤلاء القوم المسجد حتى لهو أبغض إلي

من كناسة داري قيل له من هم قال هؤلاء الارائيون وكان في ذلك المسجد الحكم وحماد وأصحابهما وذكر ابن وهب أنه سمع مالكا يقول لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحدا اقتدى به يقول في شيء هذا حرام وهذا حلال ما كانوا يجترؤن على ذلك وإنما كانوا يقولون نكره هذا ونرى هذا حسنا وينبغي هذا ولا نرى هذا وزاد بعض أصحاب مالك عنه في هذا الكلام أنه قال ولا يقولون هذا حلال وهذا حرام أما سمعت قول الله عز و جل قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل لله أذن لكم أم على الله تفترون الحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله وروى ابن عبد البر أيضا عن أحمد بن حنبل أنه قال رأي الاوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار وروي أيضا عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال ما أحدث أحد شيئا من العلم إلا سئل عنه يوم القيامة فإن وافق السنة سلم وإلا فهو العطب وقال الشافعي في تفسير البدعة المذكورة في الحديث الثابت في الصحيح من قوله صلى الله عليه و سلم خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه و سلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة أن المحدثات من الأمور ضربان أحدهما ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا

أو إجماعا فهذه البدعة الضلالة والثانية ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذه الأمة وهذه محدثة غير مذمومة وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان نعمت البدعة هذه وأخرج البيهقي في المدخل عن ابن مسعود أنه قال اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وأخرج أيضا عن عبادة ابن الصامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يكون بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون فلا طاعة لمن عصى الله ولا تعملوا برأيكم وأخرج عن عمر أنه قال اتقوا الرأي في دينكم وأخرج عنه أيضا بسند رجاله ثقات أنه قال يا أيها الناس اتهموا الرأي على الدين وأخرج أيضا عن علي بن أبي طالب أنه قال لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخفين أحق بالمسح من ظاهرهما ولكن رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يمسح على ظاهرهما وهو أثر مشهور أخرجه غير البيهقي أيضا
وأخرج البيهقي أيضا ما يفيد الإرشاد إلى إتباع الأثر والتنفير عن إتباع الرأي عن ابن عمر وابن سيرين والحسن والشعبي وابن عوف والاوزاعي وسفيان والثوري والشافعي وابن المبارك وعبد العزيز أبن أبي سلمة وأبي حنيفة ويحيى أبن آدم ومجاهد وأخرج أبو داود وأبن ماجة والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه و سلم

قال العلم ثلاثة فما سوى ذلك فضل آية محكمة وسنة قائمة وفريضة عادلة وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد الافريقي وعبد الرحمن بن رافع وفيهما مقال قال ابن عبد البر السنة القائمة الثابتة الدائمة المحافظ عليها معمولا بها لقيام إسنادها والفريضة العادلة المساوية للقرآن في وجوب العمل بها وفي كونها صدقا وصوابا وأخرج الديلمي في مسند الفردوس وأبو نعيم والطبراني في الأوسط والخطيب والدارقطني وابن عبد البر عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما موقوفا العلم ثلاثة أشياء كتاب ناطق وسنة ماضية ولا أدري وإسناده حسن وأخرج ابن عبد البر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إنما الأمور ثلاثة أمر تبين لك رشده فاتبعه وأمر تبين لك زيفه فاجتنبه وأمر اختلف فيه فكله إلى عالمه
والحاصل أن كون الرأي ليس من العلم لا خلاف فيه بين الصحابة والتابعين وتابعيهم قال ابن عبد البر ولا أعلم بين متقدمي علماء هذه الأمة وسلفها خلافا أن الرأي ليس بعلم حقيقة قال أما أصول العلم فالكتاب والسنة اه
وقال ابن عبد البر حد العلم عند العلماء والمتكلمين في

هذا المعنى هو ما استيقنته وتبينته وكل من استيقن شيئا وتبينه فقد علمه وعلى هذا من لم يستيقن الشيء وقال به تقليدا فلم يعلم والتقليد عند جماعة العلماء غير الإتباع لأن الإتباع هو أن تتبع القائل على ما بأن لك من فضل قوله وصحة مذهبه والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرفه ولا وجه القول ولا معناه وتأبى من سواه وإن تبين لك خطأه فتتبعه مهابة خلافه وأنت قد بان لك فساد قوله وهذا يحرم القول به في دين الله سبحانه وتعالى اه
ومما يدل على ما أجمع عليه السلف من أن الرأي ليس بعلم قول الله عز و جل فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسول قال عطاء بن أبي رباح وميمون بن مهران وغيرهما الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى رسوله صلى الله عليه و سلم هو الرد إلى سنته بعد موته وعن عطاء في قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول قال طاعة الله ورسوله إتباع الكتاب والسنة وأولي الأمر منكم قال أولوا العلم والفقه وكذا قال مجاهد ويدل على ذلك من السنة حديث العرباض بن سارية وهو ثابت في السنن ورجاله رجال الصحيح قال وعظنا رسول الله صلى الله عليه و سلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا يا رسول الله إن هذه موعظة مودع

فماذا تعهد إلينا فقال تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتكم من سنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين وعليكم بالطاعة وإن كان عبدا حبشيا عضوا عليها بالنواجذ إنما المؤمن كالجمل الأنف كلما قيد انقاد وأخرجه أيضا ابن عبد البر بإسناد صحيح وزاد وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة
والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا ويكفي من رفع الرأي وأنه ليس من الدين قول الله عز و جل اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فإذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض نبيه صلى الله عليه و سلم فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه إن كان من الدين في اعتقادهم فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم وهذا فيه رد للقرآن وإن لم يكن من الدين فأي فائدة من الاشتغال بما ليس من الدين
وهذه حجة قاهرة ودليل عظيم لا يمكن صاحب الرأي أن يدفعه بدافع أبدا فاجعل هذه الآية الشريفة أول

ما تصك به وجوه أهل الرأي وترغم به آنافهم وتدحض به حججهم فقد أخبرنا الله في محكم كتابه أنه أكمل دينه ولم يمت رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا بعد أن أخبرنا بهذا الخبر عن الله عز و جل فمن جاءنا بالشيء من عند نفسه وزعم أنه من ديننا قلنا له الله أصدق منك فاذهب فلا حاجة لنا في رأيك
وليت المقلدة فهموا هذه الآية حق الفهم حتى يستريحوا ويتركوا ومع هذا فقد أخبرنا في كتابه أنه أحاط بكل شيء علما فقال ما فرطنا في الكتاب من شيء وقال تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة ثم أمر عباده بالحكم بكتابه فقال وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وقال إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما وقال إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين وقال ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون وأمر عباده أيضا في محكم كتابه باتباع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال سبحانه وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وقال وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون وقال أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن

الله لا يحب الكافرين وقال ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وقال ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا وقال يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا وقال ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين وقال وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتقشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين وقال قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وأن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين وقال وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون وقال ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم وقال تعالى إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة والاستنكار على الاستدلال على وجوب طاعة الله

ورسوله لا يأتي بفائدة فليس أحد من المسلمين يخالف ذلك ومن أنكره فهو كافر خارج عن حزب المسلمين
وإنما أوردنا هذه الآيات الشريفة لقصد تليين قلب المقلد الذي قد جمد وصار كالجلمد فإنه إذا سمع مثل هذه الأوامر ربما امتثلها وأخذ دينه عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم طاعة لأوامر الله تعالى فإن هذه الطاعة وإن كانت معلومة لكل مسلم كما تقدم لكن الإنسان يذهل عن القوارع القرآنية والزواجر النبوية فإذا ذكرتها زجر ولا سيما من نشأ على التقليد وأدرك سلفه ثابتين عليه غير متزحزحين عنه فإنه يقع في قلبه أن دين الإسلام هو هذا الذي هو عليه وما كان مخالفا له فليس من الإسلام في شيء فإذا راجع نفسه رجع ولهذا تجد الرجل إذا نشأ على مذهب من هذه المذاهب ثم سمع قبل أن يتمرن بالعلم ويعرف ما قاله الناس خلافا يخالف ذلك المألوف استنكره وأباه قلبه ونفر عنه طبعه وقد رأينا وسمعنا من هذا الجنس من لا يأتي عليه الحصر ولكن إذا وازن العاقل بعقله بين من اتبع أحد أئمة المذاهب في مسألة من مسائله التي رواها عنه المقلد ولا مستند لذلك العالم فيها بل قالها بمحض الرأي لعدم وقوفه على الدليل وبين من تمسك في تلك المسألة بخصوصها بالدليل الثابت في القرآن أو السنة أفاده العقل أن بينهما مسافات

أتنقطع فيها أعناق الإبل بل لا جامع بينهما أن من تمسك بالدليل أخذ بما أوجب الله عليه الأخذ به واتبع ما شرعه الشارع بجمع الأمة أولها وآخرها وحيها وميتها وأخذهم هذا العالم الذي تمسك المقلد له بمحض رأيه هو محكوم عليه بالشريعة لا أنه حاكم فيها وهو تابع لها لا متبوع فيها فهو كمن اتبعه في أن كل واحد منهما فرضه الأخذ بما جاء عن الشارع لا فرق بينهما إلا من كون المتبوع عالما والتابع جاهلا فالعالم يمكنه الوقوف على الدليل من دون أن يرجع إلى غيره لأنه قد استعد لذلك بما اشتغل به من الطلب والوقوف بين يدي أهل العلم والتحرج لهم في معارف الاجتهاد والجاهل يمكنه الوقوف على الدليل بسؤال علماء الشريعة على طريقة طلب الدليل واسترواء النص وكيف حكم به في محكم كتاب الله أو على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم في تلك المسألة فيفيدونه النص أن كان ممن يعقل الحجة إذا دل عليها أو يفيدونه مضمون النص بالتعبير عنه بعبارة يفهمها فهم رواة وهو مسترو وهذا عامل بالرواية لا بالرأي والمقلد عامل بالرأي لا بالرواية لأنه يقبل قول الغير من دون أن يطالبه بحجة وذلك هو في سؤاله له مطالب بالحجة لا بالرأي فهو قبل رواية الغير لا رأيه وهما من هذه الحيثية

متقابلان
فانظر كم الفرق بين المنزلتين فإن العالم الذي قلده غيره إذا كان قد اجهد نفسه في طلب الدليل ولم يجده ثم اجهد رأيه فهو معذور وهكذا إذا اخطأ في اجتهاده فهو معذور بل مأجور للحديث المتفق عليه إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله اجران وإن اجتهد فأخطأ فله اجر فإذا وقف بين يدي الله وتبين خطأه كان بيده هذه الحجة الصحيحة بخلاف المقلدة فإنه لا يجد حجة يدلي بها عند السؤال في موقف الحساب لأنه قلد في دين الله من هو مخطئ وعدم مؤاخذة المجتهد على خطأه لا يستلزم عدم مؤاخذة من قلده في ذلك الخطأ لا عقلا ولا شرعا ولا عادة

معنى أن كل مجتهد مصيب فإن استروح المقلد إلى مسألة تصويب المجتهد فالقائل بها إنما قال إنما المجتهد مصيب بمعنى أنه لا يأثم بالخطأ بل يؤجر على الخطأ بعد توفية الاجتهاد حقه ولم يقل أنه مصيب للحق الذي هو حكم الله في المسألة فإن هذا خلاف ما

نطق به رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث حيث قال إن اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر فانظر هذه العبارة النبوية في هذا الحديث الصحيح المتفق عليه عند أهل الصحيح والملتقى بالقبول بين جميع الفرق فإنه قال وإن اجتهد فأخطأ فقسم ما يصدر عن المجتهد في الاجتهاد في مسائل الدين إلى قسمين أحدهما هو مصيب فيه والآخر هو مخطئ فكيف يقول قائل أنه مصيب للحق سواء أصاب أو أخطأ وقد سماه رسول الله صلى الله عليه و سلم مخطئا فمن زعم أن مراد القائل بتصويب المجتهد من الإصابة للحق مطلقا فقد غلط عليهم غلطا بينا ونسب إليهم ما هم منه براء ولهذا أوضح جماعة من المحققين مراد القائلين بتصويب المجتهدين بأن مقصودهم أنهم مصيبون من الصواب الذي لا ينافي الخطأ لا من الإصابة التي هي مقابلة للخطأ فإن لم يخطئ فهذا لا بقول به عالم ومن لم يفهم هذا المعنى فعليه أن يتهم نفسه ويحيل الذنب على قصوره ويقبل ما أوضحه له من هو اعرف منه بفهم كلام العلماء وإن استروح المقلد إلى الاستدلال بقوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون فهو يقتصر على سؤال أهل العلم عن الحكم الثابت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم حتى يبينون له كما أخذ الله عليهم من بيان أحكامه لعباده فإن معنى هذا

السؤال الذي شرع الله هو السؤال عن الحجة الشرعية وطلبها من العالم فيكون راويا وهذا السائل مسترويا والمقلد يقر على نفسه بأنه يقبل قول العالم ولا يطالبه بالحجة
فالآية هي دليل الإتباع لا دليل التقليد وقد أوضحنا الفرق بينهما فيما سلف هذا على فرض أن المراد بها السؤال العام وقد قدمنا أن السياق يفيد أن المراد بها السؤال الخاص لأن الله يقول وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وقد قدمنا طرقا من تفسير أهل العلم لهذه الآية وبهذا يظهر لك أن هذه الحجة التي احتج بها المقلد هي حجة داحضة على فرض أن المراد المعنى الخاص وهي عليه لا له على أن المراد المعنى العام

أسئلة للمقلدين ثم نقول للمقلد أيضا أنت في تقليدك العالم في مسائل العبادات والمعاملات إما أن تكون في أصل مسألة جواز التقليد مقلد أو مجتهد إن كنت مقلد فقد قلدت في مسألة لا يجيز إمامك التقليد فيها لأنها مسألة أصولية والتقليد إنما هو في مسائل الفروع فماذا صنعت في نفسك يا مسكين وكيف وقعت في هذه الهوة المظلمة وأنت تجد عنها فرجا

ومخرجا وإن كنت في أصل هذه المسألة مجتهدا فلا يجوز لك التقليد لأنك لا تقدر على الاجتهاد في مثل هذه الأصولية المتشعبة المشكلة إلا وأنت ممن علمه علما نافعا تخرج به من الظلمات إلى النور فما بالك توقع نفسك فيما لا يجوز تقلد الرجال في دين الله بعد أن أراحك الله منه وأقدرك على الخروج منه هذا على ما هو الحق من أن الاجتهاد لا يتبعض وأنه لا يقدر على الاجتهاد في بعض المسائل إلا من قدر على الاجتهاد في جميعها لأن الاجتهاد هو ملكة تحصل للنفس عند الاحاطة بمعارفها المعتبرة و ملكة لمن لم يعرف إلا الوعظ من ذلك
فإن استروحت إلى أن الاجتهاد يتبعض أعدنا عليك السؤال فنقول هل عرفت أن الاجتهاد يتبعض بالاجتهاد أم بالتقليد فإن كنت عرفت ذلك بالتقليد فالمسألة أصولية لا يجوز التقليد فيها باعترافك واعتراف إمامك وإن كنت عرفت ذلك بالاجتهاد فهذه أيضا مسألة أخرى من مسائل الأصول أقدرك الله على الاجتهاد فيها فهلا صنعت هذا الصنع في مسائل الفروع فإنك على الاجتهاد فيها أقدر منك على الاجتهاد في مسائل الأصول فاصنع في مسائل الفروع هكذا واستكثر من علوم الاجتهاد حتى تصير من أهله ويفرج الله عنك هذه الغمة ويكشف الله

عنك بما علمك هذه الظلمة فإنك إذا رفعت نفسك إلى الاجتهاد الأكبر فالمسافة قريبة ومن قدر على البعض قدر على الكل ومن عرف الحق في المدارك الأصولية عرفه في المسائل الفروعية وستعرف بعد أن تعرف علوم الاجتهاد كما ينبغي بطلان ما تظنه الآن من جواز التقليد ومن تبعض الاجتهاد بل لو طرحت عنك العصبية وجردت نفسك لفهم ما حررته لك في هذه الورقات من أوله إلى آخره لقادك عقلك وفهمك إلى أنه الصواب قبل أن تجمع معارف الاجتهاد فالفهم قد تفضل الله به على غالب عباده والحق لا يحتجب عن أهل التوفيق والإنصاف شاهد صدق على وجدان الحق ولهذا قال صلى الله عليه و سلم أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وهو حديث أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه وأخرجه أيضا غيره فإن طال بك اللجاج وسلكت من جهالتك في فجاج وتوقحت غيرمحتشم وأقدمت غير محجم فقلت أن مسألة جواز التقليد هي وأن كانت مسألة أصولية وقد أطبق الناس على أنه لا يجوز التقليد في مسائل الأصول وصار هذا معروفا عند أبنائي جنس من المقلدين لكني أقول بأن التقليد فيها وفي سائر مسائل الأصول جائز
فنقول ومن أين عرفت جواز التقليد في مسائل الأصول هل كان هذا منك تقليدا أو اجتهادا فإن قلت تقليدا

فنقول ومن ذاك الذي قلدته فإنا قد حكينا لك فيما سبق أن أئمة المذاهب يمنعون التقليد كما يمنعه غيرهم في مسائل الفروع فضلا عن مسائل الأصول فإن قلت قلدتهم أو قلدت واحدا منهم وهو الذي التزمت مذهبه في جميع ما قاله من دون أن تطالبه بحجة فقد كذبت عليه وعللت نفسك بالأباطيل فإن غيرك ممن هو أعلم منك بمذهبه واعرف بنصوصه قد نقل عنه أنه يمنع التقليد وإن قلت قلدت غيره فمن هو ثم كيف سمحت لنفسك في هذه المسألة بخصوصها بالخروج عن مذهبه وتقليد غيره وبالجملة فمن تلاعب بدينه وبنفسه إلى هذا الحد فهو بالبهيمة أشبه وليت أن هؤلاء المقلدة قلدوا أئمتهم في جميع ما تقولوه فإنهم لو فعلوا ذلك لزمهم أن يقلدوهم في مسألة التقليد وهم يقولون بعدم جوازه كما عرفت سابقا وحينئذ يقتدون بهم في هذه المسألة ولا يتم لهم ذلك إلا بترك التقليد في جميع المسائل فيريحون أنفسهم ويخلصونها من هذه الشبكة بالوقوع في حبل من حبالها
ثم نقول لهذا المقلد أيضا من أين عرفت أنه جامع لعلوم الاجتهاد فنقول له ومن أين لك هذه المعرفة يا مسكين فأنت تقر على نفسك بالجهل وتكذبها في هذه الدعوى ولولا جهلك لم تقلد غيرك وإن قال عرفتها بأخبار أهل العلم إن إمامي قد جمع علوم الاجتهاد

فنقول هذا الذي أخبرك هل هو مقلد أو مجتهد فإن قلت هو مقلد فمن أين للمقلد هذه المعرفة وهو مقر على نفسه بما أقررت به على نفسك من الجهل وإن قلت أخبرك بذلك رجل مجتهد فنقول لك من أين عرفت أنه مجتهد وأنت مقر على نفسك بالجهل ثم نعود عليك بالسؤال الأول إلى ما لا نهاية له ثم نقول للمقلد من أين عرفت أن الحق بيد الإمام الذي قلدته وأنت تعلم أن غيره من العلماء قد خالفه في كل مسألة من مسائل الخلاف إن قلت عرفت ذلك تقليدا فمن أين للمقلد معرفة الحق والمحقين وهو مقر على نفسه بأنه لا يطالب بالحجة ولا يعقلها إذا جاءته فمالك يا مسكين والكذب على نفسك بما يشهد عليك ببطلانه لسانك بل يشهد عليك كل مقلد ومجتهد بخلاف دعوتك وإن قلت عرفت ذلك بالاجتهاد فلست حينئذ مقلدا ولا من أهل التقليد بل التقليد عليك حرام فمالك تغمط نعمة الله عليك وتنكرها والله يقول وأما بنعمة ربك فحدث ورسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده وأثر نعمة العلم أن يعمل العالم بعلمه ويأخذ ما تعبده الله به من الجهة التي أمره الله بالأخذ منها في محكم كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه و سلم وتلك الجهة هي الكتاب والسنة كما تقدم سرد أدلة ذلك وهو أمر متفق عليه لا خلاف فيه وعلى كل حال فأنت بتقليدك مع كونك قاصرا عمن عمل في دين الله بغير بصيرة وترك ما لاشك فيه إلى ما فيه الشك وتستبدل

الحق شيئا لا تدري ما هو وإن كنت مجتهدا فأنت ممن أضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فلم ينفعه علمه وصار ما علمه حجة عليه ورجع من النور إلى الظلمات ومن اليقين إلى الشك ومن الثريا إلى الثرى بل لليدين وللفم هذا وإن كان ذلك المقلد يدعي إن إمامه على حق في جميع ما قاله وإن كان يقر أن في قوله الحق والباطل وإنه بشر يخطئ ويصيب ولا سيما في محض الرأي الذي هو على شفا جرف هار فنقول له إن كنت قائلا بهذا فقد أصبت وهو الذي يقوله إمامك لو سأله سائل عن مذهبه وجمع ما دونه من مسائله ولكن أخبرنا ما حملك أن تجعل ما هو مشتمل على الحق والباطل قلادة في عنقك تلتزمه وتدين به غير تارك لشيء منه فإن الخطأ من إمامك قد عذره الله فيه بل جعل له أجرا في مقابلته كما تقدم تقريره لأنه مجتهد وللمجتهد أن أخطأ أجر كما صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنت من أخبرك بأنك معذور من إتباع الخطأ وأي حجة قامت لك على ذلك فإن قلت إنك لو تركت التقليد وسألت أهل العلم عن النصوص لكنت غير قاطع بالصواب بأن يحتمل أن الذي أخذت به وسألت عنه هو حق ويحتمل أنه باطل والمفروض أنك

ستسأل عن دينك في عباداتك ومعاملاتك علماء الكتاب والسنة وهم أتقى لله من أن يفتوك بغير ما سألت عنه فإنك إنما سألتهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم في ذلك الحكم الذي أردت العمل به وهم بل جميع المسلمين يعلمون أن كتاب الله وسنة رسوله حق لا باطل وهذا الفاصل له ولو فرضنا أن المسؤول قصر في البحث فأفتاك مثلا بحديث ضعيف وترك الصحيح أو بآية منسوخة وترك المحكمة لم يكن عليك في ذلك بأس فإنك قد فعلت ما هو فرضك واسترويت أهل العلم عن الشريعة المطهرة لا عن آراء الرجال وليس للمقلد أن يقول كمقالك هذا فيزعم أن إمامه أتقى لله من أن يقول بقول باطل لأنا نقول هو معترف أن بعض رأيه خطأ ولم يأمرك بأن تتبعه في خطئه بل نهاك عن تقليده ومنعك عن ذلك كما تقدم تحريره عن أئمة المذاهب وعن سائر المسلمين بخلاف من سألته عن الكتاب والسنة فأفتاك بذلك فإنه يعلم أن جميع ما في الكتاب والسنة حق وصدق وهدى ونور وأنت لم تسأل إلا عن ذلك ثم نقول لك أيها المقلد ما بالك تعترف في كل مسألة من مسائل الفروع التي أنت مقلد فيها بأنك لا تدري ما هو الحق فيها ثم لما أرشدناك إلى أن ما أنت عليه من التقليد غير جائز في دين الله أقمت نفسك مقاما لا تستحقه ونصبت نفسك في منصب لم

تتأهل له فأخذت في المخاصمة والاستدلال بجواز التقليد وجئت بالشبهة الساقطة التي قدمنا دفعها في هذا المؤلف فهلا نزلت نفسك في هذه المسألة الأصولية العظيمة المتشعبة تلك المنزلة التي كنت تنزلها في مسائل الفروع فما لك وللنزول في منازل الفحول والسلوك في مسالك أهل الأيدي المتبالغة في الطول فما هلك أمرؤ عرف قدر نفسه فقل ههنا لا أدري إنما سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فنقول هكذا سيكون جوابك لمنكر ونكير بعد أن تقبر ويقال لك لا دريت ولا تليت كما ثبت بذلك النص الصحيح وإذا كنت معترفا بأنك لا تدري فشفاء العي السؤال فسل من تثق بدينه وعلمه وإنصافه في مسألة التقليد حتى تكون على بصيرة ولو كان إمامك الذي تقلده حيا لأرشدناك إليه وأمرناك بالتعويل عليه فإنه أول ناه لك عن التقليد كما عرفناك فيما سبق ولكنه قد صار رهين البلى وتحت أطباق الثرى فاسأل غيره من العلماء الموجودين وهم بحمد الله في كل صقع من بلاد الإسلام فالله سبحانه حافظ دينه بهم وحجته قائمة على عباده بوجودهم وإن

كتموا الحق في بعض الأحوال أما لتقية مسوغة كما قال تعالى إلا أن تتقوا منهم تقاة أو بمداهنة أو طمع في جاه أو مال ولكنهم على كل حال إذا عرفوا من هو طالب للحق راغب فيه سائل عن دينه سالك مسالك الصحابة والتابعين وتابعيهم لم يكتموا عليه الحق ولا زاغوا منه فإن كنت لا تثق بأحد من العلماء وثوقك بإمامك الذي نشأت على مذهبه فارجع إلى نصوصه التي قدمنا إليك الإشارة إلى بعضها وفيها ما ينفع الغلة ويشفي العلة

نصيحة بليغة لمن يتصدر للفتيا والقضاء من المقلدين واعلم أرشدك الله أيها المقلد إنك أن أنصفت من نفسك وخليت بين عقلك وفهمك وبين ما حررناه في هذا المؤلف لم يبق معك شك في إنك على خطر عظيم هذا إن كنت مقتصرا في التقليد على ما تدعو إليه حاجتك مما يتعلق به أمر عبادتك ومعاملتك إما إذا كنت مع كونك في هذه الرتبة الساقطة مرشحا نفسك لفتيا السائلين وللقضاء بين المتخاصمين فاعلم إنك ممتحن وممتحن بك ومبتلي ومبتلى بك لأنك تريق الدماء بأحكامك وتنقل الأملاك والحقوق من أهلها وتحلل الحرام وتحرم الحلال وتقول على الله ما لم يقل

غير مستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم بل بشيء لا تدري أحق هو أم باطل باعترافك على نفسك بأنك كذلك فماذا يكون جوابك بين يدي الله فإن الله إنما أمر حكام العباد أن يحكموا بينهم بما أنزل الله وأنت لا تعرف ما أنزل الله على الوجه الذي يراد به وأمرهم أن يحكموا بالحق وأنت لا تدري الحق وإنما سمعت الناس يقولون شيئا فقلته وأمرهم أن يحكموا بينهم العدل وأنت لا تدري العدل من الجور لأن العدل هو ما وافق ما شرعه الله والجور ما خالفه فهذه الأوامر لم تتناول مثلك بل المأمور بها غيرك فكيف قمت بشيء لم تؤمر به ولا ندبت إليه وكيف أقدمت على أصول في الحكم بغير ما أنزل الله حتى تكون ممن قال فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فهذه الآيات الكريمة متناولة لكل من لم يحكم بما انزل الله فإنك لا تدعي أنك حكمت بما أنزل الله بل تقر بأنك حكمت بقول العالم الفلاني ولا تدري هل ذلك الحكم الذي حكم به هل هو من محض رأيه أم من المسائل التي استدل عليها بالدليل ثم لا تدري أهو أصاب في الاستدلال أم أخطأ وهل أخذ بالدليل القوي أم الضعيف فانظر يا مسكين ما صنعت بنفسك فإنك لم يكن جهلك مقصورا عليك بل جهلت على عباد الله فأرقت الدماء وأقمت الحدود

وهتكت الحرم بما لا تدري فقبح الله الجهل ولا سيما إذا جعله صاحبه شرعا ودينا له وللمسلمين فإنه طاغوت عند التحقيق وإن ستر من التلبيس بستر رقيق فيا أيها القاضي المقلد أخبرنا أي القضاة الثلاثة أنت الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة فالقاضيان اللذان في النار قاض قضى بغير الحق وقاض قضى بالحق وهو لا يعلم أنه الحق والذي في الجنة قاض قضى بالحق وهو يعلم أنه الحق فبالله عليك هل قضيت بالحق وأنت تعلم أنه الحق إن قلت نعم فأنت وسائر أهل العلم يشهدون بأنك كاذب لأنك معترف بأنك لا تعلم بالحق وكذلك سائر الناس يحكمون عليك بهذا من غير فرق بين مجتهد ومقلد وإن قلت إنك قضيت بما قاله إمامك ولا تدري أحق هو أم باطل كما هو شأن كل مقلد على وجه الأرض فأنت بإقرارك هذا أحد رجلين إما قضيت بالحق وأنت لا تعلم بأنه الحق أو قضيت بغير الحق لأن ذلك الحكم الذي حكمت به هو لا يخلو عن أحد الأمرين إما أن يكون حقا وإما أن يكون غير حق وعلى كلا التقديرين فأنت من قضاة النار بنص المختار وهذا ما أظن بتردد فيه أحد من أهل الفهم بأمرين أحدهما أن النبي صلى الله عليه و سلم

قد جعل القضاة ثلاثة وبين صفة كل واحد منهم بيانا يفهمه المقصر والكامل والعالم والجاهل الثاني أن المقلد لا يدعي أنه يعلم بما هو حق من كلام إمامه ولا بما هو باطل بل يقر على نفسه أنه يقبل قول الغير ولا يطالبه بحجة ويقر على نفسه أنه لا يعقل الحجة إذا جاءته فأفاد هذا أنه حكم بشيء لا يدري ما هو فإن وافق الحق فهو الذي قضى بغير علم وإن لم يوافق فهو الذي قضى بغير الحق وهذان هما القاضيان اللذان في النار فالقاضي المقلد على كلتا حالتيه يتقلب في نار جهنم فهو كما قال الشاعر ... خذا بطن هرشي أوقفاها فإنه ... كلا جانبي هرشي لهن طريق ...
وكما تقول العرب ليس في الشر خيار ولقد خاب وخسر من لا ينجو على كل حال من النار فيا أيها القاضي المقلد ما الذي أوقعك في هذه الورطة وألجأك إلى هذه العهدة التي صرت فيها على كل حال من أهل النار إذا دمت على قضائك ولم تتب فإن أهل المعاصي والبطالة على اختلاف أنواعهم هم أرجى لله منك وأخوف له لأنهم يقدمون على المعاصي وهم على عزم التوبة والإقلاع والرجوع وكل واحد منهم يسأل الله المغفرة والتوبة ويلوم نفسه على

ما فرط منه ويحب أن لا يأتيه الموت إلا بعد أن تطهر نفسه من ادران كل معصية ولو دعا له داع بأن الله يبقيه على ما هو متلبس به من البطالة والمعصية إلى الموت يعلم هو وكل سامع أنه يدعو عليه لا له
ولو علم أنه يبقى على ما هو عليه إلى الموت ويلقى الله وهو متلبس به لضاقت عليه الأرض بما رحبت لأنه يعلم أن هذا البقاء هو من موجبات النار بخلاف هذا القاضي المسكين فإنه ربما دعا الله في خلواته وبعد صلواته أن يديم عليه تلك النعمة ويحرسها عن الزوال ويصرف عنه كيد الكائدين وحسد الحاسدين حتى لا يقدروا على عزله ولا يتمكنوا من فصله وقد يبذل المخذول في استمراره على ذلك نفائس الأموال ويدفع الرشا والبراطيل والرغائب لمن كان له في أمره مدخل فجمع بين خسراني الدنيا والآخرة وتسمح نفسه بهما جميعا في حصول ذلك فيشتري بها النار والعلة الغائبة المقصد الأسنى والمطلب الأبعد لهذا المغبون ليس إلا اجتماع العامة وصراخهم بين يديه ولو عقل لعلم أنه لم يكن في رياسة عالية ولا في مكان رفيع ولا في مرتبة جليلة فإنه يشاركه في اجتماع هؤلاء العوام وتطاولهم إليه وتزاحمهم عليه كل من يراد إهانته إما بإقامة حد عليه أو قصاص أو تعزير فإنه يجمع على واحد من هؤلاء ما

لا يجتمع على القاضي عشر معشاره بل يجتمع على أهل اللعب والمجون والسخرية وأهل الزمر والرقص والضرب بالطبل أصضعاف أضعاف من يجتمع على القاضي وهو ذو زهو لركوب دابة أو مشي خادم أو خادمين في ركابه فليعلم أن العبد المملوك والجندي الجاهل والولد من أبناء اليهود والنصارى تركب دواب أنزه من دابته ويمشي معه من الخدم أكثر ممن يمشي معه وإذا كان وقوعه في هذا العمل الذي هو من أسباب النار على كل حال من طلب المعاش واستدرار ما يدفع إليه من الجراية من السحت فليعلم أن أهل المهن الدينية كالحائك والحجام والجزار والاسكافي أنعم منه عيشا وأسكن منه قلبا لأنهم أمنوا من مرارة العزل غير مهتمين بتحويل الحال فهم يتلذذون بدنياهم ويتمتعون بنفوسهم ويتقبلون في تنعمهم هذا باعتبار الحياة الدنيا وأما باعتبار الآخرة فخواطرهم مطمئنة لأنهم لا يخشون العقوبة بسبب من الأسباب التي هي قوام المعاش ونظام الحياة لأن مكسبهم حلال وأيديهم مكفوفة عن الظلم فلا يخافون السؤال عن دم أو مال بل قلوبهم متعلقة بالرجاء وكل واحد منهم يرجو الانتقال من دار شقوة وكدر إلى دار نعمة

وتفضل وأما ذلك القاضي المقلد فهو منغص العيش منكد النعمة مكدر اللذة لأنه لما يرد عليه من خصومة الخصوم ومعارضة المعارضين ومصادرة الممتنعين من قبول أحكامه وامتثال حله وإبرامه في هموم وغموم ومكابدة ومناهدة ومجاهدة ومع هذا فهو متوقع لتحويل الحال والاستبدال به وغروب شمسه وركود ريحه وذهاب سعده عند نحسه وشماتة أعدائه ومساءة أولياءه فلا تصفو له راحة ولا تخلص له نعمة بل هو ما دام في الحياة في أشد الغم وأعظم النكد كما قال المتنبي ... أشد الغم عندي في سرور ... تنقل عنه صاحبه انتقالا ...
ولا سيما إذا كان محسودا معارضا من أمثاله فإنه لا يطرق سمعه إلا ما يكدره فحينا يقال له الناس يتحدثون أنك غلطت وجهلت وحينا يقال له قد خالفك القاضي الفلاني أو المفتي الفلاني فنقض حكمك وهدم علمك وغض من قدرك وحط من رتبتك وقد يأتيه المحكوم عليه فيقول له جهارا أو كفاحا لا أعمل على حكمك ونحو ذلك من العبارات الخشنة فإن قام وناضل عن حكمه ودافع فهي قومة جاهلية ومدافعة شيطانية

طاغوتية قد تكون لحراسة المنصب وحفظ المرتبة والفرار من انحطاط القدر وسقوط الجاه ومع ذلك فهو لا يدري هل الحق بيده أم بيد من نقض عليه حكمه لأن المسكين لا يدري بالحق بإقراره وجميع المتخاصمين إليه بين متسرع إلى ذمة والتشكي منه وهو المحكوم عليه يدعي أنه حكم باطل وارتشى من خصمه أو داهنه ويتقرر هذا عنده بما يلقيه إليه من ينافر هذا المقلد من أبناء جنسه من المقلدة الطامعين في منصة أو الراجين لرفده أو النيابة عنه في بعض ما يتصرف فيه فإنه يذهب يستفتيهم ويشكو عليهم فيطلبون غرائب الوجوه ونوادر الخلاف ويكتبون خطوطهم بمخالفة ما حكم به القاضي وقد يعبرون في مكاتبتهم بعبارات تؤلم القاضي وتوحشه فيزداد لذلك ألمه ويكثر عنده همه وغمه هذا يفعله أبناء جنسه من المقلدين وأما العلماء المجتهدون فهم يعتقدون أنه مبطل في جميع ما يأتي به لأنه من قضاة النار فلا يعرفون لما يصدر عنه من الأحكام رأسا ولا يعتقدون أنه قاض لأنه قد قام الدليل عندهم على أن القاضي لا يكون إلا مجتهدا وأن المقلد وإن بلغ في الورع والعفاف والتقوى إلى مبلغ الأولياء فهو عندهم بنفس استمراره على القضاء مصر على المعصية

وينزلون جميع ما يصدر عنه منزلة ما يصدر عن العامة الذين ليسوا بقضاة ولا مفتين فجميع مسجلاته التي يكتب عليها اسمه ويحلل فيها الحرام ويحرم الحلال باطلة لا تعد شيئا بل لو كانت موافقة للصواب لم تعد عندهم شيئا لأنها صادرة من قاض حكم بالحق وهو لا يعلم به فهو من أهل النار في الآخرة وممن لا يستحق اسم القضاة في الدنيا ولا يحل تنزيله منزلة القضاة المجتهدين في شيء وبعد هذا كله فهذا القاضي المشئوم يحتاج إلى مداهنة السلطان وأعوانه المقبولين لديه ويهين نفسه لهم ويخضع لهم ويتردد إلى أبوابهم ويتمرغ على عتابتهم وإذا لم يفعل ذلك على الدوام والاستمرار ناكدوه مناكدة تحرج عذره وتوهن قدره ومع هذا فأعوانه الذين هم مستدرون لفوائده والمقتنصون للأموال على يده وإن عظموه وفخموه وقاموا بقيامه وقعدوا بقعوده أضر عليه من أعدائه لأنهم يتكالبون على أموال الناس ويتم لهم ذلك بقوة يده ولا سيما إذا كان مغفلا غير حازم ولا مطلع للأمور فتعظم المقالة على القاضي وينسب دينهم إليه ويحمل جورهم عليه فتارة ينسب إلى التقصير في البحث وتارة إلى التغفيل وعدم التيقظ وتارة إلى أن ما أخذه الأعوان فله فيهم منفعة تعود إليه ولولا ذلك لم يطلق لهم الرسن ولأخلي بينهم وبين الناس وأيضا أعظم من

يذمه ويستحل عرضه هؤلاء الأعوان فإن كل واحد منهم يطمع في أن يكون كل الفوائد فإذا عرضت فائدة فيها نفع لهم من قسمة تركة أو نظر مكان مشتجر فيه فالقاضي المسكين لا بد أن يصيره إلى أحدهم فيوغر بذلك صدور جميعهم ويخرجون وصدورهم قد ملئت غيظا فينطقون بذمه في المحافل ولا سيما بين أعدائه والمنافسين له وينعون عليه ما قضى فيه من الخصومات الواقعة لديه بمحضرهم ويحرفون الكلام وينسبونه إلى الغلط تارة والجهل أخرى والتكالب على المال حينا والمداهنة حينا
وبالجملة فإنه لا يقدر على إرضاء الجميع بل لا بد لهم من ثلبه على كل حال وهؤلاء يستغني عنهم فيناله منهم محن وبلايا هذا وهم أهل مودته وبطانته والمستفيدون بأمره ونهيه والمنتفعون بقضائه وما أحقهم بما كان يقول بعض القضاة المتقدمين فإنه كان لا يسمهم إلا مناصل سهل ولا يخرج من هذه الأوصاف إلا القليل النادر منهم فإن الزمن قد يتنفس في بعض الأحوال بمن لا يتصف بهذه الصفة فهذا حال القاضي المقلد في دنياه وأما حاله في أخراه فقد عرفت أنه أحد القاضيين اللذين في النار ولا مخرج له عن ذلك بحال من الأحوال كما سبق تحقيقه وتقريره فهو في الدنيا مع ما ذكرناه

سابقا من القلاقل والزلازل في نقمة باعتبار ما يخافه من الأخرة من أحكامه في دماء العباد وأموالهم بلا برهان ولا قرآن ولا سنة بل مجرد جهل وتقليد وعدم بصيرة في جميع ما يأتي ويذر ويصدر ويورد مع ورود القرآن الصحيح الصريح بالنهي عن العمل بما ليس بعلم كقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم والآيات في هذا المعنى وفي النهي عن إتباع الظن كثيرة جدا والمقلد لا علم له ولا ظن صحيح ولو لم يكن من الزواجر إلا ما قدمنا من الآيات القرآنية في قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون مع ما في الآيات الأخرى من الأمر بالحكم بما أنزل الله وبالحق وبالعدل ومع ما ثبت من أن من حكم بغير الحق أو بالحق وهو لا يعلم أنه الحق أنه من قضاة النار
فإن قلت إذا كان المقلد لا يصلح للقضاء المبرم ولا يحل له أن يتولى ذلك ولا لغيره أو يوليه فما تقول في المفتي المقلد
أقول أن كنت تسأل عن القيل والقال ومذاهب الرجال فالكلام في شروط المفتي وما يعتبر فيه مبسوط في كتب الأصول والفقه وإن كنت تسأل عن الذي

اعتقده وأراه جوابا فعندي أن المفتي المقلد لا يحل له أن يفتي من يسأله عن حكم الله أو حكم رسوله أو عن الحق أو عن الثابت في الشريعة أو عما يحل له أو يحرم عليه لأن المقلد لا يدري بواحد من هذه الأمور على التحقيق بل لا يعرفها إلا المجتهد
هكذا إن سأله السائل سؤالا مطلقا من غير أن يقيده بأحد الأمور المتقدمة فلا يحل للمقلد أن يفتيه بشيء من ذلك لأن السؤال المطلق ينصرف إلى الشريعة المطهرة لا إلى قول قائل أو رأي صاحب رأي وأما إذا سأله سائل عن قول فلان أو رأي فلان أو ما ذكره فلان فلا بأس بأن ينقل له المقلد ذلك ويرويه له إن كان عارفا بمذهب العالم الذي وقع السؤال عن قوله أو رأيه أو مذهبه لأنه سئل عن أمر يمكنه نقله وليس ذلك من التقول على الله بما لم يقل ولا من التعريف بالكتاب والسنة
وهذا التفصيل هو الصواب الذي لا ينكره منصف فإن قلت هل يجوز للمجتهد أن يفتي من سأله عن مذهب رجل معين وينقله له قلت يجوز ذلك بشرط أن يقول بعد نقل ذلك الرأي أو المذهب إذا كانا على غير الصواب مقالا يصرح به أو يلوح أن الحق خلاف ذلك

فإن الله أخذ على العلماء البيان للناس وهذا منه لا سيما إذا كان يعرف أن السائل سيعتقد ذلك الرأي أو المذهب المخالف للصواب وأيضا في نقل هذا العالم لذلك المذهب المخالف للصواب وسكوته عن اعتراضه إيهام للمغترين بأنه حق وفي هذا مفسدة عظيمة فإن كان يخشى على نفسه من بيان فساد ذلك المذهب فليدع الجواب ويحيل على غيره فإنه لم يسأل عن شيء يجب عليه بيانه فإن ألجأته الضرورة ولم يتمكن من التصريح بالصواب فعليه أن يصرح تصريحا لا يبقى فيه شك لمن يقف عليه إن هذا مذهب فلان أو رأي فلان الذي سأل عنه السائل ولم يسأله عن غيره

الخميس، 19 مايو 2022

روابط كل مدونات الطلااق للعدة

==================== روابط كل مدونات الطلااق للعدة 

  

 ================

صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الكردي الشهرزوري أبو عمرو

 

صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الكردي الشهرزوري أبو عمرو  =

بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب : صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط
المؤلف : عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الكردي الشهرزوري أبو عمرو
دار النشر : دار الغرب الإسلامي - بيروت - 1408
الطبعة : الثانية
عدد الأجزاء / 1
تحقيق : موفق عبدالله عبدالقادر
{ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]


" صفحة رقم 53 "
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الحمد لله المتفرد باستحقاق الحمد على ما سر وساء الذي رفع بالعلم درجات من شاء وأحل حضيض الضعة من جهل وأساء ولا إله إلا الله ذو الكمال المطلق والجلال الأعظم وصلى الله أفضل ما صلى على محمد عبده ورسوله الهادي إلى أكمل شريعة وأقوم لغة وعلى النبيين وآليهم المكرمين من عباده وسلم وخص وكرم ما دعاه سبحانه داع فأسعف ومن وأنعم آمين آمين آمين
سألتني نفعك الله وإياي وسائر الأصحاب بنافع العلم وأحظانا جميعا بصائب الفهم أيام قراءتك الكتاب الصحيح لمسلم رضي الله عنه أن أبين منه وأقيد ما يكثر فيه من طالبي الحديث ليعلم الإخلال والغلط وأصونهم عما بصدده فيه من الإسقاط والسقط مقدما على ذلك بأن
فضل الكتاب وفضله معرفا بحاله وشرطه فأجبتك إلى ذلك مختصرا وعلى هذا الأسلوب الذي يعظم به النفع وتكثر به البلوى مقتصرا متبرئا من الحول والقوة إلا بالله متعوذا من أن أفوه فيه بكلمة إلا لله وسميته صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط وليس مقصورا على ضبط


" صفحة رقم 54 "
الألفاظ بل هو إن شاء الله تبارك وتعالى كاشف لمعاني كثير مما اغتاص على الفهوم في القديم والحديث وشامل النفع لصحيح البخاري وغيره من كتب الحديث والله العظيم اسأل تمام ذلك مصونا عما لا ينبغي ميسورا فيه ما نبتغي إنه هو الجواد الكريم البر الرحيم وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب


" صفحة رقم 55 "
فأول ذلك أن مؤلفه هو مسلم بن الحجاج بن مسلم أبو الحسين القشيري النسب النيسابوري الدار والموطن عربي صليبة أحد رجال الحديث من أهل خراسان رحل فيه رحلة واسعة وصنف فيه تصانيف نافعة فسمع بخراسان يحيى بن يحيى التميمي


" صفحة رقم 56 "
وإسحاق بن راهويه وغيرهما وبالري محمد بن مهران الجمال وأبا غسان محمد بن عمرو زنيجا وغيرهما وبالعراق أحمد بن حنبل وعبدالله بن مسلمة القعنبي وغيرهما وبالحجاز


" صفحة رقم 57 "
سعيد بن منصور وأبا مصعب الزهري وغيرهما وبمصر عمرو بن سواد وحرملة بن يحيى وغيرهما في خلق كثير والله أعلم
روى عنه من الأكابر أبو حاتم الرازي وموسى بن هارون وأحمد بن سلمة


" صفحة رقم 58 "
وأبو بكر ابن خزيمة ومحمد بن عبد الوهاب الفراء ومكي بن عبدان وأبو حامد بن الشرقي والحسين بن محمد بن زياد القباني وإبراهيم بن أبي طالب وأبو عمرو المستملي وصالح بن محمد الحافظ الملقب جزرة وأبو عوانة الإسفراييني


" صفحة رقم 59 "
وأبو العباس السراج ونصر بن أحمد الحافظ الملقب نصرك وسعيد بن عمرو البردعي الحافظ في آخرين
وصنف غير هذا الكتاب كتبا منها كتاب المسند الكبير على الرجال وكتاب الجامع الكبير على الأبواب وكتاب العلل وكتاب ذكر أوهام المحدثين وكتاب التمييز وكتاب من ليس له إلا راو واحد وكتاب طبقات التابعين وكتاب المخضرمين وغير ذلك


" صفحة رقم 60 "
وقد كان له رحمة الله وإيانا في علم الحديث ضرباء لا يفضلهم وآخرون يفضلونه فرفعه الله تبارك وتعالى بكتابه الصحيح هذا إلى مناط النجوم وصار إماما حجة يبدأ ذكره ويعاد في علم الحديث وغيره من العلوم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
أخبرنا الشيخ المسند أبو القاسم منصور بن عبد المنعم بن عبد الله بن الإمام أبي عبد الله محمد بن الفضل الفراوي النيسابوري


" صفحة رقم 61 "
الصاعدي قال أخبرنا أبو المعالي محمد بن إسماعيل الفارسي اخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي قال أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم قال سمعت أحمد بن سلمة يقول رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما هكذا رواه البيهقي والخطيب الحافظان ووجدته في رواية أخرى عن الحاكم أبي عبد الله


" صفحة رقم 62 "
أيضا على مشايخ عصرهما في معرفة الحديث
وروينا عن الحاكم أبي عبد الله الحافظ قال قرأت بخط أبي عمرو المستملي أملى علينا إسحاق بن منصور سنة إحدى وخمسين ومائتين ومسلم بن الحجاج ينتخب عليه وأنا أستملي فنظر إسحاق بن منصور إلى مسلم فقال لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين والله أعلم
مات مسلم رحمه الله سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور وهذا مشهور لكن تاريخ مولده ومقدار عمره كثيرا ما تطلب الطلاب علمه فلا يجدونه وقد وجدناه ولله الحمد فذكر الحاكم أبو عبد الله ابن البيع الحافظ في كتاب المزكين لرواة الأخبار أنه سمع أبا عبد الله ابن الأخرم الحافظ يقول توفى مسلم بن الحجاج رحمه الله عشية يوم الأحد ودفن يوم الاثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين وهو ابن خمس وخمسين سنة وهذا يتضمن أن مولده كان في سنة ست ومائتين والله أعلم
وكان لموته سبب غريب نشأ عن غمرة فكرية علمية فقرأت بنيسابور حرسها


" صفحة رقم 63 "
الله وسائر بلاد الإسلام وأهله فيما انتخبته من تاريخها على الشيخ الزكي أبي الفتح منصور بن عبد المنعم حفيد الفراوي وعلى الشيخة أم المؤيد زينب ابنة أبي القاسم عبد الرحمن بن الحسن الجرجاني رحمها الله وإيانا عن الإمام أبي عبد الله الفراوي وأبي القاسم زاهر بن طاهر المستملي عن أبوي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني وسعيد بن محمد البحيري والإمام أبي بكر البيهقي قالوا اخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ قال سمعت أبا عبد الله محمد بن


" صفحة رقم 64 "
يعقوب سمعت أحمد بن سلمة يقول عقد لأبي الحسين مسلم بن الحجاج مجلس للمذاكرة فذكر له حديث لم يعرفه فانصرف إلى منزله وأوقد السراج وقال لمن في الدار لا يدخلن أحد منكم هذا البيت فقيل له أهديت لنا سلة فيها تمر فقال قدموها إلي فقدموها فكان يطلب الحديث ويأخذ تمرة تمرة يمضغها فأصبح وقد فنى التمر ووجد الحديث قال الحاكم زادني الثقة من أصحابنا أنه منها مرض ومات قلت قد زرت قبره بنيسابور وسمعنا عنده خاتمة كتابه الصحيح وغير ذلك رضي الله عنه وعنا ونفعنا بكتابه وبسائر العلم آمين آمين


" صفحة رقم 65 "
بيان حال هذا الكتاب وفضله وشرطه ولنفصل في ذلك فصولا


" صفحة رقم 66 "
فارغة


" صفحة رقم 67 "
الفصل الأول
هذا الكتاب ثاني كتاب صنف في صحيح الحديث ووسم به ووضع له خاصة سبق البخاري إلى ذلك وصلى مسلم ثم لم يلحقهما لاحق وكتاباهما أصح ما صنفه المصنفون والبخاري وكتابه أعلى حالا في الصحيح وانتقاده أخر جمه وكان مسلم مع حذقه ومشاركته له في كثير من شيوخه أحد المستفيدين منه والمقرين له بالأستاذية روينا عن مسلم رضي الله عنه قال صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة وبلغنا عن مكي بن عبدان وهو أحد حفاظ نيسابور قال سمعت مسلم بن الحجاج يقول لو أن أهل الحديث يكتبون مائتي سنة الحديث فمدارهم على هذا المسند يعني مسنده الصحيح
قال وسمعت مسلما يقول عرضت كتابي هذا المسند على أبي زرعة الرازي فكل ما أشار أن له علة تركته وكل ما قال إنه صحيح وليس له علة أخرجته وورد


" صفحة رقم 68 "
عن مسلم أنه قال ما وضعت شيئا في هذا المسند إلا بحجة وما أسقطت منه شيئا إلا بحجة
أخبرني الشيخ المسند أبو الحسن المؤيد بن محمد بن علي بن المقرىء بقراءتي عليه بشاذياخ نيسابور عن أبي منصور عبد الرحمن بن محمد الشيباني قال أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال حدثني أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن علي السوذرجاني بأصبهان قال سمعت محمد بن إسحاق بن منده قال سمعت أبا علي الحسين بن علي النيسابوري يقول ما تحت أديم السماء أصح من كتاب


" صفحة رقم 69 "
مسلم بن الحجاج في علم الحديث
ورويناه من وجه آخر عن ابن منده الحافظ هذا وقال فيه سمعت أبا علي الحسين بن علي النيسابوري وما رأيت أحفظ منه هذا مع كثرة من لقيه ابن منده من الحفاظ وقول أبي علي هذا إن أراد به أن كتاب مسلم أصح من غيره على معنى أنه غير ممزوج بغير الصحيح فإنه جرد الصحيح وسرده على التوالي بأصوله وشواهده على خلاف كتاب البخاري فإنه أودع تراجم أبواب كتابه كثيرا من موقوفات الصحابة ومقطوعات التابعين وغير ذلك مما ليس من جنس الصحيح فذلك مقبول من أبي علي وإن أراد ترجيح كتاب مسلم على كتاب البخاري في نفس الصحيح وفي إتقانه والاضطلاع بشروطه والقضاء به فليس ذلك كذلك كما قدمناه وكيف يسلم لمسلم ذلك وهو يرى على ما ذكره من بعد في خطبة كتابه أن الحديث المعنعن وهو الذي يقال في إسناده فلان عن فلان ينسلك في سلك الموصول الصحيح بمجرد كونهما في عصر واحد مع إمكان تلاقيهما وإن لم يثبت تلاقيهما وسماع أحدهما من الآخر وهذا منه توسع يقعد به عن الترجيح في ذلك وإن لم يلزم منه عمله به فيما أودعه في صحيحه هذا وفيما يورده فيه من الطرق المتعددة للحديث الواحد ما يؤمن من وهن ذلك والله أعلم
نعم يترجح كتاب مسلم بكونه أسهل متناولا من حيث إنه جعل لكل حديث موضعا واحدا يليق به يورده فيه بجميع ما يريد ذكره فيه من أسانيده المتعددة وألفاظه المختلفة فيسهل على الناظر النظر في وجوهه واستثمارها بخلاف البخاري فإنه يورد تلك الوجوه المختلفة في أبواب شتى متفرقة بحيث يصعب على الناظر جمع شملها واستدراك الفائدة من اختلافها والله أعلم


" صفحة رقم 70 "
قرأت على الشيخة الصالحة أم المؤيد ابنة عبد الرحمن بن الحسن النيسابورية بها عن الإمام أبي عبد الله محمد بن الفضل الصاعدي وغيره عن الإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي الحافظ وغيره قالوا أخبرنا الحاكم أبو عبد الله محمد بن الحافظ قال سمعت عمر بن أحمد الزاهد قال سمعت الثقة


" صفحة رقم 71 "
من أصحابنا يقول رأيت فيما يرى النائم كأن أبا علي الزغوري يمشي في شارع الحيرة ويبكي وبيده جزء من كتاب مسلم فقلت له ما فعل الله بك فقال نجوت بهذا وأشار إلى ذلك الجزء
أبو علي هذا هو محمد بن عبد العزيز الزغوري بفتح الزاي وضم الغين المعجمة وبعدها واو ساكنة ثم راء مهملة وكانت له عناية بصحيح مسلم والتخريج عليه وشارع الحيرة هو بنيسابور نفعنا الله الكريم بالدأب كما نفعه آمين والله أعلم


" صفحة رقم 72 "
الفصل الثاني
شرط مسلم في صحيحه أن يكون الحديث متصل الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه سالما من الشذوذ ومن العلة وهذا هو حد الحديث الصحيح في نفس الأمر فكل حديث اجتمعت فيه هذه الأوصاف فلا خلاف بين أهل الحديث في صحته وما اختلفوا في صحته من الأحاديث فقد يكون سبب اختلافهم انتفاء وصف من هذه الأوصاف بينهم خلاف في اشتراطه كما إذا كان بعض رواة الحديث مستورا أو كما إذا كان الحديث مرسلا وقد يكون سبب اختلافهم في صحته اختلافهم في أنه هل اجتمعت فيه هذه الأوصاف أو انتفى بعضها وهذا هو الأغلب في ذلك وذلك كما إذا كان الحديث في رواته من اختلف


" صفحة رقم 73 "
في ثقته وكونه من شرط الصحيح فإذا كان الحديث قد تداولته الثقات غير أن في رجاله أبا الزبير المكي مثلا أو سهيل بن أبي صالح أو العلاء بن عبد الرحمن أو حماد بن سلمة
قالوا فيه هذا حديث صحيح على شرط مسلم وليس بصحيح على شرط البخاري لكون هؤلاء عند مسلم ممن اجتمعت فيهم الأوصاف المعتبرة ولم يثبت عند البخاري ذلك فيهم وكذا حال البخاري فيما خرجه من حديث عكرمة مولى ابن عباس


" صفحة رقم 74 "
وإسحاق بن محمد الفروي وعمرو بن مرزوق وغيرهم ممن احتج بهم البخاري ولم يحتج بهم مسلم
قرأت بخط الحاكم أبي عبد الله الحافظ في كتابه المدخل إلى معرفة المستدرك أن عدد من أخرجهم البخاري في الجامع الصحيح ولم يخرجهم مسلم أربعمائة وأربعة وثلاثون شيخا وعدد من احتج بهم مسلم في المسند الصحيح ولم يحتج بهم البخاري في الجامع الصحيح ستمائة وخمسة وعشرون شيخا وقد روينا عن مسلم في باب صفة صلاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من صحيحه أنه قال ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا يعني في كتابه الصحيح وإنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه
وهذا مشكل جدا فإنه قد وضع فيه أحاديث قد اختلفوا في صحتها لكونها من حديث من ذكرناه ومن لم تذكره ممن اختلفوا في صحة حديثه ولم يجمعوا عليه


" صفحة رقم 75 "
وقد أجبت عليهما بجوابين أحدهما ما ذكرته في كتاب معرفة علوم الحديث وهو أنه أراد بهذا الكلام والله أعلم أنه لم يضع في كتابه إلا الأحاديث التي وجد عنده فيها شرائط المجمع عليه وإن لم يظهر اجتماعها في بعضها عند بعضهم
والثاني أنه أراد أنه ما وضع فيه ما اختلفت الثقات فيه في نفس الحديث متنا أو إسنادا ولم يرد ما كان اختلافهم إنما هو في توثيق بعض رواته وهذا هو الظاهر من كلامه فإنه ذكر ذلك لما سئل عن حديث أبي هريرة وإذا قرأ فأنصتوا هل هو صحيح فقال هو عندي صحيح فقيل له لم لم تضعه هاهنا فأجاب بالكلام المذكور ومع هذا قد اشتمل كتابه على أحاديث اختلفوا في إسنادها أو متنها عن هذا الشرط لصحتها عنده وفي ذلك ذهول منه رحمنا الله وإياه عن هذا الشرط أو سبب آخر وقد استدركت عليه وعللت والله أعلم


" صفحة رقم 76 "
الفصل الثالث
وقع في هذا الكتاب وفي كتاب البخاري ما صورته صورة الإنقطاع وليس ملتحقا بالإنقطاع في إخراج ما وقع فيه ذلك من حيز الصحيح إلى حيز الضعيف ويسمى تعليقا سماه به الإمام أبو الحسن الدارقطني ويذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين وغيره من المغاربة وكأنهم سموه تعليقا أخذا من تعليق العتق والطلاق وتعليق الجدار لما يشترك فيه الجميع من قطع الإتصال فإن ما فيه من حذف رجل أو رجلين أو أكثر من أوائل الإسناد قاطع للإتصال لا محالة وهو في كتاب البخاري كثير وفي كتاب مسلم قليل وإذا كان التعليق بلفظ فيه جزم منهما وحكم بأن من وقع بينهما وبينه الإنقطاع قد قال ذلك أو رواه واتصل الإسناد


" صفحة رقم 77 "
منه على الشرط مثل أن يقولا روى الزهري ويسوقا إسناده متصلا ثقة عن ثقة فحال الكتابين يوجب أن ذلك من الصحيح عندهما وكذلك ما روياه عن من ذكراه بما لم يحصل به التعريف به وأورداه أصلا محتجين به وذلك مثل حدثني بعض أصحابنا ونحو ذلك وذكر الحافظ أبو علي الغساني الأندلسي أن مسلما وقع الإنقطاع فيما رواه في كتابه في أربعة عشر موضعا
أولها في التيمم قوله في حديث أبي الجهم وروى الليث بن سعد


" صفحة رقم 78 "
ثم قوله في كتاب الصلاة في باب الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حدثنا صاحب لنا عن إسماعيل بن زكرياء عن الأعمش وهذا في رواية أبي العلاء بن ماهان وسلمت رواية أبي أحمد الجلودي من هذا وقال فيه عن مسلم حدثنا محمد بن بكار قال حدثنا إسماعيل بن زكرياء
ثم في باب السكوت بين التكبير والقراءة قوله وحدثت عن يحيى بن حسان ويونس المؤدب
ثم قوله في كتاب الجنائز في حديث عائشة رضي الله عنها في خروج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى البقيع ليلا وحدثني من سمع حجاجا الأعور واللفظ له قال حدثنا حجاج ابن محمد حدثنا ابن جريج
وقوله في باب الحوائج في حديث عائشة رضي الله عنها حدثني غير واحد من أصحابنا قالوا حدثنا إسماعيل بن أبي أويس


" صفحة رقم 79 "
وقوله في هذا الباب وروى الليث بن سعد قال حدثني جعفر بن ربيعة وذكر حديث كعب بن مالك في تقاضي ابن أبي حدرد
وقوله في باب احتكار الطعام في حديث معمر بن عبد الله العدوي حدثني بعض أصحابنا عن عمرو بن عون والله أعلم
وقوله في صفة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وحدثت عن أبي أسامة وممن روى ذلك عنه إبراهيم بن سعيد الجوهري قال حدثنا أبو أسامة
وذكر أبو علي أنه رواه أبو أحمد الجلودي عن محمد بن المسيب الأرغياني عن إبراهيم بن سعيد


" صفحة رقم 80 "
قلت ورويناه من غير طريق أبي أحمد عن محمد بن المسيب ورواه غير ابن المسيب عن إبراهيم الجوهري وسنورد ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى
وفي آخر الفضائل في حديث ابن عمر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد
رواية مسلم إياه موصولا عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه ثم قال حدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب ورواه الليث عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر كلاهما عن الزهري بإسناد معمر كمثل حديثه
وقال مسلم في آخر كتاب القدر في حديث أبي سعيد الخدري لتركبن سنن من كان قبلكم حدثني عدة من أصحابنا عن سعيد بن أبي مريم وهذا قد وصله إبراهيم بن محمد بن سفيان عن محمد بن يحيى بن أبي مريم
قلت وإنما أورده مسلم على وجه المتابعة والاستشهاد
وقوله فيما سبق في الاستشهاد والمتابعة في حديث البراء بن عازب في


" صفحة رقم 81 "
الصلاة الوسطى بعد أن رواه موصولا ورواه الأشجعي عن سفيان الثوري إلى آخره
وقوله أيضا في الرجم في المتابعة لما رواه موصولا من حديث أبي هريرة في الذي اعترف على نفسه بالزنا ورواه الليث أيضا عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب بهذا الإسناد
وقوله في كتاب الأمارة في المتابعة لما رواه متصلا من حديث عوف بن مالك خيار أئمتكم الذين تحبونهم ورواه معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد
وذكر أبو علي فيما عندنا من كتابه في الرابع عشر حديث ابن عمر أرأيتكم ليلتكم هذه المذكور في الفضائل وقد ذكره مرة فيسقط هذا من العدد
والحديث الثاني لكون الجلودي رواه عن مسلم موصولا وروايته هي المعتمدة المشهورة فهي إذن اثنا عشر لا أربعة عشر وأخذ هذا عن أبي علي أبو عبد الله المازري صاحب المعلم وأطلق أن في الكتاب أحاديث مقطوعة في أربعة عشر موضعا
وهذا يوهم خللا في ذلك وليس ذلك كذلك ولا شيء من هذا والحمد لله


" صفحة رقم 82 "
فخرج لا سيما ما كان منها مذكورا على وجه المتابعة ففي نفس الكتاب وصلها فاكتفى بكون ذلك معروفا عند أهل الحديث
كما أنه روى عن جماعة من الضعفاء اعتمادا على كون ما رواه عنهم معروفا من رواية الثقات على ما سنرويه عنه فيما بعد إن شاء الله تعالى
وهكذا الأمر في تعليقات البخاري بألفاظ مثبتة جازمة على الصفة التي ذكرناها كمثل ما قال فيه قال فلان أو روى فلان أو ذكر فلان أو نحو ذلك ولم يصب أبو محمد ابن حزم الظاهري حيث جعل مثل ذلك انقطاعا قادحا في الصحة مستروحا إلى ذلك في تقرير مذهبه الفاسد في إباحة الملاهي وزعمه أنه لم يصح في تحريمها حديث مجيبا به عن حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحرير والخمر والمعازف إلى آخر الحديث فزعم أنه وإن أخرجه البخاري فهو غير صحيح


" صفحة رقم 83 "
لأن البخاري قال فيه قال هشام بن عمار وساقه بإسناده فهو منقطع فيما بين البخاري وهشام
وهذا خطأ من وجوه والله أعلم
أحدها انه لا انقطاع في هذا أصلا من جهة أن البخاري لقى هشاما وسمع منه وقد قررنا في كتاب معرفة علوم الحديث أنه إذا تحقق اللقاء والسماع مع السلامة من التدليس حمل ما يرويه عنه على السماع بأي لفظ كان كما يحمل قول الصحابي قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على سماعه منه إذا لم يظهر خلافه وكذا غير قال من الألفاظ
الثاني إن هذا الحديث بعينه معروف الإتصال بصريح لفظه من غير جهة البخاري
الثالث أنه وإن كان ذلك انقطاعا فمثل ذلك في الكتابين غير ملتحق في بالإنقطاع القادح لما عرف من عاداتهما وشرطهما وذكرهما ذلك في كتاب موضوع لذكر الصحيح خاصة فلن يستجيزا فيه الجزم المذكور من غير ثبت وثبوت بخلاف الإنقطاع والإرسال الصادرين من غيرهما وأما إذا لم يكن ذلك من الشيخين بلفظ جازم مثبت له على ما ذكراه عنه على الصفة التي قدمت ذكرها مثل أن يقولها وروى عن فلان أو ذكر عن فلان أو في الباب عن فلان ونحو ذلك فليس ذلك في حكم التعليق الذي ذكرناه ولكن يستأنس بإيرادهما له وأما قول مسلم في خطبة


" صفحة رقم 84 "
كتابه وقد ذكر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أمرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن ننزل الناس منازلهم فهذا بالنظر إلى أن لفظه ليس لفظا جازما بذلك عن عائشة غير مقتض كونه مما حكم بصحته وبالنظر إلى أنه احتج به وأورده إيراد الأصول لا إيراد الشواهد يقتضي كونه مما حكم بصحته
ومع ذلك قد حكم الحاكم أبو عبد الله الحافظ في كتابه معرفة علوم الحديث بصحته وأخرجه أبو داود في سننه بإسناده منفردا به وذكر أن الراوي له عن عائشة ميمون بن أبي شبيب لم يدركها وفيما قاله أبو داود توقف ونظر فإنه كوفي متقدم قد أدرك المغيرة بن شعبة ومات المغيرة قبل عائشة رضي الله عنها وعند مسلم التعاصر مع إمكان التلاقي كاف في ثبوت الإدراك فلو ورد عن ميمون هذا أنه قال لم ألق عائشة أو نحو هذا لاستقام لأبي داود الجزم بعدم إدراكه وهيهات ذلك والله أعلم


" صفحة رقم 85 "
الفصل الرابع
جميع ما حكم مسلم بصحته من هذا الكتاب فهو مقطوع بصحته والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر وهكذا ما حكم البخاري بصحته في كتابه وذلك لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول سوى من لا يعتد بخلافه ووفاقه في الإجماع والذي نختاره أن تلقي الأمة للخبر المنحط عن درجة التواتر بالقبول يوجب العلم النظري بصدقه خلافا لبعض محققي الأصوليين حيث نفى ذلك بناءا على أنه لا يفيد في حق كل واحد منهم إلا الظن وإنما قبله لأنه يجب عليه العمل بالظن والظن قد يخطأ وهذا مندفع لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ وقد أخبرونا في إذنهم عن الحافظ الفقيه


" صفحة رقم 86 "
أبي طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني رحمه الله قال سمعت القاضي أبا حكيم الجيلي يقول سمعت أبا المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني بنيسابور يقول لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما ألزمته الطلاق ولا حنثته لإجماع علماء المسلمين على صحتهما
قلت ولقائل أن يقول في قوله ولا حنثته للإجماع على صحتهما أنه لا يحنث ولو لم يجمع على صحتهما لأجل الشك فيه حتى لو حلف بذلك في


" صفحة رقم 87 "
حديث ليس بهذه الصفة فإنه لا يحنث لذلك وإن كان راويه فاسقا فعدم الحنث حاصل قبل الإجماع فلا يضاف إلى الإجماع
فأقول المضاف إلى الإجماع هو القطع بعدم الحنث ظاهرا وباطنا والثابت عند الشك وعدم الإجماع هو الحكم ظاهرا بعدم الحنث مع احتمال وجوده في الباطن فعلى هذا ينبغي أن يحمل كلامه فإنه اللائق بتحقيقه والله أعلم
إذا عرفت هذا فما أخذ عليهما من ذلك وقدح فيه معتمد من الحفاظ فهو مستثنى مما ذكرناه لعدم الإجماع على تلقيه بالقبول وما ذلك إلا في مواضع قليلة سننبه على ما وقع منها في هذا الكتاب إن شاء الله العظيم وهو أعلم


" صفحة رقم 88 "
الفصل الخامس
صنف على صحيح مسلم قوم من الحفاظ تأخروا عن مسلم وأدركوا الأسانيد العالية وفيهم من أدرك بعض شيوخ مسلم فخرجوا أحاديثه في تصانيفهم تلك بأسانيدهم تلك فالتحقت به في أن لها سمة الصحيح وإن لم تلتحق به في خصائصه جمع ويستفاد من مخرجاتهم المذكورة علو الإسناد وفوائد تنشأ من تكثير الطرق ومن زيادة ألفاظ مفيدة ثم أنهم لم يلتزموا فيها الموافقة في ألفاظ الأحاديث من غير زيادة ولا نقص لكونهم يروونها بأسانيد أخر فأوجب ذلك بعض التفاوت في بعض الألفاظ
فمن ذلك المخرج على صحيح مسلم للعبد الصالح أبي جعفر أحمد بن حمدان النيسابوري الزاهد العابد المجاب رحل في حديث واحد منه إلى أبي يعلى الموصلي ورحل في أحاديث معدودة منه لم يكن سمعها حتى سمعها وروينا أنه


" صفحة رقم 89 "
سمعه منه الشيخ القدوة أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الزاهد الحيري فكان إذا بلغ منه موضعا فيه سنة لم يستعملها وقف عندها إلى أن يستعملها
ومنها المسند الصحيح لأبي بكر محمد بن محمد بن رجاء النيسابوري الحافظ المصنف على شرط مسلم وهو متقدم يشارك مسلما في أكثر شيوخه
ومنها مختصر المسند الصحيح المؤلف على كتاب مسلم تأليف الحافظ أبي عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراييني روى فيه عن يونس بن عبد الأعلى وغيره من شيوخ مسلم
ومنها كتاب أبي حامد الشاركي الفقيه الشافعي الهروي يروي عن أبي يعلى الموصلي في أمثال له


" صفحة رقم 90 "
ومنها المسند الصحيح على كتاب مسلم لأبي بكر محمد بن عبد الله الجوزقي النيسابوري الشافعي
ومنها المسند المستخرج على كتاب مسلم للحافظ المصنف أبي نعيم أحمد ابن عبد الله الأصبهاني والمخرج على صحيح مسلم للإمام أبي الوليد حسان ابن محمد القرشي الفقيه الشافعي رضي الله عنهم وعنا وغير ذلك والله أعلم


" صفحة رقم 91 "
الفصل السادس
ذكر مسلم رحمه الله أولا أنه يقسم الأخبار ثلاثة أقسام
الأول ما رواه الحفاظ المتقنون
والثاني ما رواه المستورون المتوسطون في الحفظ والإتقان
والثالث ما رواه الضعفاء والمتروكون
فإذا فرغ من القسم الأول اتبعه بذكر القسم الثاني وأما الثالث فلا يعرج عليه فذكر الحاكم أبو عبد الله الحافظ وصاحبه أبو بكر البيهقي أن المنية اخترمته قبل إخراج القسم الثاني وذكر القاضي الحافظ عياض بن موسى من المغاربة أن ذلك مما قبله الشيوخ والناس من الحاكم وتابعوه عليه وأن الأمر ليس على ذلك فإنه ذكر في كتابه هذا أحاديث الطبقة الأولى وجعلها أصولا ثم اتبعها بأحاديث الطبقة الثانية على سبيل المتابعة والاستشهاد وليس مراد مسلم بذلك إيراد الطبقة الثانية مفردة وكذلك ما أشار إليه مسلم من أنه يذكر علل الأحاديث قد وفى به في هذا الكتاب في ضمن ما أتى به فيه من جمع الطرق والأسانيد والاختلاف


" صفحة رقم 92 "
قلت كلام مسلم محتمل لما قاله عياض ولما قاله غيره نعم روي بالصريح عن إبراهيم بن محمد بن سفيان أنه قال أخرج مسلم ثلاثة كتب من المسندات واحد الذي قرأه على الناس والثاني يدخل فيه عكرمة ومحمد بن إسحاق صاحب المغازي وضرباؤهما والثالث يدخل فيه من الضعفاء وهذا مخالف لما قاله الحاكم والله أعلم


" صفحة رقم 93 "
الفصل السابع
ألزم أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني مسلما والبخاري رضي الله عنهم إخراج أحاديث تركا إخراجها مع
أن أسانيدها أسانيد قد أخرجا في صحيحيهما بمثلها
مثال إخراج البخاري حديث قيس بن أبي حازم عن مرداس بن مالك الأسلمي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يذهب الصالحون الأول فالأول
وإخراج مسلم حديث قيس أيضا عن عدي بن عميرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من استعملناه على عمل الحديث


" صفحة رقم 94 "
ولم يرو عن مرداس وعدي بن عميرة غير قيس بن أبي حازم
وكذلك لم يرو عن الصنابح بن الأعسر ودكين بن سعيد المزني وأبي حازم والد قيس غير قيس


" صفحة رقم 95 "
قال الدارقطني فيلزم على مذهبهما جميعا إخراج الصنابح ودكين وأبي حازم والد قيس إذ كانت أحاديثهم مشهورة محفوظة رواها جماعة من الثقات
وذكر أيضا أن رجالا من الصحابة رضي الله عنهم رووا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد رويت أحاديثهم من وجوه صحاح لا مطعن في ناقليها ولم يخرجا من أحاديثهم شيئا فيلزم إخراجها على مذهبهما
قلت وذكر الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله فيما قرأته بخطه فيما جمعه من العوالي الصحاح مما اتفق الشيخان على إخراجه من صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة وما تفرد به منها كل واحد منهما عن صاحبه هذا مع أن الإسناد واحد ثم إن ما ألزمهما الدارقطني غير لازم لهما فإنهما تجنبا التطويل ولم يضعا كتابيهما على أن يستوعبا جميع الأحاديث الصحاح واعترفا بأنهما تركا بعض الصحاح روينا ذلك عنهم صريحا
نعم إذا كان الحديث الذي تركاه أو أحدهما مع صحة إسناده أصلا في معناه عمدة في بابه ولم يخرجا له نظيرا فذلك لا يكون ألا لعلة فيه خفيت واطلعا عليها أو التارك له منهما أو لغفلة عرضت والله أعلم


" صفحة رقم 96 "
الفصل الثامن
عاب عائبون مسلما بروايته في صحيحه عن جماعة من الضعفاء أو المتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية الذين
ليسوا من شرط الصحيح أيضا والجواب أن ذلك لأحد أسباب لا معاب عليه معها
أحدها أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده ولا يقال إن الجرح مقدم على التعديل وهذا تقديم للتعديل على الجرح لأن الذي ذكرناه محمول على ما إذا كان الجرح غير مفسر السبب فأنه لا يعمل به
وقد جليت في كتاب معرفة علوم الحديث حمل الخطيب أبي بكر الحافظ على ذلك احتجاج صاحبي الصحيحين وأبي داود وغيرهم بجماعة علم الطعن فيهم من غيرهم ويحتمل أيضا أن يكون ذلك فيما بين الجارح فيه السبب واستبان مسلم بطلانه والله أعلم
الثاني أن يكون ذلك واقعا في الشواهد والمتابعات لا في الأصول وذلك بأن يذكر الحديث أولا بإسناد نظيف رجاله ثقات ويجعله أصلا ثم يتبع ذلك بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة أو لزيادة فيه


" صفحة رقم 97 "
تنبه على فائدة فيما قدمه وبالمتابعة والاستشهاد اعتذر الحاكم أبو عبد الله في إخراجه عن جماعة ليسوا من شرط الصحيح منهم مطر الوراق وبقية بن الوليد ومحمد بن إسحاق بن يسار وعبد الله بن عمر العمري والنعمان ابن راشد أخرج مسلم عنهم في الشواهد في أشباه لهم كثيرين والله أعلم
الثالث أن يكون ضعف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه عنه باختلاط حدث عليه غير قادح فيما رواه من قبل في زمان سدادة واستقامته كما في أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب فذكر الحاكم أبو عبد الله أنه اختلط بعد الخمسين ومائتين بعد خروج مسلم من مصر فهو في ذلك كسعيد بن أبي عروبة وعبد الرزاق وغيرهما ممن اختلط آخرا ولم يمنع ذلك من الاحتجاج


" صفحة رقم 98 "
في الصحيحين بما أخذ عنهم قبل ذلك
قرأت بنيسابور على الشيخة الصالحة الوافر حظ أهلها من خدمة الحديث زينب بنت عبد الرحمن بن الحسن الجرجاني رحمها الله وإيانا عن الإمام أبي عبد الله الفراوي وزاهر بن طاهر المستملي عن الإمام أبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني وغيره قالوا أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ قراءة عليه قال سمعت أبا أحمد الحافظ سمعت أبا بكر محمد بن علي بن النجار سمعت إبراهيم بن أبي طالب يقول قلت لمسلم بن الحجاج قد أكثرت الرواية في كتابك الصحيح عن أحمد بن عبد الرحمن الوهبي وحاله قد ظهر فقال إنما نقموا عليه بعد خروجي من مصر والله أعلم
الرابع أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده وهو عنده برواية الثقات نازل فيذكر العالي ولا يطول بإضافة النازل إليه مكتفيا بمعرفة أهل الشأن بذلك وهذا العذر قد رويناه عنه تنصيصا وهو على خلاف حاله فيما رواه أولا عن الثقات ثم اتبعه بالمتابعة عن من هو دونهم وكان ذلك وقع منه على حسب حضور باعث النشاط وغيبته


" صفحة رقم 99 "
فروينا عن سعيد بن عمرو البردعي أنه حضر أبا زرعة الرازي وذكر كتاب الصحيح الذي ألفه مسلم ثم الفضل الصانغ على مثاله وحكى إنكار أبي زرعة على مسلم في كلام تركت ذكره منه أنه أنكر عليه روايته فيه عن أسباط بن نصر وقطن بن نسير وأحمد بن عيسى المصري وأنه قال أيضا يطرق لأهل البدع علينا فيجدون السبيل بان يقولوا للحديث إذا أحتج به عليهم ليس هذا في كتاب الصحيح
قال سعيد بن عمرو فلما رجعت إلى نيسابور في المرة الثانية ذكرت لمسلم ابن الحجاج إنكار أبي زرعة عليه وروايته في كتاب الصحيح عن أسباط بن نصر وقطن بن نسير وأحمد بن عيسى قال لي مسلم إنما قلت صحيح وإنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع ويكون عندي من رواية أوثق منهم بنزول فأقتصر على ذلك وأصل الحديث معروف من رواية الثقات وقدم مسلم بعد ذلك الري فبلغني أنه خرج إلى أبي عبد الله


" صفحة رقم 100 "
محمد بن مسلم بن وارة فجفاه وعاتبه على هذا الكتاب وقال له نحوا مما قاله لي أبو زرعة إن هذا يطرق لأهل البدع علينا فاعتذر إليه مسلم وقال إنما أخرجت هذا الكتاب وقلت هو صحاح ولم أقل إن ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب ضعيف ولكني إنما أخرجت هذا من الحديث الصحيح ليكون مجموعا عندي وعند من يكتبه عني فلا يرتاب في صحتها ولم أقل إن ما سواه ضعيف أو نحو ذلك مما اعتذر به إلى محمد بن مسلم فقبل عذره وحدثه والله أعلم
وقد سبق عن مكي بن عبدان أحد حفاظ نيسابور قال سمعت مسلما يقول عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي فكل ما أشار أن له علة تركته وكل ما قال إنه صحيح وليس له علة فهو الذي أخرجه هذا مقام وعر وقد مهدته بواضح من القول لم تره مجتمعا في مؤلف سبق ولله الحمد وفيما ذكرته دليل على أن من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في صحيحه بأنه من شرط الصحيح عند مسلم فقد غفل وأخطأ بل ذلك يتوقف على النظر في أنه كيف روى عنه وعلى أي وجه روى عنه على ما بيناه من انقسام ذلك والله سبحانه أعلم


" صفحة رقم 101 "
الفصل التاسع
روينا عن أبي قريش الحافظ رحمه الله وإيانا قال كنت عند أبي زرعة الرازي فجاء مسلم بن
الحجاج فسلم عليه وجلس ساعة فتذاكرا فلما أن قام قلت له هذا جمع أربعة آلاف حديث في الصحيح فقال أبو زرعة فلمن ترك الباقي أراد والله أعلم إن كتابه هذا أربعة آلاف حديث أصول دون المكررات


" صفحة رقم 102 "
وهكذا كتاب البخاري ذكر أنه أربعة آلاف حديث بإسقاط المكررات وهو بالمكررة سبعة آلاف ومائتين وخمسة وسبعون حديثا


" صفحة رقم 103 "
ثم أن مسلما رحمه الله وإيانا رتب كتابه على الأبواب فهو مبوب في الحقيقة ولكنه لم يذكر فيه تراجم الأبواب لئلا يزداد بها حجم الكتاب أو لغير ذلك وتحريه رحمه الله فيه ظاهر في أشياء منها كثرة إعتنائه بالتمييز بين حدثنا واخبرنا وتقييد ذلك على مشايخه كما في قوله حدثني محمد بن رافع وعبد بن حميد قال عبد أخبرنا وقال ابن رافع حدثنا عبد الرزاق وكان من مذهبه الفرق بينهما وأن حدثنا لما سمعه من لفظ الشيخ خاصة وأخبرنا لما قرىء على الشيخ
وذلك مذهب الشافعي واصحابه ومذهب البخاري في كثيرين جواز اطلاق حدثنا واخبرنا فيما قرىء على الشيخ كما في ما سمع من لفظه ومذهب مسلم وموافقيه صار هو الغالب على أهل الحديث والله أعلم
ومنها إعتناؤه بضبط ألفاظ الأحاديث عند إختلاف الرواة فيها فمن ذلك ان الحديث إذا كان عنده عن غير واحد وألفاظهم فيه مختلفة مع إتفاقهم في المعنى قال فيه أخبرنا فلان وفلان واللفظ لفلان قال أو قالا أخبرنا فلان
فجائز قال نظرا إلى من له اللفظ وحده وجائز قالا نظرا إلى اجتماعهما على المعنى وله عن هذا عبارة أخرى حسنة كما في قوله حدثني زهير بن حرب وابن أبي عمر كلاهما عن سفيان قال زهير حدثنا سفيان بن عيينة فأشعر بإعادة ذكر زهير خاصة بأن لفظ الحديث له خاصة


" صفحة رقم 104 "
ومنها ما تكرر منه فيما رواه من صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة من أمثال قوله حدثنا محمد بن رافع قال حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام ابن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فذكر أحاديث منها وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا توضأ أحدكم فليستنشق الحديث
فتكريره رحمه الله وإيانا في كل حديث منها لقوله هذا ما حدثنا أبو هريرة وقوله فذكر أحاديث منها كذا وكذا يفعله المتحري الورع في الصحائف المشتملة على أحاديث بإسناد واحد إذا اكتفى عند سماعها بذكر الإسناد في أولها ولم يجدد ذكره عند كل حديث منها
ثم أراد أن يفرد بالرواية حديثا مما وقع بعد الحديث الأول منها بالإسناد المذكور في أولها فإنه يورده كإيراد مسلم مبينا للحال فيه كما جرى
وأجاز وكيع بن الجراح ويحيى بن معين وأبو بكر


" صفحة رقم 105 "
الإسماعيلي والأكثرون ترك هذا البيان ورواية كل حديث منها منفردا موصولا بالإسناد المذكور في أولها لأن الكل معطوف على الأول فالإسناد المذكور أولا في حكم المذكور عند كل حديث من ذلك والله أعلم


" صفحة رقم 106 "
الفصل العاشر
هذا الكتاب مع شهرته التامة صارت روايته بإسناد متصل بمسلم مقصورة على أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان غير أنه يروى في بلاد المغرب مع ذلك عن أبي محمد أحمد بن علي القلانسي عن مسلم
أما أبو إسحاق فهو نيسابوري من أهلها وكان فقيها زاهدا روينا عن الحاكم أبي عبد الله بن البيع النيسابوري أنه سمع محمد بن يزيد العدل يقول كان إبراهيم بن محمد بن سفيان مجاب الدعوة وأنه سمع أبا عمرو بن نجيد يقول كان إبراهيم بن محمد بن سفيان من الصالحين وذكر الحاكم أنه كان من العباد المجتهدين ومن الملازمين لمسلم بن الحجاج وكان من أصحاب أيوب بن الحسن الزاهد صاحب الرأي يعني الفقيه الحنفي سمع إبراهيم محمد بن رافع القشيري وغيره بنيسابور وبالري وبالعراق وبالحجاز وتوفي فيما حكاه الحاكم في رجب سنة ثمان وثلاثمائة


" صفحة رقم 107 "
قال إبراهيم فرغ لنا مسلم من قراءة الكتاب في شهر رمضان سنة سبع وخمسين ومائتين
روى الكتاب عنه أبو عبدالله محمد بن يزيد العدل والجلودي وغيرهما أما الجلودي فهو أبو أحمد محمد بن عيسى بن محمد بن عبد الرحمن بن عمرويه بن منصور الزاهد النيسابوري الجلودي بضم الجيم ومن فتح الجيم منه فقد أخطأ وإنما الجلودي بفتح الجيم آخر ذكره يعقوب بن السكيت ثم ابن قتيبة وهو منسوب إلى جلود اسم قرية قيل بإفريقية وقيل بالشام وهذا الجلودي أبو أحمد فيما ذكره أبو سعد ابن السمعاني وقرأته بخطه في كتاب الأنساب له منسوب إلى الجلود جمع جلد
وعندي انه منسوب إلى سكة الجلوديين بنيسابور الدارسة
روينا عن الحاكم أبي عبد الله أن أبا أحمد هذا كان شيخا صالحا زاهدا من كبار عباد الصوفية صحب أكابر المشايخ ومن أهل الحقائق وكان يورق يعني ينسخ ويأكل من كسب يده سمع أبو بكر ابن خزيمة ومن كان قبله وكان ينتحل مذهب سفيان الثوري ويعرفه توفى رحمه الله يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة ثمان وستين وثلاثمائة وهو ابن ثمانين سنة


" صفحة رقم 108 "
قال وختم بوفاته سماع كتاب مسلم بن الحجاج وكل من حدث به بعده عن إبراهيم بن محمد بن سفيان وغيره فإنه غير ثقة
رواه عن الجلودي أبو العباس أحمد بن الحسن بن بندار الرازي وأبو الحسين عبد الغافر الفارسي وغيرهما
أما الفارسي فهو عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر بن أحمد بن محمد بن سعيد الفارسي الفسوي ثم النيسابوري أبو الحسين التاجر سمع الكتاب من الجلودي قراءة عليه في شهور سنة خمس وستين وثلاثمائة ذكره حفيده عبد الغافر ابن إسماعيل بن عبد الغافر في سياق تاريخ نيسابور فذكر أنه كان شيخا ثقة صالحا صائنا محظوظا من الدين والدنيا مجدودا في الرواية على قلة سماعاته مشهورا مقصودا من الآفاق سمع منه الأئمة والصدور وقرأ الحافظ الحسن السمرقندي عليه صحيح مسلم نيفا وثلاثين مرة وقرأه عليه أبو سعيد البحيري نيفا وعشرين مرة وممن قرأه عليه من المشاهير زين الإسلام أبو القاسم يعني القشيري والواحدي وغيرهما


" صفحة رقم 109 "
استكمل خمسا وتسعين سنة وألحق أحفاد الأحفاد بالأجداد وتوفي يوم الثلاثاء ودفن يوم الأربعاء السادس من شوال سنة ثمان وأربعين وأربعمائة والله أعلم
رواه فيمن رواه عن الفارسي الإمام أبو عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي العباس الصاعدي الفراوي ثم النيسابوري كان أبوه من فراوة بليدة من ثغر خراسان وقرأت بخط السمعاني أبي سعد في أنسابه أنه بضم الفاء ورأيته بضم الفاء بخطه معنيا بذلك والشائع المعروف فتح الفاء وهكذا ذكره لي شيخنا أبو القاسم الفراوي ابن حفيد الفراوي لما سألته عن ذلك
كان رحمه الله وإيانا كثير الرواية بالأسانيد العالية رحلت إليه الطلبة من الأقطار وانتشرت الرواية عنه فيما دنا ونأى من الأمصار حتى قالوا فيه للفراوي ألف راوي
وحدثنا شيخنا أبو القاسم الفراوي أنه نقش على فص من عقيق للفراوي ألف راوي وذكر لي مرة أخرى أن الفص كان لجده هذا
وسمع الكتاب من الفارسي بقراءة أبي سعيد البحيري عليه في السنة التي مات فيها سنة ثمان وأربعين وأربعمائة وكان يلقب فقيه الحرم ومما يذكر له من المعالي تفقهه على الإمام أبي المعالي وله في علم المذهب كتاب انتخبت منه فوائد واستغربتها


" صفحة رقم 110 "
وحدثني بمرو شيخنا أبو المظفر عبد الرحيم ابن الحافظ أبي سعد السمعاني عن أبيه ومن خطه ثقلت أنه قال فيه يصفه إمام مفتي مناظر محدث واعظ ظريف الجملة حسن الأخلاق والمعاشرة مكرم لأهل العلم خصوصا للغرباء الواردين عليه ما رأيت في شيوخي مثله
وقال سألته عن مولده فقال مولدي تقديرا في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة
قلت وتوفي يوم الخميس الحادي أو الثاني والعشرين من شوال سنة ثلاثين وخمسمائة
وذكره أبو الحسن عبد الغافر حفيد أبو الحسين عبد الغافر في كتابه ومات قبله سنة تسع وعشرين فأحسن الثناء عليه بما لا نطيل به
روى الكتاب عنه فيمن رواه عنه شيخنا أبو الحسن مؤيد بن محمد بن الشيخ المقرىء أبي الحسن علي بن الحسن بن محمد بن أبي صالح الطابراني الطوسي ثم النيسابوري وكان شيخا رضيا جليلا مسندا معمرا محظوظا من رواية الحديث متصديا لإسماعه ملحوظا من طلبته سمع الكتاب من الفراوي في السنة التي مات فيها وعاش حتى تفرد به عنا وحتى ألحق الأحفاد بالأجداد
وسمعت الكتاب منه بقراءتي عليه في معدنه نيسابور فعلونا فيه ولله الحمد


" صفحة رقم 111 "
سماء العلو بإسناد متسلسل نيسابوري عن نيسابوري ومعمر عن معمر إلى مؤلفه مسلم رحمه الله
وأنبأنا به عن الفراوي أيضا ابن حفيده الشيخ الزكي أبو القاسم منصور رحمهم الله أجمعين وإيانا ونفعنا بذلك وإخواننا آمين آمين
وأما القلانسي فهو أبو محمد أحمد بن علي بن الحسن بن المغيرة بن عبد الرحمن القلانسي وقعت بروايته عن مسلم عند المغاربة ولم أجد له ذكرا عند غيرهم دخلت روايته إليهم من مصر على يدي من رحل منهم إلى جهة المشرق كأبي عبد الله محمد بن يحيى الحذاء التميمي القرطبي وغيره
سمعوها بمصر من أبي العلاء عبد الوهاب بن عيسى بن عبد الرحمن بن ماهان البغدادي قال حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن يحيى الأشقر الفقيه على مذهب الشافعي حدثنا أبو محمد أحمد بن علي بن الحسن القلانسي حدثنا مسلم بن الحجاج حاشى ثلاثة أجزاء من آخر الكتاب أولها حديث الإفك الطويل فإن أبا العلاء ابن ماهان المذكور كان يروي ذلك عن أبي أحمد الجلودي عن ابن سفيان عن مسلم وبلغنا عن الحافظ الفاضل أبي علي الحسين بن محمد الغساني وكان من جهابذة المحدثين ورئيسهم بقرطبة قال سمعت أبا عمر أحمد بن محمد بن يحيى


" صفحة رقم 112 "
يعني ابن الحذاء يقول سمعت أبي يقول أخبرني ثقات أهل مصر أن أبا الحسن علي بن عمر الدارقطني كتب إلى أهل مصر من بغداد أن اكتبوا عن أبي العلاء بن ماهان كتاب مسلم بن الحجاج الصحيح ووصف أبا العلاء بالثقة والتمييز


" صفحة رقم 113 "
تنبيهات
الأول اختلفت النسخ في رواية الجلودي عن إبراهيم هل هي بحدثنا إبراهيم أو أخبرنا والتردد واقع في أنه سمع من لفظ إبراهيم أو قراءة عليه فالأحوط إذن أن يقال أخبرنا إبراهيم حدثنا إبراهيم فيلفظ القارىء بهما على البدل وجائز لنا الإقتصار على أخبرنا فإنه كذلك فيما نقلته من ثبت الفراوي من خط صاحبه عبد الرازق الطبسي وفيما انتخبته بنيسابور من الكتاب من أصل فيه سماع شيخنا المؤيد وسمعته عليه عند تربة مسلم رحمه الله وهو كذلك بخط الحافظ أبي القاسم الدمشقي العساكري عن الفراوي وفي ذلك أيضا
فحكم المتردد في ذلك المصير إلى أخبرنا لأن كل تحديث من حيث الحقيقة إخبار وليس كل إخبار تحديثا والله أعلم


" صفحة رقم 114 "
الثاني اعلم أن لإبراهيم بن سفيان في الكتاب فائتا لم يسمعه من مسلم يقال فيه أخبرنا إبراهيم عن مسلم ولا يقال فيه قال أخبرنا أو حدثنا مسلم
وروايته لذلك عن مسلم إما بطريق الإجازة وإما بطريق الوجادة وقد غفل أكثر الرواة عن تبيين ذلك وتحقيقه في فهارسهم وبرنامجاتهم وفي تسميعاتهم وإجازاتهم وغيرها بل يقولون في جميع الكتاب أخبرنا إبراهيم قال اخبرنا مسلم وهذا الفوت في ثلاثة مواضع محققة في أصول معتمدة
فأولها في كتاب الحج في باب الحلق والتقصير حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال رحم الله المحلقين برواية ابن نمير فشاهدت عنده في أصل الحافظ أبي القاسم الدمشقي بخطه ما صورته
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان عن مسلم قال حدثنا ابن نمير حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بن عمر الحديث
وكذلك في أصل بخط الحافظ أبي عامر العبدري إلا أنه قال حدثنا أبو إسحاق
وشاهدت عنده في أصل قديم مأخوذ عن أبي أحمد الجلودي ما صورته من ها هنا قرأت على أبي أحمد حدثكم إبراهيم عن مسلم وكذا كان في كتابه إلى العلامة
قلت وهذه العلامة هي بعد ثمانية أوراق أو نحوها عند أول حديث ابن عمر


" صفحة رقم 115 "
أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا
وعندها في الأصل المأخوذ عن الجلودي ما صورته إلى ها هنا قرأت عليه يعني على الجلودي عن مسلم ومن ها هنا قال حدثنا مسلم
وفي أصل الحافظ أبي القاسم عندها بخطه من هنا يقول حدثنا مسلم وإلى هنا شك
الفائت الثاني لإبراهيم أوله أول الوصايا قول مسلم حدثنا أبو حيثمة زهير ابن حرب ومحمد بن المثنى واللفظ لمحمد بن المثنى في حديث ابن عمر ما حق امرىء مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه إلى قوله في آخر حديث رواه في قصة حويصة ومحيصة في القسامة حدثني إسحاق بن منصور أخبرنا بشر بن عمر قال سمعت مالك بن أنس الحديث وهو مقدار عشرة أوراق ففي الأصل المأخوذ عن الجلودي والأصل الذي بخط الحافظ أبي عامر العبدري ذكر انتهاء هذا الفوات عند أول هذا الحديث وعود قول إبراهيم حدثنا مسلم
وفي أصل الحافظ أبي القاسم الدمشقي شبه التردد في هذا الحديث داخل في الفوت أو غير داخل فيه والإعتماد على الأول
الفائت الثالث أوله قول مسلم في أحاديث الإمارة والخلافة حدثني زهير بن حرب حدثنا شبابة حديث أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنما الإمام جنة ويمتد


" صفحة رقم 116 "
إلى قوله في كتاب الصيد والذبائح حدثنا محمد بن مهران الرازي حدثنا أبو عبد الله حماد بن خالد الخياط حديث أبي ثعلبة الخشني إذا رميت بسهمك فمن أول هذا الحديث عاد قول إبراهيم حدثنا مسلم
وهذا الفوت أكبرهما وهو نحو ثماني عشرة ورقة وفي أوله بخط الحافظ الكبير أبي حازم العبدوي النيسابوري وكان يروي عن محمد بن يزيد العدل عن إبراهيم ما صورته من هنا يقول إبراهيم قال مسلم وهو في الأصل المأخوذ عن الجلودي وأصل أبي عامر العبدري وأصل أبي القاسم الدمشقي بكلمة عن
وهكذا في الفائت الذي سبق في الأصل المأخوذ عن الجلودي وأصل أبي عامر وأصل أبي القاسم وذلك يحتمل كونه روى ذلك عن مسلم بالوجادة ويحتمل الإجازة ولكن في بعض النسخ التصريح في بعض ذلك أو كله يكون ذلك عن مسلم بالإجازة والعلم عند الله تبارك وتعالى
الثالث ما ننقله من أصل الحافظ أبي عامر العبدري نرويه عن شيخنا أبي حفص عمر بن محمد البغدادي وغيره إذنا عن أبي القاسم إسماعيل بن أحمد السمرقندي إذنا قال أخبرنا أبو الليث نصر بن الحسن الشاشي السمرقندي قراءة عليه قال أخبرنا عبد الغافر الفارسي بسنده السابق
وما ننقله من أصل الحافظ أبي القاسم الدمشقي العساكري فهو مندرج في روايتنا لجميع الكتاب عن شيخنا أبي القاسم منصور ابن حفيد الفراوي عنه وقد ذكرناه عند ذكرنا إسنادنا في الكتاب
وكذلك ما ننقله من الأصل المأخوذ عن الجلودي فهو مما أجازه لنا منصور عن أبي جده الفراوي عن عبد الغافر الفارسي عن الجلودي


" صفحة رقم 117 "
وكذلك ما ننقله من أصل الحافظ أبي حازم العبدري فهو أيضا مما أجازه لنا قال أنبأنا أبو جدي الفراوي قال أنبأنا أحمد بن علي بن خلف الشيرازي قال أنبأنا الحافظ أبو حازم العبدوي قال أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يزيد العدل قال أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان قال حدثنا مسلم
ثم إن الرواية بالأسانيد المتصلة ليس المقصود بها في عصرنا وكثير من الأعصار قبله إثبات ما يروى بها إذ لا يخلو إسناد منها عن شيخ لا يدري ما يرويه ولا يضبط ما في كتابه ضبطا يصلح لأن يعتمد عليه في ثبوته وإنما المقصود منها إبقاء سلسلة الإسناد والتي خصت بها هذه الأمة زادها الله كرامة وإذا كان ذلك كذلك فسبيل من أراد الإحتجاج بحديث من صحيح مسلم وأشباهه أن يتلقاه من أصل به مقابل على يدي مقابلين ثقتين بأصول صحيحة متعددة مروية بروايات متنوعة ليحصل له بذلك مع اشتهار هذه الكتب وبعدها عن أن تقصد بالتبديل والتحريف الثقة بصحة ما اتفقت عليه تلك الأصول
ثم لما كان الضبط بالكتب معتمدا في باب الرواية فقد تكثر الأصول المقابل بها كثرة تتنزل منزلة التواتر أو منزلة الإستفاضة
وقد لا تبلغ ذلك ثم ما لم يبلغ ذلك لا يبطل بالكلية فيه فائدة ما قدمنا ذكره من كون ما اشتمل عليه الصحيحان أو أحدهما مقطوعا


" صفحة رقم 118 "
بصحته من حيث تلقي الأمة ذلك بالقبول بل يبقى له أثر في التقوية والترجيح وذلك كالإجماع المنعقد على حكم من الأحكام إذا نقل إلينا بطريق الآحاد فإنه لا يبطل بذلك تأثيره بالكلية بل يبقى على الأصح تأثيره في أصل وجوب العمل فاعلم ذلك والله أعلم
وهذا حين حان أن نشرع في المقصود من الشرح والضبط والتقييد مستعينين بالله تبارك وتعالى ومستعيذين به قائلين


" صفحة رقم 119 "
قول مسلم رحمه الله وإيانا في أول كتابه لو عزم لي عليه هو بضم العين قال الإمام أبو عبد الله محمد بن علي المازري التميمي صاحب كتاب المعلم بفوائد كتاب مسلم لا يظن بمسلم أنه أراد عزم الله لي عليه لأن إرادة الله تعالى لا تسمى عزما
قلت ليس ذلك كما قال فسيأتي في الكتاب إن شاء الله تعالى في كتاب الجنائز عن أم سلمة رضي الله عنها قولها ثم عزم الله لي فقلتها ولذلك وجهان نقدم عليهما
إن الأمر في إضافة الأفعال إليه سبحانه واسع حتى لا يتوقف فيها على التوقيف كما يتوقف عليه في أسمائه وصفاته ولذلك توسع الناس قديما وحديثا في ذلك في خطبهم وغيرها
ثم الوجهين أن المراد بذلك أراد الله في ذلك على جهة الإستعارة لأن


" صفحة رقم 120 "
الإرادة والقصد والعزم والنية متقاربة فيقام بعضها مقام بعض تجوزا وقد ورد عن العرب أنها قالت نواك الله بحفظه فقال فيه بعض الأئمة أي قصدك بحفظه
الوجه الثاني أن لقول القائل عزم الله لي وجها صحيحا غير الإرادة وهو أن يكون من قبيل قول أم عطية نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا أي لم نلزم بذلك
وكذلك قوله ترغيبا في قيام رمضان من غير عزيمة أي من غير إلزام
ذكر مسلم رحمه الله وإيانا فيمن ذكره من الضعفاء عبد الله بن محرر فغلط فيه كثير من رواة الكتاب فقالوا فيه ابن محرز بالزاي المنقوطة واسكان الحاء المهملة وإنما هو محرر بميم ثم حاء مهملة مفتوحة ثم راءين مهملتين أولهما مفتوحة مشددة كذلك ذكره البخاري وغيره من أهل الضبط والله أعلم


" صفحة رقم 121 "
ذكر مسلم من حديث سمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين
فوجدته بخط الحافظ الضابط أبي عامر محمد بن سعدون العبدري رحمه الله ها هنا مضبوطا يرى بضم الياء والكاذبين على الجمع ووجدت عن القاضي الحافظ المصنف أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي أنه قال الرواية فيه عندنا الكاذبين على الجميع
قلت رواه الحافظ الكبير أبو نعيم الأصبهاني في كتابه المستخرج على كتاب مسلم في حديث سمرة بن جندب الكاذبين على التثنية فحسب
واحتج به على أن الراوي لذلك يشارك في الكذب من بدأ بالكذب عليه ( صلى الله عليه وسلم ) وفي هذا تفسير منه لمعنى التثنية حسن
ثم ذكره في روايته إياه من حديث المغيرة بن شعبة فهو أحد الكاذبين أو الكاذبين على الترديد بين التثنية والجمع
ووجدت ذلك مضبوطا محققا في أصل مأخوذ عن أبي نعيم مسموعا عليه مكررا في موضعين من كتابه وقدم في الترديد التثنية في الذكر وهذه فائدة عالية غالية ولله الحمد الأكمل
وأما الضم في يرى فهو مبني على ما اشتهر من أنه بالضم يستعمل في


" صفحة رقم 122 "
الظن والحسبان وبالفتح في العلم ورؤية العين وفي حفظي أنه قد يستعمل بالفتح بمعنى الظن أيضا كما يستعمل العلم بمعنى الظن والله أعلم
قول إياس بن معاوية أراك قد كلفت بعلم القرآن
كلفت هو بفتح الكاف وكسر اللام ومعناه أحببته وأولعت به وقال أبو القاسم الزمخشري الكلف الإيلاع بالشيء مع شغل قلب ومشقة والله أعلم
عامر بن عبدة عن عبد الله رويناه ابن عبدة بفتح الباء وإثبات هاء التأنيث في آخره وهذا هو الأصح فيه ووجدته في أصل الحافظ أبي حازم العبدوي بخطه وفي أصل آخر عن أبي أحمد الجلودي ابن عبد بلا هاء وهو محكي عن أكثر رواة مسلم
والصحيح المشهور عن أئمة الحديث أحمد بن حنبل وغيره إثبات الهاء فيه ثم اختلفوا مع إثباتهم لها في إسكان الباء وفتحها والفتح أصح وأشهر وبه


" صفحة رقم 123 "
قال ابن المديني وابن معين ولم يذكر أبو علي الغساني في كتابه تقييد المهمل غيره والله أعلم
روى مسلم بإسناد عن ابن أبي ملكة قال كتبت إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي كتابا ويخفي عنى
فقال ولد ناصح أنا أختار له الأمور اختيارا وأخفي عنه
فقوله ويخفي عنه وقول ابن عباس وأخفي عنه
هما بالخاء المعجمة أي يكتم عني أشياء ولا يكتبها إذا كان عليه فيها مقال من الشيع المختلفة واهل الفتن فإنه إذا كتبها ظهرت وإذا ظهرت خولف فيها وحصل فيها قال وقيل مع أنها ليست مما يلزم بيانها لابن أبي مليكة وإن لزم فيمكن ذلك بالمشافهة دون المكاتبة
وقوله ولد ناصح مشعر بما ذكرته
وقوله أنا أختار له وأخفي عنه إخبار منه بإجابته إلى ذلك وليس استنكارا له في ضمن استفهام محذوف حرفه
وحكي القاضي عياض في ذلك عن شيوخه من أهل المغرب روايتين


" صفحة رقم 124 "
إحداهما أنه بخاء معجمة والأخرى بحاء مهملة وحكى هذه عن أكثر شيوخه في الكتاب واختارها ورجحها على أن معنى ذلك من إحفاء الشوارب أي اختصر ولا تكثر علي فيما تكتبه إلي أو إنه من الإحفاء الذي هو الإلحاح والإستقصاء ويكون عني بمعنى علي أي استقص فيما تخاطبني به
قلت وهذا تكلف ليست فيه رواية متصلة الإسناد نضطر إلى قبوله والله أعلم
أبو عقيل يحيى بن المتوكل صاحب بهية وهو بفتح العين وبهية بباء موحدة مضمونة وياء مثناة من تحت مشددة وهي امرأة تروي عن عائشة رضي الله عنها وروي أنها سمتها بهية وذكر ذلك كله أبو علي الغساني في تقييد المهمل والله أعلم
ذكر مسلم بإسناده عن أبي عون قوله في شهر بن حوشب إن شهرا نزكوه
فقوله نزكوه أوله نون ثم زاي مفتوحتان أي طعنوا فيه مأخوذ من النيزك بنون مفتوحة بعدها ياء مثناة من تحت ساكنة ثم زاي مفتوحة وهو الرمح القصير
ورواه كثير من رواة مسلم تركوه بالتاء والراء وهو تصحيف
وتفسير مسلم له ينفيه وشهر قد وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين


" صفحة رقم 125 "
وغيرهما والذي ذكره فيه ابن أبي خيثمة أنه ثقة حكاه عن يحيى بن معين واقتصر عليه والقلب إلى هذا أميل وإن ذكره جماعة في كتبهم في الضعفاء وقد ذكره أبو نعيم الحافظ فيمن ذكرهم في حلية الأولياء وما ذكر في جرحه من أخذه خريطة من بيت المال على جهة الخيانة له محمل يدرأ عنه القدح المسقط وقول ابن حبان
إنه سرق عيبة من عديله في الحج غير مقبول والله أعلم
ذكر مسلم روح بن غطيف صاحب حديث تعاد الصلاة من قدر الدرهم فوقع في أصل الحافظ أبي القاسم الدمشقي العساكري وأصل بخط


" صفحة رقم 126 "
الحافظ أبي عامر العبدري برواية أبي الفتح السمرقندي عن عبد الغافر الفارسي وفي غيرهما وفي رواية جماعة آخرين من رواة الكتاب ابن غضيف بضاد معجمة وهو خطأ وإنما هو بالطاء المهملة من وجوه معتمدة وهو كذلك محفوظ معروف وهو عندي على الصواب فيما انتخبته من أصل فيه سماع شيخنا أبي الحسن الطوسي وعليه خط شيخه الفراوي وقرأته عليه عند قبر مسلم والله أعلم
قوله حس الحارث بالشر هكذا وقع بغير همزة في أوله فيما عندنا من الأصول هو لغة قليلة في أحس وعليها يستقيم قول الأصوليين والفقهاء وغيرهم
الحاسة والحواس الخمس والمعروف أن حس معناه قتل أو قتل قتلا


" صفحة رقم 127 "
ذريعا والله أعلم
يحيى بن الجزار هو بالجيم والزاي المنقوطة والراء المهملة أي القصاب وليس في الكتاب غيره كذلك والله أعلم
قول أبي داود الطيالسي لقيت زياد بن ميمون وعبد الرحمن بن مهدي فعبد الرحمن مرفوعا عطفا على الضمير في قوله لقيت وإن لم يؤكد الضمير اكتفاءا بما حصل من الفصل
وحديث العطارة المشار إليه هو حديث ضعيف رواه زياد بن ميمون عن أنس ان أمرأة يقال لها الحولاء عطارة كانت بالمدينة دخلت على عائشة رضي الله عنها وذكرت خبرها مع زوجها وشكواها له وأن عائشة ذكرت ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في حديث طويل لا يصح والله أعلم


" صفحة رقم 128 "
ما ذكره مسلم من تصحيف عبد القدوس في سويد بن عقلة وهو بالعين المهملة والقاف وإنما هو بالغين المعجمة والفاء وصوابه ومصحفه كلاهما بالفتح في جميع حروفه على وزان عدسة
وما ذكره من تصحيفه في النهي عن أن تتخذ الروح غرضا هو انه فتح الراء من الروح وقال عرضا بفتح العين المهملة واسكان الراء وإنما هو الروح بضم الراء وغرضا بالغين المعجمة والراء المفتوحتين والله أعلم
وذكر أبان بن أبي عياش وأبان كنا نختار صرفه ذهابا إلى أن له محملا صحيحا يصحح صرفه فيحمل عليه فإن الصرف هو الأصل
وذلك ما ذكره محمد بن جعفر النحوي في كتابه جامع اللغة من أنه يجوز أن يكون فعالا مصدرا من أبن الرجل إذا مات ثم وجدت ما عضد ذلك عن أبي محمد بن السيد البطليوسي وهو أنه اختار صرف أبان وذكر انه فعال ومن ترك صرفه جعله فعلا ماضيا والله أعلم
ذكر مسلم المعلي بن عرفان وعرفان هو بضم العين المهملة في


" صفحة رقم 129 "
أصل أصيل بالجرح والتعديل تأليف الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي وهو بخط ضابط موثوق به ذكر أنه قابله بخط مصنفه وذكر سعد الخير ابن محمد الأندلسي أنه وجده بالضم أيضا في أصل موثوق به بتاريخ البخاري الكبير ويقال بكسر العين وبذلك ضبطه في الكتاب بخطه أبو عامر العبدري رحمه الله والله أعلم
صالح مولى التوءمة يقال فيه التؤمة بضم التاء وهمزة على الواو مفتوحة وقاله كذلك كثير من الرواة والمشايخ وهو خطأ
والصواب التوءمة بفتح التاء ثم واو ساكنة ثم همزة مفتوحة وقد تطرح الهمزة وتنتقل فتحتها إلى الواو
والتوءمة هذه هي ابنة أمية بن خلف الجمحي سميت بذلك لأنها كانت مع أخت لها في بطن واحد والله أعلم
وقع في أصل عندنا مأخوذ عن الجلودي وفي غيره من الأصول وضعف


" صفحة رقم 130 "
يحيى بن موسى بن دينار بزيادة ابن بين موسى ويحيى وكذلك حكاه صاحب تقييد المهمل عن أكثر النسخ وهو غلط كأنه وقع من رواة مسلم وصوابه وضعف يحيى موسى بن دينار بحذف ابن بين يحيى وهو القطان وبين موسى وقد صححه كذلك صاحب التقييد أبو علي الغساني وغيره والله أعلم
اختلفت الأصول عندنا في قول مسلم في الأحاديث الضعيفة ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها
فوقع ذلك هكذا في أصل الحافظ أبي القاسم روايته عن الفراوي عن عبد الغافر الفارسي ووقع في غيره وأقلها أو أكثرها أكاذيب وهما روايتان ذكرهما القاضي عياض المغربي ونسب الأولى إلى رواية عبد الغافر الفارسي وصححها ونسب الثانية إلى رواية أبي العباس العذري الراوي عن الراوي عن الجلودي ووصفها بالاختلال والتصحيف
ولا تبلغ بها الحال إلى ذلك فإن الترديد بين الأقل والأكثر قد يقع من الحذر المتحري والله أعلم
ذكر مسلم عن بعض منتحلي الحديث من أهل عصره أنه ذهب في الأحاديث المعنعنة وهي المقول فيها فلان عن فلان إلى أنه لا تقوم بها الحجة حتى يثبت أن فلانا وفلانا قد التقيا واجتمعا مرة أو أكثر أو سمع أحدهما من الآخر أو نحو ذلك وإذا لم يثبت ذلك ولكن ثبت أنهما متعاصران لم يكتف بذلك ولم يحتج به


" صفحة رقم 131 "
وأخذ مسلم في رد هذا على قائله وفي الطعن عليه حتى أفرط وادعى أنه قول ساقط مخترع مستحدث لم يسبق صاحبه إليه ولا ساعده أحد من أهل العلم عليه وأن المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار أنه يكتفي في ذلك بكونهما في عصر واحد مع إمكان التلاقي والسماع واحتج بما اختصاره أن المعنعن عندهم يحمل على الإتصال إذا ثبت التلاقي بينهما ولم يعرف بتدليس مع إمكان الإرسال فيه اكتفاء بإمكان السماع فكذلك إذا ثبت مجرد التعاصر وأمكن التلاقي
والذي صار إليه مسلم هو المستنكر وما أنكره قد قيل إنه القول الذي عليه أئمة هذا العلم علي بن المديني والبخاري وغيرهما ومنهم من لم يقتصر في ذلك على اشتراط مطلق اللقاء أو السماع وزاد عليه فاشترط أبو عمرو الداني المقرىء الحافظ أن يكون معروفا بالرواية عنه
واشترط أبي الحسن القابسي المالكي أن يكون قد أدرك المنقول عنه إدراكا بينا
واشترط أبو المظفر السمعاني الشافعي طول الصحة بينهما
والجواب عما احتج به مسلم أنا قبلنا المعنعن وحملناه على الإتصال بعد ثبوت التلاقي ممن لم يعرف منه تدليس لأنه لو لم يكن قد سمعه ممن رواه عنه لكان بإطلاقه الرواية عنه مدلسا والظاهر سلامته من وصمة التدليس ومثل هذا غير موجود فيما إذا لم يعلن تلاقيهما وما أتى به مسلم من الإفراط في الطعن على مخالفه يليق بمن يخالف في مطلق المعنعنة فكأنه لما توهم عدم الفرق بين الصورتين طرد ذلك في الصورة المذكورة أيضا والله أعلم


" صفحة رقم 132 "
- أحاديث الإيمان
-
أولها حديث يحيى بن يعمر عن أبيه رضي الله عنهما تفرد مسلم عن البخاري بإخراجه في الصحيح واتفقا على إخراج حديث أبي هريرة الآتي الوارد في معناه وهو حديث عظيم القدر عده بعضهم في الأحاديث التي مدار الدين عليها


" صفحة رقم 133 "
فقول يحيى بن يعمر يتقفرون العلم وهو بتقديم القاف على الفاء هذا هو الثابت في أصولنا وفي روايتنا وهو الرواية المشهورة فيه ومعناه يطلبونه ويتتبعونه وقيل معناه يجمعوه
ومنهم من رواة بتقديم الفاء عل القاف أي يبحثون عن غامضه ويستخرجون خفيه
وقوله وذكر من شأنهم ليس من قول يحيى بن يعمر وإنما هو من قول بعض من هو دونه من الرواة أي وذكر يحيى من شأن المذكورين غير ذلك
وما حكاه عن القدرية من قولهم إن الأمر أنف هو بضم الهمزة والنون معا أي مستأنف لم يسبق به سابق قدر ولا علم من الله تبارك وتعالى وهو مذهب غلاة القدرية وكذبوا وضلوا
وقول عمر لا نرى عليه أثر السفر


" صفحة رقم 134 "
هو في أصل الحافظ أبي حازم العبدوي بخطه نرى بالنون والله أعلم قوله ( صلى الله عليه وسلم ) الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا وقوله في الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره
فهذا بيان لأصل الإيمان وهو التصديق الباطن إذ قوله أن تؤمن معناه أن تصدق وبيان لأصل الإسلام وهو الاستسلام والانقياد الظاهر وحكم الإسلام في الظاهر يثبت بالشهادتين وإنما أضاف إليهما الصلاة والزكاة والصوم والحج لأنها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها وبقيامه بها يتم استسلامه وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث وسائر الطاعات لكونها ثمرات للتصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان ومقويات ومتممات وحافظات له
ولهذا فسر ( صلى الله عليه وسلم ) الإيمان في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين والصلاة والزكاة وصوم رمضان وإعطاء الخمس من المغنم
ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو ترك فريضة لأن اسم الشيء مطلقا يقع على الكامل منه ولا يستعمل في الناقص ظاهرا إلا بقيد


" صفحة رقم 135 "
ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في مثل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن
واسم الإسلام يتناول أيضا ما هو أصل الإيمان وهو التصديق الباطن ويتناول سائر الطاعات فإن ذلك كله استسلام أيضا
فخرج مما ذكرناه وحققناه أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان وأن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا
فهذا والحمد لله الهادي تحقيق واف بالتوفيق بين متفرقات نصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون
قال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله وكان أحد المحققين ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة وما حققناه من ذلك موافق لمذاهب جماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم والله أعلم
وتفسيره ( صلى الله عليه وسلم ) الإحسان راجع إلى الإخلاص ومراقبة العبد ربه تبارك وتعالى في عبادته وتمام الخشوع والخضوع رزقنا الله ذلك
وقوله أن تلد الأمة ربتها وفي الحديث بعده ربها معناه سيدتها


" صفحة رقم 136 "
وسيدها وهو إخبار عن كثرة أولاد السراري حينئذ إذ ولدها من سيدها بمنزلة سيدها
وقيل معناه أن تلد الإماء الملوك
والعالة هم الفقراء وفي رواية رويناها أنه سأله عنهم فقال العريب وهو تصغير العرب والمفهوم منه أهل البادية منهم أي أنهم يصيرون ملوكا ويتباهون في البناء
وقوله فلبثت مليا أي وقتا طويلا وروى الترمذي أنه قال له ذلك بعد ثلاث
وقول مسلم حدثني محمد بن عبيد الغبري هو بغين معجمة مضمومة ثم باء موحدة مفتوحة ثم راء مهملة منسوب إلى غبر بن غنم بطن من يشكر بن بكر بن وائل والله أعلم
حديث أبي هريرة رضي الله عنه فيه جمع في تفسير الإيمان بين


" صفحة رقم 137 "
الإيمان بلقاء الله والإيمان بالبعث الآخر ووجهه أن لقاه تعالى يحصل بالإنتقال من الدنيا إلى دار الجزاء وذلك يتقدم على البعث
وقيل إن ذلك عبارة عن ما يكون بعد البعث عند الحساب
وأما وصف البعث بالآخر فقد قيل فيه هو مبالغة في البيان وأيضا فخروجه من الدنيا بعث أول
قلت وهذا بعيد فإن خروجه منها واقع بالموت وهو ضد البعث ووجهه عندي أن البعث حياة ثانية بعد حياة أولى ونشأة أخرة بعد نشأة أولى والله أعلم
قوله وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها فالبهم بفتح الباء أولاد الضأن عند بعضهم وقيل أولاد الضأن والمعز جميعا
وأشراط الساعة أوائلها ومقدماتها وقيل علاماتها واحدها شرط بفتح الشين والراء والله أعلم


" صفحة رقم 138 "
قوله في الرواية الأخرى إذا ولدت الأمة بعلها
معناه أيضا ربها أي سيدها على ما سبق تفسيره فقد ورد في اللغة بعل الشيء بمعنى ربه ومالكه والله أعلم
وقوله في رواية أخرى وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض أي الجهلة والله أعلم
حديث طلحة رضي الله عنه قوله فيه رجل ثائر الرأس بالثاء


" صفحة رقم 139 "
المثلثة أي قائم شعر الرأس منتفشه
وقوله نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول
هو بالنون في نسمع ونفقه كذلك هو فيما عندنا من الأصول الأربعة السابقة نسبتها عن الجلودي وعن الحفاظ أبي حازم العبدوي وأبي عامر العبدري وأبي القاسم العساكري
غير أن في بعضها اقتصارا على ذلك في إحدى الكلمتين
ودوي صوته بفتح الدال المهملة وهو علوه وبعده في الهواء وقوله إلا أن تطوع محتمل لتشديد الطاء على إدغام إحدى التائين وبغير تشديد الطاء على حذف إحدى التائين تحقيقا على ما عرف في أمثاله
وقوله فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أفلح إن صدق
هذا الفلاح راجع إلى قوله لا انقص خاصة إذ من المعلوم عند كل من يعقل من أعرابي وعربي وعامي وخاصي أن الفلاح لا يناط بترك ما زاد على ذلك


" صفحة رقم 140 "
من نوافل الخيرات والطاعات وللعلم بذلك أطلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قوله ذلك ولم يقيده
وقوله في رواية أخرى أفلح وأبيه إن صدق ليس حلفا بأبيه وإنما هذه كلمة جرت عادة العرب بأنهم يبدؤون بها كلامهم من غير قصد لقسم محقق والله أعلم
ثم انه يشكل على غير اليقظ المتأمل أنه ذكر في تفسير الإسلام في هذا الحديث الصلوات الخمس والصوم والزكاة فحسب دون سائر ما ذكر في تفسير الإسلام في حديث جبريل ( صلى الله عليه وسلم ) وكذلك لم يذكر الحج في حديث جبريل ( صلى الله عليه وسلم ) من رواية أبي هريرة وهكذا احاديث أخر في هذا الصحيح وغيره تفاوت في عدد الخصال زيادة ونقصا والمفسر واحد
فأقول والله الموفق إن ذلك ليس باختلاف صادر من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بل ذلك ناشىء من تفاوت الرواة في الحفظ والضبط فمنهم من قصر فاقتصر على ما حفظه فأداه ولم يتعرض لما زاده غيره بنفي ولا إثبات وإن كان اقتصاره على ما ذكره يشعر بأن ذلك هو الكل فقد بان بما أتى به غيره من الثقات إن ذلك ليس بالكل وإن


" صفحة رقم 141 "
اقتصاره عليه لقصور حفظه عن تمامه
ألا ترى حديث النعمان بن قوقل الاتي ذكره في الكتاب قريبا اختلفت الروايات في خصاله بالزيادة والنقصان مع أن راوي الجميع راو واحد وهو جابر في قضية واحدة
ثم إن البخاري روى في صحيحه في حديث طلحة المذكور بعينه في رواية له فأخبره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بشرائع الإسلام فقال والذي أكرمك لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا فبان بهذا صحة ما ذكرناه وللفظ هذه الرواية أعرضنا عن قول من قال في قوله لا أزيد على هذا ولا أنقص إنه ليس معناه أنه لا يتنفل بل معناه لا يزيد في المفترض بأن يفترض على نفسه ما لم يفترضه الله عز وجل كما فعله أهل الكتاب والله أعلم
ثم إن ذلك لا يمنع من إيراد الجميع في الصحيح لما عرف في مسألة زيادة الثقة من أننا نقبلها ولا ننعطف على من لم يذكرها بقدح ورد والله أعلم


" صفحة رقم 142 "
حديث أنس المذكور بعد هذا فيه فجاء رجل من أهل البادية فقال يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك قال صدق
هذا الرجل هو ضمام بن ثعلبة بضاد معجمة مكسورة وهو من بني سعد بن بكر بن هوازن قبيلة حليمة التي أرضعت سيدنا محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )


" صفحة رقم 143 "
قال أبو عمر ابن عبد البر حافظ أهل المغرب روى حديثه ابن عباس وأبو هريرة وأنس بن مالك وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم وكلها طرق صحاح وذكر أن طلحة لم يسمه وهذا من أبي عمر حكم بأن النجدي المذكور في حديث طلحة هو ضمام بن ثعلبة أيضا
وفي هذا نظر لأنه إذا لم يسمه طلحة كما اعترف أبو عمر به فمن أين له أنه أراده بالرجل الذي لم يسمه وقوله أنك تزعم مع تصديق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) له دال على أن زعم ليس مخصوصا بالكذب وبما ليس بمحقق بل قد يجيء بمعنى قال مستعملا في الحق المحقق وفي غيره وقد نقل مصداق ذلك أبو عمر الزاهد في شرحه للفصيح عن شيخه أبي العباس ثعلب عن العلماء باللغة من الكوفيين والبصريين قال أبو العباس ومنه قول الفقهاء زعم مالك زعم الشافعي قال معناه كله قال والله أعلم
وفي هذا الحديث دلالة على صحة ما ذهب إليه أئمة العلماء في أن العوام


" صفحة رقم 144 "
المقلدين مؤمنون وأنه يكتفي منهم بمجرد اعتقادهم الحق جزما من غير شك وتزلزل خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة
وذلك أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قرر ضماما على ما اعتمد عليه في تعرف رسالته وصدقه ( صلى الله عليه وسلم ) من مناشدته ومجرد إخباره إياه بذلك ولم ينكر عليه ذلك قائلا له إن الواجب عليك أن تستدرك ذلك من النظر في معجزاتي والاستدلال بالأدلة القطعية التي تفيدك العلم والله أعلم
قول أبي أيوب رضي الله عنه فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها هو ما يشد على رأس البعير من حبل أو سير أو نحو ذلك ليقاد به وأما الخطام فقد ذكر الأزهري أبو منصور اللغوي ما معناه أنه الحبل الذي يعلق في حلق البعير ثم يثنى على أنفه ولا يثقب له الأنف والله أعلم


" صفحة رقم 145 "
وقوله فيه قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إن تمسك بما أمر به دخل الجنة رويناه مما يعتمد من أصل الحافظ أبي القاسم العساكري أمر بضم الهمزة به بالباء التي هي حرف الجر ومن خط الحافظ أبي عامر العبدري أمرته بفتح الهمزة وبالتاء المثناة من فوق التي هي ضمير المتكلم ويكون على هذا قد حذف منه به وهو جائز والله أعلم
النعمان بن قوقل بقافين على وزان نوفل
وقوله حرمت الحرام وأحللت الحلال أما تحريمه الحرام فالظاهر أنه أراد به الأمرين أن يعتقده وأن لا يفعله بخلاف تحليل الحلال فإنه يكفي فيه مجرد الإعتقاد والله أعلم
حديث ابن عمر رضي الله عنهما بني الإسلام على خمس


" صفحة رقم 146 "
في بعض رواياته الاقتصار على إحدى الشهادتين وهي شهادة أن لا إله إلا الله فحسب والشهادة الأخرى محذوفة مرادة اكتفاءا بذكر إحدى القرينتين عن ذكر الأخرى
وقوله وصيام رمضان والحج فقال رجل الحج وصيام رمضان قال لا صيام رمضان والحج هكذا سمعته من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
ورويناه في كتاب أبي عوانة الإسفراييني المخرج على شرط مسلم وكتابه على العكس مما رواه مسلم وأن ابن عمر قال للرجل اجعل صيام رمضان آخرهن كما سمعت من في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يذكر رواية مسلم لهذه ولن يقاوم ذلك ما رواه مسلم وقد رواه مسلم من غير ذكر قصة الرجل من وجهين فيهما وحج البيت وصوم رمضان بتقديم الحج على الصوم
فأقول أما محافظة ابن عمر رضي الله عنهما على الترتيب في الذكر على ما


" صفحة رقم 147 "
سمعه من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ونهيه عن عكسه فهو مما يصلح حجة لمن قال إن الواو تقتضي الترتيب وهو مذهب كثير من الفقهاء الشافعيين وشذوذ من النحويين
ومن قال إنها لا تقتضي الترتيب وهو المختار وقول الجمهور فله أن يقول فيما رواه مسلم لم يكن ذلك من ابن عمر لكون الواو مرتبة بل لأن صوم رمضان نزلت فرضيته في السنة الثانية من الهجرة ونزلت فرضية الحج في سنة ست وقيل سنة تسع بالتاء المثناة من فوق ومن حق الأول أن يتقدم في الذكر على الآخر
وهكذا نقول نحو ذلك في الرواية الأخرى الأهم يقدم في الذكر وإن لم يعطف ذلك بحرف الواو فكانت محافظة ابن عمر على ذلك لمثل ذلك وأما مخالفة من خالف من رواة الحديث لما نص عليه ابن عمر الراوي له في قصة الرجل فرواه عنه بتقديم ذكر الحج على ذكر الصوم
فكأن ذلك وقع ممن كان يرى الرواية بالمعنى ويرى أن تأخير الأول أو الأهم في الذكر شائع في اللسان فتصرف فيه بالتقديم والتأخير لذلك مع كونه لم يسمع نهي ابن عمر عن ذلك
فافهم ذلك فإنه من المشكل الذي لم أرهم بينوه والله أعلم


" صفحة رقم 148 "
حديث وفد عبد القيس برواياته رواه مسلم من حديث شعبة وغيره عن أبي جمرة عن ابن عباس


" صفحة رقم 149 "
وأبو جمرة هذا هو بالجيم والراء المهملة وهو نصر بن عمران الضبعي البصري وليس في الصحيحين بهذه الكنية أحد سوى نصر هذا
وقد ذكرت في كتابي معرفة علوم الحديث عن بعض الحفاظ أن شعبة روى عن سبعة كلهم أبو حمزة عن ابن عباس وكلهم أبو حمزة بالحاء والزاي المنقوطة إلا واحدا هو بالجيم والراء المغفلة وهو نصر بن عمران
والفرق بينهم يدرك بأن شعبة إذا أطلق وقال عن أبي جمرة عن ابن عباس فهو نصر بن عمران وإذا روى عن غيره ممن هو بالحاء والزاي فهو يذكر اسمه أو نسبه والله أعلم


" صفحة رقم 150 "
قوله في الرواية الأولى فقالوا يا رسول الله إنا هذا الحي من ربيعة وقد حالت بيننا وبينك كفار مضر الذي نختاره فيه نصب قوله الحي على على التخصيص
والخبر في قولهم من ربيعة ومعناه إنا هذا الحي حي من ربيعة وقد جاء في رواية أخرى إنا حي من ربيعة والله أعلم
قولهم ولا نخلص إليك إلا في شهر الحرام صح هكذا في أصولنا بإضافة شهر الحرام والقول فيه كالقول في نظائره من قولهم دار الآخرة ومسجد الجامع ونحو ذلك فعلى طريقة النحويين الكوفيين هو إضافة للموصوف إلى صفته وذلك عندهم سائغ ولا يسوغ ذلك أصحابنا النحويون البصريون ويقولون تقدير ذلك شهر الوقت ومسجد المكان الجامع ودار الحياة الآخرة ونحو ذلك والله أعلم


" صفحة رقم 151 "
قوله ( صلى الله عليه وسلم ) وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير
وأما الدباء فهو بدال مغفلة مضمومة ثم باء مشددة بعدها مدة وهو القرع
وأما الحنتم فهو بالحاء المهملة والنون والتاء المثناة من فوق والميم على وزان جعفر وهو جمع حنتمة وقد اختلف في معناه على وجوه أحدها وهو أقواها إنه الجرار الخضر وذلك مروي عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الأشربة من هذا الصحيح وقال به غير واحد من أهل اللغة والغريب
وقيل هو الجر الأخضر والأبيض وقيل الجر كله ويعضده ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما في هذا الصحيح أنه قال هي الجرة فأطلق وقيل هو الفخار كله وقيل جرار كانت يحمل فيها الخمر من مصر وقيل من الشام وقيل جرار كانت تعمل من طين قد عجن بشعر ودم وهو مروي عن عطاء وقيل في ذلك غير ذلك وعلى هذين القولين الأخريين يزداد في علة النهي النجاسة أو خوف النجاسة


" صفحة رقم 152 "
وأما النقير فقد فسره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في رواية أبي سعيد لهذا الحديث بأنه جذع ينقر ويقذف فيه من القطيعاء أو قال من التمر ويصب عليه الماء
القطيعاء بضم القاف وبالمد على وزان الغبيراء
وهي نوع من التمر يقال له السهريز بالسين والشين وبضمهما وكسرهما
وأما المقير وفي رواية المزفت فهو المطلي بالقار والزفت
وقد قيل الزفت هو القار وفي عرفنا الزفت نوع من القار وقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال المزفت هو المقير
ثم أن المعنى في النهي عن انتباذ النبيذ الحلو في هذه الأوعية إن النبيذ فيها يسرع إليه الإسكار وهو فساد وأيضا فربما شربه بعد إسكاره من لم يطلع عليه بعد
ثم أن هذا النهي نسخ بدلالة حديث بريدة بن الحصيب وغيره في ذلك وسيأتي في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى وهو أعلم
قول أبي جمرة في الرواية الثانية كنت أترجم بين يدي ابن عباس وبين الناس


" صفحة رقم 153 "
كذا وقع فيما عندنا وفيه حذف وتقديره بين يدي ابن عباس بينه وبين الناس
وقوله أترجم فيه أنه كان يتكلم بالفارسية فكان يترجم لابن عباس عن من يتكلم بها
وعندي أن معناه أنه كان يبلغ كلام ابن عباس إلى من خفي عليه من الناس إما لزحام منع من سماعه فأسمعهم وإما لاختصار منع من فهمه فأفهمهم أو نحو ذلك وإطلاقه ذكر الناس يشعر بهذا ويبعد أن يكون المراد به الفرس خاصة وليست الترجمة مخصوصة بتفسير لغة أخرى وقد أطلقوا على قولهم باب كذا وكذا اسم الترجمة لكونه يعبر عن ما يذكر بعده والله أعلم
وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) مرحبا بالقوم غير خزايا ولا الندامى هكذا وقع ها هنا بالألف واللام في الندامى وإسقاطهما في خزايا وقد روي بإثباتهما فيهما وبإسقاطهما فيهما
فقوله خزايا جمع خزيان كحيارى جمع حيران وهو إما من قولهم خزي الرجل خزاية إذا استحيى وإما من قولهم خزي خزيا إذا ذل وهان والأول اختيار أبي عبيد الهروي صاحب الغريبين


" صفحة رقم 154 "
وقوله ولا الندامى قطع بعضهم بأنه جمع نادم وزعم انه جاز جمعه بهذه الصيغة على خلاف القياس اتباعا لخزايا ولو أفرد لم يجز فيه ذلك ومن نظائره قولهم إني لآتيه بالغدايا والعشايا فجمعهم الغداء غدايا كان اتباعا للعشايا ولو أفرد لم يجز ويجوز أن يكون جمع ندمان بمعنى نادم لا بمعنى نديم كما هو الأشهر فقد حكى صاحب جامع اللغة وصاحب صحاح اللغة أنه يقال للنادم ندمان فعلى هذا يكون ذلك جمعا جاريا على الأصل ثم إن المقصود من هذا الكلام أنه لم يوجد منكم تأخر عن الإسلام ولا عناد ولا أصابكم أسار وسباء ولا ما أشبه ذلك مما تكونون لأجله مستحيين أو مهانيين ونادمين أو نحو هذا والله أعلم قوله قال وأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع قال أمرهم بالإيمان بالله وحده وقال هل تدرون ما الإيمان بالله قالوا الله ورسوله أعلم قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمسا من المغنم
فقوله أمرهم بالإيمان بالله إعادة لذكر الأربع ووصف لها بأنها إيمان


" صفحة رقم 155 "
بالله ثم فسر الأربع بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم فهذا إذا موافق لقوله عليه السلام بني الإسلام على خمس ولتفسير الإسلام بخمس في حديث جبريل ( صلى الله عليه وسلم ) على ما سبق تقديره من أن ما يسمى إسلاما يسمى إيمانا وأن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان وقد قيل إنما لم يذكر الحج في هذا الحديث لكونه لم يكن قد فرض حينئذ والله أعلم
وأما قوله أن تؤدوا خمسا فليس عطفا على قوله شهادة أن لا إله إلا الله فإنه يلزم منه أن يكون الأربع خمسا وإنما هو عطف على قوله وأمرهم بأربع فيكون مضاف إلى الأربع لا واحدا منها وإن كان واحدا من مطلق شعب الإيمان وحسن أن يقرأ وأن يؤدوا بياء المغايبة ويجوز بتاء المخاطبة
وأما عدم ذكر الصوم في الرواية الأولى فهو إغفال من الراوي وليس من الاختلاف الصادر من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بل من اختلاف الرواة الصادر من تفاوتهم في الضبط والحفظ على ما تقدم بيانه فافهم ذلك وتدبره تجده إن شاء الله تعالى مما هدانا سبحانه لحله من العقد والعضل والله أعلم
قوله ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبروا به من ورائكم ضبطنا هذا الأول بكسر الميم من من
وقوله قال أبو بكر من ورائكم هذا هو بفتح الميم من من وهما يرجعان إلى معنى واحد والله أعلم


" صفحة رقم 156 "
ومن الرواية الثالثة وما بعدها أشج عبد القيس اسمه المنذر بن عائد بالذال المنقوطة قطع به ابن عبد البر وغير واحد
وقيل وبالعكس عائد بن المنذر وقيل غير ذلك والأول أصح وأشهر وهو الأشج العصري من بني عصر بالعين والصاد المهملتين المفتوحتين والله أعلم
الأناة مقصورة على وزن الحصاة وهي التثبت والتأني والله أعلم
قوله وفي القوم رجل أصابته جراحة كذلك قيل إن اسمه جهم بن قثم بلغنا ذلك عن ابن أبي خيثمة وكانت الجراحة في ساقه والله أعلم
قولهم فيم نشرب يا رسول الله قال في أسقية الأدم التي يلاث هو


" صفحة رقم 157 "
بالثاء المثلثة أي يلف ويربط وصح في أكثر أصولنا بياء المضارعة التي هي للمذكر
وفي الأصل الذي بخط العبدري بالتاء التي هي للمؤنث والأول أقوى وتقديره ومعناه يلف الخيط على أفواهها ويربط به
وعلى الثاني الأسقية تلف على أفواهها
فقوله على افواهها يكون بدل بعض من الأسقية كما تقول ضربته على رأسه
ثم إن هذا تنبيه على أمر آخر خارج عن أمر الأوعية وهو ما جاء منصوصا عليه في غير هذا الحديث من أمره ( صلى الله عليه وسلم ) بإيكاء السقاة مطلقا سواء كان الموكى فيه نبيذا أو ماءا أو غير ذلك وإذا هذا يرجع قوله ( صلى الله عليه وسلم ) في الرواية الأخيرة وعليكم بالموكى أي بالسقاء الرقيق الذي يوكى أي يربط فوه بالوكى وهو الخيط الذي يربط به
وقوله الموكى مقصور لا همز فيه وإنما رخص في الأسقية لأنها لرقة


" صفحة رقم 158 "
جلودها لا يسرع الفساد إلى ما ينبذ فيها والله أعلم
قوله إن أرضنا كثير الجرذان صح في أصولنا كثير من غير تاء التأنيث
والتقدير فيه إن أرضنا مكان كثير الجرذان
ومن نظائره قول الله تبارك وتعالى ( إن رحمة الله قريب من المحسنين ( والله أعلم
قوله ( صلى الله عليه وسلم ) وتذيفون فيه من القطيعاء روي بالدال المهملة وبالذال المعجمة وهما لغتان وكلاهما بفتح التاء
وهو من ذاف يذيف ثلاثيا
ورواه بعض رواة مسلم بضم التاء مع الذال المعجمة والمشهور فتحها وداف يدوف بالواو وإهمال الدال بمعنى ذلك صحيح معروف ومعنى ذاف الشيء خلطه بمائع وإهمال الدال فيه أعرف في اللغة والله أعلم
ثم إن مسلما حدث عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن ابن جريج قال أخبرني أبو قزعة أن أبا نضرة أخبره وحسنا أخبرهما أن أبا سعيد الخدري


" صفحة رقم 159 "
أخبره أن وفد عبد القيس لما أتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم )
فقوله أن أبا نضرة وحسنا أخبرهما أن أبا سعيد أخبره إحدى المعضلات ولا عضال ذلك وقع فيه تغييرات من جماعة واهمة فمن ذلك رواية أبي نعيم الأصبهاني الحافظ في مستخرجه على كتاب مسلم بإسناده أخبرني أبو قزعة أن أبا نضرة وحسنا أخبرهما أن أبا سعيد الخدري وهذا يلزم منه أن يكون أبو قزعة هو الذي أخبر أبا نضرة وحسنا عن أبي سعيد فيكون أبو قزعة هو الذي سمع من أبي سعيد ذلك
وذلك منتف والله أعلم
ومن ذلك أن أبا علي الغساني صاحب تقييد المهمل رد رواية مسلم هذه وقلده في ذلك صاحب المعلم ومن شأنه تقليده في ما يذكره من علم الأسانيد مع أنه لا يسميه ولا ينصفه وصوبهما في ذلك القاضي أبو الفضل عياض ابن موسى فقال أبو علي الصواب في الإسناد عن ابن جريج قال أخبرني أبو قزعة أن أبا نضرة وحسنا أخبراه أن أبا سعيد أخبره وذكر أنه إنما قال أخبره ولم يقل أخبرهما لأنه رد الضمير إلى أبي نضرة وحده وأسقط الحسن لموضع


" صفحة رقم 160 "
الإرسال فإنه لم يسمع من أبي سعيد الخدري ولم يلقه وذكر أنه بهذا اللفظ الذي ذكره خرجه أبو علي ابن السكن في مصنفه بإسناده قال وأظن هذا من إصلاح ابن السكن
وذكر الغساني أيضا أنه رواه كذلك أبو بكر البزار في مسنده الكبير بإسناده وحكى عنه وعن عبد الغني بن سعيد الحافظ أنهما ذكرا أن حسنا هذا هو الحسن البصري
وليس الأمر في ذلك على ما ذكروه بل ما أورده مسلم في هذا الإسناد هو الصواب وكما أورده رواه أحمد بن حنبل عن روح بن عبادة عن ابن جريج
وقد انتصر له الحافظ أبو موسى الأصبهاني وألف في ذلك كتابا لطيفا تبجح فيه بإجادته وإصابته مع وهم غير واحد من الحفاظ فيه


" صفحة رقم 161 "
فذكر أن حسنا هذا هو الحسن بن مسلم بن يناق الذي روى عنه ابن جريج غير هذا الحديث وأن معنى هذا الكلام أن أبا نضرة أخبر بهذا الحديث أبا قزعة وحسن بن مسلم كليهما ثم أكد ذلك بأن أعاد فقال أخبرهما أن أبا سعيد أخبره يعني أبو سعيد أبا نضرة وهذا كما تقول أن زيدا جاءني وعمرا جاءاني فقالا كذا وكذا
وهذا من فصيح الكلام واحتج على أن حسنا فيه هو الحسن بن مسلم بأن سلمة بن شبيب وهو ثقة رواه عن عبد الرزاق وعن ابن جريج قال أخبرني أبو قزعة أن أبا نضرة أخبره وحسن بن مسلم أخبرهما أن أبا سعيد أخبره الحديث
رواه أبو الشيخ الحافظ في كتابه المخرج على صحيح مسلم
وقد أسقط أبو مسعود الدمشقي وغيره ذكر حسن أصلا من الإسناد لأن مع إشكاله لا مدخل له في رواية الحديث وذكر الحافظ أبو موسى ما حكاه أبو علي الغساني في كتابه تقييد المهمل في ذلك وبين بطلانه وبطلان رواية من غير الضمير في قوله أخبرهما وغير ذلك من تغيير ولقد أجاد وأحسن والله أعلم
أبو قزعة المذكور اسمه سويد بن حجير مصغرا اسم أبيه وفي آخره


" صفحة رقم 162 "
راء مهملة وقزعة بفتح الزاي قطع به صاحب تقييد المهمل
ووجد بخط ابن الأنباري بإسكانها وذكر ابن مكي في كتابه فيما تلحن فيه أن الإسكان هو الصواب والعلم عند الله تبارك وتعالى
حدث مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره عن وكيع بإسناد ذكره عن أبي معبد عن ابن عباس عن معاذ بن جبل ثم قال قال أبو بكر وربما قال وكيع عن ابن عباس أن معاذا قال بعثني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )


" صفحة رقم 163 "
هذا فيه مسألة لطيفة من علم الحديث وهي أن قوله عن ابن عباس عن معاذ بن جبل يحمل على الإتصال ويفيد مطلقه سماع ابن عباس لذلك عن معاذ عند أئمة الحديث
وقوله إن معاذا هو دون ذلك في إفادة ذلك فإن فيهم جماعة جعلوه في حكم المنقطع والمرسل حتى يتبين فيه السماع وجمهورهم على أنه يحمل أيضا على الاتصال حتى يتبين فيه الإنقطاع وقد بينت المسألة في كتاب معرفة علوم الحديث
وأبو معبد المذكور هو مولى ابن عباس واسمه نافذ بالفاء والذال المعجمة وقد صحفه بعضهم
وما في حديث معاذ هذا من ذكر بعض دعائم الإسلام دون بعض هو من تقصير الراوي على ما بينته فيما سبق من نظائره والله أعلم


" صفحة رقم 164 "
قوله حدثنا أمية بن بسطام العيشي بسطام هو بكسر الباء وهو عجمي لا ينصرف
قال ابن دريد ليس من كلام العرب وقد وجدته أنا في كتاب ابن الجواليقي في العجمي المعرب مصروفا وإنما يستقيم صرفه لو كان من العجمي الذي يدخله الألف واللام وذلك بعيد
والعيشي بياء مثناة من تحت وشين مثلثة وهو من بني عيش قبيلة هكذا يقوله المحدثون من غير ألف
وقال خليفة بن خياط وغيره هم بنو عايش بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة فعلى هذا يكون ذلك من تخفيف النسب وتغاييره


" صفحة رقم 165 "
وقد ذكر الحاكم أبو عبد الله الحافظ ثم أبو بكر الخطيب الحافظ أن العيشيين بالشين المثلثة بصريون والعبسيين بالباء الموحدة والسين المهملة كوفيون والعنسيين بالنون والسين المهملة شاميون وهذا على الغالب والله أعلم
عقيل الراوي عن الزهري هو بضم العين المهملة وبالقاف وهذا المعروف عند أهل الحديث وإنما نذكر مثل هذا تعليما لمن لم يعان هذا الشأن والله أعلم
قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )


" صفحة رقم 166 "
لا يحمل العقال هذا على الذي يشد به البعير ويعقل فإنه غير واجب عليهم إلا أن يقال كني به عن ما يساوي عقالا من الزكاة وقد قال غير واحد من أئمة الفقه وغيرهم العقال ها هنا زكاة عام
قال الشاعر سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا
فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
أراد مدة عقال فنصبه على الظرف وعمرو هذا هو عمرو بن عتبة بن أبي سفيان ولاه عمه معاوية على صدقات كلب فقال فيه قائلهم ذلك
وذكر أبو العباس المبرد في كتابه الكامل أن المصدق إذا أخذ من مال الصدقة ما فيه ولم يأخذ ثمنه قيل أخذ عقالا وإذا أخذ ثمنه قيل أخذ نقدا
قال الشاعر أتانا أبو الخطاب يضرب طبله
فرد ولم يأخذ عقالا ولا نقدا
وذكر أن الصحيح في العقال المذكور تفسيره بهذا وليس ذلك عندنا بالصحيح والله أعلم


" صفحة رقم 167 "
الدراوردي عبد العزيز بن محمد حروفه مهملة كلها وهو بدال مفتوحة ثم راء بعدها ألف ثم واو مفتوحة بعدها راء ساكنة ثم دال
والأثبت فيه انه نسب شاذ مسموع على غير القياس وأنه نسبة إلى درابجرد مدينة من فارس وهي بدال مهملة مفتوحة ثم راء بعدها ألف ثم باء موحدة مفتوحة ثم جيم مكسورة بعدها راء ساكنة ثم دال ومنهم من يثبت فيها بعد الدال الأولى ألفا أخرى
وما ذكرناه من كونه نسبه إلى داربجرد هو قول أهل العربية أو من ذكر ذلك منهم
وممن قاله من أهل الحديث الحافظان أبو حاتم بن حبان البستي وأبو نصر الكلاباذي
قال ابن حبان كان أبوه منها


" صفحة رقم 168 "
وقال الكلاباذي كان جده منها
وقال أبو حاتم السجستاني اللغوي زعم الأصمعي أن الدراوردي الفقيه منسوب إلى درابجرد
قال أبو حاتم وهو منسوب على غير قياس بل هو خطأ وإنما الصواب درابي أو جردي ودرابي أجود
قلت وليس من المرضي قول ابن قتيبة إنه منسوب إلى دراورد وكذا قول الكلاباذي دراوردي هي درابجرد لأن ذلك مشعر بأنه غير مخصوص بالنسب وهو به مخصوص
وقرأت بخط الحافظ أبي سعد السمعاني في كتابه الأنساب انه قد قيل إنه من أندرابة
قلت وهذا لائق بقول من يقول فيه الأندراوردي بزيادة همزة مفتوحة ونون ساكنة في أوله وهو قول أبي عبد الله البوشنجي من أئمة الحديث وأدباءهم


" صفحة رقم 169 "
وأندرابة مدينة من عمل بلخ وقرية لمرو أيضا
أخبرني شيخنا المسند أبو الفتح منصور بن عبد المنعم حافد الفراوي بقراءتي عليه بنيسابور عن أبي جده أبي عبد الله الفراوي وغيره عن أبوي عثمان إسماعيل ابن عبد الرحمن الصابوني وسعيد بن محمد البحيري وأبي بكر البيهقي قالوا أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ قال سمعت أبا بكر محمد بن جعفر يقول سمعت أبا عبد الله البوشنجي غير مرة يقول عبد العزيز بن محمد الأندراوردي والله أعلم
واقد بن محمد العمري بالقاف وليس في الصحيحين وافد بالفاء أصلا والله أعلم
حرملة بن يحيى التجيبي


" صفحة رقم 170 "
شيخ مسلم منسوب إلى تجيب قبيلة من كندة بضم التاء المثناة من فوق في أوله وتفتح أيضا
وبالضم هو عند أصحاب الحديث وكثير من الأدباء ولم يجز فيه بعضهم إلا الفتح وليس ذلك بالقوي والله أعلم
وحرملة هذا هو صاحب الشافعي الذي يذكره أصحابه في مصنفاتهم والله أعلم
ذكر مسلم حديث المسيب بن حزن في وفاة أبي طالب ولم يرو عنه أحد إلا ابنه سعيد بن المسيب الفقيه الفاضل والمشهور فيه فتح الياء منه ووجدت أبا عامر العبدري الحافظ الأديب قد ضبطه بخطه بفتح الياء وبكسرها معا وهذا غريب مستطرف وكذلك ما حكاه القاضي عياض اليحصبي عن شيخه القاضى الحافظ أبي علي الصدفي عن ابن المديني قال عياض ووجدته بخط مكي بن عبد الرحمن كاتب أبي الحسن القابسي بسنده عن ابن المديني أن أهل العراق يفتحون ياءه واهل المدينة يكسرونها قال الصدفي وذكر لنا ان سعيدا كان يكره أن تفتح الياء من اسم أبيه


" صفحة رقم 171 "
قال القاضي عياض وأما غير والد سعيد فبفتح الياء من غير خلاف منهم المسيب بن رافع والله أعلم
قول أبي طالب في رواية أبي هريرة لولا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك
الرواية المشهورة فيه بين أهل الحديث الجزع بالجيم والزاي المنقوطة وذكر غير واحد من مصنفي غريب الحديث وأهل اللغة أن الخرع بالخاء المعجمة والراء المهملة المفتوحتين منهم أبو عبيد الهروي وأبو القاسم الزمخشري وغيرهما
والخرع الضعف قال الأزهري وقيل الخرع الدهش
أخبرنا شيخنا أبو الفتح بن أبي المعالي الفراوي بنيسابور قراءة عليه قال أخبرنا جدي الإمام أبو عبد الله الفراوي أخبرنا أبو الحسن عبد الغافر بن محمد الفارسي أخبرنا الإمام أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي رحمه الله قال ما نصه في قصة موت أبي طالب انه قال لولا أن تعيرني قريش فتقول أدركه الجزع لأقررت بها عينك
وكان أبو العباس ثعلب يقول إنما هو الخرع يعني الضعف والخور ذكره الخطابي هكذا مقتصرا عليه في فصل قال في ترجمته هذه ألفاظ من الحديث يرويها أكثر الرواة والمحدثين ملحونة ومحرفة اصلحناها لهم وفيها حروف تحتمل وجوها اخترنا منها أبينها وأوضحها


" صفحة رقم 172 "
والله الموفق للصواب
ذكر مسلم حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة
هذا وسائر الأحاديث الواردة في معناه حجة على الخوارج القائلة بتكفير مرتكبي الكبائر وتخليدهم في النار وعلى المعتزلة القائلة بتخليدهم فيها من غير تكفير ولا حجة فيه للمرجئة الزاعمة أنه لا يعذب مع الإسلام بمعصية كما لا ينجو مع الكفر بطاعة لأنه ليس فيه أكثر من إثبات أصل دخوله الجنة وكل مسلم يدخل الجنة وإن لبث في النار ما لبث والنصوص متظاهرة في إصلاء من لم يعف عنه من أهل الكبائر المسلمين نار جهنم عافانا الله الكريم سبحانه
وقوله وهو يعلم لا يحملنا على مخالفة الفقهاء وسائر أهل السنة في قولهم


" صفحة رقم 173 "
إنه لايصير مسلما بمجرد المعرفة بالقلب دون النطق بالشهادتين إذا كان قادرا عليه لأن اشتراط ذلك ثابت بينته أحاديث أخر منها حديث عبادة بن الصامت المذكور في الكتاب بعد هذا من قال أشهد أن لا إله إلا الله إلى آخره برواياته
يبقى أن يقال كيف علق دخول الجنة بمجرد قول لا إله إلا الله وهو لا يصير مسلما ومن أهل الجنة بمجرد ذلك على ما لا يخفى
وجوابه أن من الجائز في هذا الحديث وأشباهه أن يكون ذلك اقتصارا من بعض الرواة نشأ في تقصيره في الحفظ والضبط لا من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بدلالة مجيء تمام ذلك في غير ذلك من الروايات والأحاديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد قررنا نحو هذا فيما سبق
وجائز أن يكون اختصارا من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما خاطب به كفار العرب عبدة الأوثان الذين كان توحيدهم لله تبارك وتعالى مضمونا بسائر ما يتوقف عليه الإسلام ومستلزما له والكافر إذا كان لا يقر بالوحدانية كالوثني والثنوي


" صفحة رقم 174 "
فقال لا إله إلا الله وحاله الحال التي حكيناها حكم بإسلامه ولا نقول والحالة هذه ما قاله بعض أصحابنا من أن من قال لا إله إلا الله يحكم بإسلامه ثم يجبر على قبول سائر الأحكام فإن حاصله راجع إلى أنه يجبر حينئذ على إتمام الإسلام ويجعل حكمه حكم المرتد إن لم يفعل من غير أن يصير بذلك مسلما في نفس الأمر وفي أحكام الآخرة والله أعلم
ومن وصفنا حاله مسلم في نفس الأمر وفي أحكام الآخرة والله اعلم وإذ وضح أنه لم يبق للمرجئة في حديث عثمان وأمثاله متمسك فوراءه أحاديث أوردها مسلم وغيره فيها إعضال وللمرجئة بها اغترار منها حديث عبادة بن الصامت وغيره من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حرم الله عليه النار
ومنها حديث معاذ إن حقا على الله أن لا يعذب من لا يشرك به


" صفحة رقم 175 "
وهذا كله يوجب بظاهره أن لا يدخل النار مسلم قط ولا سبيل إلى القول بذلك للنصوص التي لا يستطاع دفعها
وقد أجيب على ذلك بأجوبة منها ما حكي عن جماعة من السلف إن هذا كان قبل أن تنزل الفرائض وأحكام الأمر والنهي
ولسنا نرتضي هذا إذ منها ما يعلم بالنظر إلى حال الراوي له كونه بعد تنزل الأحكام
ومنها أن المراد منها من شهد بالشهادتين وأدى حقهما وفرائضهما حكي ذلك عن الحسن البصري ومنها قول من قال إن ذلك ورد فيمن قال عند التوبة ومات بعدها على ذلك
ولي في ذلك وجهان متجهان هما أقرب إلى ألفاظ الأحاديث والله الموفق العاصم
أحدهما أن معناها حرم الله عليه نار جهنم الخالدة وحق على الله أن لا يعذبه بالخلود فيها وحسن إطلاق ذلك بهذا المعنى لكونه واقعا في مقابلة الشرك الموجب للنار بوصف الخلود فتكون النار والعذاب المطلقان فيه راجعين إلى النار والعذاب بذلك الوصف الذي هو وصف الخلود
الثاني أن المراد فجزاءه تحريم النار عليه أو وأن لا يعذبه ثم قد لا يقع الجزء المعارض من المعصية منع منه وإطلاق ذلك كإطلاق ضده في ضده كما في قوله تبارك وتعالى ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ( وقوله ( صلى الله عليه وسلم )


" صفحة رقم 176 "
فيمن قتل نفسه إنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا أي فجزاؤه ذلك ثم قد لا يجازى به لمعارض من العفو يمنع منه وقد يعبر الفقيه عن هذا المعنى بأن يقول المقصود بهذه الأحاديث إثبات كون الإسلام سببا لتحريم النار عليه والسبب قد يتخلف مسببه لمانع والله ورسوله أعلم بالمراد من ذلك
أخرج مسلم حديث عبيد الله الأشجعي عن مالك بن مغول عن طلحة


" صفحة رقم 177 "
ابن مصرف عن أبي صالح عن أبي هريرة قال كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في مسير قال فنفدت أزواد القوم قال حتى هم بنحر بعض حمائلهم إلى آخره
هذا الحديث مما استدركه الدارقطني وعلله من جهة أن أبا أسامة وغيره رووه عن مالك بن مغول عن طلحة عن أبي صالح مرسلا
وقد أخرجه مسلما أيضا من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد فتكلم عليه الدارقطني أيضا وذكر أنه اختلف فيه على الأعمش فقيل فيه أيضا عنه عن أبي صالح عن جابر وكان الأعمش يشك فيه
وهذا الاستدراك من الدارقطني مع أكثر استدراكاته على الشيخين قدح في أسانيدهما غير مخرج لمتون الحديث من حيز الصحة
فذكر في هذا الحديث أبو مسعود إبراهيم بن محمد الدمشقي الحافظ فيما


" صفحة رقم 178 "
أجاب به الدارقطني عن استدراكاته على مسلم أن الأشجعي ثقة مجود فإذا جود ما قصر فيه غيره حكم له به ومع ذلك فالحديث له أصل ثابت عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) برواية الأعمش له مسندا وبرواية يزيد بن أبي عبيد وإياس بن سلمة بن الأكوع عن سلمة
قلت رواه البخاري عن سلمة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأما شك الأعمش فهو غير قادح في متن الحديث فإنه شك في عين الصحابي الراوي له وذلك غير قادح لأن الصحابة كلهم عدول والله أعلم
قوله هم بنحر بعض حمائلهم هو في الأصل الذي هو بخط الحافظ أبي عامر العبدري وفي أصل أبي القاسم الدمشقي حمائلهم بالحاء المهملة محققا ولم يذكر القاضي عياض غير هذا
وفي الأصل المأخوذ عن الجلودي بالجيم والحاء مكتوبا عليه معا وهو بالجيم في تخريج أبي نعيم الحافظ على كتاب مسلم في أصل به معتمد مسموع عليه وفي حاشيته الجمائل جمع الجمالة وهي التي لا أناث فيها
فأقول كلاهما له وجه صحيح أما بالحاء فهو جمع حمولة بفتح الحاء وهي الإبل التي تحمل وعند أبي الهيثم اللغوي لا يقال في غير الإبل حمولة واما


" صفحة رقم 179 "
بالجيم فهو جمع جمالة بكسر الجيم جمع جمل ونظير حجر وحجارة والجمل هو الذكر دون الناقة فيما حكاه الأزهري عن الفراء وغيره والله أعلم
قوله في أثناء الحديث قال وقال مجاهدا وذو النواة بنواه حكي عن عبد الغني بن سعيد الحافظ أن طلحة بن مصرف هو الذي حكى ذلك عن مجاهد وقوله وذو النواة بنواه هو في أصولنا وغيرها الأول بهاء التأنيث والثاني بغيرها
فذكر القاضي عياض رحمه الله أن صوابه حذف تاء التأنيث في الموضعين
قلت وكذلك وجدته في كتاب أبي نعيم المخرج على صحيح مسلم بلا هاء في الكلمتين
والواقع في كتاب مسلم له عندي وجه صحيح وهو أن تجعل النواة عبارة عن جملة من النوى أفردت عن غيرها فتسمى الجملة المفردة الواحدة باسم النواة الواحدة كما أطلق اسم الكلمة الواحدة على القصيدة الواحدة أو تكون النواة من قبيل ما يستعمل في الواحد والجمع بلفظ واحد من الأسماء التي فيها علامة التأنيث نحو الحنوة وهي نبت طيب الريح على مثال العنوة والله أعلم
قوله يمصونه المعروف في اللغة فيه فتح الميم وحكى الأزهري ضمها


" صفحة رقم 180 "
عن بعض العرب وهو غريب والله أعلم عن بعض العرب وهو غريب والله أعلم
قوله حتى ملأ القوم أزودتهم هكذا الرواية فيه
والأزودة جمع زاد وهي لا تملأ إنما تملأ بها أوعيتها ووجهة عندي أن يكون المراد ملأ القوم أوعية أوزدتهم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كما في قوله تعالى ) واسأل القرية ( أي أهل القرية
وبلغنا عن ابن جني أن في القرآن العظيم زهاء ألف موضع فيه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه
أو يكون ذلك من قبيل المقلوب الذي من أمثلته قول الشاعر كانت فريضة ما تقول
كما كان الزناء فريضة الرجم
وليس هذا مخصوصا بضرورة الشعر كما زعم ابن قتيبة بل من عادات العرب قلبهم الكلام عند اتضاح المعنى توسعا في فنون المخاطبات ومما ذكروا من أمثلة قوله تعالى ) وقد بلغني الكبر ( أي بلغت الكبر فاعلم ذلك فإنه حرف


" صفحة رقم 181 "
مشكل لم أرهم شرحوه إلا ما كان من القاضي عياض فإنه ذكر فيه أنه يحتمل أنه سمى الأوعية بما فيها كما سميت الأسقية روايا بحاملتهاوإنما الروايا الإبل التي تحملها وسميت النساء ظغائن باسم الهوادج التي حملت فيها
وما قاله غير مسلم وتسمية الأسقية روايا من توليد العامة والأمر في الضغائن على عكس مما ذكره فإن صفة الظغن للنساء بالأصالة والله أعلم قوله في الرواية الأخرى نواضحنا فالنواضح من الإبل التي يستقى عليها الماء وهي جمع ناضحة للأنثى
قلت وتسمية الذكر ناضحة على المبالغة في الوصف قالوا للرجل الكثير الرواية رواية قياس تحتاج إلى مساعدة النقل عليه والله أعلم
قول عمر ادع الله لهم عليها بالبركة لعل الله يجعل في ذلك يعني خيرا أو بركة أو نحو ذلك فحذف المفعول للعلم به والله أعلم


" صفحة رقم 182 "
داود بن رشيد بضم الراء من رشيد وإسكان الياء
وجنادة بضم الجيم
والصنابحي بضم أوله وياء النسب في آخره واسمه عبد الرحمن بن عسيلة أبو عبد الله
وحبان جد محمد بن يحيى بن حبان بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة المشددة وكل ذلك من المعروف بين اهل الحديث والمقصود تعريف الدخيل والله أعلم
هداب بن خالد شيخ مسلم على وزن عمار وهو المقول فيه هدبة بن خالد وأحدهما لقب وهدبة هو اللقب


" صفحة رقم 183 "
وحكى الحافظ أبو الفضل الفلكي الهمذاني انه كان يغضب إذا قيل هدبة وقرأت بخط أبي محمد عبد الله بن الحسن الطبسي في كتابه في المؤتلف والمختلف أن هداب هو اللقب وليس هذا مما يركن إليه والله أعلم
قول معاذ رضي الله عنه كنت ردف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل
ف الردف هو بكسر الراء وإسكان الدال وهو الراكب خلف الراكب
ومؤخرة الرحل هي التي خلف الراكب يستند إليها والأكثر الأغلب تسميتها أأخرة الرحل وهي مؤخرة الرحل بميم مضمومة ثم همزة ساكنة ثم خاء مكسورة خفيفة وقالها بعض الرواة بفتح الهمزة وفتح الخاء المشددة وهو غالب على ألسنة الطلبة وليس ذلك بثابت
وحكى القاضي عياض رحمه الله وإيانا في ذلك في كتابيه مشارق الأنوار


" صفحة رقم 184 "
وإكمال المعلم عن ابن مكي أنه أنكر الكسر وقال لا يقال مقدم ولا مؤخر بالكسر إلا في العين يعني قولهم مقدم العين ومؤخرها
قلت وهذا الذي حكاه عن أبي حفص عمر ابن مكي الصقلي صاحب كتاب ما تلحن فيه العامة معروف عن الخليل ومن تقدم من أهل اللغة
وما توهمه القاضي من كونه مخالفا لما تقدم ذكره وهم منه فإن ذلك كلام في مقدم ومؤخر بغير تاء التأنيث والمراد به أنه لا يقال مؤخر السفينة وغيرها ومقدمها بالكسر بل مؤخرها ومقدمها بالفتح والتشديد وليس في ذلك تعرض لمؤخرة الرحل بتاء التأنيث وهما نوعان فاعلم ذلك والله اعلم
قوله ( صلى الله عليه وسلم ) لمعاذ هل تدري ما حق العباد على الله وجهه مع كونه سبحانه وتعالى يتعالى عن أن يستحق عليه أحد حقا أنه لما كان ما وعد به يوجد لا محالة ولا يقع تركه صار كالحق الذي لا يسيغ تركه فأطلق عليه لفظه


" صفحة رقم 185 "
وإخبار معاذ بذلك عند موته تأثما أي تجنبا للإثم مع أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) منعه من أن يخبر به الناس وجهه عندي أنه منعه من التبشير العام خوفا من أن يسمع ذلك من لا خبرة له ولا علم فيغتر ويتكل ومع ذلك أخبر ( صلى الله عليه وسلم ) به على الخصوص من أمن عليه الاغترار والاتكال من أهل المعرفة بالحقائق فإنه أخبر به معاذا فسلك معاذ هذا المسلك وأخبر به من الخاصة من رآه أهلا لذلك تأثما من أن يكتم علما أهله والله أعلم
وأما حديث أبي هريرة المذكور بعد هذا وما فيه من خلاف حديث معاذ من أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبا هريرة بأن يبشر بالجنة من لقي ممن يشهد أن لا إله إلا الله وقول عمر أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) فخلهم
فأقول إن ذلك من قبيل تغير الاجتهاد وقد كان القول بالاجتهاد جائزا له وواقعا منه عند المحققين وله المزية على سائر المجتهدين بأنه لا يقر في اجتهاده على الخطأ


" صفحة رقم 186 "
وقد روى الثقات في حديث أم سلمة المعروف أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال إني إنما اقضي بينكم برأي فيما لم ينزل علي فيه ومن نفى ذلك وقال لم يكن له القول في الأمور الدينية إلا عن وحي فليس بممتنع أن يكون قد نزل عليه عند مخاطبة عمر له وحي بما أجابه به ناسخ لوحي سبق بما قاله أولا ( صلى الله عليه وسلم ) والله ورسوله أعلم
قوله في الرواية الثانية كنت ردف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على حمار يقول له عفير
هذا يقتضي أن يكون ذلك في مرة أخرى غير المرة المذكورة في الرواية الأولى فإن مؤخرة الرحل يختص بالإبل ولا تكون على حمار وعفير هو بضم العين المهملة وبالفاء وهو الحمار الذي كان له ( صلى الله عليه وسلم ) قيل إنه مات في حجة الوداع وقال القاضي عياض إنه بغين معجمة متروك عليه والله أعلم


" صفحة رقم 187 "
قوله شعبة عن أبي حصين هو بحاء مهملة مفتوحة بعدها صاد مهملة وفي آخره نون وهو عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي وليس في الصحيحين حصين وأبو حصين بالفتح سوى هذا والله أعلم
وفي رواية أبي حصين المذكورة يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد قال الله ورسوله أعلم قال أن يعبد الله ولا يشرك به شيئا
وقع في الأصول شيئا بالنصب
قلت هو صحيح على التردد في قوله يعبد الله ولا يشرك به بين وجوه ثلاثة
أحدها يعبد الله بفتح الياء التي للمذكر الغائب أي يعبد العبد الله ولا يشرك به شيئا وهذا أوجه الوجوه
الثاني تعبد بالتاء التي هي للمخاطب على التخصيص لمعاذ لكونه المخاطب والتثنية به على غيره
الثالث يعبد بضم أوله على ما لم يسم فاعله ويكون قوله شيئا كناية عن المصدر لا عن المفعول به
أي لا يشرك به إشراكا وتكون الجار والمجرور في قوله به هو القائم مقام


" صفحة رقم 188 "
الفاعل وإذ لم تعين الرواة شيئا من هذه الوجوه فحق على من يروي هذا الحديث منا أن ينطق بها كلها واحدا بعد واحد ليكون آتيا بما هو المقول منها في نفس الأمر جزما والله أعلم
قول أبي هريرة رضي الله عنه فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة والربيع الجدول فاحتفرت كما يحتفر الثعلب فدخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
فقوله من بئر خارجة هو بالتنوين في خارجة وكذا في الأصل الذي هو


" صفحة رقم 189 "
بخط أبي عامر العبدري وفي الأصل المأخوذ عن الجلودي
وأخبرني الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد بقراءتي عليه عن الحافظ المتقن أبي موسى محمد بن أبي بكر المديني الأصبهاني رحمه الله قال قوله من بئر خارجة يروى على وجوه
يقال من بئر خارجة وبئر خارجة بئر معروف منسوبة إلى خارجة
فالرواية الثانية التي ذكرها أبو موسى هي بإضافة خارج إلى هاء الضمير أي البئر في موضع خارج عن الحائط
والرواية الثالثة البئر فيها منسوبة إلى رجل اسمه خارجة والله أعلم
قوله الربيع الجدول فالربيع هو على لفظ الربيع الزماني
والجدول هو النهر الصغير وقوله فاحتفرت هو بالراء المهملة محققا في الأصل المأخوذ عن الجلودي والأصل الذي بخط العبدري وهي الرواية الأكثر


" صفحة رقم 190 "
ورواه بعضهم بالزاي المنقوطة وكذلك وجدته في كتاب أبي نعيم المخرج على هذا الكتاب في الأصل المأخوذ عنه ومعناه تضاممت وهذا أقرب من حيث المعنى ويدل عليه تشبيهه بفعل الثعلب وهو تضامه للدخول في المضايق والله أعلم
قوله بين ظهرينا وهو بفتح الراء وإسكان الياء بعدها قال الأصمعي وغيره يقال بين ظهريهم وظهرانيهم أي بفتح النون معناه بينهم وبين أظهرهم وهو في بعض النسخ بين أظهرنا والله أعلم
قول أبي هريرة فأجهشت بكاء يقال جهشت وأجهشت جهشا وإجهاشا وهو فيما ذكره أبو عبيد وغيره أن يفزع الناس إلى غيره وهو مع فزعه كأنه يريد البكاء كالصبي يفزع إلى أمه وأبيه وقد تهيأ للبكاء
وزاد بعضهم بيانا فقال هو أن يفزع إلى آخر وهو متغير الوجه متهيء للبكاء


" صفحة رقم 191 "
ولما يبك بعد وقوله بكاء مفعول له وقد جاء في حديث فأجهشت للبكاء والله أعلم
قوله وركبني عمر وإذا هو على أثري أي لحقني في الوقت من غير تمهل وقوله أثري يقال بفتح الهمزة والثاء جمعيا وبكسر الهمزة وإسكان الثاء والله أعلم
قلت ودخول أبي هريرة الحائط من غير إذن صاحبه على ما دل عليه ظاهر الحال مع تقرير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إياه على ذلك يدل على جواز مثل ذلك عند العلم برضى المالك وإن لم يتلفظ بالإذن
وضربة عمر المفضية إلى سقوط أبي هريرة يحمل على أنه دفع في صدره ليرده فانصدم لإسراعه أو نحو ذلك فوقع من غير تعمد من عمر لذلك وهي واقعة عين ووقائع الأعيان تتردد بين ضروب من الإحتمالات والله أعلم
قوله لبيك وسعديك فيه لأهل العربية واللغة أقوال
فقيل معنى لبيك إجابة لك بعد إجابة
وقيل لزوما لطاعتك وإقامة عليها بعد إقامة من قولهم ألب بالمكان ولب به إذا أقام به ولزمه
ومعنى سعديك إسعادا لك بعد إسعاد والإسعاد الإعانة والتثنية فيهما للتكرير والتأكيد والله أعلم
قول مسلم رحمه الله وإيانا حدثنا شيبان بن فروخ


" صفحة رقم 192 "
ففروخ هو بفتح الفاء وتشديد الراء وبالخاء المنقوطة وهو عجمي غير منصرف وقد ذكر صاحب كتاب العين اسم ابن لإبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) هو أبو العجم والله أعلم
وعتبان بن مالك بكسر العين على مثال عمران والله أعلم
مالك بن الدخشم هو من الأنصار حكى أبو عمر بن عبد البر اختلافا في شهوده العقبة وقال لم يختلفوا أنه شهد بدرا وما بعدها من المشاهد وقال لا يصح عنه النفاق وقد ظهر من حسن إسلامه ما يمنع من إتهامه
قلت وهو ابن الدخشم بدال مهملة مضمومة ثم خاء معجمة ساكنة ثم


" صفحة رقم 193 "
شين مثلثة مضمومة ثم ميم وقيل فيه الدخشن بالنون ويقال أيضا الدخشن بكسر الدال وكسر الشين وجاء مصغرا ومكبرا فيهما غير أن الواقع فيه في روايتنا في كتاب مسلم وفي أصولنا به في رواية مسلم الأولى بالميم مكبرا وهو في أكثرها بغير ألف ولام في هذه الرواية
وهو فيها في الرواية الثانية مصغرا وبالميم أيضا وبالألف واللام إلا في أصل أبي حازم الحافظ بخطه فإنه مكبر فيه في الثانية أيضا والله أعلم
قوله يتحدثون بينهم ثم أسندوا عظم ذلك وكبره إلى مالك معناه إنهم تحدثوا وشكوا ما يلقون من المنافقين ونسبوا معظم ذلك إلى مالك
وعظم ذلك هو بضم العين وإسكان الظاء أي معظمه
وكبره بمعنى ذلك وهو بضم الكاف ويجوز بكسرها والله أعلم
وما في الحديث من أن من أتى بالشهادتين لا يدخل النار قد قال الزهري فيه ثم نزلت بعد ذلك فرائض وأمور نرى أن الأمر انتهى إليها فمن استطاع أن لا يغتر فلا يغتر


" صفحة رقم 194 "
وهذا غير مقنع فقد كانت الصلاة وغيرها من الفرائض نزلت قبل ذلك ومعنى الحديث ما سبق في حديث معاذ والله أعلم
أبو عامر العقدي هو بالعين المهملة والقاف المفتوحين واسمه عبد الملك بن عمرو
والعقد بطن من بجيلة وقيل بطن من قيس وروى عنه أحمد بن إبراهيم الدورقي فقال حدثنا أبو عامر القيسي والله أعلم
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال الأيمان بضع وسبعون شعبة
ف البضع هو بكسر الباء ويقال أيضا بفتحها وكذا البضعة في قولنا بضعة عشر وشبه ذلك


" صفحة رقم 195 "
واختلف في ذلك أئمة اللغة وفي بعض تفسيرهم له إشكال أنا أوضحه إن شاء الله تعالى
فقيل هو من ثلاث إلى تسع وهذا هو الأشهر
وقيل ما بين اثنين إلى عشر والظاهر أن هذا تفسير للأول
فيكون البضع مستعملا في الثلاث دون ما قبله غير مستعمل في العشر
وقيل ما هو بين الثلاث إلى العشر والظاهر أن هذا هو ما حكاه أبو عمر الزاهد اللغوي أنه من أربع إلى تسع
وكذا قول الفراء إنه ما بين الثلاثة إلى ما دون العشرة
فعلى هذا لا يستعمل في الثلاث ولا في العشر أيضا
وقد بلغ بالبضع المذكور في هذا الحديث بعض من فصل شعب الإيمان سبعا أو تسعا والله أعلم
وقوله شعبة أي خصلة وأصله من الشعبة بمعنى القطعة
ثم إن مسلما روى هذا الحديث من حديث سهيل بن أبي صالح عن عبدالله ابن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة على الشك فقال بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة
وهذا الشك فيما ذكره أبو بكر البيهقي الحافظ وقع من سهيل وقد روي عن سهيل بضع وسبعون من غير شك قطعا بالأكثر أخرجه أبو داود في كتابه
وأما سليمان بن بلال فإنه رواه عن عبدالله بن دينار على القطع من غير شك


" صفحة رقم 196 "
وهي الرواية الصحيحة أخرجاها في الصحيحين
غير أنها فيما عندنا من كتاب مسلم بضع وسبعون قطعا بالأكثر وهي فيما عندنا من كتاب البخاري بضع وستون قطعا بالأقل
وقد نقلت كل واحدة منهما عن كل واحد من الكتابين ولا إشكال في أن كل واحدة منهما رواية معروفة في روايات هذا الحديث
واختلفوا في الترجيح بينهما والأشبه بالإتقان والاحتياط ترجيح رواية الأقل ومنهم من رجح رواية الأكثر وإياها اختار الإمام أبو عبد الله الحليمي فإن الحكم لمن حفظ الزيادة جازما بها
ثم إن الكلام في تعيين هذه الشعب يتشعب ويطول وقد صنفت في ذلك مصنفات من اغزرها فوائد كتاب المنهاج لأبي عبد الله الحليمي إمام الشافعيين ببخارى وكان من رفعاء أئمة المسلمين
وحذا حذوه الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي في كتابه الجليل الحفيل كتاب شعب الإيمان وعينت شعب كثيرة منها الاستنباط والاجتهاد والقطع على مراد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في كثير منها عسر صعب وقد ضبطت ما أمليته من وجوه الاختلاف في ذلك حديثا ولغة ضبطا متينا عزيزا ولله الحمد وهو أعلم


" صفحة رقم 197 "
قوله ( صلى الله عليه وسلم ) الحياء من الإيمان
وجهه أن ما كان منه تخلقا فهو عمل يكتسب كسائر أعمال الإيمان
وما كان منه غريزة وطبعا فهو منشأ لأعمال كثيرة من أعمال الإيمان وهذا الحيآء ممدود وترك المد فيه لحن يحيل المعنى فإنه من غير مد عبارة عن المطر وعن الخصب أيضا والله أعلم
حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الحيآء لا يأتي إلا بخير وفي رواية الحياء خير كله
قول بشير بن كعب لعمران إنا نجد في بعض الكتب إن منه ضعفا وإنكار عمران وغضبه عليه في ذلك قد يختلج في النفس منه شيء من جهة أن صاحب الحيآء قد يستحي ان يواجه بالحق من يجله فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر
وقد يخل بحق عليه لعارض من الحياء اعترض وليس من الخبر وهذا


" صفحة رقم 198 "
مندفع لأن ذلك إنما هو خور وعجز ومهانة وليس من الحياء إنما الحياء خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق ونحو هذا وقد روينا عن الجنيد رضي الله عنه أنه سئل عن الحياء فقال رؤية الآلاء ورؤية التقصير فيتولد من بينهما حالة تسمى الحياء
وقوله حتى احمرتا عيناه كذا وقع وكذا رويناه وهو على لغة من قال أكلوني البراغيث أو على البدل كما في قوله تبارك وتعالى ( وأسروا النجوى الذين ظلموا ( والله أعلم
رواة حديث عمران عنه في الكتاب أحدهم أبو السوار بفتح السين وتشديد الواو وهو العدوي بصري ذكر البخاري وغيره أن اسمه حسان بن حريث وعرفه البخاري بروايته لهذا الحديث


" صفحة رقم 199 "
وأبو قتادة وهو العدوي بصري اسمه تميم بن نذير بضم النون وفتح الدال المنقوطة وفي اسمه واسم أبيه اختلاف والله أعلم
وحجير بن الربيع العدوي بحاء مهملة في أوله مضمومة وراء مهملة في آخره
والراوي عنه أبو نعامة العدوي بصري اسمه عمرو بن عيسى وهو من الثقات الذين اختلطوا قبل موتهم والله أعلم
أبو نجيد كنية عمران بنون مضمومة في أوله ثم جيم وفي آخره دال مهملة وهو مصغر


" صفحة رقم 200 "
بشير بن كعب المذكور عدوي بصري وهو بضم الباء الموحدة وفتح الشين وليس في الصحيحين بهذا الاسم سواه وسوى بشير بن يسار والله أعلم
أبو الخير الراوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص هو مرثد بالثاء المثلثة ابن عبد الله اليزني المهري الحميري المصري ويزن بالياء المثناة من تحت والزاي المنقوطة المفتوحتين ومهرة قبيلتان من حمير والله أعلم
قوله ( صلى الله عليه وسلم ) المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده


" صفحة رقم 201 "
المراد به المسلم الكامل والأفضل من سلموا منه وهذا من ألفاظ الحصر التي تطلق على الكامل والمراد بها نفي الكمال عن ضد المذكور لا نفي حقيقة ذلك من أصله عن ضده كما يقال العلم ما نفع أو لا علم إلا ما نفع في نظائر لذلك كثيرة
وقد أفصح عن صحة ما ذكرناه قوله في الرواية الأخرى سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أي المسلمين أفضل فقال من سلم المسلمون من لسانه ويده
ثم إن المراد بذلك من لم يؤذ مسلما بقول ولا فعل وخص اليد بالذكر لأن معظم الأفعال بها تكون والله أعلم
ثم كمال الإسلام والمسلم متعلق بما ذكر ويغيره من خصال أخر كثيرة معلومة وخص ( صلى الله عليه وسلم ) في جواب السائل المذكور السلامة من اللسان واليد بالذكر وخص في جواب السائل المذكور في الحديث الذي قبله بالذكر إطعام الطعام وإفشاء السلام وذلك على حسب الحاجة إلى البيان بالنظر إلى حال السائل


" صفحة رقم 202 "
وباعتبار الحالة الراهنة فاعلم ذلك والله أعلم
بريد بن عبد الله هو بباء موحدة مضمومة في أوله وبعدها راء مهملة يكنى أبا بردة وهو أبو بردة ابن عبد الله المذكور في الإسناد الذي قبله وجده أبو بردة بن أبي موسى الأشعري اسمه عند الأكثرين عامر وعند يحيى بن معين أن اسمه الحارث والله أعلم
قوله حدثنا شيبان بن أبي شيبة وهو شيبان بن فروخ الذي حدث عنه في غير موضع والله أعلم


" صفحة رقم 203 "
وروى مسلم حديث أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه أو قال لجاره ما يحب لنفسه
ورواه البخاري حتى يحب لأخيه فحسب من غير شك
وهذا قد يعد من الصعب الممتنع وليس كذلك إذ معناه والله أعلم
لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام مثل ما يحب لنفسه والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها بحيث لا ينقص النعمة على أخيه شيئا من النعمة عليه وذلك سهل على القلب السليم وإنما يعسر على القلب الدغل عافانا الله وإخواننا أجمعين آمين
وقد روينا عن أبي محمد عبد الله بن أبي زيد الفقيه إمام المالكية بالمغرب الأدنى رحمه الله أنه قال جماع آداب الخير وأزمته تتفرع من أربعة أحاديث قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت


" صفحة رقم 204 "
وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
وقوله للذي اختصر له في الوصية لا تغضب
وقوله المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه والله أعلم
قوله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يدخل الجنة من لا يؤمن جاره بوائقه أي غوائله ودواهيه وشروره وهي جمع بائقة
ومعنى قوله لا يدخل الجنة مع ما ثبت من أن كل مسلم لا بد أن يدخل الجنة وإن دخل النار إنه يدخلها وقت دخول أهلها إليها وإذا فتحت أبوابها للمتقين إلا أن يعفو الله تبارك وتعالى


" صفحة رقم 205 "
وقوله فلا يؤذي جاره كذا وقع وكذا رويناه بإثبات الياء على لفظ الخبر وقد جاء مثله في كثير من الأحاديث
والمراد النهي ويأتي ذلك أيضا بلفظ النهي والجميع سائغ والله أعلم
روى مسلم حديث أبي سعيد الخدري من رأى منكم منكرا فليغيره


" صفحة رقم 206 "
وقال حدثنا أبو كريب حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد الخدري ح وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري
فقوله وعن قيس بن مسلم معطوف على قوله عن إسماعيل أي رواه الأعمش عن إسماعيل وقيس والله أعلم
روى مسلم بإسناده عن صالح بن كيسان عن الحارث بن فضيل بإسناده عن أبي رافع عن عبد الله بن مسعود ما اختصاره أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل
قال أبو رافع فحدثت عبد الله بن عمر فأنكره علي فقدم ابن مسعود فنزل بفنائه فاستتبعني إليه عبد الله بن عمر قال فلما جلسنا سألت ابن مسعود فحدثنيه كما حدثت ابن عمر
قال صالح وقد تحدث بنحو ذلك عن أبي رافع


" صفحة رقم 207 "
فقوله حواريون قيل حواريوا الأنبياء أنصارهم وقيل هم خلصانهم وأصفياؤهم وقيل هم المجاهدون وقيل الذين يصلحون للخلافة بعدهم
وسنعود إن شاء الله تبارك وتعالى إلى الكلام فيه
وقوله ثم إنها تخلف هذا الضمير هو ضمير القصد والشأن وقوله خلوف بضم الخاء جمع خلف بسكون اللام وهو الخالف بشر وهو بفتح اللام بخير وقد حكى غير واحد الوجهين معا فيهما والله أعلم
وقوله فنزل بفنائه بكسر الفاء وبالمد وجمعه أفنية وهي ما بين أيدي المنازل والدور من البراح هكذا وقع في روايتنا في هذا الكتاب
وفي كتاب أبي عوانة الإسفراييني المخرج عليه وهي رواية أكثر رواة الكتاب وفي رواية أبي الفتح السمرقندي الشاشي بقناة بالقاف على لفظ قناة الرمح
وكذا رواه أبو عبد الله الحميدي في كتابه الجمع بين الصحيحين


" صفحة رقم 208 "
وكذا كان في أصل الحافظ أبي عامر العبدري بخطه وهو برواية السمرقندي وفي أصل الحافظ أبي القاسم العساكري وكان هذا منه أولا على رواية السمرقندي ثم غير ذلك فيهما جعل بفنائه وقناة بالقاف وهو الأشبه
وقد ذهب القاضي أبو الفضل اليحصبي إلى أن الأول وإن كان رواية الجمهور فهو خطأ وتصحيف وإنما هو قناة وهو اسم واد من أودية المدينة عليه حرث ومال من أموالها والله أعلم
قول صالح وقد تحدث بنحو ذلك هو بضم المثناة من فوق وفيه إشعار بأن الحارث بن فضيل قد توبع على ذلك والله أعلم
قوله الرواية الأخرى يهتدون بهديه هو بفتح الهاء وإسكان الدال أي بطريقته وسمته والله أعلم
قول مسلم اجتماع ابن عمر معه وهذا مما أنكره صاحب درة الغواص في أوهام الخواص وقال لا يقال اجتمع فلان مع فلان وإنما اجتمع فلان وفلان والله أعلم


" صفحة رقم 209 "
ثم إن هذا الحديث مما انفرد به مسلم عن البخاري وقد أنكره أحمد بن حنبل فيما بلغنا عن أبي داود السجستاني في مسائله عن أحمد قال الحارث بن فضيل ليس بمحفوظ الحديث وهذا الكلام لا يشبه كلام ابن مسعود وذكر أحمد قوله ( صلى الله عليه وسلم ) اصبروا حتى تلقوني
قلت قد روى عن الحارث هذا جماعة من الثقات ولم نجد له ذكرا في كتب الضعفاء وفي كتاب ابن أبي حاتم عن يحيى بن معين أنه ثقة
ثم إن الحارث لم ينفرد به بل توبع عليه على ما أشعر به كلام صالح بن كيسان المذكور وذكر الإمام الدارقطني في كتاب العلل إن هذا الحديث قد روي من وجوه أخر منها عن أبي واقد الليثي عن ابن مسعود عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
وأما قوله اصبروا فذلك حيث يلزم من ذلك إثارة الفتنة وسفك الدماء ونحو ذلك وما ورد في هذا الحديث من الحث على جهاد المبطلين باليد واللسان فذلك حيث لا يلزم منه إثارة فتنة على أن لفظ هذا الحديث مسوق فيمن سبق من الأمم وليس في لفظه ذكر هذه الأمة والله أعلم
حديث أبي مسعود البدري أشار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بيده نحو اليمن فقال ألا إن الإيمان ها هنا وأن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر


" صفحة رقم 210 "
وفي رواية أبي هريرة جاء أهل اليمن هم أرق أفئدة الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية
وفي رواية هم أرق أفئدة وأضعف قلوبا
وفي رواية هم ألين قلوبا وأرق أفئدة
وفي رواية مالك لحديث أبي هريرة رأس الكفر نحو المشرق والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل الفدادين أهل الوبر والسكينة في أهل الغنم
وفي رواية جابر غلظ القلوب والجفاء في المشرق والإيمان في أهل الحجاز
أما ما ذكر من نسبة الإيمان إلى اليمن وأهله فقد صرفوه عن ظاهره من حيث إن مبدأ الإيمان من مكة ثم المدينة حرسهما الله
فحكى أبو عبيد إمام الغريب ثم من بعده في ذلك أقوالا
أحدها أن المراد بذلك مكة فإنه يقال إن مكة من تهامة ويقال إن تهامة من أرض اليمن


" صفحة رقم 211 "
والثاني إن المراد مكة والمدينة فإنه يروى في الحديث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال هذا الكلام وهو يومئذ بتبوك ومكة والمدينة حينئذ بينه وبين اليمن فأشار إلى ناحية اليمن وهو يريد مكة والمدينة فقال الإيمان يمان ونسبهما إلى اليمن لكونهما حينئذ من ناحية اليمن كما قالوا الركن اليماني وهو بمكة إلى ناحية اليمن
الثالث ما ذهب إليه كثير من الناس وهو أحسنها عند أبي عبيد أن المراد بذلك الأنصار لأنهم يمانون في الأصل فنسب إليهم لكونهم أنصاره
وأنا أقول والله الموفق لو جمع أبو عبيد ومن سلك سبيله طرق الحديث بألفاظه كما جمعها مسلم وغيره وتأملوها لصاروا إلى غير ما ذكروه ولما تركوا الظاهر ولقضوا بأن المراد بذلك اليمن وأهل اليمن على ما هو مفهوم من إطلاق ذلك إذ من ألفاظه أتاكم أهل اليمن والأنصار من جملة المخاطبين بذلك فهم إذا غيرهم
وكذلك قوله جاء أهل اليمن وإنما جاء حينئذ غير الأنصار ثم إنه وصفهم ( صلى الله عليه وسلم ) بما يقضي بكمال إيمانهم ورتب عليه قوله الإيمان يمان فكان ذلك نسبة للإيمان إلى من أتاهم من أهل اليمن لا إلى مكة والمدينة
ولا مانع من إجراء الكلام على ظاهره وحمله على أهل اليمن حقيقة لأن من اتصف بشيء وقوى قيامه به وتأكد اضطلاعه به نسب ذلك الشيء إليه إشعارا بتميزه به وكمال حاله فيه
وهكذا كان حال أهل اليمن حينئذ في الإيمان وحال الوافدين منهم في حياته ( صلى الله عليه وسلم ) وفي أعقاب موته كأويس القرني وأبي مسلم الخولاني وأشباههما


" صفحة رقم 212 "
ممن سلم قبله وقوى إيمانه فكانت نسبة الإيمان إليهم لذلك إشعارا بكمال إيمانهم من غير أن يكون في ذلك نفي لذلك عن غيرهم فلا منافاة بينه وبين قوله الإيمان في أهل الحجاز
ثم إن المراد بذلك الموجودون منهم حينئذ لا كل أهل اليمن في كل زمان فإن اللفظ لا يقتضيه هذا والله أعلم
هذا هو الحق في ذلك ونشكر الله سبحانه على هدايتنا له والله أعلم
وأما ما ذكر من الفقه والحكمة فالفقه ها هنا هو عبارة عن الفهم في الدين واصطلح بعد ذلك الفقهاء والأصوليون على تخصيص الفقه بإدراك الأحكام الشرعية العملية بالاستدلال على أعيانها
وأما الحكمة ففيها أقوال كثيرة مضطربة قد اقتصر كل من قائليها على بعض صفات الحكمة وقد صفا لنا منها


" صفحة رقم 213 "
إن الحكمة عبارة عن العلم المتصف بالأحكام المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى المصحوب بنفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق والعمل به والصد عن اتباع الهوى والباطل والحكيم من له ذلك
أخبرنا الشيخ أبو الحسن بن محمد النيسابوري قراءة عليه بها ونقلت من أصل سماعه وكان أصيلا قال أخبرنا جدي لأمي أبو محمد العباس بن محمد العصاري قال حدثنا القاضي أبو سعيد محمد بن سعيد لفظا قال أخبرنا الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن محمد الثعلبي قال سمعت أبا الحسن علي بن الحارث البياري قال سمعت أبا سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي سمعت أبا بكر محمد بن الحسن الدريدي يقول كل كلمة وعظتك في آخرتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة وحكم ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إن من الشعر حكمة وجاء في بعض الألفاظ حكما والله أعلم


" صفحة رقم 214 "
قوله يمان ويمانية هو بالتخفيف من غير تشديد للياء عند جماهير أهل العربية لآن الألف المزيدة فيه عوض من ياء النسب المشددة فلا يجمع بينهما
وقال ابن السيد في كتابه الاقتضاب في شرح أدب الكتاب حكى أبو العباس المبرد وغيره أن التشديد لغة
قلت وهذا غريب وإن كان هو المشهور المستعمل عند من لا عناية له بعلم العربية وقوله ألين قلوبا وأرق أفئدة فالمشهور أن الفؤاد هو القلب فعلى هذا يكون قد كرر ذكر القلب مرتين بلفظين وهو أولى من تكريره بلفظ واحد
وقيل الفؤاد غير القلب وهو عين القلب
وقيل الفؤاد باطن القلب
وقيل هو غشاء القلب


" صفحة رقم 215 "
وأما وصفها بالرقة واللين والضعف فمعناه أنها ذات خشية واستكانة سريعة الاستجابة والتأثر بقوارع التذكير سالمة من الغلظ والشدة والقسوة التي وصف بها قلوب الآخرين والله أعلم
وأما قوله في الفدادين فزعم أبو عمرو هو الشيباني أنها بتخفيف الدال وهي جمع فدان بتشديد الدال وهو عبارة عن البقر التي يحرث عليها حكاه عنه أبو عبيد وأنكره عليه
وعلى هذا فالمراد بذلك أصحابها فحذف ذلك
والصواب الفدادون بتشديد الدال جمع فداد بدالين أولاهما مشددة وهذا قول أهل الحديث وجمهور أهل اللغة الأصمعي وغيره وهو من الفديد وهو الصوت الشديد فهم الذين تعلو أصواتهم في إبلهم وخيلهم وحروثهم ونحو ذلك
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى هم المكثرون من الإبل الذي يملك أحدهم المائتين منها إلى الألف والله أعلم
قلت وقوله في رواية أبي مسعود إن القسوة في الفدادين عند أصول أذناب الإبل معناه الذين لهم جلبة وصياح عند سوقهم لها وقوله حيث


" صفحة رقم 216 "
يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر فقوله في ربيعة ومضر بدل من قوله في الفدادين أي القسوة في ربيعة ومضر الفدادين والله أعلم
وقرنا الشيطان جانب رأسه وقيل هما جمعاه اللذان يغريهما بإضلال الناس وقيل شيعتاه من الكفار
والمراد بذلك اختصاص المشرق بمزيد من تسلط الشيطان ومن الكفر كما قالوا في الحديث الآخر رأس الكفر نحو المشرق
وكان ذلك في عهده ( صلى الله عليه وسلم ) حين قال ذلك ويكون حين يخرج الدجال من المشرق وهو فيما بين ذلك منشأ للفتن العظيمة ومثار للكفرة الترك العابثة العاتية الشديدة البأس والله أعلم


" صفحة رقم 217 "
وقوله الفخر والخيلاء فالفخر هو الافتخار وعد المآثر القديمة تعظما
والخيلاء الكبر واحتقار الناس
وقوله في أهل الخيل والإبل الفدادين أهل الوبر فالوبر وإن كان من الإبل دون الخيل فليس بممتنع أن يكون قد وصفهم بكونهم جامعين بين الخيل والإبل والوبر وقوله والسكينة في أهل الغنم أي الطمأنينة والسكون على خلاف ما ذكر من صفة الفدادين والله أعلم
حديث أبي هريرة لا تدخلون الجنة حتى تؤمنون ولا تؤمنوا حتى


" صفحة رقم 218 "
تحابوا معناه لا يكمل إيمانكم إلا بذلك ولا تدخلون الجنة عند دخول أهلها إليها إذا لم تكونوا كذلك وقد سبق إيضاح أمثال ذلك والله أعلم
روى مسلم حديث تميم الداري أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال الدين النصيحة قلنا لمن قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم
انفرد به مسلم عن البخاري وليس لتميم في الصحيح غيره
بلغنا عن الشافعي الإمام أنه قال تميم رجل من لخم من حي يقال لهم بنو الدار فمن قال الداري نسبه إلى نسبته ومن قال الديري نسبه إلى دير كان فيه قبل الإسلام وكان نصرانيا وهذا عن الشافعي عزيز رواه أبو الحسين الرازي في


" صفحة رقم 219 "
كتابه في مناقب الشافعي رضي الله عنه بإسناد جيد
واختلف في ذلك رواة الموطأ عن مالك رضي الله عنه
ففي رواية يحيى الليثي وابن بكير وغيرهما الديري بالياء
وفي رواية القعنبي وابن القاسم وأكثرهم الداري بالألف ثم إن الصحيح في وجه النسبتين ما ذكره الشافعي ومنهم من قال هي بالألف نسبة إلى دارين وهو مكان عند البحرين هو محط السفن كان يجلب إليه العطر من الهند ولذلك قيل للعطار الداري ومنهم من جعله بالياء نسبة إلى قبيلة أيضا وهو بعيد والله أعلم
وهذا الحديث في إحدى الروايات عن أبي داود السجزي صاحب السنن أحد الأحاديث التي عليها مدار الفقه
فروينا عنه أنه قال الفقه يدور على خمسة أحاديث الحلال بين والحرام بين


" صفحة رقم 220 "
وأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال لا ضر ولا إضرار
وأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال إنما الدين النصيحة
وإن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم والله أعلم


" صفحة رقم 221 "
وقال أبو نعيم الحافظ هذا حديث له شأن وذكر محمد بن اسلم الطوسي أنه أحد أرباع الدين وهذا شرحه
فقوله الدين النصيحة لفظ يفيد الحصر فكأنه قال ليس الدين إلا النصيحة لله ولكتابه وسائر ما ذكر أي لا يكمل الدين إلا بذلك كما سبق بيانه في أمثال ذلك وفيه إشعار بعظم موقع النصيحة من الدين وهكذا مثله في أمثال ذلك والنصيحة كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلا فالنصيحة لله تبارك وتعالى توحيده ووصفه بصفات الكمال والجلال جمع وتنزيهه عما يضادها ويخالفها وتجنب معاصيه والقيام بطاعاته ومحابه بوصف الإخلاص والحب فيه والبغض فيه وجهاد من كفر به تعالى وما ضاهى ذلك والدعاء إلى ذلك والحث عليه
والنصيحة لكتابه الإيمان به وتعظيمه وتنزيهه وتلاوته حق تلاوته والوقوف مع أوامره ونواهيه وتفهم علومه وأمثاله وتدبر آياته والدعاء إليه وذب تحريف الغالين وطعن الملحدين عنه
والنصيحة لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) قريب من ذلك الإيمان به وبما جاء به وتوقيره وتبجيله والتمسك بطاعته وإحياء سنته واستشارة علومها ونشرها ومعاداة


" صفحة رقم 222 "
من عاداه وعاداها وموالاة من والاه ووالاها والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه ومحبة آله وصحابته ونحو ذلك
والنصيحة لأئمة المسلمين أي لخلفائهم وقادتهم معاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وتنبيههم وتذكيرهم في رفق ولطف ومجانبة الخروج عليهم والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأغيار على ذلك
والنصيحة لعامة المسلمين وهم ها هنا من عدا أولى الأمر منهم إرشادهم إلى مصالحهم وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم وستر عوراتهم وسد خلاتهم ونصرتهم على أعدائهم والذب عنهم ومجانبة الغش والحسد لهم وأن يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكرهه لنفسه وما شابه ذلك
وقد كان في السلف رضي الله عنهم وعنا من يبلغ به النصح إلى أن ينصح غيره بما هو عليه ولجرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه في حديثه الذي ذكره مسلم بايعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على النصح لكل مسلم


" صفحة رقم 223 "
مكرمة رواها أبو القاسم الطبراني بإسناده اختصار حديثها أن جريرا أمر مولى له أن يشتري له فرسا فاشترى مولاه من رجل فرسا بثلاثمائة درهم وجاء به إلى جرير لينقده الثمن فقال هذا الفرس بثلاثمائة درهم فقال جرير لصاحبه فرسك خير من ذلك أتبيعه بخمسمائة درهم ثم انه لم يزل يزيده مائة فمائة وصاحبه يرضى وجرير يقول فرسك خير من ذلك إلى أن بلغ به ثمانمائة درهم فاشتراه بها فقيل له في ذلك فقال إني بايعت رسول الله على النصح لكل مسلم
زياد بن علاقة الراوي عن جرير هو بكسر العين المهملة وبالقاف ومن شيوخ مسلم في حديث جرير سريج بن يونس وهو بالسين المهملة وبالجيم وكان من عباد الله الصالحين
ويعقوب بن إبراهيم الدورقي بالدال المهملة المفتوحة وبالقاف هو منسوب إلى دورق بلدة بفارس أو غيرها
وقيل سبب نسبته هذه صنعة قلانس منسوبة إلى هذه البلدة تعرف بالدورقية
وقيل سببها لبس قلانس طوال تعرف بالدورقية


" صفحة رقم 224 "
وورد عن أخيه أحمد أنه قال كان الشبان إذا نسكوا في ذلك الزمان سموا الدوارقة وكان أبي منهم والله أعلم
وفي إسناده سيار عن الشعبي بسين مهملة في أوله ثم ياء مثناة من تحت مشددة وليس بسيار بن سلامة أبي المنهال وإنما هو سيار بن أبي سيار واسمه وردان أبو الحكم العنزي والله أعلم
قول مسلم قال يعقوب في روايته قال حدثنا سيار قلت فيه فائدة بها يصح هذا الإسناد ويعرف اتصاله لأن الراوي فيه عن سيار هشيم وهشيم أحد المدلسين والمدلس لا يحتج من حديثه إلا بما قال فيه حدثنا أو غيره من الألفاظ


" صفحة رقم 225 "
المبينة لسماعه والله أعلم
حديث أبي هريرة أن رسول الله قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن إلى آخره
المراد به نفي كمال الإيمان عنه لا نفي أصل الإيمان وهو من الألفاظ النافية التي تطلق في اللغة على الشيء عند انتفاء معظمه مع وجود أصله ويراد بها نفي كماله لا نفي أصله ومن ذلك لا عيش إلا عيش الآخرة ولا عمل إلا بالنية


" صفحة رقم 226 "
ويفيد أن الفاسق لا يطلق عليه اسم المؤمن ويقال فيه مؤمن ناقص الإيمان وذلك أن الأصل أن اسم الشيء إنما يطلق على الكامل منه والناقص منه يذكر به بقيد يشعر بنقصه وأيضا فصفة المؤمن صفة مدح غالية لا تليق بالفاسق
وفيما ذكرناه مع حديث أبي ذر المتفق على صحته الحاكم بأن المسلم لا بد أن يدخل الجنة وإن زنى وإن سرق وغير ذلك ما يدرأ احتجاج الخوارج والمعتزلة بهذا الحديث وللعلماء فيه كلام متشعب قد أوردت لبابه موضحا والله المحمود وهو أعلم
وأما قوله وكان أبو هريرة يلحق معهن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم
فقد روى الحديث أبو نعيم الحافظ في مخرجه على كتاب مسلم من حديث همام بن منبه وفيه والذي نفس محمد بيده لا ينتهب أحدكم وهذا مصرح برفعه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
ولم نستغن عن ذكر هذا بأن البخاري رواه من حديث الليث بإسناده الذي ذكره عنه مسلم معطوفا فيه ذكر النهبة على ما بعد قوله قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نسقا من غير فصل بقوله وكان أبو هريرة يلحق معهن وذلك مراد مسلم بقوله واقتص


" صفحة رقم 227 "
الحديث يذكر مع ذكر النهبة ولم يذكر ذات شرف
وقوله يذكر وقع من غير هاء الضمير فإما أن يقال حذفها مع إرادتها وإما أن يقرأ يذكر بضم أوله وفتح الكاف على ما لم يسم فاعله على أنه حال أي اقتص الحديث مذكورا مع ذكر النهبة فإنما لم نكتف بهذا في الاستدلال على كون ذكر النهبة من قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه قد يعد ذلك من قبيل المدرج في الحديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من كلام بعض رواته استدلالا بقول من فصل فقال وكان أبو هريرة يلحق معهن على ما عرف مثله في نوع المدرج الذي بيناه في كتابنا في أنواع علوم الحديث
وما رواه أبو نعيم الحافظ يرتفع عن أن يتطرق إليه هذا الاحتمال وظهر بذلك أن قول أبي بكر بن عبد الرحمن وكان أبو هريرة يلحق معهن معناه يلحقها رواية لا من عند نفسه وكأن أبا بكر خصصها بذلك لكونه بلغه أن غيره لا يرويها وآية ذلك ما تراه من رواية مسلم الحديث من رواية يونس وعقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة وابن المسيب عن أبي هريرة من غير ذكر النهبة


" صفحة رقم 228 "
ثم إن في رواية عقيل رواية ابن شهاب لذكر النهبة عن أبي بكر بن عبد الرحمن نفسه
ورواها في رواية يونس عن عبد الملك بن أبي بكر عنه فكأنه سمع ذلك من ابنه عنه ثم سمعه منه نفسه
وأما ما ذكره مسلم من رواية الأوزاعي عن ابن شهاب عن ابن المسيب وأبي سلمة وأبي بكر جميعا مع ذكر النهبة فكأنه إدراج من الأوزاعي أو من الراوي عنه
ومن أنواع المدرج أن يروي الحديث جماعة ولأحدهم فيه زيادة يختص بها فيدرجها بعض الرواة على رواية الجميع من غير فصل وبيان وذلك وغيره من أنواع المدرج مما لا يجوز للراوي تعمده فافهم كل ذلك والحظه فإنه مما عز مدركه من هذا الشأن والله الهادي أعلم
وقوله ذات شرف هو في الرواية المعروفة بالشين المعجمة المفتوحة أي ذات قدر كبير وقيل أي ذات استشراف يستشرف الناس لها ناظرين إليها رافعين إليها أبصارهم كما بينه آخرا
وعن أبي إسحاق الحربي أنه رواه بالسين المهملة وبه قيده بعضهم في كتاب مسلم ومعناه أيضا ذات قدر كبير والله أعلم


" صفحة رقم 229 "
ذكر مسلم حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر
وحديث أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان
وفي رواية وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم
هذا مشكل من حيث أن هذه الخصال قد توجد في المسلم المصدق فاختلف العلماء في تأويله فقيل إنما ورد ذلك في منافقي زمان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة ونقل


" صفحة رقم 230 "
ذلك عن عطاء بن أبي رباح في طائفة من السلف والخلف
قلت وهذا يأباه قوله ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق فإن نفاق أولئك كان نفاق كفر غير متبعض هذا التبعيض
وقيل المراد به النفاق اللغوي الذي هو إظهار خلاف المضمر
وقال أبو عيسى الترمذي إنما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل وإنما كان نفاق التكذيب على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
وهذا الذي نختاره ونزيده بيانا فنقول النفاق نفاقان نفاق الكافر ونفاق المسلم ويشتركان في أن كل واحد منهما إسرار سوء مع إظهار خلافه واشتقاقه من النفق وهو السرب الذي يستتر فيه أو من نافقاء اليربوع وهي إحدى منافذ جحرته يدع عليها قشرا رقيقا من التراب فإذا طلب من المنافذ الأخر الظاهرة دفع برأسه ذلك الرقيق من التراب وخرج ونجا فباطنها نافذ على خلاف ظاهرها
ومما يدل على أن من النفاق ما قد يوجد في المسلم الموقن المصدق حديث ابن عمر رضي الله عنهما إن ناسا قالوا إنا ندخل على سلطاننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم قال كنا نعد هذا نفاقا في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أخرجه البخاري منفردا به عن مسلم
ومثل هذا معدود في قبيل المرفوع المسند


" صفحة رقم 231 "
أخبرني بقراءتي الشيخ أبو النجيب إسماعيل بن عثمان بن القارىء النيسابوري وغيره قال إسماعيل أخبرنا الشريف أبو تمام أحمد بن محمد بن المختار قراءة عليه وأنا حاضر قال أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة قال أخبرنا أبو الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن الزهري أخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد الفريابي قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو أسامة عن أبي الأشهب قال قال الحسن من النفاق اختلاف اللسان والقلب واختلاف السر والعلانية واختلاف الدخول والخروج
وبه عن جعفر الفريابي وكان حافظا قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري قال قال رجل اللهم أهلك المنافقين قال حذيفة لو هلكوا ما انتصفتم من عدوكم
وبه عن الفريابي حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب قال دخل عمر بن عبد العزيز على أبي قلابة يعوده فقال يا أبا قلابة تشدد ولا تشمت بنا المنافقين
إذا عرف ذلك نفى حديث عبيد الله بن عمرو الحكم بأنه يصير منافقا تاما فيه هذا النفاق بأربع خصال


" صفحة رقم 232 "
وحديث أبي هريرة يقتضي ثبوت ذلك بثلاث خصال منها الخصلتان الأوليان والثالثة خصلة الخيانة ولم تذكر هذه الخصلة في ذلك الحديث
وأقيمت في هذا الحديث مقام الخصلتين الأخريين خصلتي الغدر والفجور عند الخصام ولا تنافي في ذلك إذ قد يكون للشيء الواحد علتان وإمارتان وأكثر وقد روينا من غير وجه حديث الثلاث بمثل لفظ حديث الأربع ثلاث من كن فيه فهو منافق
ولا منافاة بين قوله في الرواية الأخرى من علامات المنافق ثلاثة لأن الثلاث وإن استقلت بإثبات صفة المنافق التامة فهناك أوصاف أخر من قبيلها فدخول حرف التبعيض كان لذلك والله أعلم
قوله خلة من نفاق هي بفتح الخاء أي خصلة
وقوله فجر أي مال عن الحق وقال الباطل والكذب وأصل الفجور الميل عن القصد
قوله آية المنافق أي علامته والله أعلم


" صفحة رقم 233 "
قوله أخبرني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة هي بضم الحاء وفتح الراء المهملتين وبعدها قاف هي بطن من جهينة
وعبد الرحمن منسوب إلى ولائهم
وعقبة بن مكرم العمي فمكرم بضم الميم وإسكان الكاف وفتح الراء
والعمي بفتح العين المهملة وتشديد الميم نسب إلى بني العم قبيل من تميم
أبو زكير يحيى بن محمد بضم الزاي على مثال زهير
وبلغنا عن أبي الفضل الفلكي الحافظ أن أبا زكير لقب وكنيته أبو محمد والله أعلم


" صفحة رقم 234 "
حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أيما امرىء قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه
فيه إشكال من حيث أن المسلم المصدق لا يكفر عند أهل الحق بهذا وأمثاله فمن أهل العلم من حمله على المستحيل لذلك
ومنهم من قال معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه إذا لم يكن كما قال بكذبه عليه
وهذان الوجهان مباعدان لظاهر الحديث
ومنهم من حمله على الخوارج المكفرين للمؤمنين وهذا يأباه كون الصحيح أن الخوارج لا يكفرون وإن كفروا فلا فرق في تكفيرهم بين أن يكون المقول له ذلك كافرا أو لا يكون
فأقول والله أعلم إن لم يكن أخوه كافرا كما قال رجع عليه تكفيره فليس الراجع إليه هو الكفر بل التكفير وذلك لأن أخاه إذا كان مؤمنا وقد جعله هو كافرا مع أن المؤمن ليس بكافر إلا عند من هو كافر من يهودي أو نصراني أو غيرهما فقد لزم من ذلك كونه مكفرا لنفسه ضرورة لتكفيره من لا يكفره إلا كافر ويكون الضمير في قوله فقد باء بها بوصمة التكفير ومعرته أي أنها لاصقة بأولاهما بها وهو المقول له إن كان كما قيل وإلا فالقائل


" صفحة رقم 235 "
وهذا معنى صحيح رائق غير مباعد لظاهر الحديث فإن يكن قد قاله أحد سبق فأحرى له وإلا فهو مما تركه الأول للآخر ولله الحمد كله وهو أعلم
ثم أقول يتجه فيه معنى آخر مطرد في سائر الأحاديث القاضية بالكفر فيما ليس في نفسه كفرا وهو أن ذلك يؤول به إلى الكفر إذا لم يتب توبة ماحية لجرمه ذلك إذ المعصية إذا فحشت جرت بشؤمها إلى الكفر ولذلك شواهد ووصف الشيء بما يؤول إليه سائغ شائع من ذلك قول الله تبارك وتعالى ( إنك ميت وإنهم ميتون ( والله أعلم
وقد روينا في بعض روايات هذا الحديث في مخرج أبي عوانة الإسفراييني الحافظ على كتاب مسلم فإن كان كما قال وإلا فقد باء بالكفر
وفي رواية أخرى أنه إذا قال لأخيه يا كافر وجب الكفر على أحدهما
فهذا إن لم يكن من عبارة بعض الرواة رواية منه بالمعنى على ما فهمه مع أنه ليس الأمر على ما فهمه كما وقع في كثير من رواياتهم فالوجه الأخير حينئذ هو الراجح المختار والله أعلم
قوله باء بها أحدهما معناه عند بعض أهل اللغة احتملها وعند بعضهم معناه رجع بها والله أعلم
قوله ( صلى الله عليه وسلم ) في حديث أبي ذر ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا


" صفحة رقم 236 "
كفر أي انتسب إلى غير أبيه واتخذه أبا
وقوله كفر يتجه فيه ما ذكرناه ووجه آخر وهو أنه أراد به كفر الإحسان كما في قوله وتكفرن العشير وهو الزوج أي إحسانه إليها وقوله من ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار فقوله فليس منا يقال إن معناه ليس مهتديا بهدينا ولا مستنا بسنتنا
وقلت هذه عبارة عن التبرؤ منه أي نحن بريئون منه
وقوله وليتبوأ مقعده أي يتنزل منزله منها والمختار أنه خبر بلفظ الأمر أي قد تبوأ كما في قوله إذا لم تستح فاصنع ما شئت


" صفحة رقم 237 "
أي من لم يستح صنع ما شاء
وقوله من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه هذا الإستثناء واقع على المعنى وتقريره ما يدعوه أحد كذلك إلا حار عليه أي رجع عليه ويترجح النصب في قوله عدو الله على تقرير يا عدو الله والله أعلم
ابن بريدة المذكور في إسناد الحديث أبي ذر هو عبد الله بن بريدة لا سليمان بن بريدة
قول أبي عثمان وهو النهدي لما ادعى زياد هو بضم ادعى على ما لم يسم فاعله
وشاهدته بخط الحافظ أبي عامر العبدري ادعى بالفتح على أن زيادا هو الفاعل للدعوة
وزياد هذا هو المعروف بزياد بن أبي سفيان ويقال فيه زياد بن أبيه وزياد بن


" صفحة رقم 238 "
أمه ادعاه معاوية بن أبي سفيان وألحقه بأبيه أبي سفيان وكان قبل ذلك يعرف بزياد ابن عبيد الثقفي وكان أخا أبي بكرة نفيع بن الحارث لأمه وهذا هو السبب في قول أبي عثمان النهدي لأبي بكرة ما هذا الذي صنعتم وإلا فأبو بكرة ممن أنكر ذلك وهجر زيادا وآلى أن لا يكلمه أبدا والله أعلم
قول سعد سمع أذني من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو بخط الحافظ العبدري وفي رواية أبي الفتح السمرقندي عن عبد الغافر أذناي مثنى مرفوعا وهو فيما يعتمد من اصل الحافظ أبي القاسم العساكري وغيره بغير ألف التثنية وسمع على هذا بكسر الميم على لفظ الفعل الماضي وهكذا ضبطه من المغاربة القاضي الحافظ أبو علي ابن سكرة وضبطه منهم بعض أهل الضبط بإسكان الميم على أنه مصدر مضاف إلى الأذن أو الأذنين ثم منهم من نصبه ومنهم من رفعه
قال سيبويه العرب تقول سمع أذني زيدا يقول ذلك بالرفع والله أعلم
وقوله في الرواية الأخرى سمعته أذناي ووعاه قلبي محمدا نصب محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) بالفعل الأول وهو قوله سمعته أذناي والله أعلم
قول مسلم حدثنا محمد بن بكار وعون بن سلام قالا حدثنا محمد بن طلحة ح وحدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا


" صفحة رقم 239 "
شعبة كلهم عن زبيد عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سباب المسلم فسوق وقتاله كفر
فيه وجوه تقدم التنبيه عليها
أحدهما إنه كفر من المستحل
والثاني إنه كفر بنعمة الإسلام الموجب للأخوة والألفة
والثالث إنه آيل إلى الكفر ومقرب بشؤمه منه
ووجه آخر وهو أن المراد بكونه كفرا كونه فعل أهل الكفر
وقول مسلم كلهم عن زبيد كذا وقع وإنما هم اثنان شعبة ومحمد بن طلحة وهو ابن مصرف فكأنه سبق القلم من كلاهما إلى كلهم فإن استعمال ذلك في الاثنين بعيد


" صفحة رقم 240 "
وزبيد هذا هو ابن الحارث اليامي الهمداني بضم الزاي المنقوطة وبعدها باء موحدة ويشتبه بزييد بيائين تصغير زيد وهو زييد بن الصلت إلا أنه لا ذكر له في واحد من الصحيحين وله ذكر في الموطأ ولا ذكر للأول في الموطأ والله أعلم
قوله ( صلى الله عليه وسلم ) لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض
يتوجه فيه نحو الوجوه الأربعة التي ذكرناها آنفا ووجه خامس وهو حمله على حقيقة الكفر فيكون ذلك حضا لهم على الثبات على الإيمان ونهيا لهم عن الردة بعده ( صلى الله عليه وسلم )
ووجه سادس حكاه الخطابي وهو أن معنى الكفار فيه المتكفرون بالسلاح يقال تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه فكفر به نفسه أي سترها
قلت وهكذا يعتضد بما ذكره الأزهري في تهذيب اللغة له من أنه يقال


" صفحة رقم 241 "
للابس السلاح كافر
وروي عن ابن السكيت انه قال إذا لبس الرجل فوق درعه ثوبا فهو كافر قال وكل ما غطى شيئا فقد كفره ومنه قيل لليل كافر والله أعلم
ثم إن ضم الباء من قوله يضرب أوجه وأجرى على الوجوه المذكورة في تفسير الكفر فيه
وإسكان الباء على أن يكون جوابا للنهي وقد قيل به وليس بذاك والله أعلم وفي رواية ابن عمر رضي الله عنهما أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ويحكم أو قال ويلكم لا ترجعوا
ففي ويح وويل أقوال كثيرة من عيونها قول الحسن رضي الله عنه ويح كلمة رحمة
وقال صاحب كتاب العين ويح يقال إنه رحمة لمن تنزل به بلية وذكر


" صفحة رقم 242 "
الأزهري في تهذيبه عن أبي السميدع وغيره أن ويحك وويلك وويسك بمعنى واحد
وذكر الهروي أبو عبيد في غريبيه عن سيبويه أنه قال ويح زجر لمن اشرف على هلكة وويل لمن وقع في الهلكة
واختار الأزهري وصاحبه الهروي الفرق بينهما بأن ويلا يقال لمن وقع في هلكة أو بلية لا يترحم فيها عليه وويحا يقال لمن وقع في بلية يترحم فيها عليه والله أعلم
واقد بن محمد المذكور هو بالقاف وليس في الصحيحين وافد بالفاء والله أعلم
الذي في حديث أبي هريرة من أن الطعن في النسب والنياحة على الميت كفر
وما في حديث جرير رضي الله عنهما من أن أباق العبد كفر لا يخفى ما


" صفحة رقم 243 "
يتجه فيه من الوجوه المذكورة قبيل
وقول منصور بن عبد الرحمن الراوي لحديث جرير أكره أن يروى عني هاهنا بالبصرة كان سببه ما كان قد نبغ بالبصرة من المعتزلة ونحوهم كيلا يحتجوا به على قولهم في أصحاب الكبائر
ومنصور بن عبد الرحمن خمسة وهذا منهم هو الغداني الأشل وقد اختلف في توثيقه ولم يخرج له البخاري شيئا وسائرهم لم يقدح فيهم فيما نعلم والله أعلم


" صفحة رقم 244 "
وفي حديث جرير الآخر أيما عبد أبق فقد برئت منه الذمة أي لا ذمة له حينئذ والذمة هاهنا يجوز أن تكون هي الذمة المفسرة بالذمام وهو الحرمة ويجوز أن تكون من قبيل ما جاء في قوله له ذمة الله وذمة رسوله أي ضمانه وأمانه ورعايته وكلأته ومن ذلك أن الآبق كان مصونا من عقوبة السيد له وحبسه فزال ذلك بإباقه والله أعلم
قوله في الرواية الأخرى إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة ليس مستند عدم القبول فيه عدم الصحة لكونه كافرا حيث يكون مستحلا كما ذكره صاحب المعلم ولا يلزم من عدم القبول عدم الصحة بل قد تثبت الصحة مع عدم القبول فصلاة الآبق غير مقبولة بنص هذا الحديث الثابت وذلك لاقترانها بمعصية تناسب أن ترد وسيلته ولا يجزىء على حسنه وهي لا محالة صحيحه لإتيانه بها بشروطها وأركانها المستلزمة للصحة ولا تناقض في ذلك ويظهر أثر عدم القبول في سقوط الثواب وأثر الصحة في سقوط القضاء وفي أنه لا يعاقب عقوبة تارك الصلاة وهذا معقول والله أعلم
أحاديث النهي عن الاستمطار بالأنواء أما متونها فقوله صلاة الصبح بالحديبية والحديبية الأثبت فيها تخفيف الياء الأخيرة منها


" صفحة رقم 245 "
روينا عن عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي قال حدثنا أبي قال حدثنا عمرو ابن سواد السرحي قال اختلف ابن وهب والشافعي في الحديبية فقال ابن وهب الحديبية بالتثقيل وقال الشافعي بالتخفيف قال أبي بالتخفيف أشبه
وروينا عن أبي سليمان الخطابي أن أصحاب الحديث يثقلونها وهي خفيفة
وقال القاضي الحافظ أبو الفضل اليحصبي بتخفيف الياء وضبطناها على المتقنين وعامة الفقهاء والمحدثين يشددونها قال وحكى إسماعيل القاضي عن ابن المديني أنه قال أهل المدينة يشددونها وأهل العراق يخففونها والله أعلم
قوله في إثر سماء كانت من الليل سبق غير بعيد أنه يقال فيه أثر بفتح الهمزة والثاء معا وبكسر الهمزة مع إسكان الثاء ووقع في الأصل المأخوذ عن الجلودي السمآء بالألف واللام وكذلك هو في أصل الحافظ أبي القاسم العساكري مضببا عليه وهو جائز على أن يكون قوله كانت مستأنفا لا صفة وهو


" صفحة رقم 246 "
في أصل الحافظ أبي حازم العبدوي وأصل أبي عامر العبدري بخطيهما سمآء منكرا وهو الأولى
والسمآء هاهنا المطر وكل ما علاك وأظلك فهو سمآء والسمآء المعروفة من المعروف أنها مؤنثة وقد تذكر وأما تأنيث السماء بمعنى المطر كما جاء في هذا الحديث ففي كتاب أبي حنيفة الدينوري في الأنواء إنه يقال للمطر سماء ألا ترى أنهم يقولون أصابتنا سمآء غزيرة
وفي كتاب التهذيب للأزهري السماء المطر والسماء أيضا اسم المطرة الجديدة يقال أصابتهم سماء وهذا يشعر بتخصيص التأنيث بهذه المطرة والله أعلم
قول الله تبارك وتعالى وتقدس فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب
والنوء في أصله ليس نفس الكوكب فإنه مصدر ناء النجم ينوء نوءا أي سقط وغاب وقيل أي نهض وطلع
وبيان ذلك أن ثمانية وعشرين نجما معروفة المطالع في أزمنة السنة كلها


" صفحة رقم 247 "
وهي المعروفة بمنازل القمر الثمانية والعشرين يسقط في كل ثلاث عشرة ليلة منها نجم في المغرب مع طلوع الفجر ويطلع آخر يقابله في المشرق من ساعته فكان أهل الجاهلية إذا كان عند ذلك مطر ينسبونه إلى الساقط الغارب منهما
وقال الأصمعي إلى الطالع منهما قال أبو عبيد ولم أسمع أن النوء السقوط إلا في هذا الموضع
ثم أن النجم نفسه قد يسمى نوءا تسمية للفاعل بالمصدر قال أبو إسحاق الزجاج في بعض أماليه الساقطة في المغرب هي الأنواء والطالعة في المشرق هي البوارح
إذا وضح هذا ففي كفر من قال مطرنا بنوء كذا وكذا وجهان أحدهما أنه كفر بالله تعالى سالب للإيمان وهذا ظاهر لفظ الحديث المذكور وإنما ذلك فيمن قال ذلك معتقدا أن الكوكب مدبرا منشىء للمطر كما كان بعض أهل الجاهلية يعتقده وإلى هذا الوجه ذهب أكثر العلماء أو كثير منهم والشافعي رضي الله عنه منهم
وعلى هذا من قال مطرنا بنوء كذا معتقدا أنه من الله تعالى وبرحمته وأن النوء إنما هو ميقات له وإمارة نظرا إلى التجربة والعادة ففي كراهة ذلك منه خلاف وما أحسن قول أبي هريرة رضي الله عنه الذي رويناه عن مالك في موطئه أنه بلغه أن أبا هريرة كان إذا أصبح وقد مطر الناس يقول مطرنا بنوء الفتح ثم يتلو هذه الآية ) ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها (
الوجه الثاني إن ذلك كفر بنعمة الله تعالى لا كفر به وذلك لاقتصاره على إضافة الغيث إلى الكوكب ويدل على هذا لفظ حديث أبي هريرة المذكور في


" صفحة رقم 248 "
الكتاب ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين الحديث
وما بعده من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر الحديث والله أعلم
ثم أن قوله من نعمة فيه تقصير من الراوي من حيث اللفظ والمراد به خصوص نعمة الغيث بدلالة الرواية الأخرى المذكورة بعده
وقوله يقولون الكوكب وبالكوكب قد روينا الثاني دون الأول بصيغة الجمع وكلاهما في الأصل الذي بخط الحافظ أبي عامر العبدري من بين أصولنا بصيغة الواحد والله أعلم
قول ابن عباس رضي الله عنهما فنزلت هذه الآية ) فلا أقسم بمواقع النجوم ( حتى بلغ ) وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ( فيه إشكال يزول بالتنبيه على أنه ليس مراده أن جميع هذا نزل في قولهم في الأنواء كما توهمه القاضي عياض على ما بلغنا عنه فإن الأمر في معنى ذلك وتفسيره يأبى ذلك وإنما النازل من ذلك في ذلك قوله ) وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ( والباقي نزل في غير


" صفحة رقم 249 "
ذلك ولكن اجتمعا في وقت النزول فذكر الجمع من أجل ذلك ومما يدل على هذا أن في بعض الروايات عن ابن عباس في ذلك الاقتصار على هذا القدر فحسب ثم إن معنى قوله سبحانه ) وتجعلون رزقكم ( عند طائفة من المفسرين وتجعلون شكركم تكذيبكم بأن الرازق هو الله تعالى أي تجعلون التكذيب عوض الشكر وتكذيبهم هو قولهم مطرنا بنوء كذا وكذا
روى ابن جرير بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رفعه قال ) وتجعلون رزقكم ( قال شكركم أنكم تكذبون قال يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا أخرجه الترمذي بلفظ هذا أدل منه على ما ذكرناه وقال هذا حديث حسن غريب
وحكى ابن جرير عن الهيثم بن عدي إن من لغة أزد شنوءة ما رزق فلان بمعنى ما شكر
وقال آخرون منهم الأزهري معناه وتجعلون شكر رزقكم فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه والله أعلم
وأما أسانيدها فإن الحديث الأول منها أدخل بعضهم في إسناده الزهري بين صالح بن كيسان وبين عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وهو كذلك في نسخة أبي العلاء بن ماهان بكتاب مسلم


" صفحة رقم 250 "
وكأن قائل ذلك اغتر بكثرة رواية صالح بن كيسان عن الزهري فاستبعد روايته عن شيخ الزهري عبيد الله
وذلك غلط فإن صالح بن كيسان قد روى هذا الحديث عن عبيد الله نفسه من غير واسطة وصالح أسن من الزهري وقد ذكر يحيى بن معين أنه سمع من عبدالله بن عمر ورأى ابن الزبير والله أعلم
عمرو بن سواد العامري شيخ مسلم وتفرد به
هو ابن سواد بدال في آخره والواو منه مشددة قطع به عبد الغني بن سعيد المصري بلديه وأبو نصر بن ماكولا وغيرهما
ومايز الخطيب أبو بكر بينه وبين أبي جد اليسر كعب بن عمرو بن عباد بن عمرو بن سواد الصحابي الأنصاري الخزرجي البدري آخر أهل بدر


" صفحة رقم 251 "
وفاة فذلك بتخفيف الواو وهذا بتشديدها والله أعلم
أبو زميل عن ابن عباس هو بضم الزاي المنقوطة وبياء ساكنة واسمه سماك بكسر السين ابن الوليد الحنفي اليمامي روى له مسلم دون البخاري وقد قال ابن عبد البر أجمعوا على أنه ثقة والله أعلم
حديث أنس في حب الأنصار الراوي له عنه عبد الله بن عبد الله بن جبر بتكبير عبد في اسمه واسم أبيه وجده جبر بالجيم والباء الموحدة والله أعلم


" صفحة رقم 252 "
البراء بن عازب بتخفيف الراء والمعروف فيه المد حفظت فيه عن بعض أهل اللغة القصر والمد والله أعلم
زر هو بكسر الزاي وتشديد الراء وهو ابن حبيش عن علي رضي الله عنه والذي فلق الحبة وبرأ النسمة
فقوله فلق الحبة أي شقها بالنبات


" صفحة رقم 253 "
وبرأ بالهمز أي خلق
والنسمة هي الإنسان وحكى الأزهري عن بعضهم أن النسمة هي النفس وإن كل دابة في جوفها روح فهي نسمة والله أعلم
قوله فقالت امرأة منهن جزلة وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار
فقوله جزلة أي ذات عقل ورأي
قال ابن دريد الجزالة الوقار والعقل
وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) تكثرن اللعن وتكفرن العشير فالعشير في الأصل المعاشر وهو ها هنا الزوج وهذا قاض بأن نفس إكثار اللعن ونفس كفرهن إحسان الأزواج من الكبائر


" صفحة رقم 254 "
أما اللعن فمن أعظم الجنايات القولية وقد ثبت عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أن لعن المؤمن كقتله
وأما كفرانهن إحسان الزوج فقد كان يمكن أن يقال ليس هو نفسه السبب في ذلك بل ما يصطحبه من معصية الزوج ونحو ذلك لولا تفسيره ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك في الحديث الآخر بقوله لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط
وقوله فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل أي هذا أمارة نقصان العقل أو أثره


" صفحة رقم 255 "
ثم إن ما في هذا الحديث من الذكر نقصان الدين الدال على إثبات نقصان الإيمان وزيادته وما فيه من استعمال لفظ الكفر لا في الكفر السالب للإيمان هو السبب في إيراده في كتاب الإيمان والله اعلم
ثم إن في المقبري المذكور في إسناد حديث إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو عن المقبري عن أبي هريرة كلاما ونظرا فذكر الحافظ أبو علي الغساني الجياني عن أبي مسعود الدمشقي أنه أبو سعيد المقبري والد سعيد قال أبو علي وهذا إنما هو في رواية إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو
وقال أبو الحسن الدارقطني وقول سليمان بن بلال أصح
قلت رواه أبو نعيم الأصبهاني الحافظ في مخرجه على كتاب مسلم من وجوه مرضية عن إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو عن سعيد بن أبي سعيد المقبري هكذا مبينا
لكن رويناه في مسند أبي عوانة المخرج على صحيح مسلم من طريق إسماعيل بن جعفر عن أبي سعيد ومن طريق سليمان بن بلال عن سعيد كما سبق عن الدارقطني فالاعتماد عليه إذا والله أعلم
حديث أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله وفي رواية يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود


" صفحة رقم 256 "
فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار
فقوله قرأ السجدة أي آية السجدة
وقوله يا ويلي يجوز من حيث اللغة بكسر اللام وفتحها على ما عرف في نظائره ومن احتج بهذا الحديث على وجوب سجود التلاوة لما فيه من التشبيه بسجوده لآدم وقد كان واجبا فمن جوابه إن التشبيه وقع في مطلق السجود لا في خصوص سجود التلاوة وتارك سجود التلاوة غير تارك مطلق السجود ولذلك لم يستوجب تاركها ما استوجبه إبليس لعنه الله بترك السجود من النار وغيرها والله أعلم
وإيراد هذا وحديث تارك الصلاة بعده في كتاب الإيمان لبيان أن من الأفعال ما تركه يوجب حقيقة الكفر أو اسم الكفر والله أعلم
ما ذكره من حديث جابر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة كذا وقع في كتاب مسلم بالواو العاطفة للكفر على الشرك على ما شهدت به أصولنا
وهو في مخرج أبي نعيم الحافظ على كتاب مسلم بحرف أو وكذا رويناه من مخرج أبي عوانة الإسفراييني عليه وبين الشرك والكفر فرق ما


" صفحة رقم 257 "
بين الأخص والأعم فكل شرك كفر وليس كل كفر شركا من حيث الحقيقة
والصحيح ومذهب الأكثرين إن ترك الصلاة لا يوجب حقيقة ذلك بل اسم الكفر فحسب بالمعنى الذي سبق قريبا بيان وجهه ومنها أن المراد بين الرجل وبين مشابهة أهل الشرك ترك الصلاة وذاك أن ترك الصلاة شأن أهل الكفر وهو من أخص معاصيهم التي وقع بها التمايز بينهم وبين المسلمين وعلى هذا تقرب رواية من رواه بحرف الواو والله أعلم


" صفحة رقم 258 "
وروى مسلم حديث أبي هريرة سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أي الأعمال أفضل قال إيمان الله قيل ثم ماذا قال الجهاد في سبيل الله قيل ثم ماذا قال حج مبرور وفي رواية قال إيمان بالله ورسوله
ثم حديث أبي ذر قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال الإيمان بالله والجهاد في سبيله الحديث


" صفحة رقم 259 "
ثم حديث عبد الله بن مسعود سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أي العمل أفضل قال الصلاة لوقتها قال قلت ثم أي قال بر الوالدين قال ثم قال الجهاد في سبيل الله الحديث وفي رواية قال قلت يا نبي الله أي الأعمال أقرب إلى الجنة قال الصلاة على مواقيتها قلت وماذا يا نبي الله قال بر الوالدين قلت وماذا يا نبي الله قال الجهاد في سبيل الله
وفي رواية أخرى عن ابن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال أفضل الأعمال أو العمل الصلاة لوقتها وبر الوالدين
القول في المشكل من متون هذه الأحاديث قوله إيمان بالله فيه جعل للإيمان من جملة الأعمال والمراد به والله أعلم
التصديق الذي هو من عمل القلب أو النطق بالشهادتين الذي هو من عمل اللسان وليس المراد به مطلق عمل الجوارح الصالحة وإن درجت تحت اسم الإيمان لما سبق من الأحاديث ولغيرها بدلالة قوله في الرواية الثانية إيمان بالله ورسوله فإن الإيمان معدى بحرف الياء لا سيما مع ذكر الرسول ظاهر في التصديق أو القول المعبر عنه وبدلالة أنه جعله قسيما للجهاد والحج مع كونهما من أخص تلك الأعمال ثم إن من المعضلات أنه في حديث أبي هريرة جعل الأفضل الإيمان ثم


" صفحة رقم 260 "
الجهاد ثم الحج
وفي حديث ابن مسعود جعل الأفضل الصلاة ثم بر الوالدين ثم الجهاد وما سبق من حديث أبي موسى الأشعري أي الإسلام أفضل قال من سلم المسلمون من لسانه ويده يوجب أن هذه السلامة هي الأفضل وحديث عثمان رضي الله عنه وعنهم خيركم من تعلم القرآن وعلمه يوجب أن هذا هو الأفضل في أشباه لهذا غير قليلة وقد لبثت دهرا لا يتضح لي فيه ما ارتضيه حتى وجدت صاحب المنهاج أبا عبد الله الحليمي وكان علامة وإماما لا يشق غباره قد حكى في ذلك عن شيخه الإمام العلامة أبي بكر القفال الشاشي وذكر أنه كان أعلم من لقيه من علماء عصره كلاما شافيا وقد اختصرته لاستشهاده فيه ببعض ما لا يسلم له ولخصته فتلخص منه وجهان أحدهما أن ذلك اختلاف جرى على حسب اختلاف الأحوال إذ قد يقال خير الأشياء كذا ولا يراد تفضيله في نفسه على جميع الأشياء بل يراد أنه خيرها في حال دون حال ولواحد دون آخر فقد يتضرر إنسان بكلام في غير موضعه فنقول ما شيء أفضل من السكوت ثم قد يتضرر بالسكوت في غير موضعه فنقول لا شيء أفضل من التكلم بحق ومما تبدلت فيه الأفضلية بتبدل الحال الصوم يوم عرفة فهو أفضل لغير الحاج والفطر فيه أفضل للحاج واستشهد في ذلك بأخبار منها عن ابن عباس رضي الله عنهما أن


" صفحة رقم 261 "
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال حجة لمن لم يحج أفضل من أربعين غزوة وغزوة لمن حج أفضل من أربعين حجة
الوجه الثاني أنه يجوز أن يقال أفضل الأعمال كذا والمراد من أفضل الأعمال كذا وخيركم من فعل كذا والمراد من خيركم كما يقال فلان أعقل الناس وأفضلهم ويراد أنه من أعقلهم وأفضلهم ومن ذلك ما روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال خيركم خيركم لأهله ومن المعلوم أنه لا يصير خير الناس مطلقا ومن ذلك قولهم أزهد الناس في العالم جيرانه مع أنه قد يوجد في غيرهم من هو أزهد منهم فيه
قلت وعلى هذا نقول في هذه الخصال المذكورة في هذه الأحاديث أما الإيمان منها فمعلوم بغير ذلك أنه الأفضل مطلقا فإنه الأصل
وأما الباقيات من الجهاد والصلاة والحج وبر الوالدين وغيرها فنقول كل واحد منها إنه أفضل الأعمال فحسب وهي متساوية في هذا الوصف ولهذا جاء منها بحرف الواو في بعض الروايات المذكورة ما جاء في غيرها بحرف ثم ولا يثبت بحرف ثم في ذلك تفضيل بعضها على بعض بل يكون ما تقتضيه ثم من الترتيب والتأخير مصروفا إلى الترتيب والتأخير في الذكر كما في قوله تبارك وتعالى ( فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا (


" صفحة رقم 262 "
وليس المراد به تأخير الإيمان عن الإطعام وأنشدوا في ذلك قل لمن ساد ثم ساد أبوه
ثم قد ساد قبل ذلك جده
وإنما تأخرت سيادة أبيه وسيادة جده في الذكر والله أعلم ولذلك شواهد غير ما ذكرناه والله أعلم
قوله حج مبرور قيل هو الذي لا يخالطه مأثم وقيل هو المقبول ثم من علامات القبول أن يزداد بعده خيرا والله أعلم
قوله تعين صانعا أو تصنع لأخرق الأخرق ها هنا هو الذي لا يحسن العمل والأخرق أيضا الذي لا رفق ولا سياسة له في أمره
والمعنى إذا رأيت من يحاول عملا فإن كان يحسنه فأعنه عليه وإن لم يحسنه فاعمله له
وقوله هذا تعين صانعا وقع في رواية هشام بن عروة المذكور في روايتنا من أصل الحافظ أبي القاسم الدمشقي برواية الفراوي وفي الأصل الذي بخط الحافظ أبي عامر برواية أبي الفتح السمرقندي صانعا بالصاد المهملة وبالنون وهو الصحيح في نفس الأمر ولكنه ليس رواية هشام بن عروة فإن هشاما إنما رواه بالضاد المعجمة من الضياع وهكذا جاء مقيدا بالمعجمة من غير هذا الوجه في كتاب مسلم في رواية هشام وأما الرواية الأخرى عن الزهري فتعين الصانع فهي بالصاد المهملة والنون وهي محفوظة عن الزهري كذلك وقد روي عنه أنه كان


" صفحة رقم 263 "
يقول صحف هشام وكذلك نسب الدارقطني وغيره هشاما إلى التصحيف فيه
وقد ذكر القاضي أبو الفضل عياض أنه بالضاد المعجمة في رواية الزهري لرواة كتاب مسلم إلا رواية أبي الفتح السمرقندي
وليس الأمر على ما حكاه في روايات أصولنا بكتاب مسلم ومنها أصل الحافظ أبي حازم العبدوي وأصل مأخوذ عن الجلودي فما قيد فيها في رواية الزهري إلا بالصاد المهملة على ما هو الصواب والله أعلم
قوله فما تركت أستزيده إلا إرعاء عليه كذا وقع من غير صرف أن وهو جائز
قوله إرعاء عليه بهمزة في أوله مكسورة وبالمد في آخره أي ابقاءا عليه كي لا أكثر عليه فأحرجه والله أعلم
القول في أسانيدها أبو مراوح الليثي هو بضم الميم وكسر الواو وبحاء مهملة ونسبه غير واحد من المصنفين الغفاري وقال فيه الحافظ أبو علي الغساني الغفاري ثم الليثي
قلت وهو في بعض رواياتنا لهذا الحديث بعينه الليثي وفي بعضها الغفاري وقد أبان أبو علي على أنهما لشخص واحد
قال ابن عبد البر أجمعوا على أنه ثقة وليس يوقف له على اسم واسمه كنيته والله أعلم
قال إلا أن مسلم بن الحجاج ذكره في الطبقات فقال اسمه سعد وذكره


" صفحة رقم 264 "
في الكنى ولم يذكر اسمه والله أعلم
حبيب مولى عروة هو بحاء مهملة مفتوحة والله أعلم
قوله الشيباني عن الوليد بن العيزار فالشيباني هذا هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان واسمه فيروز الشيباني مولاهم الكوفي والله أعلم
أبو يعفور عن الوليد بن العيزار قلت أبو يعفور هذا ينبغي أن يكون أبا يعفور الأصغر وهو عبد الرحمن بن عبيد نسطاس البكائي الثعلبي بالثاء المثلثة وإسكان العين
وأبو يعفور الأكبر يروي عن ابن عمر وأنس وكثير لم يرو عنهم أبو


" صفحة رقم 265 "
يعفور الأصغر واسمه وقدان ويقال فيه واقد ووقدان اكثر وكأنه لقب
ولهم أبو يعفور آخر ثالث واسمه عبد الكريم بن يعفور الجعفي البصري روى عنه قتيبة ويحيى بن يحيى وغيرهما وآباء يعفور هؤلاء كلهم ثقات والله أعلم
ابن العيزار بعين مهملة مفتوحة بعدها ياء مثناة من تحت ساكنة ثم زاي منقوطة ثم ألف ثم راء مهملة والله أعلم
ذكر مسلم أحاديث في الكبائر أعاذنا الله منها ومن سائر معاصيه آمين
كبائر الذنوب عظائمها وتعرف الكبيرة بأمور منها وجوب الحد وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب
وروي عنه لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار
ثم لا احصاء لعددها روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل أهي سبع فقال هي إلى سبعين وفي رواية إلى سبعمائة أقرب ومن أنكر انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر قائلا إنها بأسرها بالنظر إلى جلال الله تبارك


" صفحة رقم 266 "
وتعالى كبائر كلها قلنا له نعم هي كذلك ولكن بعضها أعظم من بعض وتنقسم باعتبار ذلك إلى ما تكفره الصلوات الخمس وإلى ما لا تكفره هي ونحو ذلك فسمي بعضها صغائر بالنسبة إلى ما فوقها وبالنظر إلى تيسر محوها وتكفيرها ولا سبيل إلى إنكار ذلك من حيث المعنى ولا من حيث التسمية لتظاهر نصوص القرآن والسنة على ذلك ولشيوع ذلك عن السالفين والخالفين والله أعلم
ثم إن في حديث ابن مسعود أن أعظمها الشرك وهذا مستمر ثابت على إطلاقه وعمومه وفي حديث أنس أن أكبرها قول الزور أو قال شهادة الزور وهذا وإن احتمل أن يجعل شاملا للشرك فإنه قول وشهادة بأعظم الزور فظاهره أن المراد به شهادة الزور على خصم وعند حاكم فيحمل على أن المراد من أكبرها قول الزور على ما مهدنا سبيله في قوله أفضل الأعمال الصلاة
وهذا لأن قتل المؤمن عدوانا أعظم من شهادة الزور والله أعلم
قوله أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك
يطعم بفتح الياء أي يأكل وفيه إشارة إلى الوأد وإلى معنى قوله تعالى ) ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ( أي فقر
وقوله أن تزاني حليلة جارك أي امرأة جارك تزاني أفحش وأغلظ من تزني وهو مع امرأة الجار أفحش منه مع امرأة غيره والله أعلم


" صفحة رقم 267 "
قوله تعالى ( يلق أثاما ) أي جزاء إثمه وقال كثير من المفسرين أثام واد في جهنم من دم وقيح أعاذنا الله الكريم
عقوق الوالدين إيذاؤهما وقطع رحمهما وأصل العق القطع والشق قول شعبة أكبر ظني ضبطناه مصححا عليه بالباء الموحدة والله أعلم
قوله السبع الموبقات بالباء الموحدة المكسورة وبضم الميم أي


" صفحة رقم 268 "
المهلكات عافانا الله العظيم
أسانيدها عمرو بن شرحبيل وهو أبو ميسرة الهمداني من أفاضل أصحاب ابن مسعود رضي الله عنهم
وشرحبيل هو بضم الشين المثلثة وبعدها راء مهملة مفتوحة ثم حاء مهملة ساكنة ثم باء موحدة مكسورة ثم ياء ولام وهو اسم عجمي غير منصرف
سعيد بن إياس الجريري بضم الجيم منسوب إلى جرير بن عباد بضم العين وتخفيف الباء بطن من بكر بن وائل والله أعلم


" صفحة رقم 269 "
أحاديث ذكرها مسلم في ذم الكبر أعاذنا الله منه
أولها حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قال رجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة قال إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس
قوله من كان في قلبه مثقال ذرة كذا رويناه من أصل الحافظ أبي القاسم العساكري ومن أصل أبي عامر العبدري
وهو في أصل أبي حازم العبدوي والأصل المأخوذ عن الجلودي لا يدخل الجنة مثقال ذرة من كبر وهو بمعنى الأول أي لا يدخلها صاحب مثقال ذرة من كبر
وقوله وغمط الناس هو بالطاء المهملة في الأصول المذكورة هذه إلا في أصل العساكري فإنه أصلح فيه غمص بالصاد المهملة ولا يصح هذا الإصلاح ها هنا
بلغنا عن القاضي أبي الفضل عياض رحمه الله وإيانا إنه لم يروه عن جميع شيوخه ها هنا وفي كتاب البخاري إلا بالطاء وبالطاء ذكره أبو داود في مصنفه


" صفحة رقم 270 "
أيضا وذكر أبو عيسى الترمذي وغيره بالصاد والله أعلم
قوله بطر الحق معناه حجر الحق ترفعا عنه وتجبرا
وغمط الناس احتقارهم والإزراء بهم وغمصهم عيبهم والطعن عليهم فهما بمعنى واحد أو مقاربان يقال غمطه وغمطه بكسر الميم وفتحها والله أعلم
وأما قضاءه ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه لا يدخل الجنة فقد بلغنا فيه عن الإمام أبي سليمان الخطابي وجهان أحدهما أنه أراد كبر الكفر وهو الكبر عن الإيمان بدليل قوله في آخر الحديث ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان يقابل الإيمان بالكبر
والثاني أنه أراد أن كل من يدخل الجنة ينزع ما في قلبه من كبر وغل قلت كلا الوجهين بعيدان يأباهما سياق الحديث سؤالا وجوابا والظاهر أن المراد به مطلق التكبر عن الحق وعلى الناس ثم يجوز أن يكون المراد بقوله لا يدخل الجنة أنه لا يدخلها مع أهلها إذا فتحت أبوابها للمتقين
ويجوز أن يكون المراد أن ذلك جزاء كبره أن جازاه وقد لا يجازيه فيدخلها


" صفحة رقم 271 "
كرما منه وفضلا وعفوا وقد مهدنا فيما سبق السبيل في أمثال ذلك والله أعلم
وقوله إن الله جميل فمعنى جماله تبارك وتعالى أن كل أمره حسن حميد فله الأسماء الحسنى وصفات الجلال والكمال العليا كلها جمعاء ويجوز أيضا أن يكون جميل هذا بمعنى مجمل كما جاء سميع بمعنى مسمع ونحو ذلك والله أعلم
وقوله في الرواية الأخرى لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان أي لا يدخلها دخول الكافر وهو دخول الخلود ومما حفظناه قديما عن الإمام سهل الصعلوكي شيخ الشافعين بنيسابور أنه قال المسلم وإن دخل النار فلا يلقى فيها إلقاء الكافر ولا يلقى منها لقاء الكافر ولا يبقى فيها بقاء الكافر أو كما قال ولقد سبق لنا كلام في مثله وقوله حبة خردل من إيمان هو على ما تقرر من زيادة الإيمان ونقصانه وما أكثر دلائله من الكتاب والسنة وما أكثر القائلين به من العلماء بهما وبالحقائق جعلنا الله منهم
ثم إنه لا تكون تلك الحبة إلا القدر الكافي في الإخراج من حيز الكفر إلى حيز الإسلام والله أعلم
ما ذكره مسلم بإسناده عن ابن مسعود قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من مات


" صفحة رقم 272 "
يشرك بالله شيئا دخل النار قلت أنا ومن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة
هكذا وقع في روايتنا من أصل الحافظ أبي القاسم العساكري مصلحا فيه المرفوع في الشرك والموقوف من قول ابن مسعود في من لا يشرك وفي الأصل الذي بخط الحافظ أبي عامر العبدري بالعكس المرفوع في من لا يشرك
وهكذا حكاه الحميدي عن مسلم في جمعه بين الصحيحين وكذا رويناه في مخرج أبي عوانة الإسفراييني على كتاب مسلم من حديث أبي معاوية ورواه البخاري في صحيحه على الوجه الأول كما في أصل العساكري والله أعلم
وكلتا القضيتين قد قالهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كما رواه مسلم من حديث جابر لكن لم يكن ابن مسعود قد سمع الأخرى منه ( صلى الله عليه وسلم ) وكأنه أخذها من كتاب الله تعالى


" صفحة رقم 273 "
وعلى الجملة فلن نقول ذلك إلا توقيفا
وقوله في حديث جابر الموجبتان أي الخصلة الموجبة للجنة والخصلة الموجبة للنار والوجوب في ذلك واقع بالإضافة إلى العبد لا بالإضافة إلى الله تعالى المتعالي عن ذلك
وما في حديث أبي ذر من أن من مات لا يشرك دخل الجنة وإن زنا وإن سرق


" صفحة رقم 274 "
مثبت لأصل دخوله الجنة وإن كان بعد دخوله النار وذلك على ما تقرر من أنه لا مسلم أصلا يخلد في النار
وقوله على رغم أنف أبي ذر فالرغم بفتح الراء وبضمها أيضا
وقوله وإن رغم أنف أبي ذر بفتح الغين وبكسرها وأصله من الرغام بفتح الراء وهو التراب فمعناه إذا على ذل من أبي ذر من حيث وقوعه مخالفا له
وقيل على كراهة منه وإنما قال له ذلك لاستبعاده ذلك واستعظامه إياه وتصوره بصورة الكاره المانع وكأن ذلك من أبي ذر لشدة نفرته من معصية الله تعالى وأهلها والله أعلم
القول فيها من حيث علم الرجال والرواة
قوله فقال رجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا هذا القائل هو مالك بن مرارة الرهاوي فيما ذكره القاضي عياض السبتي وأشار إليه ابن عبد البر وهو ابن مرارة بضم الميم وراء مهملة مكررة وبهاء التأنيث
والرهاوي نسبة إلى قبيلة وبفتح الراء ذكره عبد الغني وجعله


" صفحة رقم 275 "
والرهاوي بالضم نسبة إلى المدينة التي بالجزيرة من المؤتلف والمختلف وفيه نظر ولم يذكره ابن ماكولا ومن شرط كتابه ذكره لو صح وفي صحاح اللغة رها بالضم حي من مذحج والنسبة إليه رهاوي والله أعلم
ولقد استقصى الحافظ أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال الأنصاري في ذلك فجمع فيه أقوالا من كتب شتى فقال هو أبو ريحانة واسمه شمعون ذكره ابن الأعرابي وقال علي بن المديني في الطبقات اسمه ربيعة بن عامر وكان بفلسطين ومات ببيت المقدس وقيل هو سواد بن عمرو الأنصاري ذكره ابن السكن
وقيل هو معاذ بن جبل ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب الخمول والتواضع له
وقيل هو مالك بن مرارة الرهاوي ذكره أبو عبيد في غريب الحديث
وقيل هو عبد الله بن عمرو بن العاص ذكره معمر في جامعه وقيل هو خريم بن


" صفحة رقم 276 "
فاتك الأسدي وقع ذكره في حديث الخشني من رواية محمد بن قاسم عنه والله أعلم قلت المذكور في ذلك في الغريب لأبي عبيد إنما هو ما رواه بإسناده عن ابن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه أتاه مالك بن مرارة الرهاوي فقال يا رسول الله إني قد أوتيت من الجمال ما ترى ما يسرني أن أحدا يفضلني بشراكين فما فوقهما فهل ذلك من البغي فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنما ذلك من سفه الحق وغمط الناس
فبين الحديثين من التفاوت ما يتمكن معه احتمال كون الرجل المذكور في الحديث الذي أورده مسلم غير مالك هذا ومثل هذا يقع فيما ألف في بيان الأسماء المبهمة مما ينبني على الحسبان والتوهم والله أعلم
أبان بن تغلب هو تغلب بتاء مثناة من فوق مفتوحة بعدها غين معجمة ساكنة
عن فضيل الفقيمي بفاء مضمومة ثم قاف مفتوحة ثم ياء مثناة من تحت ساكنة ثم ميم
منجاب بن الحارث بميم مكسورة ثم نون ساكنة ثم جيم وفي آخره باء موحدة


" صفحة رقم 277 "
أبو أيوب الغيلاني بغين معجمة مفتوحة
المعرور بن سويد هو بعين مهملة وراء مهملة مكررة
أحمد بن خراش بخاء معجمة
أبو الأسود الديلي هو ظالم بن عمرو منهم من يقول فيه الدؤلي بضم الدال وهمزة بعدها مفتوحة على مثال الجهني وهي نسبة إلى الدؤل بدال مضمومة ثم همزة مكسورة حي من كنانة لكن بفتح الهمزة في النسب كما قالوا في النسبة إلى نمر بكسر الميم نمري بفتح الميم
وهذا قد حاكاه السيرافي عن أهل البصرة
ووجدت عن أبي علي القالي منسوب إلى قالي قلا بليدة من بلاد خلاط البغدادي أنه حكى ذلك في كتاب البارع عن الأصمعي وسيبويه وابن السكيت والأخفش وأبي حاتم وغيرهم
وأنه حكى عن الأصمعي عن عيسى بن عمر انه كان يقول فيه أبو الأسود


" صفحة رقم 278 "
الدئلي بضم الدال وكسر الهمزة على الأصل وحكاه أيضا عن يونس وغيره عن العرب قال يدعونه في النسب على الأصل وهو شاذ في القياس
قلت إنما شذوذه عن قياس الشذوذ وهو غير شاذ بل قياس باعتبار الأصل
وذكر السيرافي عن أهل الكوفة أنهم يقولون فيه أبو الأسود الديلي بكسر الدال وياء ساكنة
وما حكاه السيرافي محكي عن الكسائي وأبي عبيد القاسم بن سلام ومحمد بن حبيب وصاحب كتاب العين كانوا يقولون في هذا الحي من كنانة إنه الديل بكسر الدال وياء ساكنة ويجعلونه على لفظ الديل الحي من عبد القيس
وأما الدول بضم الدال وواو ساكنة فحي من بني حنيفة والله أعلم
باب روى مسلم رحمه الله وإيانا حديث المقداد بن الأسود أنه قال يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا تقتله قال فقلت يا رسول الله إنه قطع يدي ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن


" صفحة رقم 279 "
تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال
فأخبرنا الفقيه المفتي أبو بكر القاسم بن عبد الله بن عمر الصفاري النيسابوري رحمه الله وإيانا قراءة عليه بها قال أخبرنا أبو الأسعد هبة الرحمن بن عبد الواحد ابن عبد الكريم بن هوازن القشيري قال أخبرنا أبو محمد عبد الحميد بن عبد الرحمن البحيري ح وأنبأنا الشيخ الراوية أبو المظفر عبد الرحيم بن الحافظ أبي سعد السمعاني المروزي رحمه الله وإيانا وعلى روايته المقابلة قال أخبرنا أبو البركات عبد الله بن محمد بن الفضل الفراوي أخبرنا أبو عمرو عثمان بن محمد المحمي


" صفحة رقم 280 "
قالا أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفراييني قال أخبرنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراييني الحافظ قال سمعت الربيع بن سليمان قال سمعت الشافعي يقول معناه ان يصير مباح الدم لا انه يصير مشركا كما كان مباح الدم قبل الإقرار
هذا في نفسه وإسناده عن الشافعي رضي الله عنه عزيز مليح وهو أحسن ما وجدناه مقولا في تفسيره والله أعلم
وقوله في الرواية الأخرى فلما أهويت لأقتله يقال أهوى إليه بالسيف أو غيره أي أماله إليه
ثم إن في الرواية الأولى المقداد بن الأسود
وفي الرواية الأخرى المقداد بن عمرو بن الأسود الكندي كان حليفا لبني زهرة وكلاهما صحيح ووجه اجتماعهما أنه نسب إلى الأسود وهو الأسود بن عبد يغوث الزهري لكونه تبناه في الجاهلية فلما أنزل الله تبارك وتعالى ( ادعوهم لآبائهم ( انتسب إلى أبيه وهو عمرو


" صفحة رقم 281 "
ثم لا يخفى عند هذا أن قوله إن المقداد بن عمرو ابن الأسود ليس ابن الأسود فيه صفة لعمرو بل صفة للمقداد وبدلا من قوله ابن عمرو تعريفا له بما اشتهر به وكانت نسبته إلى الأسود أكثر وأشهر من نسبته إلى عمرو فلهذا كان الصواب فيه أن ينون عمرو ويكتب فيه ابن الأسود بالألف في ابن ويجعل في إعرابه تابعا للمقداد لا لعمرو والله أعلم
وأما قوله كان حليفا لبني زهرة فذلك لمحالفته الأسود وهو من بني زهرة وقد ذكر ابن عبد البر وغيره أن الأسود مع تبنيه له حالفه أيضا
وأما نسبته الكندي ففيها إشكال من حيث أنه فيما ذكره أهل النسب بهراني صليبة من بهراء من قضاعة
والوجه المصحح لذلك ما ذكره أحمد بن صالح الحافظ المصري من أن أباه حالف كندة فنسب إليها
قلت فإذن هو بهراني ثم كندي ثم زهري رضي الله عنه
قوله عطاء بن يزيد الليثي ثم الجندعي هو بضم الجيم وبعدها نون ساكنة ثم دال مهملة مفتوحة ومنهم من يضمها ثم عين مهملة منسوب إلى == جندع بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة والله أعلم
ما وقع في رواية الجلودي في أسانيد هذا الحديث من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري سقط في رواية ابن ماهان وإسقاطه حسن لأنه ليس بمعروف على الوجه ذكره وفيه اضطراب وخلاف على الوليد وخلاف على الأوزاعي ويروى عن الأوزاعي عن إبراهيم بن مرة عن الزهري وقد بين الخلاف في ذلك الدارقطني في كتابه العلل والله أعلم
فرغ من تعليقه في الخامس والعشرين من شهر رمضان المعظم من سنة سبع وثلاثين وسبعمائة من أصل بخط الشيخ الإمام الحافظ شرف الدين عبد المؤمن الدمياطي رحمه الله
قال الشيخ شرف الدين في آخره آخر ما وجدته بخط تقي الدين ابن رزين على يدي العبد الفقير إلى الله تعالى أحمد بن أقش الحراني عفا الله عز وجل عنهما
الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وحسبنا الله ونعم الوكيل

=========

كتاب : القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد محمد بن علي بن محمد الشوكاني

كتاب : القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد محمد بن علي بن محمد الشوكاني    القول المفيد للشوكاني إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ون...