روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

Translate

الخميس، 19 مايو 2022

مجلد 28 و29. كتاب :البداية والنهاية الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

مجلد 28 و29. كتاب :البداية والنهاية الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي
" ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي على ومثلها " ثم قال: " يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه " ؟ وثبت في صحيح البخاري عن أنس أن عمر خرج يستسقي وخرج بالعباس معه يستسقي به، وقال اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، قال فيسقون (1)، ويقال إن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كانا إذا مرا بالعباس وهما راكبان ترجلا إكراما له.
قال الواقدي وغير واحد: توفي العباس في يوم الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من رجب، وقيل من رمضان سنة ثنتين وثلاثين، عن ثمان وثمانين سنة، وصلى عليه
عثمان بن عفان، ودفن بالبقيع وقيل توفي سنة ثلاث وثلاثين، وقيل سنة أربع وثلاثين، وفضائله ومناقبه كثيرة جدا.
عبد الله بن مسعود ابن غافل بن حبيب بن سمح (2) بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تيم ابن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر الهذلي، أبو عبد الرحمن حليف بني زهرة، أسلم قديما قبل عمر، وكان سبب إسلامه حين مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وهو يرعى غنما فسألاه لبنا فقال: إني مؤتمن، قال فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عناقا لم ينز عليها الفحل فاعتقلها ثم حلب وشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع " أقلص " فقلص، فقلت علمني من هذا الدعاء فقال: " إنك غلام معلم " (3)، الحديث.
وروى محمد بن إسحاق عن يحيى بن عروة عن أبيه: أن ابن مسعود كان أول من جهر بالقرآن بمكة، بعد النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت، وقريش في أنديتها قرأ سورة الرحمن علم القرآن، فقاموا إليه فضربوه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحمل نعليه وسواكه، وقال له إذنك على أن تسمع سوادي (4) ولهذا كان يقال له صاحب السواك والوساد، وهاجر إلى الحبشة ثم عاد إلى مكة ثم هاجر إلى المدينة، وشهد بدرا، وهو الذي قتل أبا جهل بعد ما أثبته إبنا عفراء، وشهد بقية المشاهد، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما " اقرأ علي " فقلت أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ فقال " إني أحب أن أسمعه من غيري " فقرأ عليه من أول سورة النساء إلى قوله * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " حسبك " وقال أبو موسى: قدمت أنا وأخي من اليمن وما كنا نظن إلا أن ابن مسعود وأمه من أهل
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء (باب: 3) ح (1010) فتح الباري 2 / 492.
(2) في ابن سعد شمخ.
وفي الاصابة: شخص بن قار.
وفي الاستيعاب: شمخ بن فان.
(3) أخرجه الامام أحمد في مسنده 1 / 379 والفسوي في المعرفة والتاريخ 2 / 537.
(4) العبارة في الاستيعاب: إذنك علي أن ترفع الحجاب وأن تستمع سوادي حتى أنهاك (انظر الاصابة 2 / 369 وهامشها 2 / 318 وابن سعد 3 / 154).
بيت النبي صلى الله عليه وسلم، لكثرة دخولهم بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال حذيفة ما رأيت أحدا أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه ودله وسمته من ابن مسعود، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله زلفى، وفي الحديث " وتمسكوا بعهد ابن أم عبد " وفي الحديث الآخر الذي رواه أحمد: عن محمد بن فضيل، عن مغيرة، عن أم حرسي عن علي أن ابن مسعود صعد شجرة يجتني الكبات فجعل الناس يعجبون من قدة ساقيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد " وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه - وقد نظر إلى قصره وكان يوازي بقامته الجلوس - فجعل يتبعه بصره ثم قال هو كنيف ملئ علما.
وقد شهد ابن مسعود بعد النبي صلى الله عليه وسلم مواقف كثيرة، منها اليرموك وغيرها، وكان قدم من العراق حاجا فمر بالربذة فشهد وفاة أبي ذر ودفنه، ثم قدم إلى المدينة فمرض بها فجاءه عثمان بن عفان عائدا، فيروى أنه قال له: ما تشتكي ؟ قال ذنوبي، قال فما تشتهي ؟ رحمة ربي، قال ألا آمر لك بطبيب ؟ فقال: الطبيب أمرضني، قال ألا آمر لك بعطائك ؟ - وكان قد تركه سنتين - فقال: لا حاجة لي فيه.
فقال: يكون لبناتك من بعدك، فقال أتخشى على بناتي الفقر ؟ إني أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من قرأ الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا " وأوصى عبد الله بن مسعود إلى الزبير بن العوام، فيقال إنه هو الذي صلى عليه ليلا، ثم عاتب عثمان الزبير على ذلك، وقيل بل صلى عليه عثمان، وقيل عمار، فالله أعلم.
ودفن بالبقيع عن بضع وستين سنة.
عبد الرحمن بن عوف ابن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة، أبو محمد القرشي الزهري، أسلم قديما على يدي أبي بكر، وهاجر إلى الحبشة وإلى المدينة، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وشهد بدرا وما بعدها، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى بني كلب وأرخى له عذبة بين كتفيه، لتكون أمارة عليه للامارة، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية
السابقين إلى الاسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى، ثم أحد الثلاثة الذين انتهت إليهم منهم، كما ذكرنا.
ثم كان هو الذي اجتهد في تقديم عثمان رضي الله عنه، وقد تقاول هو وخالد ابن الوليد في بعض الغزوات فأغلظ له خالد في المقال، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصفيه (1) " وهو في الصحيح.
وقال معمر عن الزهري: تصدق عبد الرحمن بن عوف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بشطر ماله
__________
(1) وأخرجه ابن ماجه في المقدمة ح (161) 1 / 57.
وفي زوائده: اسناده صحيح والمد: مكيال معروف ومعلوم، وهو رطل وثلث عند أهل الحجاز.
اربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألفا ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على خمسمائة راحلة في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة، فأما الحديث الذي قال عبد بن حميد في مسنده: ثنا يحيى بن إسحق، ثنا عمارة بن زاذان، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك أن عبد الرحمن بن عوف لما هاجر آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عثمان بن عفان (1) فقال له إن لي حائطين فاختر أيهما شئت، فقال: بارك الله لك في حائطيك، ما لهذا أسلمت، دلني على السوق، قال فدله فكان يشتري السمنة والاقيطة والاهاب، فجمع فتزوج فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال " بارك الله لك أولم ولو بشاة " قال فكثر ماله حتى قدمت له سبعمائة راحلة تحمل البر وتحمل الدقيق والطعام، قال: فلما دخلت المدينة سمع لاهل المدينة رجة، فقالت عائشة: ما هذه الرجة ؟ فقيل لها عير قدمت لعبد الرحمن بن عوف سبعمائة تحمل البر والدقيق والطعام.
فقال عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يدخل عبد الرحمن بن عوف الجنة حبوا " فلما بلغ عبد الرحمن ذلك قال: أشهدك يا أمه أنها بأحمالها وأحلاسها وأقتابها في سبيل الله.
وقال الامام أحمد: ثنا عبد الصمد بن حسان، ثنا عمارة - هو ابن زاذان - عن ثابت عن أنس قال: بينما عائشة في بيتها إذ سمعت صوتا في المدينة قالت: ما هذا ؟ قالوا عير لعبد الرحمن بن عوف قدمت من الشام تحمل كل شئ - قال وكانت سبعمائة بعير - قال فارتجت المدينة من الصوت، فقالت عائشة
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قد رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا " (2) فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فقال: لئن استطعت لادخلها قائما، فجعلها بأقتابها وأحمالها في سبيل الله.
فقد تفرد به عمارة بن زاذان الصيدلاني وهو ضعيف.
وأما قوله في سياق عبد بن حميد: إنه آخى بينه وبين عثمان بن عفان، فغلط محض مخالف لما في صحيح البخاري من أن الذي آخى بينه وبينه إنما هو سعد بن الربيع الانصاري رضي الله عنهما، وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى وراءه الركعة الثانية من صلاة الفجر في بعض الاسفار، وهذه منقبة عظيمة لا تبارى.
ولما حضرته الوفاة أوصى لكل رجل ممن بقي من أهل بدر بأربعمائة دينار - وكانوا مائة - فأخذوها حتى عثمان وعلي، وقال علي: اذهب يا ابن عوف فقد أدركت صفوها، وسبقت زيفها وأوصى لكل امرأة من أمهات المؤمنين بمبلغ كثير حتى كانت عائشة تقول سقاه الله من السلسبيل.
وأعتق خلقا من مماليكه ثم ترك بعد ذلك كله مالا جزيلا، من ذلك ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال، وترك ألف بعير ومائة فرس، وثلاثة آلاف شاة ترعى بالبقيع، وكان نساءه أربعا فصولحت إحداهن من ربع الثمن بثمانين ألفا، ولما مات صلى عليه عثمان بن عفان، وحمل في جنازته سعد بن أبي وقاص، ودفن بالبقيع عن خمس وسبعين سنة.
وكان أبيض مشربا حمرة حسن الوجه، دقيق
__________
(1) روى الحديث ابن سعد عن أنس وفيه: ان سعد بن الربيع قال ذلك لعبد الرحمن بن عوف (الطبقات 3 / 125).
(2) أخرجه أحمد في المسند ج 6 / 115.
البشرة، أعين أهدب الاشفار، أقنى، له جمة، ضخم الكفين، غليظ الاصابع، لا يغير شيبه رضي الله عنه.
أبو ذر الغفاري واسمه جندب بن جنادة على المشهور، أسلم قديما بمكة فكان رابع أربعة أو خامس خمسة.
وقصة إسلامه تقدمت قبل الهجرة، وهو أول من حيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية الاسلام، ثم رجع إلى
بلاده وقومه، فكان هناك حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فهاجر بعد الخندق ثم لزم رسول الله صلى الله عليه وسلم حضرا وسفرا، وروى عنه أحاديث كثيرة، وجاء في فضله أحاديث كثيرة، من أشهرها ما رواه الاعمش، عن أبي اليقظان عثمان بن عمير، عن أبي حرب بن أبي الاسود، عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر " وفيه ضعف.
ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات أبو بكر خرج إلى الشام فكان فيه حتى وقع بينه وبين معاوية فاستقدمه عثمان إلى المدينة، ثم نزل الربذة فأقام بها حتى مات في ذي الحجة من هذه السنة، وليس عنده سوى امرأته وأولاده، فبينما هم كذلك لا يقدرون على دفنه إذ قدم عبد الله بن مسعود من العراق في جماعة من أصحابه، فحضروا موته، وأوصاهم كيف يفعلون به، وقيل قدموا بعد وفاته فولوا غسله ودفنه، وكان قد أمر أهله أن يطبخوا لهم شاة من غنمه ليأكلوه بعد الموت، وقد أرسل عثمان بن عفان إلى أهله فضمهم مع أهله.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين فيها كان فتح قبرص (1) في قول أبي معشر، وخالفه الجمهور فذكروها قبل ذلك كما تقدم، وفيها غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح إفريقية ثانية، حين نقض أهلها العهد.
وفيها سير أمير المؤمنين جماعة من قراء أهل الكوفة إلى الشام، وكان سبب ذلك أنهم تكلموا بكلام قبيح في مجلس سعيد بن عامر، فكتب إلى عثمان في أمرهم، فكتب إليه عثمان أن يجليهم عن بلده إلى الشام، وكتب عثمان إلى معاوية أمير الشام أنه قد أخرج إليك قراء من أهل الكوفة فأنزلهم وأكرمهم وتألفهم.
فلما قدموا أنزلهم معاوية وأكرمهم واجتمع بهم ووعظهم ونصحهم فيما يعتمدونه من اتباع الجماعة وترك الانفراد والابتعاد، فأجاب متكلمهم والمترجم عنهم بكلام فيه بشاعة وشناعة، فاحتملهم معاوية لحلمه، وأخذ في مدح قريش - وكانوا قد نالوا منهم - وأخذ في المدح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والثناء عليه، والصلاة والتسليم.
وافتخر معاوية بوالده وشرفه في قومه، وقال فيما قال: وأظن أبا سفيان لو ولد الناس كلهم لم يلد إلا حازما، فقال له صعصعة بن صوحان: كذبت، قد
__________
(1) في معظم المراجع العربية والاسلامية وردت قبرس فيها بالسين لا بالصاد.
ولد الناس كلهم لمن هو خير من أبي سفيان من خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له، فكان فيهم البر والفاجر، والاحمق والكيس.
ثم بذل لهم النصح مرة أخرى فإذا هم يتمادون في غيهم، ويستمرون على جهالتهم وحماقتهم، فعند ذلك أخرجهم من بلده ونفاهم عن الشام، لئلا يشوشوا عقول الطغام، وذلك أنه كان يشتمل مطاوي كلامهم على القدح في قريش كونهم فرطوا وضيعوا ما يجب عليهم من القيام فيه، من نصرة الدين وقمع المفسدين.
وإنما يريدون بهذا التنقيص والعيب ورجم الغيب، وكانوا يشتمون عثمان وسعيد بن العاص، وكانوا عشرة، وقيل تسعة وهو الاشبه، منهم كميل بن زياد، والاشتر النخعي - واسمه مالك بن يزيد - وعلقمة بن قيس النخعيان، وثابت بن قيس النخعي، وجندب بن زهير العامري، وجندب بن كعب الازدي، وعروة بن الجعد وعمرو بن الحمق الخزاعي (1).
فلما خرجوا من دمشق أووا إلى الجزيرة فاجتمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد - وكان نائبا على الجزيرة.
ثم ولى حمص بعد ذلك - فهددهم وتوعدهم، فاعتذروا إليه وأنابوا إلى الاقلاع عما كانوا عليه، فدعا لهم وسير مالكا الاشتر النخعي إلى عثمان بن عفان ليعتذر إليه عن أصحابه بين يديه، فقيل ذلك منهم وكف عنهم وخيرهم أن يقيموا حيث أحبوا، فاختاروا أن يكونوا في معاملة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فقدموا عليه حمص، فأمرهم بالمقام بالساحل، وأجرى عليهم الرزق.
ويقال بل لما مقتهم معاوية كتب فيهم إلى عثمان فجاءه كتاب عثمان أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردهم إليه، فلما رجعوا كانوا أزلق ألسنة، وأكثر شرا، فضج منهم سعيد بن العاص إلى عثمان، فأمره أن يسيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص، وأن يلزموا الدروب.
وفي هذه السنة سير عثمان بعض أهل البصرة منها إلى الشام، وإلى مصر بأسباب مسوغة لما فعله رضي الله عنه، فكان هؤلاء ممن يؤلب عليه ويمالئ الاعداء في الحط والكلام فيه، وهم الظالمون في ذلك، وهو البار الراشد رضي الله عنه.
وفي هذه السنة حج بالناس أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وتقبل الله منه.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين قال أبو معشر: فيها كانت وقعة الصواري، والصحيح في قول غيره أنها كانت قبل ذلك كما تقدم.
وفي هذه السنة تكاتب المنحرفون عن طاعة عثمان وكان جمهورهم من أهل الكوفة - وهم في معاملة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص منفيون عن الكوفة، وثاروا على سعيد بن العاص
__________
(1) في رواية الطبري 5 / 90: مالك بن الحارث الاشتر، وثابت بن قيس النخعي، وكميل بن زياد النخعي، وزيد بن صوحان العبدي، وجندب بن زهير الغامدي، وجندب بن كعب الازدي وعروة بن الجعد وعمرو بن الحمق الخزاعي.
أمير الكوفة، وتألبوا عليه، ونالوا منه ومن عثمان، وبعثوا إلى عثمان من يناظره (1) فيما فعل وفيما اعتمد من عزل كثير من الصحابة وتولية جماعة من بني أمية من أقربائه، وأغلظوا له في القول، وطلبوا منه أن يعزل عماله ويستبدل أئمة غيرهم من السابقين ومن الصحابة، حتى شق ذلك عليه جدا، وبعث إلى أمراء الاجناد فأحضرهم عنده ليستشيرهم، فاجتمع إليه معاوية بن أبي سفيان أمير الشام، وعمرو بن العاص أمير مصر، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح أمير المغرب، وسعيد ابن العاص أمير الكوفة، وعبد الله بن عامر أمير البصرة فاستشارهم فيما حدث من الامر وافتراق الكلمة، فأشار عبد الله بن عامر أن يشغلهم بالغزو عما هم فيه من الشر، فلا يكون هم أحدهم إلا نفسه، وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته فإن غوغاء الناس إذا تفرغوا وبطلوا اشتغلوا بمالا يغني وتكلموا بما لا يرضي وإذا تفرقوا نفعوا أنفسهم وغيرهم، وأشار سعيد بن العاص بأن يستأصل شأفة المفسدين ويقطع دابرهم، وأشار معاوية بأن يرد عماله إلى أقاليمهم وأن لا يلتفت إلى هؤلاء وما تألبوا عليه من الشر، فإنهم أقل وأضعف جندا.
وأشار عبد الله بن سعد بن أبي سرح بأن يتألفهم بالمال فيعطيهم منه ما يكف به شرهم، ويأمن غائلتهم، ويعطف به قلوبهم إليه.
وأما عمرو بن العاص فقام فقال: أما بعد يا عثمان فإنك قد ركبت الناس ما يكرهون فأما أن تعزل عنهم ما يكرهون، وإما أن تقدم فتنزل عمالك على ما هم عليه، وقال له كلاما فيه
غلظة، ثم اعتذر إليه في السر بأنه إنما قال هذا ليبلغ عنه من كان حاضرا من الناس إليهم ليرضوا من عثمان بهذا، فعند ذلك قرر عثمان عماله على ما كانوا عليه، وتألف قلوب أولئك بالمال، وأمر بأن يبعثوا إلى الغزو إلى الثغور، فجمع بين المصالح كلها، ولما رجعت العمال إلى أقاليمها امتنع أهل الكوفة من أن يدخل عليهم سعيد بن العاص ولبسوا السلاح وحلفوا أن لا يمكنوه من الدخول فيها حتى يعزله عثمان ويولي عليهم أبا موسى الاشعري، وكان اجتماعهم بمكان يقال له الجرعة (2) - وقد قال يومئذ الاشتر النخعي: والله لا يدخلها علينا ما حملنا سيوفنا، وتواقف الناس بالجرعة.
وأحجم سعيد عن قتالهم وصمموا على منعه، وقد اجتمع في مسجد الكوفة في هذا اليوم حذيفة وأبو مسعود عقبة بن عمرو، فجعل أبو مسعود يقول: والله لا يرجع سعيد بن العاص حتى يكون دماء.
فجعل حذيفة يقول: والله ليرجعن ولا يكون فيها محجمة من دم، وما أعلم اليوم شيئا إلا وقد علمته ومحمد صلى الله عليه وسلم حي.
والمقصود أن سعيد بن العاص كر راجعا إلى المدينة وكسر الفتنة، فأعجب ذلك أهل الكوفة، وكتبوا إلى عثمان أن يولي عليهم أبا موسى الاشعري بذلك
__________
(1) بعثوا إلى عثمان عامر بن عبد الله التميمي وهو الذي يدعى عامر بن عبد القيس (الطبري 5 / 94) وهو تابعي يعد من الزهاد اليمانية قيل أدرك الجاهلية وكان أعبد أهل زمانه وأشدهم اجتهادا.
ولما نزل به الموت بكى وقال: " بمثل هذا المصرع فليعمل العاملون اللهم إني استغفرك من تقصيري وتفريطي أتوب إليك من جميع ذنوبي لا إله إلا أنت.
" وما زال يرددها حتى مات: وقيل قبره بالبيت المقدس.
(2) الجرعة: مكان قريب من القادسية.
فأجابهم عثمان إلى ما سألوا إزاحة لعذرهم، وإزالة لشبههم، وقطعا لعللهم.
وذكر سيف بن عمر أن سبب تألب الاحزاب على عثمان أن رجلا يقال له عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأظهر الاسلام وصار إلى مصر، فأوحى إلى طائفة من الناس كلاما اخترعه من عند نفسه، مضمونه أنه يقول للرجل: أليس قد ثبت أن عيسى بن مريم سيعود إلى هذه الدنيا ؟ فيقول الرجل: نعم ! فيقول له فرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه فما تنكر أن يعود إلى هذه الدنيا، وهو
أشرف من عيسى بن مريم عليه السلام ؟ ثم يقول: وقد كان أوصى إلى علي بن أبي طالب، فمحمد خاتم الانبياء، وعلي خاتم الاوصياء، ثم يقول: فهو أحق بالامرة من عثمان، وعثمان معتد في ولايته ما ليس له.
فأنكروا عليه وأظهروا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فافتتن به بشر كثير من أهل مصر، وكتبوا إلى جماعات من عوام أهل الكوفة والبصرة، فتمالاوا على ذلك، وتكاتبوا فيه، وتواعدوا أن يجتمعوا في الانكار على عثمان، وأرسلوا إليه من يناظره ويذكر له ما ينقمون عليه من توليته أقرباءه وذوي رحمه وعزله كبار الصحابة.
فدخل هذا في قلوب كثير من الناس، فجمع عثمان بن عفان نوابه من الامصار فاستشارهم فأشاروا عليه بما تقدم ذكرنا له فالله أعلم.
وقال الواقدي فيما رواه عن عبد الله بن محمد عن أبيه قال: لما كانت سنة أربع وثلاثين أكثر الناس بالمقالة على عثمان بن عفان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، فكلم الناس علي بن أبي طالب أن يدخل على عثمان، فدخل عليه فقال له: إن الناس ورائي وقد كلموني فيك، ووالله ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئا تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه، إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شئ فنخبرك عنه، ولا خلونا بشئ فنبلغكه، وما خصصنا بأمور خفي عنك إدراكها، وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونلت صهره، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك، ولا ابن الخطاب بأولى بشئ من الخير منك، وإنك أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رحما، ولقد نلت من صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم ينالا، ولا سبقاك إلى شئ، فالله الله في نفسك، فإنك والله ما تبصر من عمى، ولا تعلم من جهل.
وإن الطريق لواضح بين، وإن أعلام الدين لقائمة، تعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل، هدي وهدى، فأقام سنة معلومة، وأمات بدعة معلومة (1)، فوالله إن كلا لبين، وإن السنن لقائمة لها أعلام، وإن البدع لقائمة لها أعلام، وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وأضل به فأمات سنة معلومة وأحيا بدعة متروكة، وأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يؤتى يوم القيامة بالامام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، فيلقى في جهنم فيدور فيها كما تدور الرحا ثم يرتطم في غمرة جهنم، وإني أحذرك الله
وأحذرك سطوته ونقمته، فإن عذابه أليم شديد، واحذر أن تكون إمام هذه الامة المقتول، فإنه
__________
(1) في الكامل 3 / 152 والطبري 5 / 99: متروكة.
كان يقال قتل في هذه الامة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، وتلبس أمورها عليها، ويتركون شيعا لا يبصرون الحق من الباطل، يموجون فيها موجا، ويمرحون فيها مرحا.
فقال عثمان: قد والله علمت لتقولن الذي قلت، أما والله لو كنت مكاني ما عنفتك ولا أسلمتك، ولا عبت عليك، ولا جئت منكرا، إني وصلت رحما، وسددت خلة، وآويت ضائعا، ووليت شبيها بمن كان عمر يولي، أنشدك الله يا علي هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك ؟ قال: نعم ! قال: فتعلم أن عمر ولاه ؟ قال: نعم ! قال: فلم تلوموني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته ؟ قال علي: سأخبرك أن عمر كان كلما ولى أميرا فإنما يطأ على صماخيه، وأنه إن بلغه حرف جاء به، ثم بلغ به أقصى الغاية في العقوبة، وأنت لا تفعل ضعفت ورفقت على أقربائك.
فقال عثمان: هم أقرباؤك أيضا، فقال علي لعمري إن رحمهم مني لقريبة، ولكن الفضل في غيرهم.
قال عثمان: هل تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها، فقد وليته، فقال علي: أنشدك الله هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر منه ؟ قال: نعم ! قال علي: فإن معاوية يقطع الامور دونك وأنت تعلمها ويقول للناس: هذا أمر عثمان، فليبلغك فلا تنكر ولا تغير على معاوية ثم خرج علي من عنده وخرج عثمان على إثره فصعد المنبر فوعظ وحذر وأنذر، وتهدد وتوعد، وأبرق وأرعد، فكان فيما قال: ألا فقد والله عبتم علي بما أقررتم به لابن الخطاب، ولكنه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولنت لكم وأوطأت لكم كتفي، وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم علي، أما والله لانا أعز نفرا وأقرب ناصرا وأكثر عددا وأقمن، إن قلت: هلم إلي إلي، ولقد أعددت لكم أقرانكم وأفضلت عليكم فضولا، وكشرت لكم عن نابي، فأخرجتم مني خلقا لم أكن أحسنه، ومنطقا لم أنطق به، فكفوا ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم فإني قد كففت عنكم من لو كان
هو الذي يليكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا، ألا فما تفقدون من حقكم ؟ فوالله ما قصرت في بلوغ ما كان يبلغ من كان قبلي.
ثم اعتذر عما كان يعطي أقرباه بأنه من فضل ماله.
فقام مروان ابن الحكم فقال: إن شئتم والله حكمنا بيننا وبينكم السيف، نحن والله وأنتم كما قال الشاعر: فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم * مغارسكم تبنون في دمن الثرى فقال عثمان: اسكت لاسكت، دعني وأصحابي، ما منطقك في هذا، ألم أتقدم إليك أن لا تنطق.
فسكت مروان ونزل عثمان رضي الله عنه (1).
وذكر سيف بن عمر وغيره أن معاوية لما ودعه عثمان حين عزم على الخروج إلى الشام عرض عليه أن يرحل معه إلى الشام فإنهم قوم كثيرة طاعتهم للامراء.
فقال: لا أختار بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) انظر الطبري ج 5 / 100 والكامل لابن الاثير 3 / 153.
سواه.
فقال: أجهز لك جيشا من الشام يكونون عندك ينصرونك ؟ فقال: إني أخشى أن أضيق بهم بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه من المهاجرين والانصار.
قال معاوية: فوالله يا أمير المؤمنين لتغتالن - أو قال: لتغزين - فقال عثمان: حسبي الله ونعم الوكيل.
ثم خرج معاوية من عنده وهو متقلد السيف وقوسه في يده، فمر على ملا من المهاجرين والانصار، فيهم علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، فوقف عليهم واتكأ على قوسه وتكلم بكلام بليغ يشتمل على الوصاة بعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، والتحذير من إسلامه إلى أعدائه، ثم انصرف ذاهبا.
فقال الزبير: ما رأيته أهيب في عيني من يومه هذا.
وذكر ابن جرير أن معاوية استشعر الامر لنفسه من قدمته هذه إلى المدينة، وذلك أنه سمع حاديا يرتجز في أيام الموسم في هذا العام وهو يقول: قد علمت ضوامر المطي * وضمرات عوج القسي أن الامير بعده علي * وفي الزبير خلف رضي وطلحة الحامي لها ولي فلما سمعها معاوية لم يزل ذلك في نفسه حتى كان ما كان على ما سنذكره في موضعه إن شاء الله
وبه الثقة.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة مات أبو عبس بن جبير (1) بالمدينة وهو بدري.
ومات أيضا مسطح بن أثاثة.
وغافل بن البكير.
وحج بالناس في هذه السنة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ففيها مقتل عثمان وكان السبب في ذلك أن عمرو بن العاص حين عزله عثمان عن مصر ولى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
وكان سبب ذلك أن الخوارج من المصريين كانوا محصورين من عمرو بن العاص، مقهورين معه لا يستطيعون أن يتكلموا بسوء في خليفة ولا أمير فما زالوا حتى شكوه إلى عثمان لينزعه عنهم ويولي عليهم من هو ألين منه.
فلم يزل ذلك دأبهم حتى عزل عمرا عن الحرب وتركه على الصلاة، وولى على الحرب والخراج عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
ثم سعوا فيما بينهما بالنميمة فوقع بينهما، حتى كان بينهما كلام قبيح.
فأرسل عثمان فجمع لابن أبي سرح جميع عمالة مصر، خراجها وحربها وصلاتها، وبعث إلى عمرو يقول له: لا خير لك في المقام عند من يكرهك، فأقدم إلي، فانتقل عمرو بن العاص إلى المدينة وفي نفسه من عثمان أمر عظيم وشر كبير فكلمه فيما كان من أمره بنفس، وتقاولا في ذلك، وافتخر عمرو بن العاص بأبيه على عثمان، وأنه كان أعز منه.
فقال له عثمان: دع هذا فإنه من أمر الجاهلية.
وجعل عمرو بن العاص يؤلب
__________
(1) في الطبري والكامل: جبر.
الناس على عثمان.
وكان بمصر جماعة يبغضون عثمان ويتكلمون فيه بكلام قبيح على ما قدمنا، وينقمون عليه في عزله جماعة من علية الصحابة وتوليته من دونهم، أو من لا يصلح عندهم للولاية.
وكره أهل مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، بعد عمرو بن العاص، واشتغل عبد الله بن سعد عنهم بقتال أهل المغرب، وفتحه بلاد البربر والاندلس وإفريقية.
ونشأ بمصر طائفة من أبناء الصحابة يؤلبون الناس على حربه والانكار عليه، وكان عظم ذلك مسندا إلى محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة، حتى استنفرا نحوا من ستمائة (1) راكب يذهبون إلى المدينة في صفة
معتمرين في شهر رجب، لينكروا على عثمان فساروا إليها تحت أربع رفاق، وأمر الجميع إلى عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر التجيبي، وسودان بن حمران السكوني.
وأقبل معهم محمد بن أبي بكر، وأقام بمصر محمد بن أبي حذيفة يؤلب الناس ويدافع عن هؤلاء.
وكتب عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى عثمان يعلمه بقدوم هؤلاء القوم إلى المدينة منكرين عليه في صفة معتمرين.
فلما اقتربوا من المدينة (2) أمر عثمان علي ابن أبي طالب أن يخرج إليهم ليردهم إلى بلادهم قبل أن يدخلوا المدينة.
ويقال: بل ندب الناس إليهم، فانتدب علي لذلك فبعثه، وخرج معه جماعة الاشراف وأمره أن يأخذ معه عمار بن ياسر.
فقال علي لعمار، فأبى عمار أن يخرج معه.
فبعث عثمان سعد بن أبي وقاص أن يذهب إلى عمار ليحرضه على الخروج مع علي إليهم، فأبى عمار كل الاباء، وامتنع أشد الامتناع، وكان متعصبا على عثمان بسبب تأديبه له فيما تقدم على أمر وضربه إياه في ذلك، وذلك بسبب شتمه عباس بن عتبة بن أبي لهب، فأدبهما عثمان، فتآمر عمار عليه لذلك، وجعل يحرض الناس عليه، فنهاه سعد ابن أبي وقاص عن ذلك ولامه عليه، فلم يقع عنه ولم يرجع ولم ينزع، فانطلق علي بن أبي طالب إليهم وهم بالجحفة (3)، وكانوا يعظمونه ويبالغون في أمره، فردهم وأنبهم وشتمهم، فرجعوا على أنفسهم بالملامة، وقالوا: هذا الذي تحاربون الامير بسببه، وتحتجون عليه به.
ويقال إنه ناظرهم في عثمان، وسألهم ماذا ينقمون عليه، فذكروا أشياء منها أنه حمى الحمى، وأنه خرق المصاحف، وأنه أتم الصلاة وأنه ولى الاحداث الولايات وترك الصحابة الاكابر وأعطى بني أمية أكثر من الناس فأجاب علي عن ذلك: أما الحمى فإنما حماه لابل الصدقة لتسمن، ولم يحمه لابله ولا لغنمه وقد حماه عمر من قبله.
وأما المصاحف فإنما حرق ما وقع فيه اختلاف، وأبقى لهم المتفق
__________
(1) في الطبري: خمسمائة، وفي الطبري والكامل: كان عليهم عبد الرحمن بن عديس البلوي.
(2) وصلوا إلى ذي خشب، وكان رسول عبد الله بن سعد بن أبي سرح قد وصل إلى عثمان وأخبره بقدومهم عليه يريدونه ويظهرون انهم قوم معتمرون.
(3) في الكامل 3 / 162 والطبري 5 / 110 انطلق علي رضي الله عنه في ركب من المهاجرين والانصار ثلاثون رجلا
فيهم سعد بن زيد وأبو جهم العدوي وجبير بن مطعم وحكيم بن حزام ومروان بن الحكم وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وأبو أسيد الساعدي وزيد بن ثابت وحسان بن ثابت وكعب بن مالك ونيار بن مكرز وغيرهم.
عليه، كما ثبت في العرضة الاخيرة، وأما إتمامه الصلاة بمكة، فإنه كان قد تأهل بها ونوى الاقامة فأتمها، وأما توليته الاحداث فلم يول إلا رجلا سويا عدلا، وقد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة وهو ابن عشرين سنة، وولى أسامة بن زيد بن حارثة.
وطعن الناس في إمارته فقال إنه لخليق بالامارة وأما إيثاره قومه بني أمية.
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤثر قريشا على الناس، ووالله لو أن مفتاح الجنة بيدي لادخلت بني أمية إليها.
ويقال إنهم عتبوا عليه في عمار ومحمد بن أبي بكر، فذكر عثمان عذره في ذلك، وأنه أقام فيهما ما كان يجب عليهما.
وعتبوا عليه في إيوائه الحكم بن أبي العاص، وقد نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد نفاه إلى الطائف ثم رده، ثم نفاه إليها، قال فقد نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رده، وروى أن عثمان خطب الناس بهذا كله بمحضر من الصحابة، وجعل يستشهد بهم فيشهدون له فيما فيه شهادة له.
ويروي أنهم بعثوا طائفة من فشهدوا خطبة عثمان هذه، فلما تمهدت الاعذار وانزاحت عللهم ولم يبق لهم شبهة، أشار جماعة من الصحابة على عثمان بتأديبهم فصفح عنهم، رضي الله عنه.
وردهم إلى قومهم فرجعوا خائبين من حيث أتوا، ولم ينالوا شيئا مما كانوا أملوا وراموا، ورجع علي إلى عثمان، فأخبره برجوعهم عنه، وسماعهم منه، وأشار على عثمان أن يخطب الناس خطبة يعتذر إليهم فيها مما كان وقع من الاثرة لبعض أقاربه، ويشهدهم عليه بأنه قد تاب من ذلك، وأناب إلى الاستمرار على ما كان عليه من سيرة الشيخين قبله، وأنه لا يحيد عنها، كما كان الامر أولا في مدة ست سنين الاول، فاستمع عثمان هذه النصيحة، وقابلها بالسمع والطاعة، ولما كان يوم الجمعة وخطب الناس، رفع يديه في أثناء الخطبة، وقال اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، اللهم إني أول تائب مما كان مني، وأرسل عينيه بالبكاء فبكى المسلمون أجمعون، وحصل للناس رقة شديدة على إمامهم، وأشهد عثمان الناس على نفسه بذلك، وأنه قد لزم ما كان عليه الشيخان، أبو بكر
وعمر رضي الله عنهما، وأنه قد سبل بابه لمن أراد الدخول عليه، لا يمنع أحد من ذلك، ونزل فصلى بالناس ثم دخل منزله وجعل من أراد الدخول على أمير المؤمنين لحاجة أو مسألة أو سؤال، لا يمنع أحد من ذلك مدة.
قال الواقدي: فحدثني علي بن عمر عن أبيه قال: ثم إن عليا جاء عثمان بعد انصراف المصريين فقال له: تكلم كلاما تسمعه الناس منك ويشهدون عليك، ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والانابة، فإن البلاد قد تمخضت عليك، ولا آمن ركبا آخرين يقدمون من قبل الكوفة، فتقول يا علي اركب إليهم، ويقدم آخرون من البصرة فتقول يا علي اركب إليهم، فإن لم أفعل قطعت رحمك واستخففت بحقك.
قال: فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها، وأعلم الناس من نفسه التوبة، فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فوالله ما عاب من عاب شيئا أجهله، وما جئت شيئا إلا وأنا أعرفه، ولك ضل رشدي (1) ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من زل فليتب، ومن أخطأ فليتب،
__________
(1) العبارة في الطبري والكامل: ولكني منتني نفسي وكذبتني وضل عني رشدي.
ولا يتمادى في الهلكة، إن من تمادى في الجور كان أبعد عن الطريق " فأنا أول من اتعظ، أستغفر الله مما فعلت وأتوب، فمثلي نزع وتاب، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم (1)، فوالله لاكونن كالمرقوق إن ملك صبر، وإن عتق شكر، وما عن الله مذهب إلا إليه.
قال: فرق الناس له وبكى من بكى، وقام إليه سعيد بن زيد فقال: يا أمير المؤمنين ! ألله الله في نفسك ! فأتمم على ما قلت.
فلما انصرف عثمان إلى منزله وجد به جماعة من أكابر الناس، وجاءه مروان بن الحكم فقال: أتكلم يا أمير المؤمنين أم أصمت ؟ فقالت امرأة عثمان - نائلة بنت الفرافصة الكلبية - من وراء الحجاب: بل اصمت، فوالله إنهم لقاتلوه، ولقد قال مقالة لا ينبغي النزوع عنها.
فقال لها: وما أنت وذاك ! فوالله لقد مات أبوك وما يحسن أن يتوضأ.
فقالت له: دع ذكر الاباء، ونالت من أبيه الحكم، فأعرض عنها مروان.
وقال لعثمان: يا أمير المؤمنين أتكلم أم أصمت ؟ فقال له عثمان: بل تكلم، فقال مروان: بأبي أنت وأمي، لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممنع
منيع، فكنت أول من رضي بها وأعان عليها، ولكنك قلت ما قلت حين جاوز الحزام الطبيين، وبلغ السيل الزبا، وحين أعطى الخطة الذليلة الذليل، والله لاقامة على خطيئة يستغفر منها، خير من توبة خوف عليها، وإنك لو شئت لعزمت التوبة ولم تقرر لنا بالخطيئة، وقد اجتمع إليك على الباب مثل الجبال من الناس.
فقال عثمان: قم فاخرج إليهم فكلمهم، فإني أستحي أن أكلمهم، قال: فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضا، فقال: ما شأنكم كأنكم قد جئتم لنهب، شاهت الوجوه كل إنسان آخذ بإذن صاحبه ألا من أريد (2) جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا، أخرجوا عنا، أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم أمر يسؤكم ولا تحمدوا غبه، ارجعوا إلى منازلكم، فوالله ما نحن مغلوبين على ما بأيدنا، قال فرجع الناس، وخرج بعضهم حتى أتى عليا فأخبره الخبر، فجاء علي مغضبا حتى دخل على عثمان.
فقال: أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحويلك عن دينك وعقلك ؟ ! وإن مثلك مثل جمل الظعينة سار حيث يسار به، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه، وأيم الله إني لاراه سيوردك ثم لا يصدرك، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت سوقك (3)، وغلبت على أمرك.
فلما خرج علي دخلت نائلة على عثمان فقالت: أتكلم أو أسكت ؟ فقال: تكلمي، فقالت: سمعت قول علي أنه ليس يعاودك، وقد أطعت مروان حيث شاء، قال: فما أصنع ؟ قالت: تتقي الله وحده لا شريك له، وتتبع سنة صاحبيك من قبلك، فإنك متى أطعت مروان قتلك، ومروان
__________
(1) في الكامل: اشرافكم فليروا في رأيهم.
وفي الطبري، فليأتني اشرافكم فليروني رأيهم فوالله لئن ردني الحق عبدا لاستنن بسنة العبد ولاذلن ذل العبد...5 / 111 والكامل 3 / 164.
(2) في الطبري كالاصل، وفي ابن الاثير: شاهت الوجوه ألا من أريد ؟ (3) في الطبري: شرفك وفي الكامل: أذهبت شرفك وغلبت على رأيك.
ليس له عند الله قدر ولا هيبة ولا محبة (1)، فأرسل إلى علي فاستصلحه فإن له قرابة منك وهو لا يعصى.
قال فأرسل عثمان إلى علي فأبى أن يأتيه، وقال: لقد أعلمته أني لست بعائد.
قال:
وبلغ مروان قول نائلة فيه فجاء إلى عثمان فقال: أتكلم أو أسكت ؟ فقال: تكلم، فقال: إن نائلة بنت الفرافصة، فقال عثمان لا تذكرها بحرف فأسوء إلى وجهك، فهي والله أنصح لي منك.
قال: فكف مروان.
ذكر مجئ الاحزاب إلى عثمان للمرة الثانية من مصر وذلك أن أهل الامصار لما بلغهم خبر مروان، وغضب علي على عثمان بسببه، ووجدوا الامر على ما كان عليه لم يتغير ولم يسلك سيرة صاحبيه، تكاتب أهل مصر وأهل الكوفة وأهل البصرة وتراسلوا، وزورت (2) كتب على لسان الصحابة الذين بالمدينة، وعلى لسان علي وطلحة والزبير، يدعون الناس إلى قتال عثمان ونصر الدين، وأنه أكبر الجهاد اليوم.
وذكر سيف بن عمر التميمي عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، وقاله غيرهم أيضا، قالوا: لما كان في شوال سنة خمس وثلاثين، خرج أهل مصر في أربع رقاق على أربعة أمراء، المقلل لهم يقول ستمائة، والمكثر يقول: ألف.
على الرفاق عبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر الليثي، وسودان بن حمران السكوني، وقتيرة السكوني وعلى القوم جميعا الغافقي بن حرب العكي، وخرجوا فيما يظهرون للناس حجاجا، ومعهم ابن السوداء - وكان أصله ذميا فأظهر الاسلام وأحدث بدعا قولية وفعلية، قبحه الله - وخرج أهل الكوفة في عدتهم في أربع رفاق أيضا، وأمراؤهم: زيد بن صوحان، والاشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الاصم، وعلى الجميع عمرو بن الاصم (3).
وخرج أهل البصرة في عدتهم أيضا في أربع رايات مع حكيم بن جبلة العبدي، وبشر بن شريح بن ضبيعة القيسي، وذريح بن عباد العبدي (4)، وعليهم كلهم حرقوص بن زهير السعدي، وأهل مصر مصرون على ولاية علي بن أبي طالب، وأهل الكوفة عازمون على تأمير الزبير، وأهل البصرة مصممون على تولية طلحة.
لا تشك كل فرقة أن أمرها سيتم، فسار كل طائفة من بلدهم حتى توافوا حول المدينة، كما تواعدوا في كتبهم، في شهر شوال فنزل طائفة منهم بذي خشب، وطائفة بالاعوص، والجمهور بذي المروة، وهم
__________
(1) زاد الطبري وابن الاثير: وانما تركك الناس لمكانه.
(2) في رواية الطبري والكامل: كتب من بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله، إنما لم يذكر أي من أسماء هؤلاء الصحابة.
(3) في الطبري والكامل: وهم في عداد أهل مصر، وفي مروج الذهب: في مائتي رجل.
(4) زاد ابن الاثير في الكامل: وابن المحترش، وفي الطبري: ابن المحرش بن عبد عمرو الحنفي.
وقال الطبري وابن الاثير وهم في عداد أهل مصر، أما المسعودي فقال كانوا في مئة رجل.
على وجل من أهل المدينة، فبعثوا قصادا وعيونا بين أيديهم ليخبروا الناس أنهم إنما جاؤوا للحج لا لغيره، وليستعفوا هذا الوالي من بعض عماله، ما جئنا إلا لذلك، واستأذنوا للدخول، فكل الناس أبى دخولهم ونهى عنه، فتجاسروا واقتربوا من المدينة، وجاءت طائفة من المصريين إلى علي وهو في عسكر عند أحجار الزيت، عليه حلة أفواف، معتم بشقيقة حمراء يمانية، متقلدا السيف وليس عليه قميص وقد أرسل ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه، فسلم عليه المصريون فصاح بهم وطردهم، وقال: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خشب ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فارجعوا لا صبحكم الله، قالوا: نعم ! وانصرفوا من عنده على ذلك، وأتى البصريون طلحة وهو في جماعة أخرى إلى جنب علي - وقد أرسل ابنهى إلى عثمان - فسلموا عليه فصاح بهم وطردهم وقال لهم كما قال علي لاهل مصر، وكذلك كان رد الزبير على أهل الكوفة.
فرجع كل فريق منهم إلى قومهم، وأظهروا للناس أنهم راجعون إلى بلدانهم، وساروا أياما راجعين، ثم كروا عائدين إلى المدينة، فما كان غير قليل حتى سمع أهل المدينة التكبير، وإذا القوم قد زحفوا على المدينة وأحاطوا بها، وجمهورهم عند دار عثمان بن عفان، وقالوا للناس: من كف يده فهو آمن، فكف الناس ولزموا بيوتهم، وأقام الناس على ذلك أياما.
هذا كله ولا يدري الناس ما القوم صانعون ولا على ما هم عازمون، وفي كل ذلك وأمير المؤمنين عثمان بن عفان يخرج من داره فيصلي بالناس، فيصلي وراءه أهل المدينة وأولئك الآخرون.
وذهب الصحابة إلى هؤلاء يؤنبونهم ويعذلونهم على رجوعهم، حتى قال علي لاهل مصر: ما ردكم بعد ذهابكم ورجوعكم
عن رأيكم ؟ فقالوا: وجدنا مع بريد كتابا بقتلنا.
وكذلك قال البصريون لطلحة، والكوفيون للزبير.
وقال أهل كل مصر: إنما جئنا لننصر أصحابنا.
فقال لهم الصحابة: كيف علمتم بذلك من أصحابكم، وقد افترقتم وصار بينكم مراحل ؟ إنما هذا أمر اتفقتم عليه، فقالوا: ضعوه على ما أردتم، لا حاجة لنا في هذا الرجل، ليعتزلنا ونحن نعتزله - يعنون أنه إن نزل عن الخلافة تركوه آمنا - وكان المصريون فيما ذكر، لما رجعوا إلى بلادهم وجدوا في الطريق بريدا يسير، فأخذوه ففتشوه، فإذا معه في إداوة كتابا على لسان عثمان فيه الامر بقتل طائفة منهم (1)، وبصلب آخرين، وبقطع أيدي آخرين منهم وأرجلهم، وكان على الكتاب طابع بخاتم عثمان، والبريد أحد غلمان عثمان (2) وعلى جمله، فلما رجعوا جاؤوا بالكتاب وداروا به على الناس، فكلم الناس
__________
(1) نص الكتاب في الطبري وفيه أمر عبد الله بن سعد بحبس وجلد ابن عديس البلوي وعمرو بن الحمق وسودان بن حمران وعروة بن النباع الليثي وحلق رؤوسهم ولحاهم.
زاد ابن الاثير: وصلب بعضهم.
(الطبري 5 / 119 الكامل 3 / 168).
وفي فتوح ابن الاعثم 3 / 211: اضرب عنق عمرو بن يزيد بن ورقاء صبرا.
وعلقمة بن عديس البلوي وكنانة بن بشر وعروة بن سهم الليثي فاقطع ايديهم وأرجلهم وإذا ماتوا فاصلبهم وأما محمد بن أبي بكر فاحتل في قتله.
(2) في الطبري ذكره: أبو الاعور السلمي.
وفي فتوح ابن الاعثم: غلام أسود، لم يسمه.
أمير المؤمنين في ذلك، فقال: بينة علي بذلك وإلا فوالله لا كتبت ولا أمليت، ولا دريت بشئ من ذلك، والخاتم قد يزور على الخاتم، فصدقه الصادقون في ذلك، وكذبه الكاذبون.
ويقال: إن أهل مصر كانوا قد سألوا من عثمان أن يعزل عنه ابن أبي سرح، ويولي محمد بن أبي بكر، فأجابهم إلى ذلك، فلما وجدوا ذلك البريد ومعه الكتاب بقتل محمد بن أبي بكر، فأجابهم إلى ذلك، فلما رجعوا ذلك البريد ومعه الكتاب بقتل محمد بن أبي بكر وآخرين معه، فرجعوا، وقد حنقوا عليه حنقا شديدا، وطافوا بالكتاب على الناس، فدخل ذلك في أذهان كثير من الناس (1).
وروى ابن جرير من طريق محمد بن إسحاق عن عمه عبد الرحمن بن يسار، أن الذي كان معه
هذه الرسالة من جهة عثمان إلى مصر أبو الاعور السلمي، على جمل لعثمان، وذكر ابن جرير من هذه الطريق أن الصحابة كتبوا إلى الآفاق من المدينة يأمرون الناس بالقدوم على عثمان ليقاتلوه، وهذا كذب على الصحابة، وإنما كتبت كتب مزورة عليهم، كما كتبوا من جهة علي وطلحة والزبير إلى الخوارج كتبا مزورة عليهم أنكروها، وهكذا زور هذا الكتاب على عثمان أيضا، فإنه لم يأمر به ولم يعلم به أيضا.
واستمر عثمان يصلي بالناس في تلك الايام كلها، وهم أحقر في عينه من التراب، فلما كان في بعض الجمعات وقام على المنبر، وفي يده العصا التي كان يعتمد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته، وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من بعده، فقام إليه رجل من أولئك فسبه ونال منه، وأنزله عن المنبر، فطمع الناس فيه من يومئذ، كما قال الواقدي: حدثني أسامة ابن زيد عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه قال: بينا أنا أنظر إلى عثمان يخطب على عصا النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب عليها وأبو بكر وعمر، فقال له جهجاه: قم يا نعثل فانزل عن هذا المنبر وأخذ العصا فكسرها على ركبته اليمنى فدخلت شظية منها فيها فبقي الجرح حتى أصابته الاكلة، فرأيتها تدود، فنزل عثمان وحملوه وأمر بالعصا فشدوها، فكانت مضببة، فما خرج بعد ذلك اليوم إلا خرجة أو خرجتين، حتى حصر فقتل.
قال ابن جرير: وحدثنا أحمد بن إبراهيم ثنا عبد الله بن إدريس عن عبيد الله بن عمر عن نافع أن الجهجاه الغفاري أخذ عصا كانت في يد عثمان فكسرها على ركبته، فرمي في ذلك المكان بأكلة.
وقال الواقدي: وحدثني ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن ابن أبي (2) حبيبة قال: خطب عثمان الناس في بعض أيامه فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين: إنك ركبت بهاتير (3) وركبناها معك، فتب نتب معك.
فاستقبل عثمان القبلة وشمر (4) يديه، قال ابن أبي حبيبة:
__________
(1) انظر الخبر في فتوح ابن الاعثم 3 / 210 وفيه كتاب عثمان بتولية محمد بن أبي بكر وعزل عبد الله بن سعد، والكتاب المنسوب إلى عثمان إلى واليه بمصر مع غلامه الذين أمسك به المصريون وهم عائدون من المدينة.
(2) في الطبري: أبي حبيبة.
(3) في الطبري وابن سعد: نهابير.
والنهابير: المهالك (القاموس).
(4) في الطبري: شهر يديه، وفي ابن سعد: رفع يديه فقال: اللهم إني استغفرك واتوب إليك.
فلم أر يوما أكثر باكيا ولا باكية من يومئذ.
ثم لما كان بعد ذلك خطب الناس فقام إليه جهجاه الغفاري فصاح إليه: يا عثمان ألا إن هذه شارف قد جئنا بها عليها عباءة وجامعة، فأنزل فلندرجك في العباة ولنطرحك في الجامعة ولنحملك على الشارف ثم نطرحك في جبل الدخان.
فقال عثمان: قبحك الله وقبح ما جئت به، ثم نزل عثمان.
قال ابن أبي حبيبة: وكان آخر يوم رأيته فيه.
وقال الواقدي: حدثني أبو بكر بن إسماعيل عن أبيه عن عامر بن سعد.
قال: كنا أول من اجترأ على عثمان بالنطق السئ جبلة بن عمرو الساعدي مر به عثمان وهو في نادي قومه، وفي يد جبلة جامعة، فلما مر عثمان سلم فرد القوم، فقال جبلة: لم تردون عليه ؟ رجل قال (1) كذا وكذا، ثم أقبل على عثمان فقال: والله لاطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه، فقال عثمان: أي بطانة ؟ فوالله لاتخير (2) الناس، فقال مروان تخيرته، ومعاوية تخيرته، وعبد الله بن عامر بن كريز تخيرته، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح تخيرته، منهم من نزل القرآن بذمه، وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه، قال: فانصرف عثمان فما زال الناس مجترئين عليه إلى هذا اليوم.
قال الواقدي: وحدثني محمد بن صالح عن عبيد الله بن رافع بن نقاخة عن عثمان بن الشريد.
قال: مر عثمان على جبلة بن عمرو الساعدي وهو بفناء داره، ومعه جامعة، فقال: يا نعثل ! والله لاقتلنك ولاحملنك على قلوص جرباء، ولاخرجنك إلى حرة النار.
ثم جاءه مرة أخرى وعثمان على المنبر فأنزله عنه.
وذكر سيف بن عمر أن عثمان بعد أن صلى بالناس يوم الجمعة صعد المنبر فخطبهم أيضا فقال في خطبته: يا هؤلاء الغرباء (3) ! الله الله، فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فامحوا الخطأ بالصواب، فإن الله لا يمحو السئ إلا بالحسن، فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا أشهد بذلك، فأخذه حكيم بن جبلة فأقعده، فقام زيد بن ثابت فقال: إنه في الكتاب.
فثار إليه من ناحية أخرى محمد بن أبي مريرة فأقعده وقال يا نطع (4)، وثار القوم بأجمعهم فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى
صرع من المنبر مغشيا عليه، فاحتمل وأدخل داره، وكان المصريون لا يطمعون في أحد من الناس أن يساعدهم إلا محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر (5)، وعمار بن ياسر.
وأقبل علي وطلحة والزبير إلى عثمان في أناس يعودونه ويشكون إليه بثهم وما حل بالناس، ثم رجعوا إلى منازلهم، واستقبل جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة وابن عمر، وزيد بن ثابت في المحاربة عن عثمان، فبعث إليهم يقسم عليهم لما كفوا أيديهم وسكنوا حتى يقضي الله ما يشاء.
__________
(1) في رواية الطبري عن الواقدي: فعل.
(2) في الطبري: إني لا أمخير.
(3) في الطبري: العدى.
(4) العبارة في الطبري: محمد بن أبي قتيرة فأقعده وقال فأفظع.
(5) في الطبري: محمد بن أبي حذيفة.
ذكر حصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان لما وقع ما وقع يوم الجمعة، وشج أمير المؤمنين عثمان، وهو في رأس المنبر، وسقط مغشيا عليه، واحتمل إلى داره وتفاقم الامر، وطمع فيه أولئك الاجلاف الاخلاط من الناس، وألجأوه إلى داره وضيقوا عليه، وأحاطوا بها محاصرين له، ولزم كثير من الصحابة بيوتهم، وسار إليه جماعة من أبناء الصحابة، عن أمر آبائهم، منهم الحسن والحسين، وعبد الله بن الزبير - وكان أمير الدار - وعبد الله بن عمرو، وصاروا، يحاجون عنه، ويناضلون دونه أن يصل إليه أحد منهم، وأسلمه بعض الناس رجاء أن يجيب أولئك إلى واحدة مما سألوا، فإنهم كانوا قد طلبوا منه إما أن يعزل نفسه، أو يسلم إليهم مروان بن الحكم، ولم يقع في خلد أحد أن القتل كان في نفس الخارجين.
وانقطع عثمان عن المسجد فكان لا يخرج إلا قليلا في أوائل الامر، ثم انقطع بالكلية في آخره، وكان يصلي بالناس في هذه الايام الغافقي بن حرب.
وقد استمر الحصر أكثر من شهر، وقيل أربعين يوما، حتى كان آخر ذلك أن قتل شهيدا رضي الله عنه، على ما سنبينه إن شاء الله
تعالى.
والذي ذكره ابن جرير أن الذي كان يصلي بالناس في هذه المدة وعثمان محصور، طلحة بن عبيد الله.
وفي صحيح البخاري عن (1).
وروى الواقدي أن عليا صلى أيضا، وصلى أبو أيوب، وصل بهم سهل بن حنيف، وكان يجمع بهم علي، وهو الذي صلى بهم بعد، وقد خاطب الناس في غبوب ذلك بأشياء، وجرت أمور سنورد منها ما تيسر وبالله المستعان.
قال الامام أحمد: حدثنا بهز ثنا أبو عوانة ثنا حصين عن عمرو بن جاوان قال: قال الاحنف انطلقنا حجاجا فمررنا بالمدينة، فبينا نحن في منزلنا إذ جاءنا آت فقال: الناس في المسجد، فانطلقت أنا وصاحبي، فإذا الناس مجتمعون على نفر في المسجد، قال: فتخللتهم حتى قمت عليهم، فإذا علي بن أبي طالب والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص، قال: فلم يكن ذلك بأسرع من أن جاء عثمان يمشي، فقال: ههنا علي ؟ قالوا: نعم ! قال: ههنا الزبير ؟ قالوا: نعم ! قال: ههنا طلحة ؟ قالوا: نعم ! قال: ههنا سعد بن أبي وقاص ؟ قالوا: نعم ! قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من يبتاع مربد بني فلان غفر الله له فابتعته فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني قد ابتعته، فقال: " اجعله في مسجدنا وأجره لك " قالوا: نعم ! قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من يبتاع بئر رومة " فابتعتها بكذا وكذا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إني قد ابتعتها - يعني بئر رومة - قال: " اجعلها سقاية للمسلمين ولك أجرها " قالوا: نعم ! قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر في وجوه القوم يوم جيش العسرة فقال: " من يجهز هؤلاء غفر الله
__________
(1) بياض بالاصل: وفي هامش النسخة المطبوعة قال: بياض بأصل المصرية وفي الرياض النضرة وتاريخ الخميس.
وروى عن عبد الله بن سلام انه قال: لما حصر عثمان ولى أبا هريرة على الصلاة.
له " فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاما ولا عقالا ؟ قالوا: اللهم نعم ! فقال: اللهم أشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثم انصرف (1).
ورواه النسائي من حديث حصين وعنده إذ جاء رجل وعليه ملاءة صفراء.
طريق أخرى قال عبد الله بن أحمد: حدثني عبد الله (2) بن عمر القواريري، حدثني القاسم بن الحكم ابن أوس الانصاري حدثني أبو عبادة الدرقي الانصاري، من أهل الحديبية (3)، عن زيد بن أسلم عن أبيه.
قال: شهدت عثمان يوم حصر في موضع الجنائز، ولو ألقى حجر لم يقع إلا على رأس رجل، فرأيت عثمان أشرف من الخوخة التي تلي مقام جبريل، فقال: أيها الناس ! أفيكم طلحة ؟ فسكتوا، ثم قال: أيها الناس: أفيكم طلحة ؟ فسكتوا، ثم قال أيها الناس ! أفيكم طلحة ؟ فقام طلحة بن عبيد الله، فقال له عثمان: ألا أراك ههنا ؟ ما كنت أرى أنك تكون في جماعة قوم تسمع نداي إلى آخر ثلاث مرات، ثم لا تجيبني ؟ أنشدك الله يا طلحة تذكر يوم كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع كذا وكذا، ليس معه أحد من أصحابه غيري وغيرك ؟ فقال: نعم ! قال: فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا طلحة إنه ليس من نبي إلا ومعه من أصحابه رفيق من أمته معه في الجنة، وإن عثمان بن عفان هذا - يعني - رفيقي في الجنة (4) " فقال طلحة: اللهم نعم ! ثم انصرف، لم يخرجوه.
طريق أخرى قال عبد الله بن أحمد: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدسي ثنا محمد بن عبد الله الانصاري، ثنا هلال بن إسحاق، عن الجريري، عن ثمامة بن جزء القشيري.
قال: شهدت الدار يوم أصيب عثمان، فاطلع عليه اطلاعة، فقال ادعو لي صاحبيكم اللذين ألباكم علي، فدعيا له، فقال: أنشدكما الله تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ضاق المسجد بأهله، فقال: من يشتري هذه البقعة من خالص ماله فيكون فيها كالمسلمين، وله خير منها في الجنة " ؟ فاشتريتها من خالص مالي
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 1 / 70.
(2) في مسند أحمد: عبيد الله.
(3) في مسند أحمد: 1 / 74: حدثني أبو عبادة الزرقي الانصاري، من أهل المدينة.
(4) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 1 / 74 ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 91 وقال: روي النسائي بعضه
باسناد منقطع، ورواه عبد الله وأبو يعلى في الكبير والبزار في اسناد عبد الله والبزار أبو عبادة الزرقي وهو متروك واسقطه أبو يعلى من السند.
فجعلتها بين المسلمين وأنتم تمنعوني أن أصلي فيه ركعتين.
ثم قال: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة لم يكن فيها بئر يستعذب منه إلا بئر رومة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من يشتريها من خالص ماله فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين، وله خير منها في الجنة " ؟ فاشتريتها من خالص مالي، وأنتم تمنعوني أن أشرب منها.
ثم قال: هل تعلمون أني صاحب جيش العسرة ؟ قالوا: اللهم نعم ! وقد رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وعباس الدوري وغير واحد، أخرجه النسائي عن زياد بن أيوب كلهم عن سعيد بن عامر عن يحيى بن أبي الحجاج المنقري عن أبي مسعود الجريري به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
طريق أخرى قال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد ثنا القاسم - يعني ابن المفضل - ثنا عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد.
قال: دعا عثمان رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم عمار بن ياسر، إني سائلكم وإني أحب أن تصدقوني، نشدتكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤثر قريشا على الناس، ويؤثر بني هاشم على سائر قريش ؟ فسكت القوم.
فقال: لو أن بيدي مفاتيح الجنة لاعطيتها بني أمية حتى يدخلوا من عند آخرهم.
فبعث إلى طلحة والزبير فقال عثمان: ألا أحدثكما عنه - يعني عمارا - أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخذ بيدي يمشي في البطحاء حتى أتى على أبيه وأمه وهم يعذبون " فقال أبو عمار: يا رسول الله، الدهر هكذا ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اصبر، ثم قال: اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت " (1) تفرد به أحمد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب.
طريق أخرى قال الامام أحمد: حدثنا إسحاق بن سليمان سمعت معاوية (2) بن سلم أن سلمة يذكر عن مطرف عن نافع عن ابن عمر أن عثمان أشرف على أصحابه وهو محصور، فقال: على م
تقتلونني ؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحل دم امرئ إلا بإحدى ثلاث، رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم، أو قتل عمدا فعليه القود، أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل "، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا قتلت أحدا فأقيد نفسي منه، ولا ارتددت منذ أسلمت، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.
ورواه النسائي عن أحمد بن الازهر عن إسحاق بن سليمان به.
__________
(1) أخرج الحديث الامام أحمد في مسنده 1 / 62.
(2) في مسند أحمد، مغيرة.
انظر الحديث فيه ج 1 / 63.
طريق أخرى قال الامام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد بن زيد، ثنا يحيى بن سعيد، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: كنت مع عثمان في الدار وهو محصور، قال: وكنا ندخل مدخلا إذا دخلناه سمعنا كلام من على البلاط، قال: فدخل عثمان يوما لحاجته فخرج إلينا منتقعا لونه، فقال: إنهم ليتوا عدوني بالقتل آنفا.
قال: قلنا يكفيكهم الله يا أمير المؤمنين، قال: ولم يقتلونني ؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس " فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام قط، ولا تمنيت بدلا بديني منذ هداني الله له، ولا قتلت نفسا، فبم يقتلونني (1) ؟.
وقد رواه أهل السنن الاربعة من حديث حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد حدثني أبو أسامة.
زاد النسائي وعبد الله بن عامر بن ربيعة قالا: كنا مع عثمان، فذكره.
وقال الترمذي: حسن.
وقد رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد فرفعه.
طريق أخرى قال الامام أحمد: حدثنا قطن ثنا يونس - يعني ابن أبي إسحاق - عن أبيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن.
قال: أشرف عثمان من القصر وهو محصور فقال: أنشد بالله من شهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوم حراء إذ اهتز الجبل فركله بقدمه ثم قال: " اسكن حراء ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد " وأنا معه، فانتشد له رجال.
ثم قال: أنشد بالله من شهد رسول الله يوم بيعة الرضوان إذ بعثني إلى المشركين إلى أهل مكة فقال: " هذه يدي وهذه يد عثمان ".
ووضع يديه إحداهما على الاخرى فبايع لي فانتشد له رجال.
ثم قال: قال: أنشد بالله من شهد رسول الله قال: " من يوسع لنا بهذا البيت في المسجد بنيت له بيتا في الجنة " فابتعته من مالي فوسعت به المسجد.
فانتشد له رجال.
ثم قال: أنشد بالله من شهد رسول الله يوم جيش العسرة قال: " من ينفق اليوم نفقة متقبلة " ؟ فجهزت نصف الجيش من مالي، فانتشد له رجال.
ثم قال: أنشد بالله من شهد رومة يباع ماؤها ابن السبيل فابتعتها من مالي فأبحتها ابن السبيل قال: فانتشد له رجال (2).
ورواه النسائي عن عمران بن بكار عن حطاب بن عثمان بن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن جده أبي إسحاق السبيعي به.
__________
(1) الحديث أخرجه الامام أحمد في مسنده 1 / 61، 63، 70، 382، 444، 465، 6 / 58، 214 وابن سعد في الطبقات 3 / 67.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 1 / 59.
وقد ذكر ابن جرير أن عثمان رضي الله عنه لما رأي ما فعل هؤلاء الخوارج من أهل الامصار، من محاصرته في داره، ومنعه الخروج إلى المسجد، كتب إلى معاوية بالشام، وإلى ابن عامر بالبصرة وإلى أهل الكوفة، يستنجدهم في بعض جيش يطردون هؤلاء من المدينة، فبعث معاوية مسلمة بن حبيب، وانتدب يزيد بن أسد القشيري في جيش، وبعث أهل الكوفة جيشا، وأهل البصرة جيشا، فلما سمع أولئك بخروج الجيوش إليهم صمموا في الحصار، فما اقترب الجيوش إلى المدينة حتى جاءهم قتل عثمان رضي الله عنه كما سنذكره.
وذكر ابن جرير أن عثمان استدعى الاشتر النخعي ووضعت لعثمان وسادة في كوة من داره.
فأشرف على الناس، فقال له عثمان: يا أشتر ماذا يريدون ؟ فقال: إنهم يريدون منك إما أن تعزل نفسك عن الامرة، وإما أن
تفتدي من نفسك من قد ضربته، أو جلدته، أو حبسته، وإما أن يقتلوك.
وفي رواية أنهم طلبوا منه أن يعزل نوابه عن الامصار ويولي عليها من يريدون هم، وإن لم يعزل نفسه أن يسلم لهم مروان بن الحكم فيعاقبوه كما زور على عثمان كتابه إلى مصر، فخشي عثمان إن سلمه إليهم أن يقتلوه، فيكون سببا في قتل امرئ مسلم وما فعل من الامر ما يستحق بسببه القتل، واعتذر عن الاقتصاص مما قالوا بأنه رجل ضعيف البدن كبير السن.
وأما ما سألوه من خلعه نفسه فإنه لا يفعل ولا ينزع قميصا قمصه الله إياه، ويترك أمة محمد يعدو بعضها على بعض ويولي السفهاء من الناس من يختاروه هم فيقع الهرج ويفسد الامر بسبب ذلك الامر كما ظنه فسدت الامة ووقع الهرج، وقال لهم فيما قال، وأي شئ إلي من الامر إن كنت كلما كرهتم أميرا عزلته، وكلما رضيتم عنه وليته ؟ وقال لهم فيما قال: والله لئن قتلتموني لا تتحابوا بعدي، ولا تصلوا جميعا أبدا، ولا تقاتلوا بعدي عدوا جميعا أبدا، وقد صدق رضي الله عنه فيما قال.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن أبي قيس، حدثني النعمان بن بشير قال: كتب معي عثمان إلى عائشة كتابا فدفعت إليها كتابه فحدثني أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعثمان: " إن الله لعله يقمصك قميصا.
فإن أرادك أحد على خلعه فلا تخلعه، ثلاث مرات " قال النعمان: فقلت يا أم المؤمنين ! فأين كنت عن هذا الحديث ؟ فقالت: يا بني والله أنسيته (1).
وقد رواه الترمذي من حديث الليث عن معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد عن عبد الله بن عامر عن النعمان عن عائشة به.
ثم قال: هذا حديث حسن غريب.
ورواه ابن ماجه من حديث الفرج بن فضالة عن ربيعة بن يزيد عن النعمان، فأسقط عبد الله بن عامر.
قال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن إسماعيل، ثنا قيس، عن أبي سهلة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ادعو لي بعض أصحابي، قلت أبو بكر ؟ قال: لا، قلت عمر ؟
__________
(1) الحديث في مسند أحمد ج 6 / 75.
قال: لا ؟ قلت ابن عمك علي ؟ قال: لا ! قالت قلت عثمان ؟ قال: نعم ! فلما جاء قال: تنحى فجعل يساره ولون عثمان يتغير، فلما كان يوم الدار وحصر فيها، قلنا: يا أمير المؤمنين ألا تقاتل ؟ قال: لا ! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدا وإني صابر نفسي عليه (1) " تفرد به أحمد.
وقال محمد بن عائد الدمشقي: حدثنا الوليد بن مسلم ثنا عبد الله بن لهيعة عن يزيد بن عمرو أنه سمع أبا ثور الفقيمي يقول: قدمت على عثمان فبينا أنا عنده فخرجت فإذا بوفد أهل مصر قد رجعوا فدخلت على عثمان فأعلمته، قال: فكيف رأيتهم ؟ فقلت: رأيت في وجوههم الشر، وعليهم ابن عديس البلوي، فصعد ابن عديس منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم الجمعة، وتنقص عثمان في خطبته، فدخلت على عثمان فأخبرته بما قال فيهم، فقال: كذب والله ابن عديس، ولولا ما ذكر ما ذكرت، إني رابع أربعة في الاسلام، ولقد أنكحني رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته ثم توفيت فأنكحني ابنته الاخرى، ولا زنيت ولا سرقت في جاهلية ولا إسلام، ولا تعنيت ولا تمنيت منذ أسلمت، ولا مسست فرجي بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد جمعت القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أتت علي جمعة إلا وأنا أعتق فيها رقبة منذ أسلمت، إلا أن لا أجدها في تلك الجمعة فأجمعها في الجمعة الثانية.
ورواه يعقوب بن سفيان عن عبد الله بن أبي بكر عن ابن لهيعة، قال: لقد اختبأت عند ربي عشرا، فذكرهن.
فصل كان الحصار مستمرا من أواخر ذي القعدة إلى يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة، فلما كان قبل ذلك بيوم، قال عثمان للذين عنده في الدار من المهاجرين والانصار - وكانوا قريبا من سبعمائة، فيهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين ومروان وأبو هريرة، وخلق من مواليه، ولو تركهم لمنعوه فقال لهم: أقسم على من لي عليه حق أن يكف يده وأن ينطلق إلى منزله، وعنده من أعيان الصحابة وأبنائهم جم غفير، وقال لرقيقه: من أغمد سيفه فهو حر.
فبرد القتال من داخل، وحمي من خارج، واشتد الامر، وكان سبب ذلك أن عثمان رأى في المنام رؤيا دلت على اقتراب أجله فاستسلم لامر الله رجاء موعوده، وشقا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وليكون خيرا بني آدم حيث قال حين أراد أخوه قتله: * (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين) * [ المائدة: 29 ] وروى أن آخر من خرج من عند عثمان من الدار، بعد أن عزم عليهم في الخروج، الحسن بن علي وقد خرج، وكان أمير الحرب على أهل الدار عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم.
وروى موسى بن عقبة عن سالم أو نافع أن ابن
__________
(1) الحديث في مسند أحمد ج 6 / 52 وأخرجه ابن سعد عن أبي سهلة مولى عثمان من طريق حماد بن اسامة 3 / 66.
وفيه قال أبو سهلة: وانهم يرون انه ذلك اليوم، يوم حصاره في الدار.
ولم يلبس سلاحه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يوم الدار ويوم نجرة الحروري.
قال أبو جعفر الداري أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر: أن عثمان رضي الله عنه أصبح يحدث الناس، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: يا عثمان افطر عندنا " فأصبح صائما وقتل من يومه، وقال ؟ ؟ بن عمر عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن رجل قال دخل عليه كثير بن الصلت فقال: يا أمير المؤمنين اخرج فاجلس بالفناء فيرى الناس وجهك فإنك إن فعلت ارتدعوا.
فضحك وقال: ؟ ير رأيت البارحة وكأني دخلت على نبي الله وعنده أبو بكر وعمر، فقال: " ارجع فإنك مفطر عندي غدا " ثم قال عثمان: ولن تغيب الشمس والله غدا أو كذا وكذا إلا وأنا من أهل الآخرة، قال: فوضع سعد وأبو هريرة السلاح وأقبلا حتى دخلا على عثمان.
وقال موسى بن عقبة: ؟ ني أبو علقمة - مولى لعبد الرحمن بن عوف - حدثني ابن الصلت قال: أغفى عثمان بن عفان ؟ ؟ يوم الذي قتل فيه فاستيقظ فقال: لولا أن يقول الناس تمنى عثمان أمنية لحدثتكم.
قال: قلنا ؟ حك الله، حدثنا فلسنا نقول ما يقول الناس، فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامي، " فقال: إنك شاهد معنا الجمعة ".
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو عبد الرحمن القرشي، ؟ لف بن تميم، ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر البجلي، ثنا عبد الله بن عمير حدثني كثير الصلت قال: دخلت على عثمان وهو محصور، فقال لي: يا كثير ما أراني إلا مقتولا يومي ؟ ؟.
قال: قلت ينصرك الله على عدوك يا أمير المؤمنين، قال: ثم أعاد علي فقلت وقت لك في
؟ ؟ اليوم شئ أو قيل لك شئ ؟ قال: لا ! ولكني سهرت في ليلتي هذه الماضية، فلما كانت وقت ؟ حر أغفيت إغفاءة فرأيت فيما يرى النائم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لي: يا عثمان الحقنا لا تحبسنا، فإنا ننتظرك " قال: فقتل من يومه ذلك.
وقال ابن أبي الدنيا ثنا إسحاق بن إسماعيل، ثنا يزيد بن هارون، عن فرج بن فضالة، عن مروان بن أبي أمية عن عبد الله بن سلام.
قال: أتيت عثمان لاسلم عليه وهو محصور، فدخلت عليه فقال: مرحبا ؟ ؟، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة في هذه الخوخة - قال: وخوخة في البيت - فقال: " يا عثمان ؟ ؟ وك قلت: نعم ! قال: عطشوك ؟ قلت: نعم ! فأدلى دلوا فيه ماء فشربت حتى رويت ؟ ؟ ؟ إني لاجد برده بين ثديي وبين كتفي، وقال لي: إن شئت نصرت عليهم، وإن شئت أفطرت ؟ ؟ ؟، فاخترت أن أفطر عنده " فقتل ذلك اليوم.
وقال محمد بن سعد: أنا عفان بن مسلم، ثنا وهيب، ثنا داود، عن زياد بن عبد الله، ؟ م هلال بنت وكيع عن امرأة عثمان - قال: وأحسبها بنت الفرافصة - قالت: أعفى عثمان مستيقظ قال: إن القوم يقتلوني، قلت: كلا يا أمير المؤمنين.
قال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، فقالوا: أفطر عندنا الليلة، أو إنك مفطر عندنا الليلة (1).
وقال الهيثم بن
__________
(1) ؟ ؟ بقات ابن سعد ج 3 / 75.
كليب: حدثنا عيسى بن أحمد العسقلاني ثنا شبابة ثنا يحيى بن أبي راشد مولى عمر بن حريث عن محمد بن عبد الرحمن الجرشي.
وعقبة بن أسد عن النعمان بن بشير عن نائلة بنت الفرافصة الكلبية - امرأة عثمان - قالت: لما حصر عثمان ظل اليوم الذي كان فيه قتله صائما، فلما كان إفطاره سألهم الماء العذب فأبوا عليه، وقالوا: دونك ذلك الركي (1).
وركي في الدار الذي ؟ فيه النتن - قالت: فلم يفطر فرأيت جارا على أحاجير متواصلة - وذلك في السحر - فسألتهم العذب، فأعطوني كوزا من ماء، فأتيته فقلت: هذا ماء عذب أتيتك به، قالت: فنظر في الفجر قد طلع فقال: إني أصبحت صائما، قالت: فقلت ومن أين أكلت ؟ ولم أر أحدا ؟ ؟
بطعام ولا شراب ؟ فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع علي من هذا السقف ومعه دلو من ؟ ؟ فقال: اشرب يا عثمان، فشربت حتى رويت، ثم قال: ازدد فشربت حتى نهلت، ثم قال: إن القوم سينكرون عليك، فإن قاتلتهم ظفرت، وإن تركتهم أفطرت عندنا، قالت: فدخلوا عليه من يومه فقتلوه.
وقال أبو يعلي الموصلي وعبد الله بن الامام أحمد: حدثني عثمان بن أبي شيبة ثنا يونس بن يعفور العبدي عن أبيه عن مسلم أبي سعيد مولى عثمان بن عفان: أن عثمان أعتق عشرين مملوكا ودعا بسراويل فشدها ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام، وقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأبا بكر وعمر، وأنهم قالوا لي: اصبر فإنك تفطر عندنا الليلة، ثم دعا بمصحف فنشره بين ؟ ؟ فقتل وهو بين يديه.
قلت: إنما لبس السراويل رضي الله عنه في هذا اليوم لئلا تبدو عورته إذا ؟ ؟ فإنه كان شديد الحياء، كانت تستحي منه ملائكة السماء، كما نطق بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ووضع ؟ ؟ يديه المصحف يتلو فيه، واستسلم لقضاء الله عز وجل، وكف يده عن القتال، وأمر الناس و ؟ ؟ عليهم أن لا يقاتلوا دونه، ولولا عزيمته عليهم لنصروه من أعدائه، ولكن كان أمر الله قدرا ؟ ؟ مقدورا.
وقال هشام بن عروة عن أبيه: إن عثمان رضي الله عنه أوصى إلى الزبير.
وقال ؟ ؟ الاصمعي عن العلاء بن الفضل عن أبيه.
قال: لما قتل عثمان فتشوا خزانته فوجدوا فيها صند ؟ ؟ مقفلا ففتحوه فوجدوا فيه حقة فيها ورقة مكتوب فيها: " هذه وصية عثمان.
بسم الله الرحمن الرحيم، عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الله يبعث من في القبور، ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، عليها يحيى وعليها يموت، وعليها يبعث إن شاء الله تعالى ".
وروى ابن عساكر أن عثمان رضي الله عنه قال يوم دخلوا عليه فقتلوه: أرى الموت لا يبقى عزيزا ولم يدع * لعاذ ملاذا في البلاد ومرتعا
__________
(1) الركي: بئر الماء.
وقال أيضا: يبيت أهل الحصن والحصن مغلق * ويأتي الجبال الموت في شماريخها العلا صفة قتله رضي الله عنه وقال خليفة بن خياط: حدثنا ابن علية ثنا ابن عون (1) عن الحسن قال أنبأني رباب.
قال: بعثني عثمان فدعوت له الاشتر فقال: ما يريد الناس ؟ قال: ثلاث ليس من إحداهن بد، قال: ما هن ؟ قال: يخيرونك بين أن تخلع لهم أمرهم فتقول: هذا أمركم فاختاروا من شئتم، وبين أن تقتص من نفسك، فإن أبيت فإن القوم قاتلوك.
فقال: أما أن أخلع لهم أمرهم فما كنت لاخلع سربالا سربلنيه الله، وأما أن أقتص لهم من نفسي، فوالله لئن قتلتموني لا تحابون بعدي، ولا تصلون بعدي جميعا، ولا تقاتلون بعدي جميعا عدوا أبدا.
قال: وجاء رويجل كأنه ذئب فاطلع من باب ورجع، وجاء محمد بن أبي بكر في ثلاثة عشر رجلا، فأخذ بلحيته فعال بها حتى سمعت وقع أضراسه، فقال: ما أغنى عنك معاوية، وما أغنى عنك ابن عامر، وما أغنت عنك كتبك، قال: أرسل لحيتي يا بن أخي، قال: فأنا رأيته استعدى رجلا من القوم بعينه - يعني أشار إليه - فقام إليه بمشقص فوجى به رأسه.
قلت: ثم مه ؟ قال: ثم تعاوروا (2) عليه حتى قتلوه.
قال سيف بن عمر التميمي رحمه الله عن العيص بن القاسم، عن رجل، عن خنساء مولاة أسامة بن زيد - وكانت تكون مع نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان - أنها كانت في الدار ودخل محمد ابن أبي بكر يأخذ بلحيته وأهوى بمشاقص معه فيجأ بها في حلقه، فقال مهلا يا بن أخي، فوالله لقد أخذت مأخذا ما كان أبوك ليأخذ به، فتركه وانصرف مستحييا نادما، فاستقبله القوم على باب الصفة فردهم طويلا حتى غلبوه، فدخلوا وخرج محمد راجعا.
فأتاه رجل بيده جريدة يقدمهم حتى قام على عثمان فضرب بها رأسه فشجه، فقطر دمه على المصحف حتى لطخه، ثم تعاوروا عليه فأتاه رجل فضربه على الثدي بالسيف، ووثبت نائلة بنت الفرافصة الكلبية فصاحت وألقت نفسها عليه، وقالت: يا بنت شيبة أيقتل أمير المؤمنين ؟ وأخذت السيف، فقطع الرجل يدها (3)، وانتهبوا متاع الدار ومر رجل على عثمان ورأسه مع المصحف فضرب رأسه برجله
ونحاه عن المصحف وقال: ما رأيت كاليوم وجه كافر أحسن ولا مضجع كافر أكرم.
قال: والله ما تركوا في داره شيئا حتى الاقداح إلا ذهبوا به.
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة: عوف تحريف.
(2) في الطبري وابن سعد 3 / 73: تغاووا عليه.
(3) في رواية الطبري والكامل: أصابع يدها.
وروى الحافظ ابن عساكر أن عثمان لما عزم على أهل الدار في الانصراف ولم يبق عنده سوى أهله تسوروا عليه الدار وأحرقوا الباب ودخلوا عليه، وليس فيهم أحد من الصحابة ولا أبنائهم، إلا محمد بن أبي بكر، وسبقه بعضهم، فضربوه حتى غشي عليه وصاح النسوة فانزعروا وخرجوا ودخل محمد بن أبي بكر وهو يظن أنه قد قتل، فلما رآه قد أفاق قال: على أي دين أنت يا نعثل ؟ قال: على دين الاسلام، ولست بنعثل ولكني أمير المؤمنين، فقال: غيرت كتاب الله، فقال: كتاب الله بيني وبينكم، فتقدم إليه وأخذ بلحيته وقال: إنا لا يقبل منا يوم القيامة أن نقول: * (ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) * وشطحه بيده من البيت إلى باب الدار، وهو يقول: يا بن أخي ما كان أبوك ليأخذ بلحيتي.
وجاء رجل من كندة من أهل مصر، يلقب حمارا، ويكنى بأبي رومان.
وقال قتادة: اسمه رومان، وقال غيره: كان أزرق أشقر، وقيل كان اسمه سودان بن رومان المرادي.
وعن ابن عمر قال: كان اسم الذي قتل عثمان أسود بن حمران ضربه بحربة وبيده السيف صلتا قال ثم جاء فضربه به في صدره حتى أقعصه، ثم وضع ذباب السيف في بطنه واتكى عليه وتحامل حتى قتله، وقامت نائلة دونه فقطع السيف أصابعها رضي الله عنها، ويروى أن محمد بن أبي بكر طعنه بمشاقص في أذنه حتى دخلت في حلقه.
والصحيح أن الذي فعل ذلك غيره، وأنه استحى ورجع حين قال له عثمان: لقد أخذت بلحية كان أبوك يكرمها.
فتذمم من ذلك وغطى وجهه ورجع وحاجز دونه فلم يفد وكان أمر الله قدرا مقدورا، وكان ذلك في الكتاب مسطورا.
وروى ابن عساكر عن ابن عون أن كنانة بن بشر ضرب جبينه ومقدم رأسه بعمود حديد فخر لجنبيه (1)، وضربه سودان بن حمران المرادي بعدما خر لجنبه فقتله، وأما عمرو بن الحمق فوثب على عثمان فجلس على صدره، وبه رمق، فطعنه تسع طعنات، وقال: أما ثلاث منهن فلله، وست لما كان في صدري عليه.
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي، وإسحاق بن داود الصواف التستري قالا: ثنا محمد بن خالد بن خداش، ثنا مسلم بن قتيبة، ثنا مبارك عن الحسن.
قال: " حدثني سياف عثمان أن رجلا من الانصار دخل على عثمان فقال: ارجع يا بن أخي فلست بقاتلي، قال: وكيف علمت ذلك ؟ قال: لانه أتى بك النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعك فحنكك ودعا لك بالبركة.
ثم دخل عليه رجل آخر من الانصار فقال له مثل ذلك سواء.
ثم دخل محمد بن أبي بكر فقال: أنت قاتلي.
قال: وما يدريك يا نعثل ؟ قال: لانه أتى بك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم سابعك ليحنكك ويدعو لك بالبركة، فخريت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فوثب على صدره وقبض على لحيته، ووجأه بمشاقص كانت في يده ".
هذا حديث غريب جدا وفيه نكارة.
وثبت من غير وجه
__________
(1) في رواية عبد الرحمن بن الحارث عن ابن عون: خر لجبينه.
وفي فتوح ابن الاعثم: سقط على قفاه.
أن أول قطرة من دمه سقطت على قوله تعالى * (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) * [ البقرة: 137 ] ويروى أنه كان قد وصل إليها في التلاوة أيضا حين دخلوا عليه، وليس ببعيد فإنه كان قد وضع المصحف يقرأ فيه القرآن.
وروى ابن عساكر أنه لما طعن قال: بسم الله توكلت على الله، فلما قطر الدم قال: سبحان الله العظيم.
وقد ذكر ابن جرير في تاريخه بأسانيده أن المصريين لما وجدوا ذلك الكتاب مع البريد إلى أمير مصر، فيه الامر بقتل بعضهم، وصلب بعضهم، وبقطع أيدي بعضهم وأرجلهم، وكان قد كتبه مروان بن الحكم على لسان عثمان، متأولا قوله تعالى * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو
ينفوا من الارض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب أليم) * [ المائدة: 33 ] وعنده أن هؤلاء الذين خرجوا على أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه من جملة المفسدين في الارض، ولا شك أنهم كذلك، لكن لم يكن له أن يفتات على عثمان ويكتب على لسانه بغير علمه، ويزور على خطه وخاتمه، ويبعث غلامه على بعيره، بعد ما وقع الصلح بين عثمان وبين المصريين (1)، على تأمير محمد بن أبي بكر على مصر، بخلاف ذلك كله، ولهذا لما وجدوا هذا الكتاب على خلاف ما وقع الاتفاق عليه، وظنوا أنه من عثمان، أعظموا ذلك، مع ما هم مشتملون عليه من الشر فرجعوا إلى المدينة فطافوا به على رؤوس الصحابة، وأعانهم على ذلك قوم آخرون، حتى ظن بعض الصحابة أن هذا عن أمر عثمان رضي الله عنه، فلما قيل لعثمان رضي الله عنه في أمر هذا الكتاب بحضرة جماعة من أعيان الصحابة وجمهور المصريين، حلف بالله العظيم، وهو الصادق البار الراشد، أنه لم يكتب هذا الكتاب ولا أملاه على من كتبه، ولا علم به، فقالوا له: فإن عليه خاتمك.
فقال: إن الرجل قد يزور على خطه وخاتمه قالوا: فإنه مع غلامك وعلى جملك.
فقال: والله لم أشعر بشئ من ذلك.
فقالوا له - بعد كل مقالة - إن كنت قد كتبته فقد خنت، وإن لم تكن قد كتبته بل كتب على لسانك وأنت لا تعلم فقد عجزت، ومثلك لا يصلح للخلافة، إما لخيانتك، وإما لعجزك، وهذا الذي قالوا باطل على كل تقدير فإنه لو فرض أنه كتب الكتاب، وهو لم يكتبه في نفس الامر، لا يضره ذلك لانه قد يكون رأى ذلك مصلحة للامة في إزالة شوكة هؤلاء البغاة الخارجين على الامام، وأما إذا لم يكن قد علم به فأي عجز ينسب إليه إذا لم يكن قد اطلع عليه وزور على لسانه ؟ وليس هو بمعصوم بل الخطأ والغفلة جائزان عليه رضي الله عنه، وإنما هؤلاء الجهلة البغاة متعنتون خونة، ظلمة مفترون، ولهذا صمموا بعد هذا على حصره والتضييق عليه، حتى منعوه الميرة والماء والخروج إلى المسجد، وتهددوه بالقتل، ولهذا خاطبهم بما
__________
(1) وكان المصريون قد انصرفوا ومعهم محمد بن أبي بكر أميرا عليهم ومعه كتاب بذلك من عثمان.
(انظر نصه في فتوح ابن الاعثم 2 / 210 ونص كتاب عثمان إلى ابن أبي سرح عامله على مصر في هذا الموضوع).
خاطبهم به من توسعة المسجد وهو أول من منع منه، ومن وقفه بئر رومة على المسلمين وهو أول من منع ماءها، ومن أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث، النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة " وذكر أنه لم يقتل نفسا، ولا ارتد بعد إيمانه، ولا زنى في جاهلية ولا إسلام، بل ولا مس فرجه بيمينه بعد أن بايع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية بعد أن كتب بها المفصل.
ثم ذكر لهم من فضائله ومناقبه ما لعله ينجع فيهم بالكف عنه والرجوع إلى الطاعة لله ولرسوله ولاولي الامر منهم، فأبوا إلا الاستمرار على ما هم عليه من البغي والعدوان، ومنعوا الناس من الدخول إليه والخروج من عنده، حتى اشتد عليه الحال، وضاق المجال، ونفذ ما عنده من الماء، فاستغاث بالمسلمين في ذلك فركب علي بنفسه وحمل معه قربا من الماء فبالجهد حتى أوصلها إليه (1) بعد ما ناله من جهلة أولئك كلام غليظ، وتنفير لدابته، وإخراق عظيم بليغ، وكان قد زجرهم أتم الزجر، حتى قال لهم فيما قال: والله إن فارس والروم لا يفعلون كفعلكم هذا بهذا الرجل، والله إنهم ليأسرون فيطعمون ويسقون، فأبوا أن يقبلوا منه حتى رمى بعمامته في وسط الدار.
وجاءت أم حبيبة راكبة بغلة وحولها حشمها وخدمها، فقالوا ما جاء بك ؟ فقالت: إن عنده وصايا بني أمية، لايتام وأرامل، فأحببت أن أذكره بها، فكذبوها في ذلك ونالها منهم شدة عظيمة، وقطعوا حزام البغلة وندت بها، وكادت أو سقطت عنها، وكادت تقتل لولا تلاحق بها الناس فأمسكوا بدابتها، ووقع أمر كبير جدا، ولم يبق يحصل لعثمان وأهله من الماء إلا ما يوصله إليهم آل عمرو بن حزم في الخفية ليلا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما وقع هذا أعظمه الناس جدا، ولزم أكثر الناس بيوتهم، وجاء وقت الحج فخرجت أم المؤمنين عائشة في هذه السنة إلى الحج، فقيل لها: إنك لو أقمت كان أصلح، لعل هؤلاء القوم يهابونك، فقالت: إني أخشى أن أشير عليهم برأي فينالني منهم من الاذية ما نال أم حبيبة، فعزمت على الخروج.
واستخلف عثمان رضي الله عنه في هذه السنة على الحج عبد الله بن عباس، فقال له عبد الله بن عباس: إن مقامي على بابك أحاجف عنك أفضل من الحج.
فعزم
عليه، فخرج بالناس إلى الحج واستمر الحصار بالدار حتى مضت أيام التشريق ورجع اليسير من الحج، فأخبر بسلامة الناس، وأخبر أولئك بأن أهل الموسم عازمون على الرجوع إلى المدينة ليكفوكم عن أمير المؤمنين.
وبلغتهم أيضا أن معاوية قد بعث جيشا مع حبيب بن مسلمة، وأن عبد الله بن سعد بن أبي سرح قد نفذ آخر مع معاوية بن خديج، وأن أهل الكوفة قد بعثوا
__________
(1) في مروج الذهب: فبلغ عليا طلبه للماء فبعث إليه بثلاث قرب ماء فما وصل إليه ذلك.
وقال ابن الاعثم في الفتوح: 2 / 219 فأرسل علي ثلاث قرب من الماء مع نفر من بني هاشم فلم يتعرض لهم أحد حتى دخلوا على عثمان وأوصلوا إليه الماء، فشرب وشرب من كان معه في الدار.
القعقاع بن عمرو في جيش، وأن أهل البصرة بعثوا مجاشعا في جيش، فعند ذلك صمموا على أمرهم وبالغوا فيه، وانتهزوا الفرصة بقلة الناس وغيبتهم في الحج، وأحاطوا بالدار، وجدوا في الحصار، وأحرقوا الباب، وتسوروا من الدار المتاخمة للدار، كدار عمرو بن حزم وغيرها، وحاجف الناس عن عثمان أشد المحاجفة، واقتتلوا على الباب قتالا شديدا، وتبارزوا وتراجزوا بالشعر في مبارزتهم، وجعل أبو هريرة يقول: هذ يوم طاب في الضراب فيه.
وقتل طائفة من أهل الدار وآخرون من أولئك الفجار، وجرح عبد الله بن الزبير جراحات كثيرة، وكذلك جرح الحسن بن علي ومروان بن الحكم فقطع إحدى علباويه فعاش أوقص حتى مات.
ومن أعيان من قتل من أصحاب عثمان، زياد بن نعيم الفهري، والمغيرة بن الاخنس بن شريق، ونيار بن عبد الله الاسلمي، في أناس وقت المعركة، ويقال إنه انهزم أصحاب عثمان ثم رجعوا.
ولما رأى عثمان ذلك عزم على الناس لينصرفوا إلى بيوتهم، فانصرفوا كما تقدم، فلم يبق عنده أحد سوى أهله، فدخلوا عليه من الباب، ومن الجدران وفزع عثمان إلى الصلاة وافتتح سورة طه، وكان سريع القراءة - فقرأها والناس في غلبة عظيمة، قد احترق الباب والسقيفة التي عنده، وخافوا أن يصل الحريق إلى بيت المال، ثم فرغ عثمان من صلاته وجلس وبين يديه المصحف، وجعل يتلو هذه الآية * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله
ونعم الوكيل) * [ ال عمران: 173 ] فكان أول من دخل عليه رجل يقال له الموت الاسود فخنقه خنقا شديدا حتى غشي عليه، وجعلت نفسه تتردد في حلقه، فتركه وهو يظن أنه قد قتله، ودخل ابن أبي بكر فمسك بلحيته ثم ند وخرج، ثم دخل عليه آخر ومعه سيف فضربه به فاتقاه بيده فقطعها، فقيل: إنه أبانها: وقيل: بل قطعها ولم يبنها، إلا أن عثمان قال: والله إنها أول يد كتبت المفصل، فكان أول قطرة دم منها سقطت على هذه الآية * (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) * [ البقرة: 137 ] ثم جاء آخر شاهرا سيفه فاستقبلته نائلة بنت الفرافصة لتمنعه منه، وأخذت السيف فانتزعه منها فقطع أصابعها.
ثم إنه تقدم إليه فوضع السيف في بطنه فتحامل عليه، رضي الله عن عثمان وفي رواية أن الغافقي بن حرب تقدم إليه بعد محمد بن أبي بكر فضربه بحديدة في فيه، ورفس المصحف الذي بين يديه برجله فاستدار المصحف ثم استقر بين يدي عثمان رضي الله عنه.
وسالت عليه الدماء، ثم تقدم سودان بن حمران بالسيف فمانعته نائلة فقطع أصابعها فولت فضرب عجيزتها بيده وقال: إنها لكبيرة العجيزة.
وضرب عثمان فقتله، فجاء غلام عثمان فضرب سودان فقتله، فضرب الغلام رجل يقال له قترة (1) فقتله.
وذكر ابن جرير أنهم أرادوا حز رأسه بعد قتله، فصاح النساء وضربن وجوههن، فيهن امرأتاه نائلة وأم البنين، وبناته، فقال ابن عديس: اتركوه، فتركوه.
ثم مال هؤلاء الفجرة على
__________
(1) في الطبري والكامل والمسعودي: قتيرة.
ما في البيت فنهبوه، وذلك أنه نادى مناد منهم: أيحل لنادمه ولا يحل لنا ماله، فانتهبوه ثم خرجوا فأغلقوا الباب على عثمان وقتيلين معه، فلما خرجوا إلى صحن الدار وثب غلام لعثمان على قترة فقتله، وجعلوا لا يمرون على شئ إلا أخذوه حتى استلب رجل يقال له كلثوم التجيبي، ملاءة نائلة، فضربه غلام لعثمان فقتله، وقتل الغلام أيضا، ثم تنادى القوم: أن أدركوا بيت المال لا تستبقوا إليه، فسمعهم حفظة بيت المال فقالوا: يا قوم النجا النجا، فإن هؤلاء القوم لم يصدقوا فيما قالوا من أن قصدهم قيام الحق والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك مما ادعوا أنهم إنما
قاموا لاجله وكذبوا إنما قصدهم الدنيا، فانهزموا وجاء الخوارج فأخذوا مال بيت المال وكان فيه شئ كثير جدا.
فصل ولما وقع هذا الامر العظيم، الفظيع الشنيع، أسقط في أيدي الناس، فأعظموه جدا، وندم أكثر هؤلاء الجهلة الخوارج بما صنعوا، وأشبهوا من تقدمهم ممن قص الله علينا خبرهم في كتابه العزيز، من الذين عبدوا العجل.
في قوله تعالى * (ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين) * [ الاعراف: 149 ].
ولما بلغ الزبير مقتل عثمان - وكان قد خرج من المدينة - قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم ترحم على عثمان، وبلغه أن الذين قتلوه ندموا فقال: تبا لهم، ثم تلا قوله تعالى * (ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون.
فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون) * [ يس: 49 ] وبلغ عليا قتله فترحم عليه.
وسمع بندم الذين قتلوه فتلا قوله تعالى * (كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين) * [ الحشر: 16 ] ولما بلغ سعد ابن أبي وقاص قتل عثمان استغفر له وترحم عليه، وتلا في حق الذين قتلوه * (قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) * [ الكهف: 103 ] ثم قال سعد: اللهم اندمهم ثم خذهم.
وقد أقسم بعض السلف بالله إنه ما مات أحد من قتلة عثمان إلا مقتولا.
رواه ابن جرير.
وهكذا ينبغي أن يكون لوجوه (منها) دعوة سعد المستجابة كما ثبت في الحديث الصحيح وقال بعضهم: ما مات أحد منهم حتى جن.
وقال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن الحارث قال: الذي قتل عثمان كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي.
وكانت امرأة منظور ابن سيار الفزاري تقول: خرجنا إلى الحج وما علمنا لعثمان بقتل، حتى إذا كنا بالمرج (1) سمعنا رجلا يغني تحت الليل:
__________
(1) في الطبري: العرج.
والعرج عقبة بين مكة والمدينة على جادة الحاج (معجم البلدان).
ألا إن خير الناس بعد ثلاثة * قتيل التجيبي الذي جاء من مصر ولما رجع الحج وجدوا عثمان رضي الله عنه قد قتل، وبايع الناس علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ولما بلغ أمهات المؤمنين في أثناء الطريق أن عثمان قد قتل، رجعن إلى مكة فأقمن بها نحوا من أربعة أشهر كما سيأتي.
فصل كانت مدة حصار عثمان رضي الله عنه في داره أربعين يوما على المشهور، وقيل كانت بضعا وأربعين يوما.
وقال الشعبي: كانت ثنتين وعشرين ليلة.
ثم كان قتله رضي الله عنه في يوم الجمعة بلا خلاف.
قال سيف بن عمر عن مشايخه: في آخر ساعة منها، ونص عليه مصعب بن الزبير وآخرون.
وقال آخرون ضحوة نهارها، وهذا أشبه، وكان ذلك لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة على المشهور، وقيل في أيام التشريق، رواه ابن جرير: حدثني أحمد بن زهير ثنا أبو خيثمة ثنا وهب بن جرير (1) سمعت يونس عن يزيد عن الزهري.
قال: قتل عثمان فزعم بعض الناس أنه قتل في أيام التشريق، وقال بعضهم قتل يوم الجمعة لثلاث (2) خلت من ذي الحجة.
وقيل قتل يوم النحر، حكاه ابن عساكر ويستشهد له بقول الشاعر: ضحوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحا وقرآنا قال: والاول هو الاشهر، وقيل إنه قتل يوم الجمعة لثماني عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين على الصحيح المشهور، وقيل سنة ست وثلاثين، قال مصعب بن الزبير وطائفة: وهو غريب.
فكانت خلافته ثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوما (3)، لانه بويع له في مستهل المحرم سنة أربع وعشرين.
فأما عمره رضي الله عنه فإنه جاوز ثنتين وثمانين سنة، وقال صالح بن كيسان: توفي عن ثنتين وثمانين سنة وأشهر، وقيل: أربع وثمانون سنة، وقال قتادة: توفي عن ثمان وثمانين أو تسعين سنة.
وفي رواية عنه توفي عن ست وثمانين سنة.
وعن هشام بن الكلبي: توفي عن خمس وسبعين سنة، وهذا غريب جدا، وأغرب منه ما رواه سيف بن عمر عن مشايخه، وهم محمد
وطلحة وأبو عثمان وأبو حارثة أنهم قالوا: قتل عثمان رضي الله عنه عن ثلاث وستين سنة.
__________
(1) زاد الطبري في روايته: قال سمعت أبي قال: (2) في الطبري: لثماني عشرة ليلة، وقال ابن الاعثم: قتل يوم الخميس لثماني عشرة خلت من ذي الحجة 2 / 241 وفي مروج الذهب ليلة الجمعة لثلاث بقين من ذي الحجة 2 / 382.
(3) في مروج الذهب: 2 / 366: إلا ثمانية أيام.
وقال ابن الاعثم: كان مقتله على رأس احدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا وثمانية عشر يوما وذكر ابن عبد البر عن الواقدي يوم الجمعة لثمان ليال خلت من ذي الحجة يوم التروية سنة خمس وثلاثين، وعن الواقدي أيضا قال: لليلتين بقيتا من ذي الحجة (هامش الاصابة 3 / 76 - 77).
وأما موضع قبره فلا خلاف أنه دفن بحش كوكب - شرقي البقيع - وقد بني عليه زمان بني أمية قبة عظيمة وهي باقية إلى اليوم.
قال الامام مالك رضي الله عنه: بلغني أن عثمان رضي الله عنه كان يمر بمكان قبره من حش كوكب فيقول: إنه سيدفن ههنا رجل صالح.
وقد ذكر ابن جرير أن عثمان رضي الله عنه بقي بعد أن قتل ثلاثة أيام لا يدفن.
قلت: وكأنه اشتغل الناس عنه بمبايعة علي رضي الله عنه حتى تمت، وقيل إنه مكث ليلتين، وقيل بل دفن من ليلته، ثم كان دفنه ما بين المغرب والعشاء خيفة من الخوارج، وقيل بل استؤذن في ذلك بعض رؤسائهم.
فخرجوا به في نفر (1) قليل من الصحابة، فيهم حكيم بن حزام، وحويطب بن عبد العزى، وأبو الجهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الاسلمي، وجبير بن مطعم، وزيد بن ثابت، وكعب بن مالك، وطلحة والزبير، وعلي بن أبي طالب وجماعة من أصحابه ونسائه، منهن امرأتاه نائلة وأم البنين بنت عتبة بن حصين، وصبيان.
وهذا مجموع من كلام الواقدي وسيف بن عمر التميمي - وجماعة من خدمه حملوه على باب بعد ما غسلوه وكفنوه.
وزعم بعضهم أنه لم يغسل ولم يكفن، والصحيح الاول.
وصلى عليه جبير بن مطعم، وقيل الزبير بن العوام، وقيل حكيم بن حزام، وقيل مروان بن الحكم، وقيل المسور بن مخرمة وقد عارضه بعض الخوارج وأرادوا رجمه،
وإلقاءه عن سريره، وعزموا على أن يدفن بمقبرة اليهود بدير سلع، حتى بعث علي رضي الله عنه إليهم من نهاهم عن ذلك وحمل جنازته حكيم بن حزام، وقيل مروان بن الحكم، وقيل المسور بن مخرمة، وأبو جهم بن حذيفة ونيار بن مكرم، وجبير بن مطعم، وذكر الواقدي أنه لما وضع ليصلى عليه - عند مصلى الجنائز - أراد بعض الانصار أن يمنعهم من ذلك، فقال أبو جهم بن حذيفة: ادفنوه فقد صلى الله عليه وملائكته ثم قالوا: لا يدفن في البقيع ولكن ادفنوه وراء الحائط، فدفنوه شرقي البقيع تحت نخلات هناك.
وذكر الواقدي أن عمير بن ضابي نزا على سريره وهو موضوع للصلاة عليه فكسر ضلعا من أضلاعه وقال: أحبست ضابيا حتى مات في السجن.
وقد قتل الحجاج فيما بعد عمير بن ضابي هذا وقال البخاري في التاريخ: حدثنا موسى بن إسماعيل عن عيسى بن منهال ثنا غالب عن محمد بن سيرين قال: كنت أطوف بالكعبة وإذا رجل يقول: اللهم اغفر لي، وما أظن أن تغفر لي، فقلت: يا عبد الله ما سمعت أحدا يقول ما تقول، قال: كنت أعطيت لله عهدا إن قدرت أن ألطم وجه عثمان إلا لطمته، فلما قتل وضع على سريره في البيت والناس يجيئون يصلون عليه، فدخلت كأني أصلي عليه، فوجدت خلوة فرفعت الثوب عن وجهه ولحيته ولطمته وقد يبست يميني.
قال ابن سيرين: فرأيتها يابسة كأنها عود.
ثم أخرجوا بعبدي عثمان اللذين قتلا في الدار، وهما صبيح
__________
(1) في طبقات ابن سعد 3 / 79: في ستة عشر رجلا.
وقال الواقدي: حمله أربعة رجال: جبير بن مطعم وحكيم بن حزام وأبو حذيفة بن حذيفة ونيار بن مكرم وصلى عليه جبيرا، قال ابن سعد وهذا أثبت.
ونجيح، رضي الله عنهما، فدفنا إلى جانبه بحش كوكب، وقيل إن الخوارج لم يمكنوا من دفنهما، بل جروهما بأرجلهما حتى ألقوهما بالبلاط فأكلتهما الكلاب، وقد اعتنى معاوية في أيام إمارته بقبر عثمان، ورفع الجدار بينه وبين البقيع، وأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حوله حتى اتصلت بمقابر المسلمين.
ذكر صفته رضي الله عنه
كان رضي الله عنه حسن الوجه دقيق (1) البشرة، كبير اللحية، معتدل القامة، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس، حسن الثغر، فيه سمرة، وقيل كان في وجهه شئ من آثار الجدري، رضي الله عنه.
وعن الزهري: كان حسن الوجه والثغر، مربوعا، أصلع، أروح الرجلين.
يخضب بالصفرة وكان قد شد أسنانه بالذهب وقد كسى ذراعيه الشعر.
وقال الواقدي: حدثنا ابن أبي سبرة عن سعيد بن أبي زيد، عن الزهري، عن عبيد الله ابن عتبة.
قال: كان لعثمان عند خازنه يوم قتل، ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم، ومائة ألف دينار (2)، فانتهبت وذهبت، وترك ألف بعير بالربذة، وترك صدقات كان تصدق بها، بئر أريس، وخيبر، ووادي القرى، فيه مائتا ألف دينار.
[ وبئر رومة كان اشتراها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسبلها ] (3).
فصل قال الاعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة أنه قال: أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن الدجال.
وروى الحافظ ابن عساكر من طريق شبابة عن حفص بن مورق الباهلي، عن حجاج بن أبي عمار الصواف عن زيد بن وهب عن حذيفة.
قال: أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن خروج الدجال، والذي نفسي بيده لا يموت رجل وفي قلبه مثقال حبة من حب قتل عثمان إلا تبع الدجال إن أدركه، وإن لم يدركه، آن به في قبره.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا وغيره: أنا محمد ابن سعد أنا عمرو بن عاصم الكلابي ثنا أبو الاشهب حدثني عوف عن محمد بن سيرين أن حذيفة
__________
(1) في رواية الواقدي: رقيق البشرة.
(2) في رواية ابن سعد عن الواقدي: خمسون ومائة ألف دينار 3 / 76 وقال في مروج الذهب: كان له عند خازنه من المال خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار وخلف خيلا كثيرا وإبلا.
2 / 367.
(3) سقطت من رواية الواقدي، وزادها في عقد الجمان ونسبها لابن كثير.
ابن اليمان قال: اللهم إن كان قتل عثمان بن عفان خيرا.
فليس لي فيه نصيب، وإن كان قتله شرا فأنا منه برئ، والله لئن كان قتله خيرا ليحلبنه لبنا، وإن كان قتله شرا ليمتص به دما (1).
وقد ذكره البخاري في صحيحه.
طريق أخرى عنه قال محمد بن عائذ: ذكر محمد بن حمزة حدثني أبو عبد الله الحراني أن حذيفة بن اليمان في مرضه الذي هلك فيه كان عنده رجل من إخوانه وهو يناجي امرأته ففتح عينيه فسألهما فقالا خيرا، فقال: شيئا تسرانه دوني ما هو بخير، قال: قتل الرجل - يعني عثمان - قال: فاسترجع ثم قال: اللهم إني كنت من هذا الامر بمعزل، فإن كان خيرا فهو لمن حضره وأنا منه برئ، وإن كان شرا فهو لمن حضره وأنا منه برئ، اليوم تغيرت القلوب يا عثمان، الحمد لله الذي سبق بي الفتن، قادتها وعلوجها الخطى، من تردى بغيره فشبع شحما وقبل عمله.
وقال الحسن بن عرفة: ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي موسى الاشعري: قال لو كان قتل عثمان هدى لاحتلبت به الامة لبنا، ولكنه كان ضلالا فاحتلبت به الامة دما، وهذا منقطع.
وقال محمد بن سعد: أنا عارم (2) بن الفضل أنا الصعق بن حزن ثنا قتادة عن زهدم الجرمي.
قال: خطب ابن عباس فقال: لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة من السماء.
وقد روي من غير هذا الوجه عنه.
وقال الاعمش وغيره عن ثابت بن عبيد عن أبي جعفر الانصاري.
قال: لما قتل عثمان جئت عليا وهو جالس في المسجد وعليه عمامة سوداء فقلت له: قتل عثمان، فقال: تبا لهم آخر الدهر.
وفي رواية: خيبة لهم.
وقال أبو القاسم البغوي: أنبأنا علي بن الجعد أنا شريك عن عبد الله بن عيسى عن ابن أبي ليلى.
قال: سمعت عليا وهو بباب المسجد أو عند أحجار الزيت (3) رافعا صوته يقول: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان.
وقال أبو هلال عن قتادة عن الحسن.
قال: قتل عثمان وعلي غائب في أرض له (4)، فلما بلغه قال: اللهم إني لم أرض ولم أمالئ.
وروى الربيع بن بدر عن سيار بن سلامة عن أبي العالية: أن عليا دخل
على عثمان فوقع عليه وجعل يبكي حتى ظنوا أنه سيلحق به.
وقال الثوري وغيره عن ليث عن طاووس عن ابن عباس قال: قال علي يوم قتل عثمان: والله ما قتلت ولا أمرت ولكني غلبت.
__________
(1) انظر طبقات ابن سعد 3 / 82.
(2) من ابن سعد 3 / 80 وفي الاصل حازم تحريف (3) أحجار الزيت: موضع بالمدينة كان فيه أحجار علا عليها الطريق فاندفنت.
(4) في فتوح ابن الاعثم: عرف الضبع، سمي بالضبع لما عليه من الحجارة التي كانت منضدة تشبيها لها بالضبع وعرفها لان للضبع عرفا من رأسها إلى ذنبها.
(معجم البلدان) وقيل موضع قبل حرة بني سليم.
ورواه غير ليث عن طاوس عن ابن عباس عن علي نحوه.
وقال حبيب بن أبي العالية عن مجاهد عن ابن عباس.
قال: قال علي إن شاء الناس حلفت لهم عند مقام إبراهيم بالله ما قتلت عثمان ولا أمرت بقتله، ولقد نهيتهم فعصوني، وقد روي من غير وجه عن علي بنحوه (1).
وقال محمد ابن يونس الكديمي: ثنا هارون بن إسماعيل ثنا قرة بن خالد عن الحسن عن قيس بن عباد.
قال: سمعت عليا يوم الجمل يقول: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي، وجاؤوني للبيعة فقلت: والله إني لاستحيي من الله أن أبايع قوما قتلوا رجلا قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لاستحيي ممن تستحي منه الملائكة " (2) وإني لاستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل في الارض لم يدفن بعد، فانصرفوا، فلما دفن رجع الناس يسألوني البيعة فقلت: اللهم إني أشفق مما أقدم عليه، ثم جاءت عزمة فبايعت.
فلما قالوا: أمير المؤمنين كان صدع قلبي وأسكت نفرة من ذلك وقد اعتنى الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر يجمع الطرق الواردة عن علي أنه تبرأ من دم عثمان، وكان يقسم على ذلك في خطبه وغيرها أنه لم يقتله ولا أمر بقتله ولا مالا ولا رضي به، ولقد نهى عنه فلم يسمعوا منه.
ثبت ذلك عنه من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث ولله الحمد والمنة.
وثبت عنه أيضا من غير وجه أنه قال: إني لارجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى فيهم * (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر
متقابلين) * [ الحجر: 47 ] وثبت عنه أيضا من غير وجه أنه قال: * (كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا) * [ المائدة: 93 ] وفي رواية أنه قال: كان عثمان رضي الله عنه خيرنا وأوصلنا للرحم، وأشدنا حياء، وأحسننا طهورا، وأتقانا للرب عز وجل.
وروى يعقوب بن سفيان عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن مجالد عن عمير بن رودى (كذا) أبي كثير.
قال: خطب علي فقطع الخوارج عليه خطبته فنزل فقال: إن مثلي ومثل عثمان كمثل أثوار ثلاثة، أحمر وأبيض وأسود، ومعهم في أجمة أسد، فكان كلما أراد قتل أحدهم منعه الآخران، فقال للاسود والاحمر: إن هذا الابيض قد فضحنا في هذه الاجمة فخليا عنه حتى آكله، فخليا عنه فأكله، ثم كان كلما أراد أحدهما منعه الآخر فقال للاحمر: إن هذا الاسود قد فضحنا في هذه الاجمة، وإن لوني على لونك فلو خليت عنه أكلته فخلى عنه الاحمر فأكله، ثم قال للاحمر: إني آكلك، فقال: دعني حتى أصيح ثلاث صيحات، فقال دونك، فقال: ألا إني إنما أكلت يوم أكل البيض ثلاثا فلو أني نصرته لما أكلت ثم قال علي: وإنما أنا وهنت يوم قتل عثمان، ولو أني نصرته لما وهنت قالها ثلاثا.
وروى ابن عساكر من طريق محمد بن هارون الحضرمي عن سويد بن عبد الله القشيري القاضي عن ابن مهدي عن حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب.
قال: كانت المرأة تجئ في زمان عثمان إلى بيت المال فتحمل وقرها وتقول: اللهم
__________
(1) الخبر في طبقات ابن سعد 3 / 82.
(2) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة ح (26) والامام أحمد في المسند 1 / 71، 6 / 63، 155، 288.
بدل، اللهم غير.
فقال حسان بن ثابت حين قتل عثمان رضي الله عنه: قلتم بدل فقد بدلكم * سنة حرى وحربا كاللهب ما نقمتم من ثياب خلفة * وعبيد وإماء وذهب قال: وقال أبو حميد أخو بني ساعدة - وكان ممن شهد بدرا، وكان ممن جانب عثمان - فلما قال: والله ما أردنا قتله، ولا كنا نرى أن يبلغ منه القتل، اللهم إن لك علي أن لا أفعل كذا وكذا
أضحك حتى ألقاك (1)، وقال محمد بن سعد أنا عبد الله بن إدريس أنا إسماعيل بن أبي خالد أنا قيس بن أبي حازم عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل.
قال: لقد رأيتني وأن عمر موثقي وأخته الاسلام، ولو أرفض أحد فيما صنعتم بإبن عفان لكان حقيقا.
وهكذا رواه البخاري في صحيحه وروى محمد بن عائذ عن إسماعيل بن عباس عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير.
قال سمع عبد الله بن سلام رجلا يقول لآخر: قتل عثمان بن عفان فلم ينتطح فيه عنزان.
فقال: سلام أجل ! إن البقر والمعز لا تنتطح في قتل الخليفة، ولكن ينتطح فيه الرجال بالسلاح، و لنقتلن به أقوام إنهم لفي أصلاب آبائهم ما ولدوا بعد.
وقال ليث عن طاوس.
قال: قال سلام: يحكم عثمان يوم القيامة في القاتل والخاذل.
وقال أبو عبد الله المحاملي: ثنا أبو الاشعث حزم بن أبي حزم سمعت أبا الاسود يقول سمعت أبا بكرة يقول: لان أخر من السماء إلى الارض أحب إلي من أن أشرك في قتل عثمان.
وقال أبو يعلى: ثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة ثنا محمد بن عباد الهباني ثنا البراء بن أبي فضال ثنا الحضرمي عن أبي مريم رضيع الجارود.
قال: كنت بالمدينة فقام الحسن بن علي خطيبا فقال: أيها الناس ! رأيت البارحة في منامي عجبا، رأيت الرب تبارك وتعالى فوق عرشه فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام عند قائمة من قوائم العرش، فجاء أبو بكر فوضع يده على منكب النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء عمر فوضع يده على منكب أبي بكر، ثم جاء عثمان فكان بيده - دم رأسه - فقال: رب سل عبادك فيم قتلوني ؟ فانبعث من السماء ميزابان من دم في الارض، قال لعلي ألا ترى ما يحدث به الحسن ؟ ! فقال: حدث بما رأى.
ورواه أبو يعلى أيضا عن سفيان بن عن جميع بن عمير عن عبد الرحمن بن مجالد عن حرب العجلي: سمعت الحسن بن علي يقول كنت لاقاتل بعد رؤيا رأيتها، رأيت العرش ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم متعلق بالعرش، ورأيت أبا بكر واضعا يده على منكب رسول الله، وكان عمر واضعا يده على منكب أبي بكر، ورأيت عثمان واضعا يده على منكب عمر، ورأيت دما دونهم، فقلت: ما هذا ؟ فقيل: دم عثمان يطلب الله به.
ثنا مسلم بن إبراهيم: ثنا سلام بن مسكين عن وهب بن شبيب عن زيد بن صوحان أنه قال: يوم قتل عثمان نفرت القلوب منافرها، والذي نفسي بيده لا تتألف إلى يوم القيامة، وقال محمد بن سيرين
قالت عائشة: مصصتموه مص الاناء ثم قتلتموه ؟ وقال خليفة بن خياط: ثنا أبو قتيبة ثنا يونس
__________
(1) الخبر رواه ابن سعد من طريق سليمان بن حرب 3 / 81.
أبي إسحاق، عن عون بن عبد الله بن عتبة.
قال: قالت عائشة: غضبت لكم من السوط ولا أغضب لعثمان من السيف، استعتبتموه حتى إذا تركتموه كالعقب المصفى قتلتموه.
وقال أبو معاوية عن الاعمش، عن خيثمة عن مسروق.
قال: قالت عائشة حين قتل عثمان: تركتموه كالثوب النقي من الدنس ثم قتلتموه.
وفي رواية: ثم قربتموه ثم ذبحتموه كما يذبح الكبش ؟ فقال لها مسروق: هذا عملك، أنت كتبت إلى الناس تأمريهم أن يخرجوا إليه، فقالت: لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون، ما كتبت لهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا.
قال الاعمش: فكانوا يرون أنه كتب على لسانها.
وهذا إسناد صحيح إليها.
وفي هذا وأمثاله دلالة ظاهرة على أن هؤلاء الخوارج قبحهم الله، زوروا كتبا على لسان الصحابة إلى الآفاق يحرضونهم على قتال عثمان، كما قدمنا بيانه ولله الحمد والمنة.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا حزم القطعي، ثنا أبو الاسود بن سوادة أخبرني طلق بن حسان قال: قال قتل عثمان فتفرقنا في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نسألهم عن قتله فسمعت عائشة تقول: قتل مظلوما لعن الله قتلته.
وروى محمد بن عبد الله الانصاري عن أبيه عن ثمامة عن أنس.
قال: قالت أم سليم لما سمعت بقتل عثمان: رحمه الله، أما إنه لم يحلبوا بعده إلا دما.
وأما كلام أئمة التابعين في هذا الفصل فكثير جدا يطول ذكرنا له، فمن ذلك قول أبي مسلم الخولاني حين رأى الوفد الذين قدموا من قتله أنكم مثلهم أو أعظم جرما أما مررتم ببلاد ثمود ؟ قالوا: نعم ! قال: فأشهد أنكم مثلهم، لخليفة الله أكرم عليه من ناقته.
وقال ابن علية عن يونس ابن عبيد عن الحسن.
قال: لو كان قتل عثمان هدى لاحتلبت به الامة لبنا، ولكنه كان ضلالا فاحتلبت به الامة دما.
وقال أبو جعفر الباقر: كان قتل عثمان على غير وجه الحق (1).
وهذا ذكر بعض ما رثي به رضي الله عنه
قال مجالد عن الشعبي: ما سمعت من مراثي عثمان أحسن من قول كعب بن مالك: فكف يديه ثم أغلق بابه * وأيقن أن الله ليس بغافل وقال لاهل الدار لا تقتلوهم * عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل فكيف رأيت الله صب عليهم * العداوة والبغضاء بعد التواصل وكيف رأيت الخير أدبر بعده * عن الناس إدبار النعام الجوافل (2)
__________
(1) ذكر ابن سعد في طبقاته ما قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله في قتله بأسانيد وطرق كثيرة ج 3 / 80 وما بعدها (2) في الاستيعاب: السحاب الحوافل
وقد نسب هذه الابيات سيف بن عمر إلى أبي المغيرة الاخنس بن شريق (1).
وقال سيف بن عمر: وقال حسان بن ثابت: ماذا أردتم من أخي الدين باركت * يد الله في ذاك الاديم المقدد قتلتم ولي الله في جوف داره * وجئتم بأمر جائر غير مهتد فهلا رعيتم ذمة الله بينكم * وأوفيتم بالعهد عهد محمد ألم يك فيكم ذا بلاء ومصدق * وأوفاكم عهدا لدى كل مشهد فلا ظفرت أيمان قوم تبايعوا (2) * على قتل عثمان الرشيد المسدد وقال ابن جرير: وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه: من سره الموت صرفا لا مزاج له * فليأت مأسدة في دار عثمانا مستحقبي حلق الماذي قد سفعت (3) * فوق المخاطم بيض زان أبدانا ضحوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحا وقرآنا (4) صبرا فدى لكم أمي وما ولدت * وقد ينفع الصبر في المكروه أحيانا فقد رضينا (5) بأرض الشام نافرة * وبالامير وبالاخوان إخوانا إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا * ما دمت حيا وما سميت حسانا
لتسمعن وشيكا في ديارهم * الله أكبر يا ثارات عثمانا (6) يا ليت شعري وليت الطير تخبرني * ما كان شأن علي وابن عفانا [ وهو القائل أيضا: إن تمس دار ابن أروى منه خاوية * باب صريع وباب محرق خرب فقد يصادف باغي العرف حاجته * فيها ويأوي إليها المجد والحسب (7)
__________
(1) وقال مصعب هي لحسان وقال عمر بن شبة هي للوليد بن عقبة بن أبي معيط (الاستيعاب).
(2) في الاستيعاب: تعاونوا.
(3) في الطبري والكامل وابن الاعثم: مستشعري حلق الماذي قد شفعت.
(4) سقط من الطبري وأثبته في الاستيعاب وقال: هذا البيت يختلف فيه ينسب إلى غيره وقال بعضهم هو لعمران بن حطان.
وهو في الكامل.
(5) في ابن الاعثم: رضيت حقا.
(6) البيت في فتوح ابن الاعثم: لتسمعن وشيكا في دياركم * خيلا تكدس تحت النخع فرسانا (7) البيت في الطبري والكامل: فقد يصادف باغي الخير حاجته * فيها ويهوي إليها الذكر والحسب =
يا معشر الناس ابدوا ذات أنفسكم * لا يستوي الصدق عند الله والكذب وقال الفرزدق: إن الخلافة لما أظعنت ظعنت * عن أهل يثرب إذ غير الهدى سلكوا صارت إلى أهلها منهم ووارثها * لما رأى الله في عثمان ما انتهكوا السافكي دمه ظلما ومعصية * أي دم لا هدوا من غيتهم سفكوا ] (1) وقال راعي الابل النميري في ذلك:
عشية يدخلون بغير إذن * على متوكل أوفى وطابا خليل محمد ووزير صدق * ورابع خير من وطئ الترابا فصل إن قال قائل كيف وقع قتل عثمان رضي الله عنه بالمدينة وفيها جماعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم ؟ فجوابه من وجوه (أحدها) أن كثيرا منهم بل أكثرهم أو كلهم لم يكن يظن أنه يبلغ الامر إلى قتله، فإن أولئك الاحزاب لم يكونوا يحاولون قتله عينا، بل طلبوا منه أحد أمور ثلاثة، إما أن يعزل نفسه، أو يسلم إليهم مروان بن الحكم، أو يقتلوه، فكانوا يرجون أن يسلم إلى الناس مروان، أو أن يعزل نفسه ويستريح من هذه الضائقة الشديدة.
وأما القتل فما كان يظن أحد أنه يقع، ولا أن هؤلاء يجترئون عليه إلى ما هذا حده، حتى وقع ما وقع والله أعلم.
- الثاني - أن الصحابة مانعوا دونه أشد الممانعة، ولكن لما وقع التضييق الشديد، عزم عثمان على الناس أن يكفوا أيديهم ويغمدوا أسلحتهم ففعلوا، فتمكن أولئك مما أرادوا، ومع هذا ما ظن أحد من الناس أنه يقتل بالكلية - الثالث - أن هؤلاء الخوارج لما اغتنموا غيبة كثير من أهل المدينة في أيام الحج، ولم تقدم الجيوش من الآفاق للنصرة، بل لما اقترب مجيئهم، انتهزوا فرصتهم، قبحهم الله، وصنعوا ما صنعوا من الامر العظيم - الرابع - أن هؤلاء الخوارج كانوا قريبا من ألفي مقاتل من الابطال، وربما لم يكن في أهل المدينة هذه العدة من المقاتلة، لان الناس كانوا في الثغور وفي الاقاليم في كل جهة، ومع هذا كان كثير من الصحابة اعتزل هذه الفتنة ولزموا بيوتهم، ومن كان يحضر منهم المسجد لا يجئ إلا ومعه السيف، يضعه على حبوته إذا احتبى، والخوارج محدقون بدار عثمان رضي الله عنه، وربما لو أرادوا صرفهم عن الدار لما أمكنهم ذلك، ولكن كبار
__________
= وفي الاستيعاب: فيها ويأوي إليها الجود والحسب.
(1) في هامش النسخة المطبوعة قال: زيادة من تاريخ البدر العيني نقلها في سياق عبارة ابن كثير.
وأورد ابن عبد البر في الاستيعاب البيتان الاول والثاني ونسبهما إلى حميد بن ثور الهلالي.
الصحابة قد بعثوا أولادهم إلى الدار يحاجفون عن عثمان رضي الله عنه، لكي تقدم الجيوش من الامصار لنصرته، فما فجئ الناس إلا وقد ظفر أولئك بالدار من خارجها، وأحرقوا بابها، وتسوروا عليه حتى قتلوه، وأما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسلمه ورضي بقتله، فهذا لا يصح عن أحد من الصحابة أنه رضي بقتل عثمان رضي الله عنه، بل كلهم كرهه، ومقته، وسب من فعله، ولكن بعضهم كان يود لو خلع نفسه من الامر، كعمار بن ياسر، ومحمد بن أبي بكر، وعمرو بن الحمق وغيرهم.
وقد ذكر ابن عساكر في ترجمة سهم بن خنش أو خنيش أو خنش الازدي - وكان قد شهد الدار - ورواه محمد بن عائذ عن إسماعيل بن عياش عن محمد بن يزيد الرجي عنه وكان قد استعاده عمر بن عبد العزيز إلى دير سمعان فسأله عن مقتل عثمان فذكر ما ملخصه: أن وفد السبائية وفد مصر كانوا قد قدموا على عثمان فأجازهم وأرضاهم فانصرفوا راجعين ثم كروا إلى المدينة فوافقوا عثمان قد خرج لصلاة الغداة أو الظهر فحصبوه بالحصا والنعال والخفاف فانصرف إلى الدار ومعه أبو هريرة والزبير وابنه عبد الله وطلحة ومروان والمغيرة بن الاخنس في ناس، وأطاف وفد مصر بداره، فاستشار الناس فقال عبد الله بن الزبير: يا أمير المؤمنين إني أشير بإحدى ثلاث خصال إما أن تحرم بعمرة فيحرم عليهم دماؤنا وإما أن نركب معك إلى معاوية بالشام، وإما أن نخرج فنضرب بالسيف إلى أن يحكم الله بيننا وبينهم فأنا على الحق وهم على الباطل.
فقال عثمان: أما ما ذكرت من الاحياء بعمرة فتحرم دماؤنا فإنهم يرونا ضلالا الآن وحال الاحرام وبعد الاحرام، وأما الذهاب إلى الشام فإني أستحيي أن أخرج من بينهم خائفا فيراني أهل الشام وتسمع الاعداء من الكفار ذلك، وأما القتال فإني أرجو أن ألقى الله وليس يهراق بسببي محجمة دم.
قال: ثم صلينا معه صلاة الصبح ذات يوم فلما فرغ أقبل على الناس فقال: إني رأيت أبا بكر وعمر أتياني الليلة فقالا لي: صم يا عثمان فإنك تفطر عندنا، وإني أشهدكم أني قد أصبحت صائما وإني أعزم على من كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخرج من الدار سالما مسلوما منه.
فقلنا: يا أمير المؤمنين إن خرجنا لم نأمن منهم علينا فأذن لنا أن نكون معه في بيت من الدار تكون لنا فيه
جماعة ومنعة، ثم أمر بباب الدار ففتح ودعا بالمصحف فأكب عليه وعنده امرأتاه بنت الفرافصة وابنة شيبة فكان أول من دخل عليه محمد بن أبي بكر فأخذ بلحيته فقال: دعها يا بن أخي فوالله لقد كان أبوك يتلهف لها بأدنى من هذا، فاستحيى فخرج فقال للقوم: قد أشعرته لكم وأخذ عثمان ما امتعط من لحيته فأعطاه إحدى امرأتيه ثم دخل رومان بن سودان رجل أزرق قصير محدد عداده من مراد معه حرف من حديد فاستقبله فقال: على أي ملة أنت يا نعثل ؟ فقال عثمان: لست بنعثل ولكني عثمان بن عفان، وأنا على ملة إبراهيم حنيفا مسلما وما أنا من المشركين فقال: كذبت، وضربه بالحرف على صدغه الايسر فقتله فخر فأدخلته نائلة بينها وبين ثيابها - وكانت جسيمة ضليعة - فألقت نفسها عليه وألقت بنت شيبة نفسها على ما بقى من جسده ودخل رجل من
أهل مصر بالسيف مصلتا فقال: والله لاقطعن أنفه فعالج المرأة عنه فغلبته فكشف عنها درعها من خلفها حتى نظر إلى متنها فلما لم يصل إليه أدخل السيف بين قرطها ومنكبها فقبضت على السيف فقطع أناملها، فقالت: يا رباح، لغلام عثمان أسود يا غلام ادفع عني هذا الرجل، فمشى إليه الغلام فضربه فقتله وخرج أهل البيت يقاتلون عن أنفسهم فقتل المغيرة بن الاخنس وجرح مروان ؟ ال: فلما أمسينا قلنا: إن تركتم صاحبكم حتى يصبح مثلوا به فاحتملناه إلى بقيع الغرقد في جوف الليل وغشينا سواد من خلفنا فهبناهم وكدنا أن نتفرق عنه فنادى مناديهم: أن لا روع عليكم البثوا إنما جئنا لنشهده معكم - وكان أبو حبيش يقول: هم ملائكة الله - فدفناه ثم هربنا إلى الشام من ليلتنا فلقينا الجيش بوادي القرى عليه حبيب بن مسلمة قد أتوا في نصرة عثمان فأخبرناهم بقتله ودفنه.
وقال أبو عمر بن عبد البر: دفنوا عثمان رضي الله عنه بحش كوكب (1) - وكان قد اشتراه ؟ زاده في البقيع - ولقد أحسن بعض السلف إذ يقول وقد سئل عن عثمان: هو أمير البررة، وقتيل الفجرة، مخذول من خذله، منصور من نصره.
وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي في آخر ترجمة عثمان وفضائله - بعد حكايته هذا الكلام:
للذين قتلوه أو ألبوا عليه قتلوا إلى عفو الله ورحمته، والذين خذلوه خذلوا وتنغص عيشهم، وكان ؟ ؟ للك بعده في نائبه معاوية وبنيه، ثم في وزيره مروان وثمانية من ذريته، استطالوا حياته وملوه مع ؟ ضله وسوابقه، فتملك عليهم من هو من بني عمه بضعا وثمانين سنة، فالحكم لله العلي الكبير.
هذا لفظه بحروفه.
بعض الاحاديث الواردة في فضائل عثمان بن عفان هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن ؟ ياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
أبو عمرو وأبو عبد الله، القرشي، الاموي، أمير المؤمنين، ذو النورين، وصاحب الهجرتين، وزوج الابنتين.
وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن عبد شمس.
وأمها أم حكيم وهي البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد الثلاثة الذين خلصت لهم الخلافة من الستة، ثم تعينت فيه بإجماع المهاجرين والانصار رضي الله عنهم، فكان ثالث الخلفاء الراشدين، والائمة المهديين، المأمور باتباعهم والاقتداء بهم.
أسلم عثمان رضي الله عنه قديما على يدي أبي بكر الصديق، وكان سبب إسلامه عجيبا فيما
__________
(1) حش كوكب: الحش البستان، وكوكب: رجل من الانصار.
ذكره الحافظ ابن عساكر، وملخص ذلك أنه لما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج ابنته رقية - وكانت ذات جمال - من ابن عمها عتبة بن أبي لهب، تأسف إذ لم يكن هو تزوجها، فدخل على أهله مهموما فوجد عندهم خالته سعدى بنت كريز - وكانت كاهنة - فقالت له: أبشر وحييت ثلاثا تترا، ثم ثلاثا وثلاثا أخرى، ثم بأخرى كي تتم عشرا، أتاك خير ووقيت شرا، أنكحت والله حصانا زهرا، وأنت بكر ولقيت بكرا، وافيتها بنت عظيم قدرا، بنيت أمرا قد أشاد ذكرا * قال عثمان: فعجبت من أمرها حيث تبشرني بالمرأة قد تزوجت بغيري: فقلت: يا خالة ! ما
تقولين ؟ فقالت: عثمان لك الجمال، ولك اللسان، هذا النبي معه البرهان.
أرسله بحقه الديان.
وجاءه التنزيل والفرقان، فاتبعه لا تغتالك الاوثان.
قال: فقلت إنك لتذكرين أمرا ما وقع ببلدنا.
فقالت: محمد بن عبد الله، رسول من عند الله، جاء بتنزيل الله، يدعو به إلى الله، ثم قالت: مصباحه مصباح، ودينه فلاح، وأمره نجاح، وقرنه نطاح، ذلت له البطاح، ما ينفع الصياح، لو وقع الذباح، وسلت الصفاح ومدت الرماح.
قال عثمان: فانطلقت مفكرا فلقيني أبو بكر فأخبرته، فقال: ويحك يا عثمان إنك لرجل حازم، ما يخفى عليك الحق من الباطل، ما هذه الاصنام التي يعبدها قومنا ؟ أليست من حجارة صم لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ؟ قال قلت بلى ! والله إنها لكذلك، فقال: والله لقد صدقتك خالتك، هذا رسول الله محمد بن عبد الله، قد بعثه الله إلى خلقه برسالته، هل لك أن تأتيه ؟ فاجتمعنا برسول الله فقال: يا عثمان أجب الله إلى حقه، فإني رسول الله إليك وإلى خلقه قال: فوالله ما تمالكت نفسي منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقال: أحسن زوج رآه إنسان * رقية وزوجها عثمان فقالت في ذلك سعدى بنت كريز: هدى الله عثمانا بقولي إلى الهدى * وأرشده والله يهدي إلى الحق فتابع بالرأي السديد محمدا * وكان برأي لا يصد عن الصدق وأنكحه المبعوث بالحق بنته * فكانا كبدر مازج الشمس في الافق فداؤك يا بن الهاشميين مهجتي * وأنت أمين الله أرسلت للخلق قال: ثم جاء أبو بكر من الغد بعثمان بن مظعون، وبأبي عبيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سلمة بن عبد الاسد، والارقم بن أبي الارقم، فأسلموا وكانوا مع من اجتمع مع رسول الله ثمانية وثلاثون رجلا.
وهاجر إلى الحبشة أول الناس ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عاد إلى مكة وهاجر إلى المدينة، فلما كانت وقعة بدر اشتغل بتمريض ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام
بسببها في المدينة، وضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه منها وأجره فيها، فهو معدود فيمن شهدها.
؟ ؟ وفيت زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأختها أم كلثوم فتوفيت أيضا في صحبته، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ؟ ؟ ؟ ؟ كان عندنا أخرى لزوجناها بعثمان " وشهد أحدا وفر يومئذ فيمن تولى، وقد نص الله على العفو ؟ ؟ ؟ ؟ ؟، وشهد الخندق والحديبية، وبايع عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بإحدى يديه، وشهد خيبر ؟ ؟ ؟ القضاء، وحضر الفتح وهوازن والطائف وغزوة تبوك، وجهز جيش العسرة.
وتقدم عن ؟ ؟ ؟ الرحمن بن خباب أنه جهزهم يومئذ بثلاثمائة بعير بأقتاببها وأحلاسها، وعن عبد الرحمن بن ؟ ؟ ؟ ؟ أنه جاء يومئذ بألف دينار فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: ما ضر عثمان ما فعل ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ هذا اليوم مرتين.
وحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وتوفي وهو عنه راض، وصحب أبا بكر فأحسن صحبته، وتوفي وهو عنه راض، وصحب عمر أحسن صحبته وتوفي وهو عنه ؟ ؟ ؟ ؟ ؟.
ونص عليه في أهل الشورى الستة، فكان خيرهم كما سيأتي.
فولي الخلافة بعده ففتح الله على يديه كثيرا من الاقاليم والامصار، وتوسعت المملكة الاسلامية، وامتدت الدولة المحمدية، وبلغت الرسالة المصطفوية في مشارق الارض ومغاربها، ؟ ؟ ؟ للناس مصداق قوله تعالى: * (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) * [ النور: 55 ] وقوله تعالى: * (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ كله ولو كره المشركون) * [ التوبة: 33 ] وقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله " وهذا كله تحقق ؟ ؟ ؟ ؟ وتأكد وتوطد في زمان عثمان رضي الله عنه.
وقد كان رضي الله عنه حسن الشكل، مليح الوجه، كريم الاخلاق، ذا حياء كثير، ؟ ؟ ؟ ؟ غزير، يؤثر أهله وأقاربه في الله، تأليفا لقلوبهم من متاع الحياة الدنيا الفاني، لعله يرغبهم ؟ ؟ ر ما يبقى على ما يفنى، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي أقواما ويدع آخرين، يعطي أقواما خشية
؟ بهم الله على وجوههم في النار، ويكل آخرين إلى ما جعل الله في قلوبهم من الهدى والايمان، ؟ - $ عنت عليه بسبب هذه الخصلة أقوام، كما تعنت بعض الخوارج على رسول الله صلى الله عليه وسلم في.
وقد قدمنا ذلك في غزوة حنين حيث قسم غنائمها * وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل ؟ ؟ ؟ ؟ رضي الله عنه نذكر ما تيسر منها إن شاء الله وبه الثقة، وهي قسمان - الاول - فيما ورد في ؟ ؟ ؟ ؟ مع غيره.
فمن ذلك الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: حدثنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد عن قتادة أن أنسا حدثهم قال: " صعد النبي صلى الله عليه وسلم أحدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف اسكن أحد - أظنه ضربه برجله - فليس عليك ألا نبي وصديق وشهيدان (1) " تفرد به دون
__________
؟ ؟ ؟ جه البخاري في فضائل الصحابة ح 3699 فتح الباري 7 / 53.
وأخرجه الترمذي في المناقب ح 3697 =
مسلم.
وقال الترمذي: ثنا قتيبة ثنا عبد العزيز بن محمد بن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله " كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اهدئي فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد (1) ".
ثم قال في الباب: عن عثمان (2) وسعيد بن زيد وابن عباس، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك، وبريدة الاسلمي، وهذا حديث صحيح.
قلت: ورواه أبو الدرداء، ورواه الترمذي عن عثمان في خطبته يوم الدار، وقال: على ثبير.
حديث آخر وهو عن أبي النهدي عن أبي موسى الاشعري قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط، فأمرني بحفظ الباب، فجاء رجل يستأذن فقلت: من هذا ؟ قال: أبو بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائذن له وبشره بالجنة.
ثم جاء عمر فقال ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عثمان فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فدخل وهو يقول: اللهم صبرا وفي رواية - الله المستعان (3) " رواه عنه قتادة وأيوب السختياني.
وقال البخاري: وقال حماد بن زيد: حدثنا عاصم
الاحول وعلي بن الحكم سمعا أبا عثمان يحدث عن أبي موسى الاشعري بنحوه، وزاد عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قاعدا في مكان قد انكشف عن ركبتيه، أو ركبته، فلما دخل عثمان غطاها.
وهو في الصحيحين أيضا من حديث سعيد بن المسيب عن أبي موسى، وفيه " أن أبا بكر وعمر دليا أرجلهما مع رسول الله في باب القف وهو في البئر، وجاء عثمان فلم يجد له موضعا " قال سعيد: فأولت ذلك قبورهم اجتمعت وانفرد عثمان.
وقال الامام أحمد: حدثنا يزيد بن مروان، ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة.
قال: قال نافع بن الحارث: " خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل حائطا فقال: امسك علي الباب، فجاء حتى جلس على القف ودلى رجليه، فضرب الباب فقلت: من هذا ؟ فقال: أبو بكر، فقلت يا رسول الله هذا أبو بكر، قال: ائذن له وبشره بالجنة، فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على
__________
= من طريق محمد بن بشار وفيه: اثبت أحد.
ج 5 / 624.
(1) أخرجه في المناقب ح 3696 ج 5 / 624.
(2) في نسخ البداية المطبوعة: عثمان بن سعيد وهو تحريف وعثمان هو عثمان بن موهب نسبة إلى جده وهو عثمان بن عبد الله بن موهب مولى بني تميم بصري تابعي وسط وهو ثقة باتفاقهم.
(3) رواه الترمذي في المناقب ح 3710 وقال هذا حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن أبي عثمان النهدي ج 5 / 631 والبخاري في فضائل الصحابة ح 3695 فتح الباري 7 / 53 وح 3674 عن سعيد بن المسيب.
ورواه الامام أحمد في مسنده، في الحديث التالي عن نافع بن الحارث ج 3 / 408 و 2 / 165.
القف ودلى رجليه في البئر، ثم ضرب الباب: فقلت: من هذا ؟ قال.
عمر، قلت: يا رسول الله هذا عمر، قال: ائذن له وبشره بالجنة، ففعلت، فجاء فجلس مع رسول الله على القف ودلى رجليه في البئر، ثم ضرب الباب فقلت: من هذا ؟ قال: عثمان، قلت: يا رسول الله هذا عثمان، قال: ائذن له وبشره بالجنة معها بلاء، فأذنت له وبشرته بالجنة، فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على القف ودلى رجليه في البئر " هكذا وقع في هذه الرواية، وقد أخرجه أبو داود والنسائي
من حديث أبي سلمة، فيحتمل أن أبا موسى ونافع بن عبد الحارث كانا موكلين بالباب، أو أنها قصة أخرى.
وقد رواه الامام أحمد عن عفان عن وهيب عن موسى بن عقبة سمعت أبا سلمة ولا أعلمه إلا عن نافع بن عبد الحارث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطا فجلس على قف البئر، فجاء أبو بكر فاستأذن فقال لابي موسى: ائذن له وبشره بالجنة.
ثم جاء عمر فقال: ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عثمان فقال: ائذن له وبشره بالجنة وسيلقى بلاء (1) " وهذا السياق أشبه من الاول، على أنه قد رواه النسائي من حديث صالح بن كيسان عن أبي الزناد عن أبي سلمة عن عبد الرحمن بن نافع ابن عبد الحارث عن أبي موسى الاشعري.
فالله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا يزيد أنا همام عن قتادة، عن ابن سيرين، ومحمد بن عبيد عن عبد الله بن عمرو قال: " كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أبو بكر فاستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عمر فقال: ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عثمان فاستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة.
قال: قلت فأين أنا ؟ قال: أنت مع أبيك (2) " تفرد به أحمد.
وقد رواه البزاز وأبو يعلى من حديث أنس بن مالك بنحو ما تقدم.
حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا حجاج، ثنا ليث حدثني عقيل، عن ابن شهاب عن يحيى بن سعيد بن العاص أن سعيد بن العاص أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان حدثاه أن أبا بكر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة، فأذن لابي بكر وهو كذلك فقضى إليه حاجته ثم انصرف، فاستأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحالة فقضى إليه حاجته ثم انصرف، قال عثمان: ثم استأذنت عليه فجلس وقال: اجمعي عليك ثيابك فقضيت إليه حاجتي ثم انصرفت، فقالت عائشة: يا رسول الله ! ما لي لا أراك فزعت لابي بكر وعمر كما فزعت
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 4 / 393 و 408.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 2 / 165 و 3 / 408
لعثمان ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عثمان رجل حيي، وأني خشيت إن أذنت له على تلك الحالة لا يبلغ إلى حاجته " قال الليث: وقال جماعة الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: " ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة ؟ " (1) ورواه مسلم من حديث محمد بن أبي حرملة عن عطاء وسليمان بن يسار عن أبي سلمة عن عائشة.
ورواه أبو يعلى الموصلي من حديث سهيل عن أبيه عن عائشة.
ورواه جبير بن نفير وعائشة بنت طلحة عنها.
وقال الامام أحمد: حدثنا مروان، ثنا عبد الله بن يسار، سمعت عائشة بنت طلحة تذكر عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان جالسا كاشفا عن فخذه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حاله، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عثمان فأرخى عليه ثيابه، فلما قاموا قلت: يا رسول الله استأذن عليك أبو بكر وعمر فأذنت لهما وأنت على حالك، فلما استأذن عثمان أرخيت عليك ثيابك: فقال: يا عائشة ألا نستحي من رجل والله إن الملائكة لتستحي منه ؟ (2) ".
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
طريق أخرى عن حفصة رواه الحسن بن عرفة وأحمد بن حنبل عن روح بن عبادة عن ابن جريج، أخبرني أبو خالد عثمان بن خالد عن عبد الله بن أبي سعيد المدني حدثتني حفصة، فذكر مثل حديث عائشة، وفيه: فقال " ألا نستحي ممن تستحي منه الملائكة ؟ (3) ".
طريق أخرى عن ابن عباس قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أبو كريب، ثنا يونس بن بكير ثنا النضر - هو ابن عبد الرحمن أبو عمر الخزاز الكوفي - عن عكرمة عن ابن عباس.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا نستحي ممن تستحي منه الملائكة عثمان بن عفان ؟ " (1) ثم قال البزار: لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا بهذا الاسناد قلت هو على شرط الترمذي ولم يخرجوه.
طريق أخرى عن ابن عمر
قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنل ؟ ا، ثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، ثنا أبو
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده 1 / 71، 6 / 155 و 167 ومسلم في فضائل الصحابة (3) باب ح (28) ص 4 / 1867.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 6 / 62.
(3) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 6 / 155 و 288.
معشر حدثني إبراهيم بن عمر بن أبان، حدثني أبي عمر بن أبان عن أبيه.
قال سمعت عبد الله ابن عمر يقول: " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وعائشة وراءه إذ استأذن أبو بكر فدخل، ثم استأذن عمر فدخل، ثم استأذن سعد بن مالك فدخل، ثم استأذن عثمان بن عفان فدخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث كاشفا عن ركبته، فرد ثوبه على ركبته حين استأذن عثمان، وقال لامرأته: استأخري، فتحدثوا ساعة ثم خرجوا، فقالت عائشة: يا نبي الله ! دخل أبي وأصحابه فلم تصلح ثوبك على ركبتك ولم تؤخرني عنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة ؟ والذي نفسي بيده إن الملائكة لتستحي من عثمان كما تستحي من الله ورسوله، ولو دخل وأنت قريب مني لم يتحدث ولم يرفع رأسه حتى يخرج (1) " هذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه زيادة على ما قبله، وفي سنده ضعف.
قلت: وفي الباب عن علي وعبد الله بن أبي أوفى، وزيد ابن ثابت: وروى أبو مروان القرشي عن أبيه عن مالك، عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عثمان حيي تستحي منه الملائكة ".
حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا وكيع عن سفيان عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرحم أمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر، وأشدها حياء عثمان، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرؤها لكتاب الله أبي.
وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت، ولكل أمة أمين وأمين هذه الامة أبو عبيدة بن الجراح (2) " وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه
من حديث خالد الحذاء، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وفي صحيح البخاري ومسلم آخره " ولكل أمة أمين وأمين هذه الامة أبو عبيدة بن الجراح " وقد روى هشيم عن كريز بن حكيم عن نافع عن ابن عمر مثل حديث أبي قلابة عن أنس أو نحوه.
حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، ثنا محمد بن حرب، حدثني الزبيدي، عن ابن شهاب عن عمرو بن أبان بن عثمان، عن جابر بن عبد الله.
أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر، فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما ما ذكره
__________
(1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 82 وقال: رواه أبو يعلى والطبراني وفيه ابراهيم بن عمر بن أبان وهو ضعيف.
(2) الحديث في مسند أحمد ج 3 / 184 وارجع إلى هامش (3) من صفحة 151 من هذا الجزء.
رسول الله صلى الله عليه وسلم من نوط بعضهم ببعض، فهؤلاء ولاة هذا الامر الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم (1) " ورواه أبو داود عن عمرو بن عثمان عن محمد بن حرب، ثم قال: ورواه يونس وشعيب عن الزهري فلم يذكرا عمرا.
حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا أبو داود - عمر بن سعد - ثنا بدر بن عثمان عن عبيد الله بن مروان عن أبي عائشة عن ابن عمر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة بعد طلوع الشمس فقال: " رأيت قبل الفجر كأني أعطيت المقاليد والموازين، فأما المقاليد فهذه المفاتيح، وأما الموازين فهي التي يوزن بها، فوضعت في كفة ووضعت أمتي في كفة فوزنت بهم فرجحت، ثم جئ بأبي بكر فوزن فوزن بهم، ثم جئ بعمر فوزن فوزن بهم، ثم جئ بعثمان فوزن فوزن بهم، ثم رفعت (2) " تفرد به أحمد * وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا هشام بن عمار ثنا عمرو بن واقد ثنا يونس بن ميسرة عن أبي إدريس عن معاذ بن جبل.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني رأيت أني
وضعت في كفة وأمتي في كفة فعدلتها، ثم وضع أبو بكر في كفة وأمتي في كفة فعدلها، ثم وضع عمر في كفة وأمتي في كفة فعدلها، ثم وضع عثمان في كفة وأمتي في كفة فعدلها ".
حديث آخر قال أبو يعلى: حدثنا عبد الله بن مطيع ثنا هشيم عن العوام، عمن حدثه عن عائشة.
قالت: لما أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد المدينة جاء بحجر فوضعه، وجاء أبو بكر بحجر فوضعه وجاء عمر بحجر فوضعه، وجاء عثمان بحجر فوضعه، قالت: فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " هم أمراء الخلافة من بعدي ".
وقد تقدم هذا الحديث في بناء مسجده أول مقدمه المدينة عليه الصلاة والسلام، وكذلك تقدم في دلائل النبوة من حديث الزهري عن رجل عن أبي ذر في تسبيح الحصا في يده عليه السلام ثم في كف أبي بكر، ثم في كف عمر، ثم في كف عثمان، رضي الله عنهم، وفي بعض الروايات: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذه خلافة النبوة " وسيأتي حديث سفينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا " فكانت ولاية عثمان ومدتها ثنتي عشرة سنة، من جملة هذه الثلاثين بلا خلاف بين العلماء العاملين، كما أخبر به سيد المرسلين صلى الله عليه آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) الحديث في مسند أحمد 3 / 355.
(2) مسند أحمد 3 / 355.
حديث آخر وهو ما روي من طرق متعددة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شهد للعشرة بالجنة، وهو أحدهم بنص النبي صلى الله عليه وسلم.
حديث آخر قال البخاري: حدثنا محمد بن حاتم (1) بن بزيغ، ثنا شاذان ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عبيد الله، عن نافع عن ابن عمر قال: " كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر
أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نذر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم " تابعه عبد الله بن صالح بن عبد العزيز، تفرد به البخاري، ورواه إسماعيل بن عياش، والفرج بن فضالة، عن يحيى بن سعيد الانصاري، عن نافع عن ابن عمر.
ورواه أبو يعلى عن أبي معشر عن يزيد بن هارون عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن عمر به.
طريق أخرى عن ابن عمر قال الامام أحمد: حدثنا أبو معاوية ثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن ابن عمر.
قال: " كنا نعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه متوافرون أبو بكر وعمر وعثمان ثم نسكت ".
طريق أخرى عن ابن عمر بلفظ آخر قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن علي، وعقبة بن مكرم قالا: ثنا أبو عاصم عن عمر بن محمد عن سالم عن أبيه.
قال: كنا نقول في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: أبو بكر وعمر وعثمان - يعني في الخلافة - وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجوه، لكن قال البزار: وهذا الحديث قد روي عن ابن عمر من وجوه " كنا نقول أبو بكر وعمر وعثمان، ثم لا نفاضل بعد " وعمر بن محمد لم يكن بالحافظ، وذلك: يتبين في حديثه إذا روي عن غير سالم فلم يقل شيئا وقد رواه غير واحد من الضعفاء عن الزهري عن سالم عن أبيه به.
وقد اعتنى الحافظ ابن عساكر بجمع طرقه عن ابن عمر فأفاد وأجاد.
فأما الحديث الذي قال الطبراني: حدثنا سعيد بن عبد ربه الصفار البغدادي حدثنا علي بن جميل الرقي أنا جرير عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " في الجنة شجرة - أو ما في الجنة شجرة - شك علي بن حنبل، ما عليها ورقة إلا مكتوب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفاروق، عثمان ذو
__________
(1) في نسخ البداية المطبوعة " (حازم) - فتح الباري - كتاب المناقب ح 3697 ص 7 / 53
النورين " فإنه حديث ضعيف في إسناده من تكلم فيه ولا يخلو من نكارة، والله أعلم.
القسم الثاني فيما ورد من فضائله وحده
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا أبو عوانة ثنا عثمان بن موهب.
قال: " جاء رجل من أهل مصر حج البيت، فرأى قوما جلوسا فقال: من هؤلاء القوم ؟ قالوا: قريش، قال: فمن الشيخ فيهم ؟ قالوا: عبد الله بن عمر.
قال: يا بن عمر ! إني سائلك عن شئ فحدثني [ عنه ]، هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد ؟ قال: نعم ! قال: تعلم أنه تغيب يوم بدر ولم يشهدها ؟ قال: نعم ! قال: تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان ولم يشهدها ؟ قال: نعم ! قال: الله أكبر، قال ابن عمر: تعال أبين لك، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله وكانت مريضة، فقال له رسول الله: إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه، وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بيده اليمنى هذه يد عثمان فضرب بها على يده فقال هذه لعثمان فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك (1) " تفرد به دون مسلم.
طريق أخرى وقال الامام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، ثنا زائدة، عن عاصم، عن سفيان.
قال: لقي عبد الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة، فقال له الوليد: ما لي أراك جفوت أمير المؤمنين عثمان ؟ فقال له عبد الرحمن: أبلغه أني لم أفر يوم حنين، قال عاصم: يقول يوم أحد - ولم أتخلف عن يوم بدر، ولم أترك سنة عمر، قال: فانطلق فخبر بذلك عثمان فقال: أما قوله: إني لم أفر يوم حنين، فكيف يعيرني بذلك وقد عفا الله عني فقال: * (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم) * [ آل عمران: 155 ] وأما قوله: إني تخلفت يوم بدر، فإني كنت أمرض رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم فقد شهد، وأما قوله: ولم أترك سنة عمر، فإني لا أطيقها ولا هو، فإنه يحدثه بذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة - ح 3698 فتح الباري 7 / 54.
ورواه الترمذي في المناقب ح 3706
ص 5 / 629 قوله: اذهب بها الآن معك: يظهر من سياق الاسئلة ان السائل كان ممن يتعصب على عثمان فأراد أن يقرر معتقده فيه، وكأن ابن عمر فهم منه مراده، فقول ابن عمر له يعني أن أقرن هذا العذر بالجواب حتى لا يبقى لك فيما أجبتك به حجة على ما كنت تعتقده في عثمان (قاله ابن حجر).
حديث آخر قال البخاري: حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد (1)، ثنا أبي عن يونس، قال ابن شهاب: أخبرني عروة أن عبيد الله بن عدي بن الخيار أخبره أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الاسود بن عبد يغوث قالا: ما يمنعك أن تكلم عثمان لاخيه (3) الوليد فقد أكثر الناس فيه ؟ فقصدت لعثمان حين خرج إلى الصلاة.
فقلت: إن لي إليك حاجة، وهي نصيحة لك، فقال: يا أيها المرء منك قال أبو عبد الله قال معمر: أعوذ بالله منك - فانصرفت فرجعت إليهم إذ جاء رسول عثمان فأتيته فقال ما نصيحتك ؟ فقلت: إن الله بعث محمدا بالحق، وأنزل عليه الكتاب وكنت ممن استجاب لله ولرسوله، وهاجرت الهجرتين، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيت هديه، وقد أكثر الناس في شأن الوليد.
فقال: أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت: لا ! ولكن خلص إلي من علمه ما يخلص إلى العذراء في سترها، قال: أما بعد ! فإن الله بعث محمدا بالحق وكنت ممن استجاب لله ولرسوله فآمنت بما بعث به، وهاجرت الهجرتين كما قلت، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعته، فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله عز وجل، ثم أبو بكر مثله، ثم عمر مثله، ثم استخلفت، أفليس لي من الحق مثل الذي لهم ؟ قلت: بلى ! قال: فما هذه الاحاديث التي تبلغني عنكم ؟ أما ما ذكرت من شأن الوليد فسأخذ فيه بالحق إن شاء الله.
ثم دعا عليا فأمره أن يجلده فجلده ثمانين (3).
حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، ثنا الوليد بن مسلم، حدثني ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن عامر، عن النعمان بن بشير عن عائشة رضي الله عنها قالت: " أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
عثمان بن عفان فجاء فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأينا إقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان أقبلت إحدانا على الاخرى فكان من آخر كلمة أن ضرب منكبه وقال: يا عثمان إن الله عسى أن يلبسك قميصا فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني ثلاثا.
فقلت لها يا أم المؤمنين ؟ فأين كان هذا عنك ؟ قالت: نسيته والله ما ذكرته، قال: فأخبرته معاوية بن أبي سفيان فلم يرض بالذي أخبرته حتى كتب إلى أم المؤمنين: أن اكتبي إلي به، فكتبت إليه به كتابا (4) " وقد رواه أبو
__________
(1) من البخاري، وفي الاصل سعد تحريف.
(2) الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس وكان أخا عثمان لامه وكان قد ولاه الكوفة بعد عزله سعدا بن أبي وقاص.
(3) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة ح 3696 فتح الباري 7 / 53 وروى الجزء الاخير منه الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 88 وقال: رجاله رجال الصحيح.
(4) أخرجه الامام أحمد في مسنده 6 / 117.
عبد الله الجيري عن عائشة وحفصة بنحو ما تقدم.
ورواه قيس بن أبي حازم وأبو سلمة عنها.
ورواه أبو سهلة عن عثمان: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدا فأنا صابر نفسي عليه " ورواه فرج ابن فضالة عن محمد بن الوليد الزبيدي عن الزهري عن عروة عن عائشة فذكره، قال الدارقطني: تفرد به الفرج بن فضالة ورواه أبو مروان محمد عن عثمان بن خالد العماني، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه [ عن هشام بن عروة عن أبيه ] عن عائشة.
ورواه ابن عساكر من طريق المنهال بن عمر عن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عنها.
ورواه ابن أسامة عن الجريري: حدثني أبو بكر العدوي.
قال: سألت عائشة، وذكر عنها نحو ما تقدم [ تفرد به الفرج بن فضالة ] (1) ورواه حصين عن مجاهد عن عائشة بنحوه.
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن كنانة الاسدي، أبو يحيى، ثنا إسحاق بن سعيد عن أبيه.
قال: بلغني أن عائشة قالت: " ما استمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة، فإن عثمان جاءه في
حر الظهيرة فظننت أنه جاءه في أمر النساء، فحملتني الغيرة على أن أصغيت إليه فسمعته يقول: إن الله ملبسك قميصا تريدك أمتي على خلعه فلا تخلعه.
فلما رأيت عثمان يبذل لهم ما سألوه إلا خلعه علمت أنه عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عهد إليه (2).
طريق أخرى قال الطبراني: حدثنا مطلب بن سعيد الازدي، ثنا عبد الله بن صالح، ثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف، قال: كنا عند شفى الاصبحي فقال: حدثنا عبد الله بن عمر قال: " التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عثمان إن الله كساك قميصا فأرادك الناس على خلعه قلا تخلعه، فوالله لئن خلعته لا ترى الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط " وقد رواه أبو يعلى من طريق عبد الله بن عمر عن أخته حفصة أم المؤمنين.
وفي سياق متنه غرابة والله أعلم.
حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد حدثتني فاطمة بنت عبد الرحمن قالت: حدثتني أمي أنها سألت عائشة وأرسلها عمها فقال: قولي إن أحد بنيك يقرئك السلام ويسألك عن عثمان بن
__________
(1) ما بين معكوفتين سقط من الاصل، واستدرك من المخطوطة الحلبية.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 6 / 114.
ورواه الترمذي في المناقب عن النعمان بن بشير عن عائشة ح (3705) ص 5 / 628.
عفان فإن الناس قد شتموه، فقالت: " لعن الله من لعنه، فوالله لقد كان قاعدا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن رسول الله لمسند ظهره إلي، وإن جبريل ليوحي إليه القرآن، وإنه ليقول له: اكتب يا عثيم، قالت عائشة: فما كان الله لينزل تلك المنزلة إلا كريما على الله ورسوله (1) " ثم رواه الامام أحمد عن يونس عن عمر بن إبراهيم اليشكري عن أمه عن أمها أنها سألت عائشة عند الكعبة عن عثمان فذكرت مثله.
حديث آخر قال البزار: حدثنا عمر بن الخطاب قال: ذكر أبو المغيرة عن صفوان بن عمرو، عن ماعز التميمي، عن جابر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فتنة فقال أبو بكر: أنا أدركها ؟ فقال: لا ! فقال عمر: أنا يا رسول الله أدركها ؟ قال: لا ! فقال عثمان: يا رسول الله فأنا أدركها ؟ قال: بك يبتلون " قال البزار: وهذا لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه.
حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا أسود بن عمر، ثنا سنان بن هارون، ثنا كليب بن واصل (2)، عن ابن عمر.
قال: " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقال: يقتل فيها هذا المقنع يومئذ مظلوما، فنظرت فإذا هو عثمان بن عفان ".
ورواه الترمذي عن إبراهيم بن سعيد عن شاذان به وقال: حسن غريب.
حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا عفان، ثنا وهيب، ثنا موسى بن عقبة حدثني أبو أمي أبو حنيفة أنه دخل الدار وعثمان محصور فيها، وأنه سمع أبا هريرة يستأذن عثمان في الكلام فأذن له، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنكم تلقون بعدي فتنة واختلافا - أو قال: اختلافا وفتنة - فقال له قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله ؟ قال: عليكم
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 6 / 250 ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 86 وقال: رواه أحمد والطبراني في الاوسط إلا أنه قال: " عن أم كلثوم بنت ثمامة الحنطي أن أخاها المخارق بن ثمامة الحنطي ".
قال: وأم كلثوم لم أعرفها وبقية رجال الطبراني ثقات.
(2) رواه الترمذي في المناقب ح 3708 ص 5 / 630.
وفيه حدثنا شاذان الاسود بن عامر عن سنان بن هرون البرجمي عن كليب بن وائل.
بالامين وأصحابه وهو يشير إلى عثمان بذلك (1) " تفرد به أحمد وإسناده جيد حسن ولم يخرجوه من
هذا الوجه.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو أسامة ثنا حماد بن أسامة ثنا كهمس بن الحسن، عن عبد الله ابن شقيق، حدثني هرم بن الحارث وأسامة بن خزيم - وكانا يغازيان - فحدثاني حديثا ولم يشعر كل واحد منهما أن صاحبه حدثنيه عن مرة البهزي قال: " بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة فقال: كيف تصنعون في فتنة تثور في أقطار الارض كأنها صياصي بقر ؟ نصنع ماذا يا رسول الله ؟ قال: عليكم هذا وأصحابه - أو اتبعوا هذا وأصحابه - قال: فأسرعت حتى عييت فأدركت الرجل فقلت: هذا يا رسول الله ؟ قال: هذا، فإذا هو عثمان بن عفان (2) " فقال: هذا وأصحابه فذكره.
طريق أخرى وقال الترمذي في جامعه: حدثنا محمد بن بشار، ثنا عبد الوهاب الثقفي، ثنا أيوب، عن أبي قلابة عن أبي الاشعث الصنعاني أن خطباء قامت بالشام وفيهم رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له مرة بن كعب، فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكلمت، وذكر الفتن فقر بها فمر رجل متقنع في ثوب، فقال: هذا يومئذ على الهدى فقمت إليه.
فإذا هو عثمان ابن عفان، فأقبلت عليه بوجهه فقلت: هذا ؟ قال نعم ! (3) " ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفي الباب عن ابن عمر وعبد الله بن حوالة وكعب بن عجرة.
قلت: وقد رواه أسد بن موسى عن معاوية بن صالح حدثني سليم بن عامر، عن جبير بن نفير، عن مرة بن كعب البهزي فذكر نحوه، وقد رواه الامام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية، عن صالح، عن سليم بن عامر، عن جبير بن نفير عن كعب بن مرة البهزي.
الصحيح مرة بن كعب كما تقدم، وأما حديث ابن حواله، فقال حماد بن سلمة عن سعيد الجريري عن عبد الله بن سفيان (4) عن عبد الله بن شقيق، عن عبد الله بن حوالة.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف وأنت وفتنة تكون في أقطار الارض ؟ قلت: ما خار الله لي ورسوله، قال اتبع هذا الرجل، فإنه يومئذ ومن اتبعه على الحق قال: فاتبعته فأخذت بمنكبه فقتلته فقلت: هذا يا رسول الله ؟ فقال: نعم ! فإذا هو
عثمان بن عفان " وقال حرملة عن ابن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب، عن ربيعة بن لقيط، عن ابن حوالة.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من نجا منهن فقد نجا، موتي،
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 2 / 345.
(2) أخرجه الامام أحمد ج 5 / 35.
(3) أخرجه الترمذي في المناقب ح 3704 ص (5 / 628).
(4) في هامش النسخة المطبوعة: كذا بالمصرية بزيادة عبد الله بن سفيان.
وخروج الدجال وقتل خليفة مصطبر قوام بالحق يعطيه.
وأما حديث كعب بن عجرة.
فقال الامام أحمد: حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي، أخبرني معاوية بن مسلم، عن مطر الوراق، عن ابن سيرين عن كعب بن عجرة قال: " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقربها وعظمها قال: ثم مر رجل مقنع في ملحفة فقال: هذا يومئذ على الحق قال فانطلقت مسرعا أو محضرا وأخذت بضبعيه فقلت: هذا يا رسول الله ؟ قال: هذا فإذا هو عثمان بن عفان (1) " ثم رواه أحمد عن يزيد بن هارون عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن كعب بن عجرة فذكر مثله.
ورواه أبو يعلى عن هدبة، عن همام، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن كعب بن عجرة.
وكذا رواه أبو عون عن ابن سيرين عن كعب.
وقد تقدم حديث أبي ثور التميمي عنه في قوله في الخطبة التي خاطب بها الناس من داره: والله ما تغنيت ولا تمنيت ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام ولا مسست فرجي بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يعتق كل يوم جمعة عتيقا فإن تعذر عليه أعتق في الجمعة الاخرى عتيقين.
وقال مولاه حمران: كان عثمان يغتسل كل يوم منذ أسلم.
رضي الله عنه.
حديث آخر قال الامام أحمد: حدثنا علي بن عياش، ثنا الوليد بن مسلم، أنبأنا الاوزاعي، عن محمد ابن عبد الملك بن مروان أنه حدثه عن المغيرة بن شعبة: أنه دخل على عثمان وهو محصور فقال:
" إنك إمام العامة وقد نزل بك ما ترى وإني أعرض عليك خصالا ثلاثا اختر إحداهن، إما أن تخرج فتقاتلهم فإن معك عددا وقوة وأنت على الحق وهم على الباطل، وإما أن تخرق بابا سوى الباب الذي هم عليه فتقعد على رواحلك فتلحق مكة، فإنهم لن يستحلوك وأنت بها، وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية.
فقال عثمان: أما أن أخرج فأقاتل فلن أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بسفك الدماء، وأما أن أخرج إلى مكة فإنهم لن يستحلوني بها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يلحد رجل من قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم، ولن أكون أنا، وأما أن ألحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) ".
وقال الامام أحمد: ثنا أبو المغيرة ثنا أرطاة - يعني ابن المنذر - حدثني أبو عون الانصاري أن عثمان قال لابن مسعود: " هل أنت منته عما بلغني عنك ؟ فاعتذر بعض العذر، فقال عثمان: ويحك ! إني قد سمعت وحفظت - وليس كما سمعت -، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سيقتل أمير، ويتبرى متبرئ (3)، وإني أنا المقتول، وليس عمر، إنما قتل عمر واحد، وأنه
__________
(1) الحديث أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 4 / 242.
(2) مسند الامام أحمد ج 1 / 67.
(3) مسند الامام أحمد 1 / 66.
وفيه: وينتزي منتز بدل ويتبرى متبرئ.
يجتمع علي " وهذا الذي قاله لابن مسعود قبل مقتله بنحو من أربع سنين فإنه مات قبله بنحو ذلك.
حديث آخر [ قال عبد الله بن أحمد: ثنا عبيد الله بن عمر الفربري: ثنا القاسم بن الحكم بن أوس الانصاري، حدثني أبو عبادة الزرقي الانصاري - من أهل المدينة عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: " شهدت عثمان يوم حصر في موضع الجنائز ولو ألقى حجر لم يقع إلا على رأس رجل فرأيت عثمان أشرف من الخوخة التي تلي باب مقام جبريل، فقال: أيها الناس ! أفيكم طلحة ؟ فسكتوا، ثم قال: أيها الناس ! أفيكم طلحة بن عبيد الله ؟ فسكتوا، ثم قال: أيها الناس !
أفيكم طلحة ؟ فقام طلحة بن عبيد الله فقال له عثمان: ألا أراك ههنا ؟ ما كنت أرى أنك تكون في جماعة قوم تسمع نداي آخر ثلاث مرات، ثم لا تجيئني ؟ أنشدك الله يا طلحة تذكر يوم كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع كذا وكذا ليس معه أحد من أصحابه غيري وغيرك ؟ فقال: نعم ! قال: فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ما من نبي إلا ومعه من أصحابه رفيق في الجنة، وإن عثمان بن عفان هذا - يعني نفسه - رفيقي في الجنة ؟ فقال طلحة: اللهم نعم ! " تفرد به أحمد ] (1).
حديث آخر عن طلحة قال الترمذي: حدثنا أبو هشام الرفاعي، ثنا يحيى بن اليمان، عن شريح بن زهرة (2)، عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب (3)، عن طلحة بن عبيد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لكل نبي رفيق ورفيقي في الجنة عثمان " ثم قال: هذا حديث غريب وليس إسناده بالقوي، وإسناده منقطع.
ورواه أبو عثمان محمد بن عثمان عن أبيه عن أبي الزناد عن أبيه عن الاعرج عن أبي هريرة، وقال الترمذي: حدثنا الفضل بن أبي طالب البغدادي وغير واحد قالوا: حدثنا عثمان ابن زفر، حدثنا محمد بن زياد، عن محمد بن عجلان عن أبي الزبير عن جابر قال: " أتي النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة رجل ليصلي عليه فلم يصل عليه، فقيل يا رسول الله ما رأيناك تركت الصلاة على أحد قبل هذا ؟ فقال: إنه كان يبغض عثمان فأبغضه الله عز وجل (4) " ثم قال الترمذي: هذا حديث
__________
(1) هذا الحديث تكرر في النسختين المصرية والحلبية.
انظر صفحة 198 - 199 من هذا الجزء والتعليق عليه هناك فليراجع.
(2) في الترمذي: شيخ من بني زهرة.
(3) من الترمذي ح 3698 ص 5 / 624 وفي الاصل وتاب.
(4) كتاب المناقب - ح 3709 ص 5 / 630.
غريب، ومحمد بن زياد هذا صاحب ميمون بن مهران ضعيف الحديث جدا، ومحمد بن زياد
صاحب أبي هريرة بصري ثقة، يكنى أبا الحارث، ومحمد بن زياد الالهاني صاحب أبي أمامة ثقة شامي يكنى أبا سفيان.
حديث آخر روى الحافظ ابن عساكر من حديث أبي مروان العثماني، ثنا أبي عثمان بن خالد، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه عن الاعرج عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عثمان بن عفان على باب المسجد فقال: يا عثمان ! هذا جبريل يخبرني أن الله قد زوجك أم كلثوم بمثل صداق رقية، على مثل مصاحبتها " وقد روى ابن عساكر أيضا من حديث ابن عباس وعائشة وعمارة بن روبية وعصمة بن مالك، الخطمي، وأنس بن مالك وابن عمر وغيرهم، وهو غريب ومنكر من جميع طرقه، وروي بإسناد ضعيف عن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو كان لي أربعون ابنة لزوجتهن بعثمان واحدة بعد واحدة، حتى لا يبقى منهن واحدة " وقال محمد بن سعيد الاموي، عن يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن المهلب بن أبي صفرة قال: " سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم قلتم في عثمان: أعلانا فوقا ؟ قالوا: لانه لم يتزوج رجل من الاولين والآخرين ابنتي نبي غيره رواه ابن عساكر.
وقال إسماعيل بن عبد الملك عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعا يديه حتى يبدو ضبعيه إلا لعثمان بن عفان، إذا دعا له.
وقال مسعر عن عطية عن أبي سعيد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول الليل إلى أن طلع الفجر رافعا يديه يدعو لعثمان يقول: " اللهم عثمان رضيت عنه فارض عنه " وفي رواية يقول لعثمان: " غفر الله لك ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما كان منك وما هو كائن إلى يوم القيامة " ورواه الحسن بن عرفة عن محمد بن القاسم الاسدي عن الاوزاعي عن حسان بن عطية عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا.
وقال ابن عدي عن أبي يعلى عن عمار بن ياسر المستملي عن إسحاق بن إبراهيم المستملي، عن أبي إسحاق عن أبي وائل عن حذيفة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى عثمان يستعينه في غزاة غزاها، فبعث إليه عثمان بعشرة آلاف دينار، فوضعها بين يديه، فجعل يقلبها بين يديه ويدعو له: " غفر
الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما هو كائن إلى يوم القيامة، ما يبالي عثمان ما فعل بعدها ".
حديث آخر وقال ليث بن أبي سليم: أول من خبص الخبيص عثمان خلط بين العسل والنقي ثم بعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزل أم سلمة، فلم يصادفه، فلما جاء وضعوه بين يديه، فقال: من
بعث هذا ؟ قالوا: عثمان: قالت: فرفع يديه إلى السماء فقال: " اللهم إن عثمان يترضاك فارض عنه ".
حديث آخر روى أبو يعلى عن سنان بن فروخ عن طلحة بن يزيد عن عبيدة بن حسان عن عطاء الكيخاراني عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتنق عثمان وقال: " رأيت وليي في الدنيا ووليي في الآخرة ".
حديث آخر قال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق عن عبد الله بن حوالة.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تهجمون على رجل معتجر ببرده من أهل الجنة، يبايع الناس " قال فهجمنا على عثمان بن عفان فرأيناه معتجرا يبايع الناس.
ذكر شئ من سيرته وهي دالة على فضيلته قال ابن مسعود: لما توفي عمر بايعنا خيرنا ولم نأل، وفي رواية بايعوا خيرهم ولم يألوا، وقال الاصمعي عن أبي الزناد عن أبيه عن عمرو بن عثمان بن عفان قال: كان نقش خاتم عثمان آمنت بالذي خلق فسوى.
وقال محمد بن المبارك بلغني أنه كان نقش خاتم عثمان آمن عثمان بالله العظيم.
وقال البخاري في التاريخ: ثنا موسى بن إسماعيل ثنا مبارك بن فضالة قال سمعت الحسن يقول: أدركت عثمان على ما نقموا عليه، قل ما يأتي على الناس يوم إلا وهم يقتسمون
فيه خيرا، يقال لهم: يا معشر المسلمين اغدوا على أعطياتكم، فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم: اغدوا على أرزاقكم فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم اغدوا على السمن والعسل، الاعطيات جارية، والارزاق دارة، والعدو متقى، وذات البين حسن، والخير كثير، وما من مؤمن يخاف مؤمنا، ومن لقبه فهو أخوه، قد كان من إلفته ونصيحته ومودته قد عهد إليهم أنها ستكون أثرة، فإذا كانت فاصبروا " قال الحسن: فلو أنهم صبروا حين رأوها لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والرزق والخير الكثير، بل قالوا: لا والله ما نصابرها: فوالله ما وردوا وما سلموا، والاخرى كان السيف مغمدا عن أهل الاسلام فسلوه على أنفسهم، فوالله ما زال مسلولا إلى يوم الناس، هذا وأيم الله إني لاراه سيفا مسلولا إلى يوم القيامة " وقال غير واحد عن الحسن البصري قال: سمعت عثمان يأمر في خطبته بذبح الحمام وقتل الكلاب.
وروى سيف بن عمر أن أهل المدينة اتخذ بعضهم الحمام ورمى بعضهم بالجلا هقات [ فوكل عثمان رجلا من بني ليث يتبع ذلك، فيقص
الحمام ويكسر الجلاهقات ] (1) - وهي قسي البندق - وقال محمد بن سعد: " أنبأنا القعنبي وخالد بن مخلد ثنا محمد بن هلال عن جدته - وكانت تدخل على عثمان وهو محصور - فولدت هلالا، ففقدها يوما فقيل له: إنها قد ولدت هذه الليلة غلاما، قالت: فأرسل إلي بخمسين درهما وشقيقة سنبلانية، وقال: هذا عطاء ابنك وكسوته، فإذا مرت به سنة رفعناه إلى مائة " وروى الزبير بن أبي بكر عن محمد بن سلام عن ابن بكار، قال: قال ابن سعيد بن يربوع بن عتكة المخزومي: انطلقت وأنا غلام في الظهيرة ومعي طير أرسله في المسجد، والمسجد بيننا، فإذا شيخ جميل حسن الوجه نائم، تحت رأسه لبنة أو بعض لبنة، فقمت أنظر إليه أتعجب من جماله، ففتح عينيه فقال: من أنت يا غلام ؟ فأخبرته، فإذا غلام نائم قريبا منه فدعاه فلم يجبه، فقال لي: ادعه ! فدعوته فأمره بشئ وقال لي: اقعد ! فذهب الغلام فجاء بحلة وجاء بألف درهم، ونزع ثوبي وألبسني الحلة ؟ وجعل الالف درهم فيها، فرجعت إلى أبي فأخبرته ؟ فقال: يا بني من فعل هذا بك ؟ فقلت: لا أدري إلا أنه رجل في المسجد نائم لم أر قط أحسن منه، قال: ذاك أمير المؤمنين
عثمان بن عفان " وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: أخبرني يزيد بن خصيفة عن أبي السائب بن يزيد " أن رجلا سأل عبد الرحمن بن عثمان التميمي أهي صلاة طلحة بن عبيد الله عن صلاة عثمان قال: نعم ! قال: قلت لاغلبن الليلة النفر على الحجر - يعني المقام - فلما قمت فإذا رجل يرجمني مقنعا قال فالتفت فإذا بعثمان يرحمني فتأخرت عنه فصلى فإذا هو يسجد بسجود القرآن، حتى إذا قلت هذا هو أذان الفجر أوتر بركعة لم يصل غيرها ثم انطلق ".
وقد روى هذا من غير وجه أنه صلى بالقرآن العظيم في ركعة واحدة عند الحجر الاسود، أيام الحج، وقد كان هذا من دأبه رضي الله عنه.
ولهذا روينا عن ابن عمر أنه قال في قوله تعالى * (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) * [ الزمر: 9 ] قال: هو عثمان بن عفان.
وقال ابن عباس في قوله تعالى * (هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم) * [ النحل: 76 ] قال: هو عثمان.
وقال حسان (2): ضحوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحا وقرآنا وقال سفيان بن عيينة: ثنا إسرائيل بن موسى سمعت الحسن يقول قال عثمان: لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لاكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف، وما مات عثمان حتى خرق مصحفه من كثرة ما يديم النظر فيه.
وقال أنس ومحمد بن سيرين: قالت امرأة عثمان يوم الدار: اقتلوه أو دعوه، فوالله لقد كان يحيي الليل بالقرآن في ركعة.
وقال غير واحد: إنه رضي الله عنه كان لا يوقظ أحدا من أهله إذا قام من الليل ليعينه على وضوئه، إلا أن يجده يقظانا، وكان يصوم
__________
(1) الطبري 5 / 135 والكامل 3 / 181 وكان ذلك سنه ثمان من خلافته.
(2) انظر حاشية 4 صفحة 219 من هذا الجزء.
الدهر، وكان يعاتب فيقال: لو أيقظت بعض الخدم ؟ فيقول: لا ! الليل لهم يستريحون فيه.
وكان إذا اغتسل لا يرفع المئزر عنه، وهو في بيت مغلق عليه، ولا يرفع صلبه جيدا من شدة حيائه رضي الله عنه.
شئ من خطبه قال الواقدي: حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي عن أبيه أن عثمان لما بويع خرج إلى الناس فخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس أول كل مركب صعب، وإن بعد اليوم أياما، وإن أعش تأتكم الخطب على وجهها، وما كنا خطباء وسيعلمنا الله (1).
وقال الحسن: خطب عثمان فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس ! اتقوا الله فإن تقوى الله غنم، وإن أكيس الناس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، واكتسب من نور الله نورا لظلمة القبر، وليخش عبد أن يحشره الله أعمى، وقد كان بصيرا، وقد يلقى الحكيم جوامع الكلم، والاصم ينادي من مكان بعيد، واعلموا أن من كان الله له لم يخف شيئا، ومن كان الله عليه فمن يرجو بعده ؟.
وقال مجاهد: خطب عثمان فقال: ابن آدم ! اعلم أن ملك الموت الذي وكل بك لم يزل يخلفك ويتخطى إلى غيرك منذ أنت في الدنيا، وكأنه قد تخطى غيرك إليك، وقصدك، فخذ حذرك، واستعد له، ولا تغفل فإنه لا يغفل عنك، واعلم ابن آدم إن غفلت عن نفسك ولم تستعد لها لم يستعد لها غيرك، ولابد من لقاء الله، فخذ لنفسك ولا تكلها إلى غيرك والسلام.
وقال سيف بن عمر عن بدر بن عثمان عن عمه.
قال: آخر خطبة خطبها عثمان في جماعة " إن الله إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى وإن الآخرة تبقى، لا تبطرنكم الفانية، ولا تشغلنكم عن الباقية، وآثروا ما يبقى على ما يفنى، فإن الدنيا منقطعة وإن المصير إلى الله، اتقوا الله فإن تقواه جنة من بأسه، ووسيلة عنده، واحذروا من الله الغير، والزموا جماعتكم لا تصيروا أحزابا * (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) * إلى آخر الآيتين (2).
فصل قال الامام أحمد: حدثنا هشيم، ثنا محمد بن قيس الاسدي، عن موسى بن طلحة.
__________
(1) طبقات ابن سعد 3 / 62.
العقد الفريد 2 / 133 وذكر الطبري في تاريخه خطبة أخرى لما بايعه أهل الشورى.
كانت مثالا في الزهد واحتقار الدنيا وعدم الركون إليها (الطبري 5 / 43).
(2) سورة آل عمران الاية 103، والخطبة في تاريخ الطبري 5 / 149.
قال: سمعت عثمان بن عفان وهو على المنبر والمؤذن يقيم الصلاة وهو يستخير الناس يسألهم عن أخبارهم، وأسفارهم.
وقال أحمد: حدثنا إسماعيل ثنا إبراهيم ثنا يونس - يعني ابن عبيد - حدثني عطاء بن فروخ مولى القرشيين أن عثمان اشترى من رجل أرضا فأبطأ عليه فلقيه فقال: ما منعك من قبض مالك ؟ قال: إنك غبنتني، فما ألقى من الناس أحدا إلا وهو يلومني، قال: أذلك يمنعك ؟ قال: نعم ! قال: فاختر بين أرضك ومالك، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أدخل الله الجنة رجلا كان سهلا مشتريا وبائعا وقاضيا ومقتضيا (1) ".
وروى ابن جرير أن طلحة لقي عثمان وهو خارج إلى المسجد فقال له طلحة: إن الخمسين ألفا التي لك عندي قد حصلت فأرسل من يقبضها، فقال له عثمان: إنا قد وهبناكها لمروءتك (2).
وقال الاصمعي: استعمل ابن عامر (3) قطن بن عوف الهلالي على كرمان، فأقبل جيش من المسلمين - أربعة آلاف - وجرى الوادي فقطعهم عن طريقهم، وخشى قطن الفوت فقال: من جاز الوادي فله ألف درهم، فحملوا أنفسهم على العوم، فكان إذا جاز الرجل منهم قال قطن: اعطوه جائزته، حتى جاوزا جميعا وأعطاهم أربعة آلاف ألف درهم، فأبى ابن عامر أن يحسبها له، فكتب لذلك إلى عثمان بن عفان، فكتب عثمان: أن احسبها له، فإنه إنما أعان المسلمين في سبيل الله فمن ذلك اليوم سميت الجوائز لاجازة الوادي، فقال الكناني (4) في ذلك: فدى للاكرمين بني هلال * على علاتهم أهلي ومالي هموا سنوا الجوائز في معد * فعادت سنة أخرى الليالي (5) رماحهم تزيد على ثمان * وعشر قبل تركيب النصال (6) فصل ومن مناقبه الكبار وحسنأته العظيمة أنه جمع الناس على قراءة واحدة، وكتب المصحف على
الفرضة الاخيرة، التي درسها جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سني حياته، وكان سبب ذلك أن حذيفة بن اليمان كان في بعض الغزوات، وقد اجتمع فيها خلق من أهل الشام، ممن يقرأ على
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده 1 / 58، وفي نسخ البدايه المطبوعة: اسماعيل بن ابراهيم ثنا يونس تحريف.
والصواب ما اثبتناه حسب سياق المسند.
(2) تاريخ الطبري 5 / 139.
(3) في فتوح البلدان 2 / 482: ولى الحجاج قطن بن قبيصة بن مخارق الهلالي على كرمان وفارس.
وكذره في الاصابة: قطن بن عبد عوف الهلالي له ادراك، استعمله عبد الله بن عامر على كرمان.
(4) ذكره في فتوح البلدان: الحجاف بن حكيم.
(5) في الاصابة: فكانت سنة إحدى الليالي.
وفي فتوح البلدان: فصارت سنة...(6) في فتوح البلدان: وعشر حين تختلف العوالي.
قراءة المقداد بن الاسود، وأبي الدرداء، وجماعة من أهل العراق، ممن يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود، وأبي موسى، وجعل من لا يعلم بسوغان القراءة على سبعة أحرف، يفضل قراءته على قراءة عبد الله بن مسعود، وأبي موسى، وجعل من لا يعلم بسوغان القراءة على سبعة أحرف، يفضل قراءته على قراءة غيره، وربما خطأ الآخر أو كفره، فأدى ذلك إلى اختلاف شديد، وانتشار في الكلام السئ بين الناس، فركب حذيفة إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الامة قبل أن تختلف في كتابها كاختلاف اليهود والنصارى في كتبهم.
وذكر له ما شاهد من اختلاف الناس في القراءة، فعند ذلك جمع عثمان الصحابة وشاورهم في ذلك، ورأى أن يكتب المصحف على حرف واحد، وأن يجمع الناس في سائر الاقاليم على القراءة به، دون ما سواه، لما رأى في ذلك من مصلحة كف المنازعة، ودفع الاختلاف، فاستدعى بالصحف التي كان الصديق أمر زيد بن ثابت بجمعها، فكانت عند الصديق أيام حياته، ثم كانت عند عمر، فلما توفي صارت إلى حفصة أم المؤمنين، فاستدعى بها عثمان وأمر زيد بن ثابت الانصاري أن يكتب وأن يملي عليه سعيد بن
العاص الاموي، بحضرة عبد الله بن الزبير الاسدي وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وأمرهم إذا اختلفوا في شئ أن يكتبوه بلغة قريش، فكتب لاهل الشام مصحفا، ولاهل مصر آخر، وبعث إلى البصرة مصحفا وإلى الكوفة بآخر، وأرسل إلى مكة مصحفا وإلى اليمن مثله، وأقر بالمدينة مصحفا.
ويقال لهذه المصاحف الائمة، وليست كلها بخط عثمان، بل ولا واحد منها، وإنما هي بخط زيد بن ثابت، وإنما يقال لها المصاحف العثمانية نسبة إلى أمره وزمانه، وإمارته، كما يقال دينار هرقلي، أي ضرب في زمانه ودولته.
قال الواقدي: حدثنا ابن أبي سبرة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة.
ورواه غيره من وجه آخر عن أبي هريرة قال: " لما نسخ عثمان المصاحف دخل عليه أبو هريرة فقال: أصبت ووفقت، أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أنشد أمتي حبا لي قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني، يعملون بما في الورق المعلق (1) " فقلت: أي ورق ؟ حتى رأيت المصاحف، قال: فأعجب ذلك عثمان وأمر لابي هريرة بعشرة آلاف، وقال: والله ما علمت أنك لتحبس علينا حديث نبينا صلى الله عليه وسلم "، ثم عمد إلى بقية المصاحف التي بأيدي الناس مما يخالف ما كتبه فحرقه، لئلا يقع بسببه اختلاف، فقال أبو بكر بن أبي داود - في كتاب المصاحف - حدثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر وعبد الرحمن قالا: ثنا شعبة عن علقمة بن مرثد عن رجل عن سويد بن غفلة قال: قال لي علي حين حرق عثمان المصاحف: لو لم يصنعه هو لصنعته (2) " وهكذا رواه أبو داود الطيالسي وعمرو بن مرزوق عن شعبة مثله، وقد رواه البيهقي وغيره من حديث محمد بن أبان - زوج أخت حسين - عن
__________
(1) روى البيهقي في الدلائل 6 / 538 عن أبي صالح حديثا مرسلا بنحوه.
ورورى نحوه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وروي موصولا عن سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس.
(2) كتاب المصاحف ص 19.
علقمة بن مرثد قال: سمعت العيزار بن جرول سمعت سويد بن غفلة قال: " قال علي: أيها الناس ! إياكم والغلو في عثمان تقولون حرق المصاحف، والله ما حرقها إلا عن ملا من أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم، ولو وليت مثل ما ولي لفعلت مثل الذي فعل (1) " وقد روي عن ابن مسعود أنه تعتب لما أخذ منه مصحفه فحرق، وتكلم في تقدم إسلامه على زيد بن ثابت الذي كتب المصاحف، وأمر أصحابه أن يغلوا مصاحفهم، وتلا قوله تعالى * (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) * [ آل عمران: 161 ] فكتب إليه عثمان رضي الله عنه يدعوه إلى اتباع الصحابة فيما أجمعوا عليه من المصلحة في ذلك، وجمع الكلمة، وعدم الاختلاف، فأناب وأجاب إلى المتابعة وترك المخالفة رضي الله عنهم أجمعين.
وقد قال أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد أن عبد الله بن مسعود دخل مسجد منى فقال: كم صلى أمير المؤمنين الظهر ؟ قالوا: أربعا، فصلى ابن مسعود أربعا فقالوا: ألم تحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر صلوا ركعتين ؟ فقال: نعم ! وأنا أحدثكموه الآن، ولكني أكره الاختلاف.
وفي الصحيح أن ابن مسعود قال: ليت حظي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين.
وقال الاعمش: حدثني معاوية بن قرة - بواسط - عن أشياخه قالوا: صلى عثمان الظهر بمنى أربعا فبلغ ذلك ابن مسعود فعاب عليه، ثم صلى بأصحابه العصر في رحله أربعا، فقيل له: عتبت على عثمان وصليت أربعا ؟ فقال: إني أكره الخلاف.
وفي رواية الخلاف شر فإذا كان هذا متباعة من ابن مسعود إلى عثمان في هذا الفرع فكيف بمتابعته إياه في أصل القرآن ؟ والاقتداء به في التلاوة التي عزم على الناس أن يقرأوا بها لا بغيرها ؟ وقد حكى الزهري وغيره أن عثمان إنما أتم خشية على الاعراب أن يعتقدوا أن فرض الصلاة ركعتان، وقيل بل قد تأهل بمكة، فروى يعلى وغيره من حديث عكرمة بن إبراهيم حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذباب عن أبيه أن عثمان صلى بهم بمنى أربع ركعات، ثم أقبل عليهم فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا تزوج الرجل ببلد فهو من أهله " وإني أتممت لاني تزوجت بها منذ قدمتها.
وهذا الحديث لا يصح، وقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء بميمونة بنت الحارث ولم يتم الصلاة، وقد قيل إن عثمان تأول أنه أمير المؤمنين حيث كان وهكذا تأولت عائشة فأتمت، وفي هذا التأويل نظر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رسول الله حيث كان، ومع هذا ما أتم الصلاة في الاسفار.
ومما كان
يعتمده عثمان بن عفان أنه كان يلزم عماله بحضور الموسم كل عام، ويكتب إلى الرعايا: من كانت له عند أحد منهم مظلمة فليواف إلى الموسم فإني آخذ له حقه من عامله، وكان عثمان قد سمح لكثير من كبار الصحابة في المسير حيث شاؤوا من البلاد، وكان عمر يحجر عليهم في ذلك، حتى ولا في الغزو، ويقول: إني أخاف أن تروا الدنيا وأن يراكم أبناؤها، فلما خرجوا في زمان
__________
(1) رواه أبو بكر السجساتي في المصاحف مطولا 29 - 30.
عثمان اجتمع عليهم الناس، وصار لكل واحد أصحاب، وطمع كل قوم في تولية صاحبهم الامارة العامة بعد عثمان، فاستعجلوا موته، واستطالوا حياته، حتى وقع ما وقع من بعض أهل الامصار، كما تقدم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، العلي العظيم.
ذكر زوجاته وبنيه وبناته رضي الله عنهم تزوج برقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فولد له منها عبد الله (1)، وبه كان يكنى، بعد ما كان يكنى في الجاهلية بأبي عمرو، ثم لما توفيت تزوج بأختها أم كلثوم، ثم توفيت فتزوج بفاختة بنت غزوان ابن جابر، فولد له منها عبيد الله الاصغر، وتزوج بأم عمرو بنت جندب بن عمرو الازدية، فولدت له عمرا، وخالدا، وأبانا، وعمر ومريم، وتزوج بفاطمة بنت الوليد بن عبد شمس المخزومية، فولدت له الوليد وسعيدا.
وتزوج أم البنين بنت عيينة بن حصن الفزارية، فولدت له عبد الملك، ويقال وعتبة، وتزوج رملة بنت شيبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي فولدت له عائشة وأم أبان وأم عمرو، بنات عثمان.
وتزوج نائلة بنت الفرافصة بن الاحوص بن عمرو بن ثعلبة (2) بن حصن بن ضمضم بن عدي بن حيان بن كليب، فولدت له مريم ويقال وعنبسة (3) وقتل رضي الله عنه وعنده أربع نائلة، ورملة، وأم البنين، وفاختة.
ويقال إنه طلق أم البنين وهو محصور.
فصل
تقدم في دلائل النبوة الحديث الذي رواه الامام أحمد وأبو داود من حديث سفيان الثوري عن منصور عن ربعي عن البراء بن ناجية الكاهلي، عن عبد الله بن مسعود، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن رحا الاسلام ستدور لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإن تهلك فسبيل ما هلك وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما قال: فقال عمر يا رسول الله أبما مضى أم بما بقي ؟ قال: بل بما بقي " وفي لفظ له ولابي داود " تدور رحا الاسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين " الحديث.
وكأن هذا الشك من الراوي، والمحفوظ في نفس الامر خمس وثلاثين، فإن
__________
(1) بلغ عبد الله ست سنين فنقره ديك في عينه فمرض فمات في جمادى الاولى سنة أربع من الهجرة وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله.
(2) في الطبري وابن سعد: ابن ثعلبة بن الحارث بن حصن.
(3) قال الواقدي وكان له بنت تدعى أم البنين بنت عثمان بن نائلة وهي التي كانت عند عبد الله بن يزيد بن أبي سفيان.
وقال ابن سعد أم البنين وأمها أم ولد.
(الطبري 5 / 149 وطبقات ابن سعد 3 / 54).
فيها قتل أمير المؤمنين عثمان على الصحيح، وقيل ست وثلاثين، والصحيح الاول وكانت أمور شنيعة ولكن الله سلم ووقى بحوله وقوته فلم يكن بأسرع من أن بايع الناس علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وانتظم الامر، واجتمع الشمل، ولكن جرت بعد ذلك أمور في يوم الجمل وأيام صفين على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.
في ذكر من توفي زمان عثمان ممن لا يعرف وقت وفاته على التعيين أنس بن معاذ بن أنس بن قيس الانصاري النجاري، ويقال له أنيس أيضا، شهد المشاهد كلها رضي الله عنه.
أوس بن الصامت، أخو عبادة بن الصامت الانصاريان، شهد بدرا، وأوس هو زوج المجادلة المذكورة في قوله تعالى * (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) * [ المجادلة: 1 ] وامرأته خولة بنت ثعلبة.
أوس بن خولى الانصاري من بني الحبلى، شهد بدرا، وهو المنفرد من بين الانصار بحضور غسل النبي صلى الله عليه وسلم، والنزول مع أهله في قبره، عليه الصلاة والسلام.
الحر بن قيس، كان سيدا في الانصار، ولكن كان بخيلا ومتهما بالنفاق، يقال إنه شهد بيعة الرضوان فلم يبايع، واستتر ببعير له، وهو الذي نزل فيه قوله تعالى * (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا) * [ التوبة: 49 ].
وقد قيل إنه تاب وأقلع فالله أعلم.
الحطيئة الشاعر المشهور.
قيل اسمه جرول ويكنى بأبي مليكة، من بني عبس، أدرك أيام الجاهلية، وأدرك صدرا من الاسلام، وكان يطوف في الآفاق يمتدح الرؤساء من الناس، ويستجديهم ويقال كان بخيلا مع ذلك، سافر مرة فودع امرأته فقال لها: عدي السنين إذا خرجت لغيبة * ودعي الشهور فانهن قصار وكان مداحا هجاء، وله شعر جيد، ومن شعره ما قاله بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فاستجاد منه قوله: من يفعل الخير لم يعدم جوائزه * لا يذهب العرف بين الله والناس خبيب بن يساف بن عتبة الانصاري أحد من شهد بدرا * سلمان بن ربيعة الباهلي، يقال له صحبة، كان من الشجعان الابطال المذكورين، والفرسان المشهورين، ولاه عمر قضاء الكوفة، ثم ولي في زمن عثمان إمرة على قتال الترك، فقتل ببلنجر، فقيرة هناك في تابوت يستسقي به الترك إذا قحطوا * عبد الله بن حذافة بن قيس القرشي السهمي، هاجر هو وأخوه قيس إلى الحبشة،
وكان من سادات الصحابة، وهو القائل: يا رسول الله من أبي ؟ - وكان إذا لاحى الرجال دعي لغير أبيه - فقال: أبوك حذافة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى كسرى فدفع كتابه إلى عظيم بصرى فبعث معه من يوصله إلى هرقل كما تقدم، وقد أسرته الروم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في جملة ثمانين من المسلمين، فأرادوه على الكفر فأبى عليهم، فقال له الملك: قبل رأسي وأنا أطلقك ومن معك من المسلمين، فقبل رأسه فأطلقهم، فلما قدم على عمر قال له:
حق على كل مسلم أن يقبل رأسك، ثم قام عمر فقبل رأسه قبل الناس رضي الله عنه * عبد الله بن سراقة بن المعتمر، العدوي صحابي أحدي، وزعم الزهري أنه شهد بدرا فالله أعلم * عبد الله بن قيس بن خالد الانصاري، شهد بدرا * عبد الرحمن بن سهل بن زيد الانصاري الحارثي، شهد أحدا وما بعدها، وقال ابن عبد البر شهد بدرا، استعمله عمر على البصرة بعد موت عتبة بن غزوان، وقد نهشته حية فرقاه عمارة بن حزم، وهو القائل لابي بكر - وقد جاءته جدتان فأعطى السدس أم الام وترك الاخرى وهي أم الاب - فقال له: أعطيت التي لو ماتت لم يرثها، وتركت التي لو ماتت لورثها، فشرك بينهما * عمرو بن سراقة بن المعتمر العدوي أخو عبد الله بن سراقة، وهو بدري كبير، روى أنه جاع مرة فربط حجرا على بطنه من شدة الجوع، ومشى يومه ذلك إلى الليل، فأضافه قوم من العرب ومن معه، فلما شبع قال لاصحابه: كنت أحسب الرجلين يحملان البطن، فإذا البطن يحمل الرجلين.
عمير بن سعد الانصاري الاوسي، صحابي جليل القدر، كبير المحل كان يقال له نسيج وحده، لكثرة زهادته وعبادته، شهد فتح الشام مع أبي عبيدة، وناب بحمص وبدمشق أيضا في زمان عمر، فلما كانت خلافة عثمان عزله وولى معاوية الشام بكماله، وله أخبار يطول ذكرها * عروة بن حزام أبو سعيد العدوي كان شاعر مغرما في ابنة عم له، وهي عفراء بنت مهاجر، يقول فيها الشعر واشتهر بحبها، فارتحل أهلها من الحجاز إلى الشام، فتبعهم عروة فخطبها إلى عمه فامتنع من تزويجه لفقره وزوجها بابن عمها الآخر، فهلك عروة هذا في محبتها، وهو مذكور في كتاب مصارع العشاق، ومن شعره فيها قوله: وما هي إلا أن أراها فجاءة * فأبهت حتى ما أكاد أجيب وأصرف عن رأيي الذي كنت أرتأي * وأنسى الذي أعددت حين تغيب قطبة بن عامر أبو زيد الانصاري عقبي بدري * قيس بن مهدي بن قيس بن ثعلبة الانصاري النجاري، له حديث في الركعتين قبل الفجر، وزعم ابن ماكولا أنه شهد بدرا، قال مصعب الزبيري: هو جد يحيى بن سعيد الانصاري، وقال الاكثرون: بل هو جد أبي مريم
عبد الغفار بن القاسم الكوفي فالله أعلم * لبيد بن ربيعة أبو عقيل العامري الشاعر المشهور: صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شئ ما خلا الله باطل " * وتمام البيت: وكل نعيم لا محالة زائل
فقال عثمان بن مظعون: إلا نعيم الجنة، وقد قيل إنه توفي سنة إحدى وأربعين فالله أعلم * المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي، شهد بيعة الرضوان وهو والد سعيد بن المسيب سيد التابعين * معاذ بن عمرو بن الجموح الانصاري شهد بدرا، وضرب يومئذ أبا جهل بسيفه فقطع رجله، وحمل عكرمة بن أبي جهل على معاذ هذا فضربه بالسيف فحل يده من كتفه، فقاتل بقية يومه وهي معلقة يسحبها خلفه، قال معاذ: فلما انتهيت وضعت قدمي عليها ثم تمطأت عليها حتى طرحتها رضي الله عنه.
وعاش بعد ذلك إلى هذه السنة سنة خمس وثلاثين * محمد بن جعفر بن أبي طالب، القرشي الهاشمي، ولد لابيه وهو بالحبشة، فلما هاجر إلى المدينة سنة خيبر، وتوفي يوم مؤتة شهيدا، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزلهم فقال لامهم أسماء بنت عميس: " إيتيني ببني أخي، فجئ بهم كأنهم أفرخ فجعل يقبلهم ويشمهم ويبكي، فبكت أمهم فقال: أتخافين عليهم العيلة وأنا وليهم في الدنيا والآخرة ؟ ثم أمر الحلاق فحلق رؤوسهم " وقد مات محمد وهو شاب في أيام عثمان كما ذكرنا، وزعم ابن عبد البر أنه توفي في تستر فالله أعلم * معبد بن العباس بن عبد المطلب بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل شابا بأفريقية من بلاد المغرب * معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي، صاحب خاتم النبي صلى الله عليه وسلم، قيل توفي في أيام عثمان، وقيل قبل ذلك، وقيل سنة أربعين والله أعلم * منقذ بن عمرو الانصاري، أحد بني مازن بن النجار.
كان قد أصابته آمة في رأسه فكسرت لسانه، وضعف عقله، وكان يكثر من البيع والشراء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " من بايعت فقل لا خلابة، ثم أنت بالخيار في كل ما تشتريه ثلاثة أيام " قال الشافعي: كان مخصصا بإثبات الخيار في كل بيع، سواء اشترط الخيار أم لا * نعيم بن مسعود، أبو سلمة الغطفاني وهو الذي خذل بين الاحزاب وبين بني قريظة كما قدمناه، فله بذلك
اليد البيضاء، والراية العليا أبو ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي، الشاعر، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد يوم السقيفة وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أشعر هذيل، وهذيل أشعر العرب وهو القائل: وإذا المنية أنشبت أظفارها * ألفيت كل تميمة لا تنفع وتجلدي للشامتين أربهم * أني لريب الدهر لا أتضعضع توفي غازيا بأفريقية في خلافة عثمان * أبو رهم سبرة بن عبد العزى القرشي الشاعر ذكره في هذا الفصل محمد بن سعد وحده * أبو زبيد الطائي، الشاعر، اسمه حرملة بن المنذر كان نصرانيا (1) وكان يجالس الوليد بن عقبة فأدخله على عثمان فاستنشده شيئا من شعره فأنشده قصيدة
__________
(1) تذهب أغلب المصادر القديمة إلى أنه كان نصرانيا وأدرك الاسلام ولم يسلم وانه على دينه (النصرانية) مات.
(الشعر والشعراء، الاغاني، تاريخ ابن عساكر، الارشاد لياقوت) إلا أن هناك اشارة في الطبري اغفلها المؤرخون، وهي رغبته واستعداده للقتال، وقد تمثل ذلك في قتاله إلى جانب المسلمين يوم الجسر حمية =
له في الاسد بديعة (1)، فقال له عثمان: تفتأ تذكر الاسد ما حييت ؟ إني لاحسبك جبابا نصرانيا * أبو سبرة بن أبي رهم العامري، أخو أبي سلمة بن عبد الاسد، أمهما برة بنت عبد المطلب، هاجر إلى الحبشة وشهد بدرا وما بعدها، قال الزبير: لا نعلم بدريا سكن مكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم سواه، قال: وأهله ببدر في ذلك * أبو لبابة بن عبد المنذر أحد نقباء ليلة العقبة، وقيل إنه في خلافة علي والله أعلم * أبو هاشم بن عتبة تقدم وفاته في سنة إحدى وعشرين، وقيل في خلافة عثمان والله أعلم.
خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب واسمه عبد مناف بن عبد المطلب واسمه شيبة بن هاشم واسمه عمرو بن عبد مناف، واسمه المغيرة بن قصي، واسمه زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن
نزار بن معد بن عدنان أبو الحسن والحسين، ويكنى بأبي تراب، وأبي القسم الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختنه على ابنته فاطمة الزهراء.
وأمة فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، ويقال إنها أول هاشمية ولدت هاشميا.
وكان له من الاخوة طالب، وعقيل، وجعفر، وكانوا أكبر منه، بين كل واحد منهم وبين الآخر عشر سنين، وله أختان، أم هانئ وجمانة، وكلهم من فاطمة بنت أسد، وقد أسلمت وهاجرت * كان علي أحد العشرة المشهود لهم بالجنة واحد الستة أصحاب الشورى، وكان ممن توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم راض عنهم وكان رابع الخلفاء
__________
= للمسلمين وقد استعمله بعدها عمر على صدقات قومه.
وصاحب الوليد بن عقبة، الذي لم يزل به حتى اسلم في آخر امارة الوليد وحسن اسلامه.
وأيد ابن الاثير هذه الرواية.
ولم يرد في شعره ما يؤيد نصرانيته كما هو الحال عند غيره من الشعراء.
في موته أقوال والثابت، وفي ديوانه اشارة إلى انه رثى عبيد الله بن عمر بن الخطاب والمعروف أن عبيد الله قتل في صفين.
وله قصيدة في رثاء الامام علي فهذا يعني صراحة إلى انه كان حيا سنة (40) ويذكر السيوطي في المزهر 1 / 125 - 129 عن ابن دريد في اماليه أن أبا زبيد الطائي وجميل بن معمر العذري والاخطل اجتمعوا عند يزيد يتناشدون وصف الاسد.
هذا يرجح انه مات بعد سنة 41، وهذا يضع علامة استفهام كبرى على صحة رواية بروكلمن الذي قال: مات نصرانيا في خلافة عثمان (تاريخ الادب العربي 1 / 173).
(1) ومنها: في الطرائف الادبية، وحماسة البحتري والمحكم وأمالي المرتضى وشرح سقط الزند: من مبلغ قومنا النائين إذا شحطوا * أن الفؤاد إليهم شيق ولع فالدار تنبيهم عني فإن لهم * ودي ونصري إذا اعداؤهم نصعوا إلى أن يقول: ضرغامة أهرت الشدقين ذي لبد * كأنه برنسا في الغاب ملتفع أفر عنه بني الخالات جرأته * لا الصيد يمنع منه وهو ممتنع
الراشدين وكان رجلا آدم شديد الادمة أشكل (1) العينين عظيمهما، ذو بطن، أصلع، وهو إلى
القصر أقرب وكان عظيم اللحية، قد ملات صدره ومنكبيه، أبيضها، وكان كثير شعر الصدر والكتفين، حسن الوجه، ضحوك السن، خفيف المشي على الارض * أسلم علي قديما، وهو ابن سبع وقيل ابن ثمان، وقيل تسع، وقيل عشر، وقيل أحد عشر، وقيل اثني عشر، وقيل ثلاثة عشر، وقيل أربع عشرة، وقيل ابن خمس عشرة، أو ست عشرة سنة قاله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن، ويقال إنه أول من أسلم والصحيح أنه أول من أسلم من الغلمان، كما أن خديجة أول من أسلمت من النساء، وزيد بن حارثة أول من أسلم من الموالي، وأبو بكر الصديق أول من أسلم من الرجال الاحرار، وكان سبب اسلام علي صغيرا أنه كان في كفالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لانه كان قد أصابتهم سنة مجاعة، فأخذه من أبيه، فكان عنده، فلما بعثه الله بالحق آمنت خديجة وأهل البيت ومن جملتهم علي، وكان الايمان النافع المتعدي نفعه إلى الناس إيمان الصديق رضي الله عنه.
وقد ورد عن علي أنه قال: أنا أول من أسلم ولا يصح إسناده إليه.
وقد روي في هذا المعنى أحاديث أوردها ابن عساكر كثيرة منكرة لا يصح شئ منها والله أعلم.
وقد روى الامام أحمد: من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة سمعت أبا حمزة - رجلا من موالي الانصار - قال سمعت زيد بن أرقم يقول: أول من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي * وفي رواية أول من صلى.
قال عمرو: فذكرت ذلك للنخعي فأنكره، وقال أبو بكر: أول من أسلم * وقال محمد بن كعب القرظي: أول من آمن من النساء خديجة وأول رجلين آمنا أبو بكر وعلي ولكن كان أبو بكر يظهر إيمانه وعلي يكتم إيمانه، قلت: يعني خوفا من أبيه، ثم أمره أبوه بمتابعة ابن عمه ونصرته، وهاجر علي بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وكان قد أمره بقضاء ديونه ورد ودائعه، ثم يلحق به، فامتثل ما أمره به، ثم هاجر، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سهل بن حنيف، وذكر ابن إسحاق وغيره من أهل السير والمغازي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين نفسه، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة لا يصح شئ منها لضعف أسانيدها، وركة بعض متونها، فإن في بعضها " أنت أخي ووارثي وخليفتي وخير من أمر بعدي " وهذا الحديث موضوع مخالف لما ثبت في الصحيحين وغيرهما والله أعلم * وقد شهد علي بدرا وكانت له اليد البيضاء فيها، بارز يومئذ
فغلب وظهر وفيه وفي عمه حمزة وابن عمه عبيدة بن الحارث وخصوصهم الثلاثة - عتبة وشيبة والوليد بن عتبة - نزل قوله تعالى * (هذان خصمان اختصموا في ربهم) * [ الحج: 19 ] الآية.
وقال الحكم وغيره عن مقسم عن ابن عباس قال: " دفع النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم بدر إلى علي وهو ابن عشرين سنة " وقال الحسن بن عرفة: حدثني عمار بن محمد عن سعيد بن محمد الحنظلي عن أبي جعفر محمد بن علي قال: نادى مناد في السماء يوم بدر يقال له رضوان لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي.
قال ابن عساكر وهذا مرسل وإنما تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر ثم
__________
(1) في الطبري وابن سعد: ثقيل العينين، وعن أبي الحجاج: كان فيهما أثر الكحل.
وهبه من علي بعد ذلك وقال يونس بن بكير: عن مسعر، عن أبي عوف، عن أبي صالح، عن علي قال: قيل لي يوم بدر ولابي بكر قيل لاحدنا معك جبريل ومع الآخر ميكائيل قال وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال ولا يقاتل ويكون في الصف.
وشهد علي أحدا وكان على الميمنة ومعه الراية بعده مصعب بن عمير، وعلى الميسرة المنذر بن عمرو الانصاري، وحمزة بن عبد المطلب، على القلب وعلى الرجالة الزبير بن العوام، وقيل المقداد بن الاسود، وقد قاتل علي يوم أحد قتالا شديدا، وقتل خلقا كثيرا من المشركين، وغسل عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم الدم الذي كان أصابه من الجراح حين شج في وجهه وكسرت رباعيته وشهد يوم الخندق فقتل يومئذ فارس العرب، وأحد شجعانهم المشاهير، عمرو بن عبدود العامري، كما قدمنا ذلك في غزوة الخندق، وشهد الحديبية وبيعة الرضوان، وشهد خيبر وكانت له بها مواقف هائلة، ومشاهد طائلة، منها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله " فبات الناس يذكرون أيهم يعطاها، فدعا عليا - وكان أرمد - فدعا له، وبصق في عينه فلم يرمد بعدها، فبرأ وأعطاه الراية، ففتح الله على يديه، وقتل مرحبا اليهودي.
وذكر محمد بن إسحاق عن عبد الله بن حسن عن بعض أهله عن أبي رافع أن يهوديا ضرب عليا فرطح ترسه، فتناول بابا عند الحصن فتترس به، فلم يزل في يده حتى فتح الله على يديه ثم
ألقاه من يده، قال أبو رافع: فلقد رأيتني أنا وسبعة معي نجتهد أن نقلب ذلك الباب على ظهره يوم خيبر فلم نستطع.
وقال ليث عن أبي جعفر عن جابر أن عليا حمل الباب على ظهره يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه ففتحوها، فلم يحملوه إلا أربعون رجلا * ومنها أنه قتل مرحبا فارس يهود وشجعانهم * وشهد علي عمرة القضاء وفيها قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أنت مني، وأنا منك " وما يذكره كثير من القصاص في مقاتلته الجن في بئر ذات العلم - وهو بئر قريب من الجحفة - فلا أصل له، وهو من وضع الجهلة من الاخباريين فلا يغتر به.
وشهد الفتح وحنينا والطائف، وقاتل في هذه المشاهد قتالا كثيرا، واعتمر من الجعرانة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك واستخلفه على المدينة، قال له: يا رسول الله أتخلفني مع النساء والصبيان ؟ فقال: " ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي " وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم أميرا وحاكما على اليمن، ومعه خالد بن الوليد، ثم وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، إلى مكة، وساق معه هديا، وأهل كأهلال النبي صلى الله عليه وسلم، فأشركه في هديه، واستمر على إحرامه، ونحرا هديهما بعد فراغ نسكهما كما تقدم ولما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له العباس: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن الامر بعده ؟ فقال: والله لا أسأله فإنه إن منعناها لا يعطيناها الناس بعده أبدا، والاحاديث الصحيحة الصريحة دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوص إليه ولا إلى غيره بالخلافة، بل لوح بذكر الصديق، وأشار إشارة مفهمة ظاهرة جدا إليه، كما قدمنا ذلك ولله الحمد.
وأما ما يفتريه كثير من جهلة الشيعة والقصاص الاغبياء، من أنه أوصى إلى علي بالخلافة،
فكذب وبهت وافتراء عظيم يلزم به خطأ كبير، من تخوين الصحابة وممالاتهم بعده على ترك إنفاذ وصيته وإيصالها إلى من أوصى إليه، وصرفهم إياها إلى غيره، لا لمعنى ولا لسبب، وكل مؤمن بالله ورسوله يتحقق أن دين الاسلام هو الحق، يعلم بطلان هذا الافتراء، لان الصحابة كانوا خير الخلق بعد الانبياء، وهم خير قرون هذه الامة، التي هي أشرف الامم بنص القرآن، وإجماع السلف والخلف، في الدنيا والآخرة، ولله الحمد.
وما قد يقصه بعض القصاص من العوام
وغيرهم في الاسواق وغيرها من الوصية لعلي في الآداب والاخلاق في المأكل والمشرب والملبس، مثل ما يقولون: يا علي لا تعتم وأنت قاعد، يا علي لا تلبس سراويلك وأنت قائم، يا علي لا تمسك عضادتي الباب، ولا تجلس على أسكفة الباب، ولا تخيط ثوبك وهو عليك، ونحو ذلك، كل ذلك من الهذيانات فلا أصل لشئ منه، بل هو اختلاف بعض السفلة الجهلة، ولا يعول على ذلك ويغتر به إلا غبي عيي.
ثم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان علي من جملة من غسله وكفنه وولي دفنه كما تقدم ذلك مفصلا ولله الحمد والمنة.
وسيأتي في باب فضائله ذكر تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم له من فاطمة بعد وقعة بدر فولد منها حسن وحسين ومحسن كما قدمنا.
وقد وردت أحاديث في ذلك لا يصح شئ منها بل أكثرها من وضع الروافض والقصاص.
ولما بويع الصديق يوم السقيفة كان علي من جملة من بايع بالمسجد كما قدمنا.
وكان بين يدي الصديق كغيره من أمراء الصحابة يرى طاعته فرضا عليه، وأحب الاشياء إليه، ولما توفيت فاطمة بعد ستة أشهر - وكانت قد تغضبت بعض الشئ على أبي بكر بسبب الميراث الذي فاتها من أبيها عليه السلام، ولم تكن اطلعت على النص المختص بالانبياء وأنهم لا يورثون، فلما بلغها سألت أبا بكر أن يكون زوجها ناظرا على هذه الصدقة، فأبى ذلك عليها، فبقي في نفسها شئ كما قدمنا، واحتاج علي أن يداريها بعض المداراة - فلما توفيت جدد البيعة مع الصديق رضي الله عنهما، فلما توفي أبو بكر وقام عمر في الخلافة بوصية أبي بكر إليه بذلك، كان علي من جملة من بايعه، وكان معه يشاوره في الامور، ويقال إنه استقضاه في أيام خلافته، وقدم معه من جملة سادات أمراء الصحابة إلى الشام، وشهد خطبته بالجابية، فلما طعن عمر وجعل الامر شورى في ستة أحدهم علي، ثم خلص منهم بعثمان وعلي كما قدمنا، فقدم عثمان على علي، فسمع وأطاع، فلما قتل عثمان يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمسة وثلاثين على المشهور.
عدل الناس إلى علي فبايعوه، قبل أن يدفن عثمان، وقيل بعد دفنه كما تقدم (1)، وقد امتنع علي من إجابتهم إلى قبول الامارة حتى تكرر قولهم
__________
(1) في الطبري والكامل: بويع لخمس بقين من ذي الحجة بقيت المدينة خمسة أيام، بعد مقتل عثمان، وأميرها الغافقي بن حرب حتى غشى الناس عليا فبايعوه 3 / 193، وذكرها الطبري عن سيف عن أبي حارثة 5 / 156
وقال ابن الاعثم: ترك عثمان قتيلا إلى أن بويع علي وأتي به إلى حفرته 2 / 241 وفي مروج الذهب: بويع علي في اليوم الذي قتل فيه عثمان.
له وفر منهم إلى حائط بني عمرو بن مبذول (1)، وأغلق بابه فجاء الناس فطرقوا الباب وولجوا عليه، وجاؤوا معهم بطلحة والزبير، فقالوا له: إن هذا الامر لا يمكن بقاؤه بلا أمير، ولم يزالوا به حتى أجاب.
ذكر بيعة علي رضي الله عنه بالخلافة يقال أن أول من بايعه طلحة بيده اليمنى وكانت شلاء من يوم أحد - لما وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال بعض القوم: والله إن هذا الامر لا يتم، وخرج علي إلى المسجد فصعد المنبر وعليه إزار وعمامة خز ونعلاه في يده، توكأ على قوسه، فبايعه عامة الناس، وذلك يوم السبت التاسع عشر من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، ويقال إن طلحة والزبير إنما بايعاه بعد أن طلبهما وسألاه أن يؤمرهما على البصرة والكوفة، فقال لهما: بل تكونا عندي أستأنس بكما، ومن الناس من يزعم أنه لم يبايعه طائفة من الانصار، منهم حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد، ومحمد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة (2) ذكره ابن جرير من طريق المدائني عن شيخ من بني هاشم عن عبد الله بن الحسن قال المدائني: حدثني من سمع الزهري يقول: هرب قوم من المدينة إلى الشام ولم بايعوا عليا، ولم يبايعه قدامة بن مظعون، وعبد الله بن سلام، والمغيرة بن شعبة، قلت: وهرب مروان بن الحكم والوليد بن عقبة وآخرون إلى الشام.
وقال الواقدي: بايع الناس عليها بالمدينة، وتربص سبعة نفر لم يبايعوا، منهم ابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وصهيب، وزيد بن ثابت، ومحمد بن أبي سلمة، وسلمة بن سلامة بن رقش، وأسامة بن زيد، ولم يتخلف أحد من الانصار إلا بايع فيما نعلم.
وذكر سيف بن عمر عن جماعة من شيوخه قالوا: بقيت المدينة خمسة أيام بعد مقتل عثمان وأميرها الغافقي بن حرب، يلتمسون من يجييبهم إلى القيام
بالامر.
والمصريون يلحون على علي وهو يهرب منهم إلى الحيطان، ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه، والبصريون يطلبون طلحة فلا يجيبهم، فقالوا فيما بينهم لا نولي أحد من هؤلاء الثلاثة، فمضوا إلى سعد بن أبي وقاص فقالوا: إنك من أهل الشورى فلم يقبل منهم، ثم راحوا إلى ابن عمر فأبى عليهم، فحاروا في أمرهم، ثم قالوا: ان نحن رجعنا إلى أمصارنا بقتل عثمان من غير إمرة اختلف الناس في أمرهم ولم نسلم، فرجعوا إلى علي فألحوا عليه، وأخذ الاشتر بيده فبايعه وبايعه الناس، وأهل الكوفة يقولون، أول من بايعه الاشتر النخعي وذلك يوم الخميس الرابع
__________
(1) كذا بالاصل والطبري، وفي الكامل كان في بيته، 3 / 191 وفي فتوح ابن الاعثم: كان يعرف الضبع 2 / 243.
(2) في فتوح ابن الاعثم 2 / 256: اسامة بن زيد وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك - لم يدخلوا في بيعة الناس من المهاجرين والانصار - ورفض علي استدعاءهم لسعته.
والعشرون من ذي الحجة، وذلك بعد مراجعة لهم في ذلك، وكلهم يقول: لا يصلح لها إلا علي، فلما كان يوم الجمعة وصعد علي المنبر بايعه من لم يبايعه بالامس، وكان أول من بايعه طلحة بيده الشلاء، فقال قائل: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم الزبير، ثم قال الزبير: إنما بايعت عليا واللج على عنقي والسلام، ثم راح إلى مكة فأقام أربعة أشهر، وكانت هذه البيعة يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة، وكان أول خطبة خطبها أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله تعالى أنزل كتابا هاديا بين فيه الخير والشر، فخذوا بالخير ودعوا الشر، إن الله حرم حرما غير (1) مجهولة، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها، وشد بالاخلاص والتوحيد حقوق المسلمين، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، لا يحل لمسلم أذى مسلم إلا بما يجب، بادروا أمر العامة، وخاصة أحدكم الموت، فإن الناس أمامكم، وإنما خلفكم الساعة تحدو بكم فتخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر بالناس أخراهم، اتقوا الله عباده في عباده وبلاده، فانكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم، ثم أطيعوا الله ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به وإذا رأيتم الشر
فدعوه * (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الارض) * [ الانفال: 26 ] الآية، فلما فرغ من خطبته قال المصريون: خذها إليك واحذرن أبا الحسن * إنا نمر الامر إمرار الرسن صولة آساد كآساد السفن * بمشرفيات كغدران اللبن ونطعن الملك بلين كالشطن * حتى يمرن على غير عنن فقال علي مجيبا لهم ! ان عجزت عجزة لا أعتذر * سوف أكيس بعدها وأستمر أرفع من ذيلي ما كنت أجر * وأجمع الامر الشتيت المنتشر إن لم يشاغبني العجول المنتصر * أو يتركوني والسلاح يبتدر وكان على الكوفة أبو موسى الاشعري على الصلاة وعلى الحرب القعقاع بن عمرو وعلى الخراج جابر بن فلان المزني، وعلى البصرة عبد الله بن عامر، وعلى مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقد تغلب عليه محمد بن أبي حذيفة، وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان، ونوابه على حمص عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعلى قنسرين حبيب بن مسلمة، وعلى الاردن أبو الاعور، وعلى فلسطين حكيم بن علقمة (2)، وعلى أذربيجان الاشعث بن قيس، وعلى قرقيسيا جرير بن عبد الله البجلي، وعلى حلوان عتيبة بن النهاس، وعلى قيسارية مالك بن حبيب، وعلى همذان (3) حبيش.
هذا ما ذكره ابن جرير من نواب عثمان الذي توفي وهم نواب الامصار، وكان
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) في الطبري والكامل: علقمة بن حكيم الكناني.
(3) في الطبري والكامل: وعلى همذان النسير، أما حبيش (وفي الكامل حنيس) فكان على ماسبذان.
على بيت المال عقبة بن عمرو (1)، وعلى قضاء المدينة زيد بن ثابت، ولما قتل عثمان بن عفان خرج النعمان بن بشير ومعه قميص عثمان مضمخ بدمه، ومعه أصابع نائلة التي أصيبت حين حاجفت
عنه بيدها، فقطعت مع بعض الكف فورد به على معاوية بالشام، فوضعه معاوية على المنبر ليراه الناس، وعلق الاصابع في كم القميص، وندب الناس إلى الاخذ بهذا الثأر والدم وصاحبه، فتباكى الناس حول المنبر، وجعل القميص يرفع تارة ويوضع تارة، والناس يتباكون حوله سنة، وحث بعضهم بعضا على الاخذ بثأره، واعتزل أكثر الناس النساء في هذا العام، وقام في الناس معاوية وجماعة من الصحابة معه يحرضون الناس على المطالبة بدم عثمان، ممن قتله من أولئك الخوارج: منهم عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء (2)، وأبو أمامة، وعمرو بن عنبسة وغيرهم من الصحابة، ومن التابعين: شريك بن حباشة، وأبو مسلم الخولاني، وعبد الرحمن بن غنم، وغيرهم من التابعين.
ولما استقر أمر بيعة علي دخل عليه طلحة والزبير ورؤس الصحابة رضي الله عنهم، وطلبوا منه إقامة الحدود، والاخذ بدم عثمان.
فاعتذر إليهم بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان، وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا، فطلب منه الزبير أن يوليه إمرة الكوفة ليأتيه بالجنود، وطلب منه طلحة أن يوليه إمرة البصرة، ليأتيه منها بالجنود ليقوى بهم على شوكة هؤلاء الخوارج، وجهلة الاعراب الذين كانوا معهم في قتل عثمان رضي الله عنه فقال لهما: مهلا علي، حتى انظر في هذا الامر.
ودخل عليه المغيرة بن شعبة على إثر ذلك فقال له.
إني أرى أن تقر عمالك على البلاد، فإذا أتتك طاعتهم استبدلت بعد ذلك بمن شئت وتركت من شئت، ثم جاءه من الغد فقال له: إني أرى أن تعزلهم لتعلم من يطيعك ممن يعصيك، فعرض ذلك علي على ابن عباس قال: لقد نصحك بالامس وغشك اليوم، فبلغ ذلك المغيرة فقال: نعم نصحته فلما لم يقبل غششته ثم خرج المغيرة فلحق بمكة، ولحقه جماعة منهم طلحة والزبير: وكانوا قد استأذنوا عليا في الاعتمار فأذن لهم، ثم إن ابن عباس أشار على علي باستمرار نوابه في البلاد، إلى أن يتمكن الامر، وأن يقر معاوية خصوصا على الشام وقال له: إني أخشى إن عزلته عنها أن يطلبك بدم عثمان ولا آمن طلحة والزبير أن يتكلما عليك بسبب ذلك، فقال علي: إني لا أرى هذا ولكن اذهب أنت إلى الشام فقد وليتكها، فقال ابن عباس لعلي: إني أخشى من معاوية أن يقتلني بعثمان، أو يحبسني لقرابتي منك ولكن اكتب معي إلى معاوية فمنه وعده، فقال علي: والله إن هذا مالا يكون أبدا، فقال ابن
عباس: يا أمير المؤمنين الحرب خدعة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله لئن أطعتني لاوردنهم بعد صدرهم ونهى ابن عباس عليا فيما أشار عليه أن يقبل من هؤلاء الذين يحسنون إليه الرحيل إلى
__________
(1) في الكامل: عامر.
(2) قال ابن الاثير: والصحيح أن أبا الدرداء توفي قبل أن قتل عثمان.
قال في الاصابة: والاصح عند أصحاب الحديث انه مات في خلافة عثمان فيما قال الواقدي: مات سنة ثنتين وثلاثين.
العراق، ومفارقة المدينة، فأبى عليه ذلك كله، وطاوع أمر أولئك الامراء من أولئك الخوارج من أهل الامصار.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة قصد قسطنطين بن هرقل بلاد المسلمين في ألف مركب، فأرسل الله عليه قاصفا من الريح فغرقه الله بحوله وقوته، ومن معه، ولم ينج منهم أحد إلا الملك في شرذمة قليلة من قومه، فلما دخل صقلية عملوا له حماما فقتلوه فيه، وقالوا: أنت قتلت رجالنا.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين من الهجرة استهلت هذه السنة وقد تولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الخلافة، وولى على الامصار نوابا، فولى عبيد الله بن عباس على اليمن، وولى سمرة بن جندب (1) على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة، وقيس بن سعد بن عبادة على مصر، وعلى الشام سهل بن حنيف بدل معاوية (2) فسار حتى بلغ تبوك فتلقته خيل معاوية، فقالوا: من أنت ؟ أمير، قالوا: على أي شئ ؟ قال: على الشام، فقالوا: إن كان عثمان بعثك فحي هلابك، وإن كان غيره فارجع.
فقال: أو ما سمعتم الذي كان ؟ قالوا: بلى، فرجع إلى علي.
وأما قيس بن سعد فاختلف عليه أهل مصر فبايع له الجمهور، وقالت طائفة: لا نبايع حتى نقتل قتلة عثمان، وكذلك أهل البصرة، وأما عمارة بن شهاب المبعوث أميرا على الكوفة فصده عنها طلحة بن خويلد غضبا لعثمان، فرجع إلى علي فأخبره، وانتشرت الفتنة وتفاقم الامر، واختلفت الكلمة، وكتب أبو
موسى إلى علي بطاعة أهل الكوفة ومبايعتهم إلا القليل منهم، وبعث علي إلى معاوية كتبا كثيرة فلم يرد عليه جوابها، وتكرر ذلك مرارا إلى الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر، ثم بعث معاوية طومارا مع رجل (3) فدخل به على علي فقال: ما وراءك ؟ قال جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القود كلهم موتور، تركت سبعين ألف (4) شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق، فقال علي: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ثم خرج رسول معاوية من بين يدي علي فهم به أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان يريدون قتله، فما أفلت إلا بعد جهد.
وعزم علي رضي الله عنه على قتال أهل الشام، وكتب إلى قيس بن سعد بمصر يستنفر الناس لقتالهم، وإلى أبي موسى
__________
(1) في الطبري والكامل: عثمان بن حنيف.
(2) زاد ابن الاعثم في فتوحه 2 / 268: وولى جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي بلاد خراسان، وولى عبد الرحمن مولى بديل من ورقاء الخزاعي أميرا وعاملا على الماهين، والماهان: الدينور ونهاوند احداهما ماه الكوفة والاخرى ماه البصرة.
(3) ذكره الطبري: من بني عبس ثم من بني رواحة يدعى قبيصة.
(4) في الطبري والكامل: ستين ألف.
بالكوفة: وبعث إلى عثمان بن حنيف بذلك، وخطب الناس فحثهم على ذلك (1).
وعزم على التجهز.
وخرج من المدينة، واستخلف عليها قثم بن العباس، وهو عازم أن يقاتل بمن أطاعه من عصاه وخرج عن أمره ولم يبايعه مع الناس، وجاء إليه ابنه الحسن بن علي فقال: يا أبتي دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين، ووقوع الاختلاف بينهم، فلم يقبل منه ذلك، بل صمم على القتال، ورتب الجيش، فدفع اللواء إلى محمد بن الحنفية، وجعل ابن العباس على الميمنة، وعمرو بن أبي سلمة على الميسرة، وقيل جعل على الميسرة عمرو بن سفيان بن عبد الاسد، وجعل على مقدمته أبا ليلى بن عمرو بن الجراح ابن أخي أبي عبيدة، واستخلف على المدينة قثم بن العباس ولم يبق شئ إلا أن يخرج من المدينة قاصدا إلى الشام، حتى جاءه ما شغله عن ذلك وهو
ما سنورده.
ابتداء وقعة الجمل لما وقع قتل عثمان بعد أيام التشريق، كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين قد خرجن إلى الحج في هذا العام فرارا من الفتنة، فلما بلغ الناس أن عثمان قد قتل، أقمن بمكة بعدما خرجوا منها، ورجعوا إليها وأقاموا بها وجعلوا ينتظرون ما يصنع الناس ويتجسسون الاخبار فلما بويع لعلي وصار حظ الناس عنده بحكم الحال وغلبة الرأي، لا عن اختيار منه لذلك رؤس أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان، مع أن عليا في نفس الامر يكرههم، ولكنه تربص بهم الدوائر، ويود لو تمكن منهم ليأخذ حق الله منهم، ولكن لما وقع الامر هكذا واستحوذوا عليه، وحجبوا عنه علية الصحابة فر جماعة من بني أمية (2) وغيرهم إلى مكة، واستأذنه طلحة بن الزبير في الاعتمار، فأذن لهما فخرجا إلى مكة وتبعهم خلق كثير، وجم غفير، وكان علي لما عزم على قتال أهل الشام قد ندب أهل المدينة إلى الخروج معه فأبوا عليه، فطلب عبد الله بن عمر بن الخطاب وحرضه على الخروج معه، فقال: إنما أنا رجل من أهل المدينة، إن خرجوا خرجت على السمع والطاعة، ولكن لا أخرج للقتال في هذا العام، ثم تجهز ابن عمر وخرج إلى مكة، وقدم إلى مكة أيضا في هذا العام يعلى بن أمية (3) من اليمن، - وكان عاملا عليها لعثمان -، ومعه ستمائة بعير وستمائة ألف درهم (4)، وقدم لها عبد الله بن عامر من البصرة، وكان نائبها لعثمان، فاجتمع فيها خلق من سادات الصحابة، وأمهات المؤمنين، فقامت عائشة رضي الله عنها في الناس تخطبهم وتحثهم على القيام بطلب دم عثمان، وذكرت ما افتات به أولئك من قتله في بلد حرام وشهر حرام، ولم يراقبوا
__________
(1) انظر خطبته في أهل المدينة في الطبري 5 / 163 - 164 والكامل لابن الاثير 3 / 204.
(2) منهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط - أخو عثمان - مروان بن الحكم - عبد الله بن عامر - ابن خال عثمان - وعبد الله بن عامر الحضرمي وسعيد بن العاص.
(3) الصواب يعلى بن منية.
(4) كذا في الاصل والطبري والكامل.
وفي فتوح ابن الاعثم: أربعمائة بعير.
جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سفكوا الدماء، وأخذوا الاموال.
فاستجاب الناس لها، وطاوعوها على ما تراه من الامر بالمصلحة، وقالوا لها: حيثما ما سرت سرنا معك، فقال قائل نذهب إلى الشام، فقال بعضهم: إن معاوية قد كفاكم أمرها، ولو قدموها لغلبوا، واجتمع الامر كله لهم، لان أكابر الصحابة معهم وقال آخرون: نذهب إلى المدينة فنطلب من علي أن يسلم إلينا قتلة عثمان فيقتلوا، وقال آخرون: بل نذهب إلى البصرة فنتقوى من هنالك بالخيل والرجال، ونبدأ بمن هناك من قتلة عثمان.
فاتفق الرأي على ذلك وكان بقية أمهات المؤمنين قد وافقن عائشة على المسير إلى المدينة، فلما اتفق الناس على المسير إلى البصرة رجعن عن ذلك وقلن: لا نسير إلى غير المدينة، وجهز الناس يعلى بن أمية فأنفق فيهم ستمائة بعير وستمائة ألف درهم (1) وجهزهم ابن عامر أيضا بمال كثير، وكانت حفصة بنت عمر أم المؤمنين قد وافقت عاشئة على المسير إلى البصرة، فمنعها أخوها عبد الله من ذلك، وأبى هو أن يسير معهم إلى غير المدينة، وسار الناس صحبة عاشئة في ألف فارس، وقيل تسعمائة فارس من أهل المدينة ومكة، وتلاحق بهم آخرون، فصاروا في ثلاثة آلاف، وأم المؤمنين عاشئة تحمل في هودج على حمل اسمه عسكر، اشتراه يعلى بن أمية من رجل من عرينة بمائتي دينار، وقبل بثمانين دينارا، وقيل غير ذلك، وسار معها أمهات المؤمنين إلى ذات عرق ففارقنها هنالك وبكين للوداع، وتباكى الناس، وكان ذلك اليوم يسمى يوم النحيب، وسار الناس قاصدين البصرة، وكان الذي يصلي بالناس عن أمر عاشئة ابن أختها عبد الله ابن الزبير (2)، ومروان بن الحكم يؤذن للناس في أوقات الصلوات، وقد مروا في مسيرهم ليلا بماء يقال له الحوأب، فنبحتهم كلاب عنده، فلما سمعت ذلك عاشئة قالت: ما اسم هذا المكان ؟ قالوا الحوأب، فضربت باحدى يديها على الاخرى وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أطنني إلا راجعة، قالوا: ولم ؟ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنسائه: " ليت شعري أيتكن التي تنبحها كلاب الحوأب "، ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته، وقالت: ردوني ردوني، أنا والله صاحبة ماء الحوأب، وقد أوردنا هذا الحديث بطرقه وألفاظه في دلائل النبوة كما سبق،
فأناخ الناس حولها يوما وليلة، وقل لها عبد الله بن الزبير: إن الذي أخبرك أن هذا ماء الحوأب قد كذب (3)، ثم قال الناس: النجا النجا، هذا جيش علي بن أبي طالب قد أقبل، فارتحلوا نحو البصرة، فلما اقتربت من البصرة كتبت إلى الاحنف بن قيس وغيره من رؤوس الناس، أنها قد قدمت، فبعث عثمان بن حنيف عمران بن حصين وأبا الاسود الدؤلي إليها ليعلما ما جاءت له، فلما قدما عليها سلما عليها واستعلما منها ما جاءت له، فذكرت لهما ما الذي جاءت له من القيام
__________
(1) في فتوح ابن الاعثم: ستين ألف دينار وفي رواية عوف أعان يعلى بأربعمائة ألف وحمل سبعين رجلا من قريش.
(2) في رواية في الطبري: عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد.
(3) جاء ابن الزبير بخمسين رجلا شهدوا عند عائشة هذا الماء ليس بماء الحوأب، فكانت هذه أول شهادة زور شهد بها في الاسلام.
بطلب دم عثمان، لانه قتل مظلوما في شهر حرام وبلد حرام.
وتلت قوله تعالى * (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك بتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * [ النساء: 114 ] فخرجا من عندها فجاءا إلى طلحة فقالا له: ما أقدمك ؟ فقال: الطلب بدم عثمان، فقالا: ما بايعت عليا ؟ قال: بلى والسيف على عنقي، ولا أستقبله إن هو لم يخل بيننا وبين قتلة عثمان.
فذهبا إلى الزبير فقال مثل ذلك، قال: فرجع عمران وأبو الاسود إلى عثمان بن حنيف، فقال أبو الاسود: يا بن الاحنف (1) قد أتيت فانفر * وطاعن القوم وجالد واصبر * واخرج لهم مستلثما وشمر * فقال عثمان بن حنيف: إنا لله وإنا إليه راجعون، دارت رحا الاسلام ورب الكعبة، فانظروا بأي زيفان نزيف، فقال عمران إي والله لتعركنكم عركا طويلا، يشير عثمان بن حنيف إلى حديث ابن مسعود مرفوعا " تدور رحا الاسلام لخمس وثلاثين " الحديث كما تقدم، ثم قال عثمان بن حنيف لعمران بن حصين: أشر علي، فقال اعتزل فإني قاعد في منزلي، أو قال قاعد
على بعيري، فذهب فقال عثمان: بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين، فنادى في الناس يأمرهم بلبس السلاح والاجتماع في المسجد، فاجتمعوا فأمرهم بالتجهز، فقام رجل وعثمان على المنبر فقال: أيها الناس إن كان هؤلاء القوم جاؤوا خائفين فقد جاؤوا من بلد يأمن فيه الطير، وإن كانوا جاءوا يطلبون بدم عثمان فما نحن بقتلته، فاطيعوني وردوهم من حيث جاؤوا، فقام الاسود بن سريع السعدي فقال: إنما جاؤوا يستعينون بنا على قتلة عثمان ومنا ومن غيرنا، فحصبه الناس، فعلم عثمان بن حنيف أن لقتلة عثمان بالبصرة أنصارا، فكره ذلك، وقدمت أم المؤمنين بمن معها من الناس، فنزلوا المربد من أعلاه قريبا من البصرة، وخرج إليها من أهل البصرة من أراد أن يكون معها، وخرج عثمان بن حنيف بالجيش فاجتمعوا بالمربد، فتكلم طلحة - وكان على الميمنة - فندب إلى الاخذ بثأر عثمان، والطلب بدمه، وتابعه الزبير فتكلم بمثل مقالته فرد عليهما ناس من جيش عثمان بن حنيف، وتكلمت أم المؤمنين فحرضت وحثت على القتال، فتناور طوائف من أطراف الجيش فتراموا بالحجارة، ثم تحاجز الناس ورجع كل فريق إلى حوزته، وقد صارت طائفة من جيش عثمان بن حنيف إلى جيش عائشة، فكثروا، وجاء حارثة (2) بن قدامة السعدي فقال: يا أم المؤمنين ! والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل عرضة السلاح، إن كنت أتيتينا طائعة فارجعي من حيث جئت إلى منزلك، وإن كنت أتيتينا مكرهة فاستعيني بالناس في الرجوع وأقبل حكيم بن جبلة - وكان على خيل عثمان بن
__________
(1) في الطبري والكامل: يا بن حنيف.
(2) في الطبري والكامل: جارية.
حنيف - فأنشب القتال وجعل أصحاب أم المؤمنين يكفون أيديهم ويمتنعون من القتال، وجعل حكيم يقتحم عليهم فاقتتلوا على فم السكة، وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا حتى انتهوا إلى مقبرة بني مازن، وحجز الليل بينهم، فلما كان اليوم الثاني قصدوا للقتال، فاقتتلوا قتالا شديدا، إلى أن زال النهار، وقتل خلق كثير من أصحاب ابن حنيف، وكثرت الجراح في الفريقين، فلما
عضتهم الحرب تداعوا إلى الصلح على أن يكتبوا بينهم كتابا ويبعثوا رسولا إلى أهل المدينة يسأل أهلها، إن كان طلحة والزبير أكرها على البيعة، خرج عثمان بن حنيف عن البصرة وأخلاها، وإن لم يكونا أكرها على البيعة خرج طلحة الزبير عنها وأخلوها لهم، وبعثوا بذلك كعب بن سور القاضي، فقدم المدينة يوم الجمعة، فقام في الناس، فسألهم: هل بايع طلحة والزبير طائعين أو مكرهين ؟ فسكت الناس فلم يتكلم إلا أسامة بن زيد، فقال: بل كانا مكرهين، فثار إليه بعض الناس فأرادوا ضربه، فحاجف دونه صهيب، وأبو أيوب، وجماعة حتى خلصوه، وقالوا له: ما وسعك ما وسعنا من السكوت ؟ فقال: لا والله ما كنت أرى أن الامر ينتهي إلى هذا، وكتب علي إلى عثمان بن حنيف يقول له: إنهما لم يكرها على فرقة، ولقد أكرها على جماعة وفضل فإن كان يريدان الخلع فلا عذر لهما، وإن كانا يريدان غير ذلك نظرا ونظرنا، وقدم كعب بن سور على عثمان بكتاب علي، فقال عثمان: هذا أمر آخر غير ما كنا فيه، وبعث طلحة والزبير إلى عثمان بن حنيف أن يخرج إليهما فأبى، فجمعا الرجال في ليلة مظلمة وشهدا بهم صلاة العشاء في المسجد الجامع، ولم يخرج عثمان بن حنيف تلك الليلة، فصلى بالناس عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، ووقع من رعاع الناس من أهل البصرة كلام وضرب، فقتل منهم نحوا أربعين رجلا، ودخل الناس على عثمان بن حنيف قصره فأخرجوه إلى طلحة والزبير، ولم يبق في وجهه شعرة إلا نتفوها، فاستعظما ذلك وبعثا إلى عائشة فأعلماها الخبر، فأمرت أن تخلي سبيله، فأطلقوا وولوا على بيت المال عبد الرحمن بن أبي بكر، وقسم طلحة والزبير أموال بيت المال في الناس وفضلوا أهل الطاعة، وأكب عليهم الناس يأخذون أرزاقهم، وأخذوا الحرس، واستبدوا في الامر بالبصرة، فحمى لذلك جماعة من قوم قتلة عثمان وأنصارهم، فركبوا في جيش قريب من ثلثمائة، ومقدمهم حكيم بن جبلة، هو أحد من باشر قتل عثمان، فبارزوا وقاتلوا، فضرب رجل رجل حكيم بن جبلة فقطعها، فزحف حتى أخذها وضرب بها ضاربه فقتله ثم اتكأ عليه وجعل يقول: يا ساق لن تراعي * * إن لك ذراعي
أحمي بها كراعي وقال أيضا: ليس على أن أموت عار * * والعار في الناس هو الفرار والمجد لا يفضحه الدمار فمر عليه رجل وهو متكئ برأسه على ذلك الرجل، فقال له: من قتلك ؟ فقال له
وسادتي.
ثم مات حكيم قتيلا هو ونحو من سبعين من قتلة عثمان وأنصارهم أهل المدينة، فضعف جأش من خالف طلحة والزبير من أهل البصرة، ويقال: إن أهل البصرة بايعوا طلحة والزبير، وندب الزبير ألف فارس يأخذها معه ويلتقي بها عليا قبل أن يجئ فلم يجبه أحد، وكتبوا بذلك إلى أهل الشام يبشرونهم بذلك، وقد كانت هذه الوقعة لخمس ليال بقين من ربيع الآخر سنة ست وثلاثين، وقد كتبت عائشة إلى زيد بن صوحان تدعوه إلى نصرتها والقيام معها فإن لم يجئ فليكف يده وليلزم منزله، أي لا يكون عليها ولا لها، فقال: أنا في نصرتك ما دمت في منزلك، وأبى أن يطيعها في ذلك، وقال: رحم الله أم المؤمنين أمرها الله أن تلزم بيتها وأمرنا أن نقاتل، فخرجت من منزلها وأمرتنا بلزوم بيوتنا التي كانت هي أحق بذلك منا، وكتبت عائشة إلى أهل اليمامة والكوفة بمثل ذلك (1).
مسير علي بن أبي طالب من المدينة إلى البصرة بدلا من الشام بعد أن كان قد تجهز قاصدا الشام كما ذكرنا، فلما بلغه قصد طلحة والزبير البصرة، خطب الناس وحثهم على المسير إلى البصرة ليمنع أولئك من دخولها، إن امكن، أو يطردهم عنها إن كانوا قد دخلوها، فتثاقل عنه أكثر أهل المدينة، واستجاب له بعضهم، قال الشعبي: ما نهض معه في هذا الامر غير ستة نفر من البدريين، ليس لهم سابع.
وقال غيره أربعة.
وذكر ابن جرير وغيره قال كان ممن استجاب له من كبار الصحابة أبو الهيثم بن التيهان، وأبو قتاده الانصاري، وزياد بن حنظلة، وخزيمة بن ثابت.
قالوا: وليس بذي الشهادتين، ذاك مات في زمن عثمان
رضي الله عنه.
وسار علي من المدينة نحو البصرة على تعبئته المتقدم ذكرها، غير أنه استخلف على المدينة تمام بن عباس وعلى مكة قثم بن عباس وذلك في آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين، وخرج علي من المدينة في نحو من تسعمائة مقاتل (2)، وقد لقي عبد الله بن سلام رضي الله عنه عليا وهو بالربذة، فأخذ بعنان فرسه وقال: يا أمير المؤمنين ! لا تخرج منها، فوالله لئن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا، فسبه بعض الناس، فقال علي: دعوه فنعم الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء الحسن بن علي إلى أبيه في الطريق فقال: لقد نهيتك فعصيتني تقتل غدا بمضيعة لا ناصر لك.
فقال له علي: إنك لا تزال تحن علي حنين الجارية، وما الذي نهيتني عنه فعصيتك ؟ فقال: ألم آمرك قبل مقتل عثمان أن تخرج منها لئلا يقتل وأنت بها، فيقول قائل أو يتحدث متحدث ؟ ألم آمرك أن لا تبايع الناس بعد قتل عثمان حتى يبعث إليك أهل كل مصر ببيعتهم ؟ وأمرتك حين خرجت هذه المرأة وهذان الرجلان أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا فعصيتني في ذلك كله ؟ فقال له علي: أما قولك أن أخرج قبل مقتل عثمان فلقد أحيط بنا كما أحيط
__________
(1) انظر كتاب عائشة إلى أهل الكوفة في الطبري 5 / 181 - 182.
(2) في الطبري سبعمائة رجل.
به، وأما مبايعتي قبل مجئ بيعة الامصار فكرهت أن يضيع هذا الامر، وأما أن أجلس وقد ذهب هؤلاء إلى ما ذهبوا إليه.
فتريد مني أن يكون كالضبع التي يحاط بها، ويقال ليست ها هنا، حتى يشق عرقوبها فتخرج، فإذا لم أنضر فيما يلزمني في هذا الامر ويعنيني، فمن ينظر فيه ؟ فكف عني يا بني، ولما انتهى إليه خبر ما صنع القوم بالبصرة من الامر الذي قدمنا كتب إلى أهل الكوفة مع محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر، إني قد اخترتكم على أهل الامصار، فرغبت إليكم وفزعت لما حدث، فكونوا لدين الله أعوانا وأنصارا، [ وأيدونا ] وانهضوا إلينا فالاصلاح نريد لتعود هذه الامة إخوانا (1)، فمضيا، وأرسل إلى المدينة فأخذ ما أراد من سلاح ودواب، وقام في الناس خطيبا فقال: إن الله أعزنا بالاسلام ورفعنا به، وجعلنا به إخوانا، بعد ذلة وقلة وتباغض
وتباعد، فجرى الناس على ذلك ما شاء الله، الاسلام دينهم، والحق قائم بينهم، والكتاب إمامهم، حتى أصيب هذا الرجل بأيدي هؤلاء القوم الذين نزغهم الشيطان لينزغ بين هذه الامة، ألا وإن هذه الامة لابد مفترقة كما افترقت الامم قبلها، فنعوذ بالله من شر ما هو كائن.
ثم عاد ثانية فقال: إنه لابد مما هو كائن أن يكون، ألا وإن هذه الامة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، شرها فرقة تحبني ولا تعمل بعملي، وقد أدركتم ورأيتم، فالزموا دينكم، واهتدوا بهديي فإنه هدى نبيكم، واتبعوا سنته، وأعرضوا عما أشكل عليكم، حتى تعرضوه على الكتاب، فما عرفه القرآن فالزموه، وما أنكره فردوه، وارضوا بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن حكما وإماما.
قال فلما عزم على المسير من البربذة قام إليه ابن أبي رفاعة بن رافع، فقال: يا أمير المؤمنين أي شئ تريد ؟ وأين تذهب بنا ؟ فقال: أما الذي نريد وننوي فالاصلاح، إن قبلوا منا وأجابوا إليه، قال: فإن لم يجيبوا إليه ؟ قال: ندعهم بغدرهم ونعطيهم الحق ونصبر.
قال: فإن لم يرضوا ؟ قال: ندعهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا ؟ قال: امتنعنا منهم، قال: فنعم إذا.
فقام إليه الحجاج بن غزية الانصاري فقال: لارضينك بالفعل كما أرضيتني بالقول، والله لينصرني الله كما سمانا أنصارا.
قال: وأتت جماعة من طئ وعلي بالبربذة، فقيل له: هؤلاء جماعة جاؤوا من طئ منهم من يريد الخروج معك ومنهم من يريد السلام عليك، فقال: جزى الله كلا خيرا * (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) * [ النساء: 95 ] قالوا: فسار علي من الربذة على تعبئته وهو راكب ناقة حمراء يقود فرسا كميتا فلما كان بفيد (2) جاءه جماعة من أسد وطئ، فعرضوا أنفسهم عليه فقال: فيمن معي كفاية، وجاء رجل من أهل الكوفة يقال له عامر بن مطر الشيباني، فقال له علي: ما وراءك ؟ فأخبره الخبر، فسأله عن أبي موسى فقال: إن أردت الصلح فأبو موسى صاحبه، وإن أردت القتال فليس بصاحبه، فقال علي: والله ما أريد إلا الصلح ممن تمرد علينا.
وسار، فلما اقترب من الكوفة وجاءه الخبر بما وقع من الامر على جليته،
__________
(1) زاد الطبري في كتابه: ومن أحب ذلك وآثره فقد أحب الحق وآثره ومن أبغض ذلك فقد أبغض الحق وغمصه.
(2) فيد: بليدة في نصف طريق مكة من الكوفة عامرة إلى الآن (معجم البلدان).
من قتل ومن إخراج عثمان بن حنيف من البصرة، وأخذهم أموال بيت المال، جعل يقول: اللهم عافني مما ابتليت به طلحة والزبير، فلما انتهى إلى ذي قار أتاه عثمان بن حنيف مهشما، وليس في وجهه شعرة فقال: يا أمير المؤمنين بعثتني إلى البصرة وأنا ذو لحية، وقد جئتك أمردا، فقال: أصبت خيرا وأجرا.
وقال عن طلحة والزبير: اللهم احلل ما عقدا، ولا تبرم ما أحكما في أنفسهما، وأرهما المساءة فيما قد عملا - يعني في هذا الامر - وأقام علي بذي قار ينتظر جواب ما كتب به مع محمد بن أبي بكر وصاحبه محمد بن جعفر - وكانا قد قدما بكتابه على أبي موسى وقاما في الناس بأمره - فلم يجابا في شئ، فلما أمسوا دخل أناس من دوي الحجبى على أبي موسى يعوضون عليه الطاعة لعلي، فقال: كان هذا بالامس فغضب محمد ومحمد فقالا له قولا غليظا: فقال لهما: والله إن بيعة عثمان لفي عنقي وعنق صاحبكما، فإن لم يكن بد من قتال فلا نقاتل أحدا حتى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا ومن كانوا، فانطلقا إلى علي فأخبراه الخبر، وهو بذي قار، فقال للاشتر: أنت صاحب أبي موسى والمعرض في كل شئ فاذهب أنت وابن عباس فأصلح ما أفسدت، فخرجا فقدما الكوفة وكلما أبا موسى واستعانا عليه بنفر من الكوفة فقام في الناس فقال: أيها الناس، إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين صحبوه أعلم بالله ورسوله ممن لم يصحبه، وإن لكم علينا حقا وأنا مؤد إليكم نصيحة، كان الرأي أن لا تستخفوا بسلطان الله وأن لا تجترئوا على أمره، وهذه فتنة النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان خير من القاعد، والقاعد خير من القائم والقائم خير من الراكب، والراكب خير من الساعي فاغمدوا السيوف وانصلوا الاسنة، واقطعوا الاوتار، وأووا المضطهد والمظلوم حتى يلتئم هذا الامر، وتتجلي هذه الفتنة، فرجع ابن عباس والاشتر إلى علي فأخبراه الخبر، فأرسل الحسن وعمار بن ياسر، وقال لعمار: انطلق فأصلح ما أفسدت، فانطلقا حتى دخلا المسجد فكان أول من سلم عليهما مسروق بن الاجدع، فقال لعمار: علام قتلتم عثمان ؟ فقال: علي شتم أعراضنا وضرب أبشارنا، فقال: والله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به، ولو صبرتم لكان خيرا للصابرين.
قال: وخرج أبو موسى فلقي الحسن بن
علي فضمه إليه، وقال لعمار: يا أبا اليقظان أعدوت على أمير المؤمنين عثمان قتلته ؟ فقال: لم أفعل، ولم يسؤني ذلك، فقطع عليهما الحسن بن علي فقال لابي موسى: لم تثبط الناس عنا ؟ فوالله ما أردنا إلا الاصلاح، ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شئ، فقال: صدقت بأبي وأمي، ولكن المستشار مؤتمن، سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب " (1) وقد جعلنا الله إخوانا وحرم علينا دماءنا وأموالنا، فغضب عمار وسبه، وقال: يا أيها الناس، إنما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدة أنت فيها قاعدا خير منك قائما، فغضب رجل من بني تميم لابي موسى ونال من عمار، وثار آخرون، وجعل
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في الفتن.
(3) باب نزول الفتن ح (13) ص (2212) ورواه البيهقي في الدلائل ج 6 / 408 عن أبي بكرة.
أبو موسى يكفكف الناس، وكثر اللغط، وارتفعت الاصوات، وقال أبو موسى أيها الناس، أطيعوني وكونوا خير قوم من خير أمم العرب، يأوي إليهم المظلوم، ويأمن فيهم الخائف، وإن الفتنة إذا أقبلت شبهت، وإذا أدبرت تبينت ثم أمر الناس بكف أيديهم ولزوم بيوتهم، فقام زيد بن صوحان فقال: أيها الناس سيروا إلى أمير المؤمنين، وسيد المسلمين سيروا إليه.
أجمعون، فقام القعقاع بن عمرو فقال: إن الحق ما قاله الامير، ولكن لابد للناس من أمير يردع الظالم ويعدي المظلوم، وينتظم به شمل الناس، وأمير المؤمنين علي ولي بما ولي، وقد أنصف بالدعاء، وإنما يريد الاصلاح، فانفروا إليه، وقام عبد خير فقال: الناس أربع فرق، علي بمن معه في ظاهر الكوفة، وطلحة والزبير بالبصرة، ومعاوية بالشام، وفرقة بالحجاز لا تقاتل ولا عناء بها، فقال أبو موسى: أولئك خير الفرق، وهذه فتنة.
ثم تراسل الناس في الكلام ثم قام عمار والحسن بن علي في الناس على المنبر يدعوان الناس إلى النفير إلى أمير المؤمنين، فإنه إنما يريد الاصلاح بين الناس، وسمع عمار رجلا يسب عائشة فقال: اسكت مقبوحا منبوحا، والله إنها لزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها ليعلم أتطيعوه أو إياها، رواه
البخاري وقام حجر بن عدي فقال: أيها الناس، سيروا إلى أمير المؤمنين، * (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وانفسكم في سبيل الله ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون) * [ التوبة: 41 ] وجعل الناس كلما قام رجل فحرض الناس على النفير يثبطهم أبو موسى من فوق المنبر، وعمار والحسن معه على المنبر حتى قال له الحسن بن علي: ويحك ! اعتزلنا لا أم لك، ودع منبرنا، ويقال إن عليا بعث الاشتر فعزل أبا موسى عن الكوفة وأخرجه من قصر الامارة من تلك الليلة، واستجاب الناس للنفير فخرج مع الحسن تسعة آلاف في البر وفي دجلة (1)، ويقال سار معه اثني عشر ألف رجل ورجل واحد، وقدموا على أمير المؤمنين فتلقاهم بذي قار إلى أثناء الطريق في جماعة، منهم ابن عباس فرحب بهم وقال: يا أهل الكوفة ! أنتم لقيتم ملوك العجم ففضضتم جموعهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الذي نريده، وإن أبوا داويناهم بالرفق حتى يبدأونا بالظلم، ولم ندع أمرا فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله تعالى.
فاجتمعوا عنده بذي قار، وكان من المشهورين من رؤساء من الفاف إلى علي، القعقاع بن عمرو، وسعد بن مالك، وهند بن عمرو، والهيثم بن شهاب، وزيد بن صوحان، والاشتر، وعدي بن حاتم، والمسيب بن نجبة، ويزيد بن قيس، وحجر بن عدي وأمثالهم، وكانت عبد القيس بكمالها بين علي وبين البصرة ينتظرونه وهم ألوف، فبعث علي القعقاع رسولا إلى طلحة والزبير بالبصرة يدعوهما إلى الالفة والجماعة، ويعظم عليهما الفرقة والاختلاف، فذهب القعقاع إلى البصرة فبدأ بعائشة أم المؤمنين.
فقال: أي أماه ! ما أقدمك
__________
(1) في الكامل 3 / 231 ستة آلاف ومائتان في البر، وفي الماء ألفان وأربعمائة (انظر الطبري 5 / 191 وفتوح ابن الاعثم 2 / 292).
هذا البلد ؟ فقالت: أي بني ! الاصلاح بين الناس، فسألها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضرا عندها، فحضرا فقال القعقاع: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها ؟ فقالت إنما جئت للاصلاح بين الناس، فقالا: ونحن كذلك قال: فأخبراني ما وجه هذا الاصلاح ؟ وعلى أي شئ يكون ؟
فوالله لئن عرفناه لنصطلحن، ولئن أنكرناه لا نصطلحن، قالا: قتلة عثمان، فإن هذا إن ترك كان تركا للقرآن، فقال: قتلتما قتلته من أهل البصرة، وأنتما قبل قتلهم أقرب منكم إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة رجل، فغضب لهم ستة آلاف فاعتزلوكم، وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف، فإن تركتموهم وقعتم فيما تقولون، وإن قاتلتموهم فأديلوا عليكم كان الذي حذرتم وفرقتم من هذا الامر أعظم مما أراكم تدفعون وتجمعون منه - يعني أن الذي تريدونه من قتل قتلة عثمان مصلحة، ولكنه يترتب عليه مفسدة هي أربى منها - وكما أنكم عجزتم عن الاخذ بثأر عثمان من حرقوص بن زهير، لقيام ستة آلاف في منعه ممن يريد قتله، فعلي أعذر في تركه الآن قتل قتلة عثمان، وإنما أخر قتل قتلة عثمان إلى أن يتمكن منهم، فإن الكلمة في جميع الامصار مختلفة، ثم أعلمهم أن خلقا من ربيعة ومضر قد اجتمعوا لحربهم بسبب هذا الامر الذي وقع.
فقالت له عائشة أم المؤمنين: فماذا تقول أنت ؟ قال: أقول إن هذا الامر الذي وقع دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير وتباشير رحمة، وإدراك الثأر، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الامر وائتنافه كانت علامة شر وذهاب هذا الملك، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم أولا، ولا تعرضونا للبلاء فتتعرضوا له، فيصرعنا الله وإياكم، وايم الله إني لاقول قولي هذا وأدعوكم إليه، وإني لخائف أن لا يتم حتى يأخذ الله حاجته من هذه الامة التي قل متاعها، ونزل بها ما نزل، فإن هذا الامر الذي قد حدث أمر عظيم، وليس كقتل الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة القبيلة.
فقالوا: قد أصبت وأحسنت فارجع، فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح الامر، قال: فرجع إلى علي فأخبره فأعجبه ذلك، وأشر القوم على الصلح، كره ذلك من كرهه ورضيه من رضيه، وأرسلت عائشة إلى علي تعلمه أنها إنما جاءت للصلح، ففرح هؤلاء وهؤلاء، وقام علي في الناس خطيبا فذكر الجاهلية وشقاءها وأعمالها، وذكر الاسلام وسعادة أهله بالالفة والجماعة، وأن الله جمعهم بعد نبيه صلى الله عليه وسلم على الخليفة أبي بكر الصديق، ثم بعده على عمر بن الخطاب، ثم على عثمان ثم حدث هذا الحدث الذي جرى على الامة أقوام طلبوا الدنيا وحسدوا من أنعم الله عليه بها، وعلى الفضيلة التي من الله بها، وأرادوا رد
الاسلام والاشياء على أدبارها، والله بالغ أمره.
ثم قال: ألا إني مرتحل غدا فارتحلوا، ولا يرتحل معي أحد اعان على قتل عثمان بشئ من أمور الناس.
فلما قال هذا اجتمع من رؤوسهم جماعة كالاشتر النخعي، وشريح بن أوفى، وعبد الله بن سبأ المعروف
بابن السوداء، وسالم بن ثعلبة، وغلاب (1) بن الهيثم، وغيرهم في ألفين وخمسمائة، وليس فيهم صحابي ولله الحمد، فقالوا: ما هذا، الرأي وعلي والله أعلم بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقرب إلى العمل بذلك، وقد قال ما سمعتم، غدا يجمع عليكم الناس، وإنما يريد القوم كلهم أنتم، فكيف بكم وعددكم قليل في كثرتهم ؟ فقال الاشتر: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا، وأما رأي علي فلم نعرفه إلى اليوم، فإن كان قد اصطلح معهم فإنما اصطلحوا على دمائنا، فإن كان الامر هكذا ألحقنا عليا بعثمان، فرضي القوم منا بالسكوت، فقال ابن السوداء: بئس ما رأيت، لو قتلناه قتلنا، فإنا يا معشر قتلة عثمان في ألفين وخمسمائة وطلحة والزبير وأصحابهما في خمسة آلاف، ولا طاقة لكم بهم، وهم إنما يريدونكم، فقال غلاب (1) بن الهيثم دعوهم وارجعوا بنا حتى نتعلق ببعض البلاد فنمتنع بها، فقال ابن السوداء: بئس ما قلت، إذا والله كان يتخطفكم الناس، ثم قال ابن السوداء قبحه الله: يا قوم إن عيركم في خلطة الناس فإذا التقى الناس فانشبوا الحرب والقتال بين الناس ولا تدعوهم يجتمعون فمن أنتم معه لا يجد بدا من أن يمتنع، ويشغل الله طلحة والزبير ومن معهما عما يحبون، ويأتيهم ما يكرهون، فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه، وأصبح علي مرتحلا ومر بعبد القيس فسار، ومن معه حتى نزلوا بالزاوية، وسار منها يريد البصرة وسار طلحة والزبير ومن معهما للقائه، فاجتمعوا عند قصر عبيد الله بن زياد، ونزل الناس كل في ناحية، وقد سبق على جيشه وهم يتلاحقون به، فمكثوا ثلاثة أيام والرسل بينهم، فكان ذلك للنصف من جمادي الآخرة سنة ست وثلاثين، فأشار بعض الناس على طلحة والزبير بانتهاز الفرصة، من قتلة عثمان، فقالا: إن عليا أشار بتسكين هذا الامر، وقد بعثنا إليه بالمصالحة على ذلك، وقام علي في الناس خطيبا، فقام إليه الاعور بن نيار (2) المنقري، فسأله عن
إقدامه على أهل البصرة، فقال: الاصلاح وإطفاء الثائرة (3) ليجتمع الناس على الخير، ويلتئم شمل هذه الامة، قال: فإن لم يجيبونا ؟ قال: تركناهم ما تركونا، قال فإن لم يتركونا ؟ قال: دفعناهم عن أنفسنا، قال فهل لهم في هذا الامر مثل الذي لنا، قال: نعم ! وقام إليه أبو سلام (4) الدالاني فقال هل لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم، إن كانوا أرادوا الله في ذلك ؟ قال: نعم ! قال: فهل لك من حجة في تأخيرك ذلك ؟ قال: نعم ! قال فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غدا ؟ قال: إني لارجو أن لا يقتل منا ومنهم أحد نقي قلبه لله إلا أدخله الله الجنة، وقال في خطبته: أيها الناس أمسكوا عن هؤلاء القوم أيديكم وألسنتكم، وإياكم أن يسبقونا غدا، فان المخصوم غدا مخصوم اليوم وجاء في غبون ذلك الاحنف بن قيس في جماعة فانضاف إلي علي - وكان
__________
(1) في الطبري والكامل: علباء.
(2) في الطبري والكامل: بنان.
(3) في الطبري والكامل: النائرة، وهي العداوة والشحناء.
(4) في الطبري والكامل: أبو سلامة.
قد منع حرقوص بن زهير من طلحة والزبير وكان قد بايع عليا بالمدينة وذلك أنه قدم المدينة وعثمان محصور فسأل عائشة وطلحة والزبير: إن قتل عثمان من أبايع ؟ فقالوا بايع عليا فلما قتل عثمان بايع عليا قال: ثم رجعت إلى قومي فجاءني بعد ذلك ما هو أفظع، حتى قال الناس هذه عائشة جاءت لتأخذ بدم عثمان، فحرت في أمري لمن أتبع، فمنعني الله بحديث سمعته من أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغه أن الفرس قد ملكوا عليهم ابنة كسرى فقال: " لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة " (1) وأصل هذا الحديث في صحيح البخاري، والمقصود أن الاحنف لما انحاز إلى علي ومعه ستة آلاف قوس، فقال لعلي: إن شئت قاتلت معك، وإن شئت كففت عنك عشرة آلاف سيف (2)، فقال: اكفف عنا عشرة آلاف سيف، ثم بعث علي إلى طلحة والزبير يقول: إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فننظر في هذا الامر، فأرسلا إليه في جواب
رسالته: إنا على ما فارقنا القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس، فاطمأنت النفوس وسكنت، واجتمع كل فريق بأصحابه من الجيشين، فلما أمسوا بعث علي عبد الله بن عباس إليهم، وبعثوا إليه محمد بن طليحة السجاد وبات الناس بخير ليلة، وبات قتلة عثمان بشر ليلة، وباتوا يتشاورون وأجمعوا على أن يثيروا الحرب من الغلس، فنهضوا من قبل طلوع الفجر وهم قريب من ألفي رجل فانصرف كل فريق إلى قراباتهم فهجموا عليهم بالسيوف، فثارت كل طائفة إلى قومهم ليمنعوهم، وقام الناس من منامهم إلى السلاح، فقالوا طرقتنا أهل الكوفة ليلا، وبيتونا وغدروا بنا، وظنوا أن هذا عن ملا من أصحاب علي فبلغ الامر عليا فقال: ما للناس ؟ فقالوا، بيتنا أهل البصرة، فثار كل فريق إلى سلاحه ولبسوا اللامة وركبوا الخيول، ولا يشعر أحد منهم بما وقع الامر عليه في نفس الامر، وكان أمر الله قدرا مقدورا وقامت الحرب على ساق وقدم، وتبارز الفرسان، وجالت الشجعان، فنشبت الحرب، وتواقف الفريقان وقد اجتمع مع علي عشرون ألفا، والتف على عائشة ومن معها نحوا من ثلاثين ألفا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والسابئة أصحاب ابن السوداء قبحه الله لا يفترون عن القتل، ومنادي علي ينادي: ألا كفوا ألا كفوا، فلا يسمع أحد، وجاء كعب بن سوار قاضي البصرة فقال: يا أم المؤمنين أدركي الناس لعل الله أن يصلح بك بين الناس، فجلست في هودجها فوق بعيرها وستروا الهودج بالدروع، وجاءت فوقفت بحيث تنظر إلى الناس عند حركاتهم، فتصاولوا وتجاولوا، وكان في جملة من تبارز الزبير وعمار، فجعل عمار ينخره بالرمح والزبير كاف عنه، ويقول له، أتقتلني يا أبا اليقظان ؟ فيقول: لا يا أبا عبد الله، وإنما تركه الزبير لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تقتلك الفئة الباغية " (3) وإلا فالزبير أقدر
__________
(1) أخرجه البيهقي في دلائله 4 / 390.
(2) في فتوح ابن الاعثم 2 / 297: أكون معك مع مائتي رجل من قومي وأما أن أرد معك أربعة آلاف سيف.
(3) أخرجه البخاري في الجهاد عن ابراهيم بن موسى ومسلم في الفتن 4 / 2335 والترمذي في مناقب عمار 5 / 669 ومسند الامام أحمد 2 / 161 و 3 / 5 و 6 / 289 و 4 / 319 و 199 والحاكم في المستدرك 3 / 389 وقال صحيح =
عليه منه عليه، فلهذا كف عنه، وقد كان من سنتهم في هذا اليوم أنه لا يذفف على جريح، ولا يتبع مدبر، وقد قتل مع هذا خلق كثير جدا، حتى جعل علي يقول لابنه الحسن: يا بني ليت أباك مات قبل هذا اليوم بعشرين عاما فقال له: يا أبت قد كنت أنهاك عن هذا.
قال سعيد بن أبي عجرة عن قتادة عن الحسن عن قيس بن عبادة قال: قال علي يوم الجمل: يا حسن ليت أباك مات منذ عشرين سنة، فقال له: يا أبه قد كنت أنهاك عن هذا، قال: يا بني إني لم أر أن الامر يبلغ هذا.
وقال مبارك بن فضالة عن الحسن بن أبي بكرة: لما اشتد القتال يوم الجمل، ورأى علي الرؤوس تندر أخذ علي ابنه الحسن فضمه إلى صدره ثم قال: إنا لله يا حسن ! أي خير يرجى بعد هذا ؟ فلما ركب الجيشان وترآى الجمعان وطلب علي طلحة والزبير ليكلمهما، فاجتمعوا حتى التفت أعناق خيولهم، فيقال إنه قال لهما: إني أراكما قد جمعتما خيلا ورجالا وعددا، فهل أعددتما عذرا يوم القيامة ؟ فاتقيا الله ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا، ألم أكن حاكما في دمكما تحرمان دمي وأحرم دمكما، فهل من حديث أحل لكما دمي ؟ فقال طلحة: ألبت على عثمان.
فقال علي * (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) * [ النور: 25 ]، ثم قال: لعن الله قتلة عثمان، ثم قال: يا طلحة ! أجئت بعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاتل بها، وخبأت عرسك في البيت ؟ أما بايعتني ؟ قال: بايعتك والسيف على عنقي.
وقال للزبير: ما أخرجك ؟ قال: أنت، ولا أراك بهذا الامر أولى به مني.
فقال له علي: أما تذكر يوم مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني غنم فنظر إلي وضحك وضحكت إليه، فقلت: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه ليس بمتمرد لتقاتلنه وأنت ظالم له " ؟ فقال الزبير: اللهم نعم ! ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا، ووالله لا أقاتلك.
وفي هذا السياق كله نظر، والمحفوظ منه الحديث، فقد رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي فقال: حدثنا أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الدوري، حدثنا أبو عاصم عن عبد الله بن محمد بن عبد الملك بن مسلم الرقاشي، عن جده عبد الملك عن أبي جرو (1) المازني.
قال: شهدت عليا والزبير حين تواقفا، فقال له علي: يا زبير ! أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنك تقاتلني وأنت ظالم " ؟ قال: نعم ! لم أذكره إلا في موقفي هذا، ثم
انصرف.
وقد رواه البيهقي عن الحاكم عن أبي الوليد الفقيه، عن الحسن بن سفيان عن قطن بن بشير، عن جعفر بن سليمان، عن عبد الله بن محمد بن عبد الملك بن مسلم الرقاشي (2) عن جده عن أبي جرو (1) المازني عن علي والزبير به * وقال عبد الرزاق: أنا معمر عن قتادة قال: لما ولى الزبير يوم الجمل بلغ عليا فقال: لو كان ابن صفية يعلم أنه على حق ما ولي، وذلك أن رسول الله
__________
= على شرطهما ولم يخرجاه.
والهيثمي في مجمع الزوائد 7 / 242 و 9 / 297.
(1) في الاصل: أبي حزم تحريف والصواب ما اثبتناه من تقريب التهذيب وهو من الثالثة مقبول.
(2) عبد الملك بن مسلم الرقاشي قال البخاري بعد أن سرد هذا الخبر، لم يصح حديثه الميزان (2 / 664).
صلى الله عليه وسلم لقيهما في سقيفة بني ساعدة فقال: " أتحبه يا زبير ؟ فقال: وما يمنعني ؟ قال: فكيف بك إذا قاتلته وأنت ظالم له ؟ " قال: فيرون أنه إنما ولي لذلك.
قال البيهقي: وهذا مرسل وقد روي موصولا من وجه آخر.
أخبرنا أبو بكر محمد (1) بن الحسن القاضي أنا أبو عامر (2) بن مطر أنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن سوار الهاشمي الكوفي، أنا منجاب بن الحارث ثنا عبد الله بن الاجلح، ثنا أبي عن مرثد الفقيه عن أبيه.
قال: وسمعت فضل بن فضالة يحدث عن حرب بن أبي الاسود الدؤلي - دخل حديث أحدهما في حديث صاحبه - قال: لما دنا علي وأصحابه من طلحة والزبير، ودنت الصفوف بعضها من بعض، خرج علي وهو على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى: ادعوا لي الزبير بن العوام فإني علي، فدعي له الزبير فأقبل حتى اختلفت أعناق دوابهما، فقال علي: يا زبير ! نشدتك الله، أتذكر يوم مر بك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مكان كذا وكذا، فقال: " يا زبير ألا تحب عليا ؟ فقلت: ألا أحب ابن خالي وابن عمي وعلى ديني ؟ فقال: يا زبير أما والله لتقاتلنه وأنت ظالم له ؟ " فقال الزبير: بلى ! والله لقد نسيته منذ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكرته الآن، والله لا أقاتلك.
فرجع الزبير على دابته يشق الصفوف، فعرض له ابنه عبد الله بن الزبير، فقال: مالك ؟ فقال: ذكرني علي حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول: " لتقاتلنه وأنت ظالم له " فقال: أو للقتال جئت ؟ إنما جئت لتصلح بين الناس ويصلح
الله بك هذا الامر، قال: قد حلفت أن لا أقاتله، قال: اعتق غلامك سرجس وقف حتى تصلح بين الناس.
فأعتق غلامه ووقف، فلما اختلف أمر الناس ذهب على فرسه، قالوا: فرجع الزبير إلى عائشة فذكر أنه قد آلى أن لا يقاتل عليا، فقال له ابنه عبد الله: إنك جمعت الناس، فلما ترآى بعضهم لبعض خرجت من بينهم، كفر عن يمينك واحضر.
فأعتق غلاما، وقيل غلامه سرجس.
وقد قيل إنه إنما رجع عن القتال لما رأى عمارا مع علي وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: " تقتلك الفئة الباغية " فخشي أن يقتل عمار في هذا اليوم.
وعندي أن الحديث الذي أوردناه إن كان صحيحا عنه فما رجعه سواه، ويبعد أن يكفر عن يمينه ثم يحضر بعد ذلك لقتال علي والله أعلم.
والمقصود أن الزبير لما رجع يوم الجمل سار (3) فنزل واديا يقال له وادي السباع، فاتبعه رجل يقال له عمرو بن جرموز، فجاءه وهو نائم فقتله غيلة كما سنذكر تفضيله.
وأما طلحة فجاءه في
__________
(1) في دلائل البيهقي: أحمد 6 / 414.
(2) في دلائل البيهقي: أبو عمرو 6 / 414.
(3) ترك الزبير معسكره تائبا وهو يقول أبياتا مطلعها: ترك الامور التي تخشى عواقبها * لله أجمل في الدنيا وفي الدين انظر الابيات في فتوح ابن الاعثم 2 / 312 وتهذيب ابن عساكر 5 / 365 وحلية الاولياء لابي نعيم 1 / 91 وفي مروج الذهب 2 / 401 ثلاثة أبيات.
المعركة سهم غرب يقال رماه به مروان بن الحكم فالله أعلم، فانتظم رجله مع فرسه فجمعت به الفرس فجعل يقول: إلي عباد الله، إلي عباد الله، فاتبعه ولي له فأمسكها، فقال له: ويحك ! اعدل بي إلى البيوت ؟ وامتلا خفه دما فقال لغلامه: اردفني، وذلك أنه نزفه الدم وضعف، فركب وراءه وجاء به إلى بيت في البصرة فمات فيه، رضي الله عنه.
وتقدمت عائشة رضي الله عنها في هودجها، وناولت كعب بن سوار قاضي البصرة مصحفا
وقالت: دعهم إليه - وذلك أنه حين اشتد الحرب وحمي القتال، ورجع الزبير، وقتل طلحة رضي الله عنهما - فلما تقدم كعب بن سوار بالمصحف يدعو إليه استقبله مقدمة جيش الكوفيين، وكان عبد الله له بن سبأ - وهو ابن السوداء - وأتباعه بين يدي الجيش، يقتلون من قدروا عليه من أهل البصرة، لا يتوقفون في أحد، فلما رأوا كعب بن سوار رافعا المصحف رشقوه بنبالهم رشقة رجال واحد فقتلوه (1)، ووصلت النبال إلى هودج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فجعلت تنادي: الله الله ! يا بني اذكروا يوم الحساب ورفعت يديها تدعو على أولئك النفر من قتلة عثمان، فضج الناس معها بالدعاء حتى بلغت الضجة إلى علي فقال: ما هذا ؟ فقالوا: أم المؤمنين تدعو على قتلة عثمان وأشياعهم.
فقال: اللهم العن قتلة عثمان، وجعل أولئك النفر لا يقلعون عن رشق هودجها بالنبال حتى بقي مثل القنفذ، وجعلت تحرض الناس على منعهم وكفهم، فحملت معه الحفيظة فطردوهم حتى وصلت الحملة إلى الموضع الذي فيه علي بن أبي طالب، فقال لابنه محمد بن الحنفية: ويحك ! تقدم بالراية، فلم يستطع، فأخذها علي من يده فتقدم بها، وجعلت الحرب تأخذ وتعطي، فتارة لاهل البصرة، وتارة لاهل الكوفة، وقتل خلق كثير، وجم غفير، ولم تر وقعة أكثر من قطع الايدي والارجل فيها من هذه الوقعة، وجعلت عائشة تحرض الناس على أولئك النفر من قتلة عثمان، ونظرت عن يمينها فقالت: من هؤلاء القوم ؟ فقالوا: نحن بكر بن وائل، فقالت: لكم يقول القائل: وجاؤوا إلينا بالحديد كأنهم * من الغرة (2) القعساء بكر بن وائل ثم لجأ إليها بنو ناجية ثم بنو ضبة فقتل عنده منهم خلق كثير، ويقال إنه قطعت يد سبعين رجلا وهي آخذة بخطام الجمل فلما اثخنوا تقدم بنو عدي بن عبد مناف فقاتلوا قتالا شديدا، ورفعوا رأس الجمل، وجعل أولئك يقصدون الجمل وقالوا: لا يزال الحرب قائما مادام هذا الجمل واقفا، ورأس الجمل في يد عمرة بن يثربي، وقيل أخوه عمرو بن يثربي ثم صمد عليه علباء بن الهيثم وكان من الشجعان المذكورين، فتقدم إليه عمرو الجملي فقتله ابن يثربي وقتل زيد بن صوحان، وأرتث صعصعة بن صوحان فدعاه عمار إلى البراز فبرز له، فتجاولا بين
__________
(1) في فتوح ابن الاعثم: قتله الاشتر.
(2) في الطبري والكامل: العزة.
الصفين وعمار ابن تسعين سنة عليه فروة قد ربط وسطه بحبل ليف - فقال الناس: إنا لله وإنا إليه راجعون الآن يلحق عمارا بأصحابه، فضربه ابن يثربي بالسيف فاتقاه عمار بدرقته فغص فيها السيف ونشب، وضربه عمار فقطع رجليه وأخذ أسيرا إلى بين يدي علي فقال: استبقني يا أمير المؤمنين.
فقال: أبعد ثلاثة تقتلهم (1) ؟ ثم أمر به فقتل واستمر زمام الجمل بعده بيد رجل كان قد استنابه فيه من بني عدي فبرز إليه ربيعة العقيلي فتجاولا حتى قتل كل واحد صاحبه وأخذ الزمام الحارث الضبي فما رأى أشد منه وجعل يقول: نحن بنو ضبة أصحاب الجمل * نبارز القرن إذا القرن نزل ننعي ابن عفان بأطراف الاسل * الموت أحلى عندنا من العسل * ردوا علينا شيخنا ثم بجسل * (2) وقيل إن هذه الابيات لوسيم بن عمرو الضبي.
فكلما قتل واحد ممن يمسك الجمل يقوم غيره حتى قتل منهم أربعون رجلا قالت عائشة: ما زال جملي معتدلا حتى فقدت أصوات بني ضبة ثم أخذ الخطام سبعون رجلا من قريش وكل واحد يقتل بعد صاحبه، فكان منهم محمد بن طلحة المعروف بالسجاد فقال لعائشة مريني بأمرك يا أمه.
فقالت: آمرك أن تكون كخير ابني آدم فامتنع أن ينصرف وثبت في مكانه وجعل يقول حم لا ينصرون، فتقدم إليه نفر فحملوا عليه فقتلوه وصار لكل واحد منهم بعد ذلك يدعي قتله وقد طعنه بعضهم بحربة فأنفذه وقال: وأشعث قوام (3) بآيات ربه * قليل الاذى فيما ترى العين مسلم هتكت له (4) بالرمح جيب قميصه * فخر صريعا لليدين وللفم يناشدني (5) حم والرمح شاجر * فهلا تلا حم قبل التقدم على غير شئ غير أن ليس تابعا * عليا ومن لا يتبع الحق يندم
وأخذ الخطام عمرو بن الاشرف فجعل لا يدنو منه أحد إلا حطه بالسيف فأقبل إليه الحارث بن زهير الازدي وهو يقول: يا أمنا يا خير أم نعلم * * أما ترين كم شجاع يكلم وتجتلي (6) هامته والمعصم
__________
(1) قتل عمرو بن يثربي ثلاثة من أصحاب علي رضي الله عنه: علباء بن الهيثم وهند بن عمرو الجملي وزيد بن صوحان الطبري 5 / 210.
(2) انظر الطبري 5 / 209، 210، 217 وفتوح ابن الاعثم 2 / 319 - 320 والكامل لابن الاثير 3 / 249 مروج الذهب 2 / 405.
(3) كذا بالاصل والطبري: وفي مروج الذهب: سجاد.
(4) في مروج الذهب: شككت له.
(5) في الطبري ومروج الذهب يذكرني، وفي مروج الذهب: والرمح شارع.
(6) في الطبري والكامل: وتختلى.
واختلفا ضربتين فقتل كل واحد صاحبه، وأحدق أهل النجدات والشجاعة بعائشة، فكان لا يأخذ الراية ولا بخطام الجمل إلا شجاع معروف، فيقتل من قصده ثم يقتل بعد ذلك، وقد فقأ بعضهم عين عدي بن حاتم ذلك اليوم، ثم تقدم عبد الله بن الزبير فأخذ بخطام الجمل وهو لا يتكلم فقيل لعائشة إنه ابنك ابن أختك فقالت: واثكل أسماء ! وجاء مالك بن الحارث الاشتر النخعي فاقتتلا فضربه الاشتر على رأسه فجرحه جرحا شديدا وضربه عبد الله ضربة خفيفة ثم اعتنقا وسقطا إلى الارض يعتركان فجعل عبد الله بن الزبير يقول: اقتلوني ومالكا * واقتلوا مالكا معي فجعل الناس لا يعرفون مالكا من هو وإنما هو معروف بالاشتر فحمل أصحاب علي وعائشة فخلصوهما وقد جرح عبد الله بن الزبير يوم الجمل بهذه الجراحة سبعا وثلاثين جراحة، وجرح
مروان بن الحكم أيضا، ثم جاء رجل (1) فضرب الجمل على قوائمه فعقره وسقط إلى الارض، فسمع له عجيج ما سمع أشد ولا أنفذ منه، وآخر من كان الزمام بيده زفر بن الحارث فعقر الجمل وهو في يده، ويقال إنه اتفق هو وبجير بن دلجة على عقره، ويقال إن الذي أشار بعقر الجمل علي، وقيل القعقاع بن عمرو لئلا تصاب أم المؤمنين، فإنها بقيت غرضا للرماة، ومن يمسك بالزمام برجاسا للرماح، ولينفصل هذا الموقف الذي قد تفانى فيه الناس ولما سقط البعير إلى الارض انهزم من حوله من الناس، وحمل هودج عائشة وانه لكالقنفذ من السهام، ونادى منادي علي في الناس: إنه لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح، ولا يدخلوا الدور، وأمر علي نفرا أن يحملوا الهودج من بين القتلى، وأمر محمد بن أبي بكر وعمارا أن يضربا عليها قبة، وجاء إليها أخوها محمد فسألها هل وصل إليك شئ من الجراح ؟ فقالت: لا ! وما أنت ذاك يا بن الخثعمية.
وسلم عليها عمار فقال: كيف أنت يا أم ؟ فقالت: لست لك بأم.
قال: بلى ! وإن كرهت وجاء إليها علي بن أبي طالب أمير المؤمنين مسلما فقال: كيف أنت يا أمه ؟ قالت: بخير فقال: يغفر الله لك.
وجاء وجوه الناس من الامراء والاعيان يسلمون على أم المؤمنين رضي الله عنها، ويقال إن أعين بن ضبيعة المجاشعي اطلع في الهودج فقالت: إليك لعنك الله، فقال:
__________
(1) في الطبري 5 / 218 عقر الجمل رجل من بني ضبة يقال له ابن دلجة عمرو أو بجير وقال في ذلك الحارث بن قيس وكان من أصحاب عائشة نحن ضربنا ساقه فانجدلا * من ضربة بالنفر كانت فيصلا لو لم نكون للرسول ثقلا * وحرمة لاقتسمونا عجلا وقد نحل ذلك المثنى بن مخرمة من أصحاب علي.
وفي الاخبار الطوال ص 151: كشف عرقوبه بالسيف رجل من مراد الكوفة يقال له أعين بن ضبيعة.
وفي فتوح ابن الاعثم 2 / 333 عبد الرحمن بن صرد التنوخي عرقبه من رجليه جميعا فوقع الجمل لجنبه وضرب بجرانه الارض.
والله ما أرى إلا حميراء، فقالت: هتك الله سترك وقطع يدك وأبدى عورتك.
فقتل بالبصرة وسلب وقطعت يده ورمي عريانا في خربة من خرابات الازد.
فلما كان الليل دخلت أم المؤمنين البصرة - ومعها أخوها محمد بن أبي بكر - فنزلت في دار عبد الله بن خلف الخزاعي وهي أعظم دار بالبصرة - على صفية بنت الحارث بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، وهي أم طلحة الطلحات عبد الله بن خلف، وتسلل الجرحى من بين القتلى فدخلوا البصرة، وقد طاف علي بين القتلى فجعل كلما مر برجل يعرفه ترحم عليه ويقول: يعز علي أن أرى قريشا صرعى.
وقد مر على ما ذكر على طلحة بن عبيد الله وهو مقتول فقال: لهفي عليك يا أبا محمد، إنا لله وإنا إليه راجعون والله لقد كنت كما قال الشاعر: فتى كان يدنيه الغنى من صديقه * إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر وأام علي بظاهر البصرة ثلاثا ثم صلى على القتلى من الفريقين، وخص قريش بصلاة من بينهم، ثم جمع ما وجد لاصحاب عائشة في المعسكر وأمر به أن يحمل إلى مسجد البصرة، فمن عرف شيئا هو لاهلهم فليأخذه، إلا سلاحا كان في الخزائن عليه سمة السلطان.
وكان مجموع من قتل يوم الجمل من الفريقين عشرة آلاف (1)، خمسة من هؤلاء وخمسة من هؤلاء، رحمهم الله ورضي عن الصحابة منهم.
وقد سأل بعض أصحاب علي عليا أن يقسم فيهم أموال أصحاب طلحة والزبير، فأبى عليهم فطعن فيه السبائية وقالوا: كيف يحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا أموالهم ؟ فبلغ ذلك عليا فقال: أيكم يحب أن تصير أم المؤمنين في سهمه ؟ فسكت القوم، ولهذا لما دخل البصرة فض في أصحابه أموال بيت المال، فنال كل رجل منهم خمسمائة، وقال: لكم مثلها من الشام، فتكلم فيه السبائية أيضا ونالوا منه من وراء وراء.
فصل ولما فرغ علي من أمر الجمل أتاه وجوه الناس يسلمون عليه، فكان ممن جاءه الاحنف بن قيس في بني سعد - وكانوا قد اعتزلوا القتال - فقال له علي: تربعت - يعني بنا - فقال: ما كنت أراني إلا قد أحسنت، وبأمرك كان ما كان يا أمير المؤمنين، فارفق فإن طريقك الذي سلكت
بعيد، وأنت إلي غدا أحوج منك أمس، فاعرف إحساني، واستبق موتي لغد، ولا تقل مثل هذا فإني لم أزل لك ناصحا.
قالوا: ثم دخل علي البصرة يوم الاثنين فبايعه أهلها على راياتهم، حتى الجرحى والمستأمنة.
وجاءه عبد الرحمن ن بن أبي بكرة الثقفي فبايعه فقال له علي: أين المريض ؟ - يعني أباه - فقال: إنه والله مريض يا أمير المؤمنين، وإنه على مسرتك لحريص.
فقال: امش
__________
(1) في مروج الذهب 2 / 387 و 410 ثلاثة عشر ألفا، من أصحاب علي قتل خمسة الآف.
وفي فتوح ابن الاعثم 2 / 342: قتل من أصحابه (علي) ألف رجل وسبعون رجلا (ومن أصحاب عائشة) فقتل من الازد أربعة الآلف رجل، ومن بني ضبة ألف رجل ومن بني ناجية أربعمائة رجل، ومن بني عدي ومواليهم تسعون رجلا، ومن بني بكر بن وائل ثمانمائة رجل ومن بني حنظلة سبعمائة رجل ومن سائر أخلاط الناس تسعة الآف رجل.
أمامي، فمضى إليه فعاده، واعتذر إليه أبو بكرة فعذره، وعرض عليه البصرة فامتنع وقال: رجل من أهلك يسكن إليه الناس، وأشار عليه بابن عباس فولاه على البصرة، وجعل معه زياد بن أبيه على الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس أن يسمع من زياد وكان زياد معتزلا - ثم جاء علي إلى الدار التي فيها أم المؤمنين عائشة، فاستأذن ودخل فسلم عليها ورحبت به، وإذا النساء في دار بني خلف يبكين على من قتل، منهم عبد الله وعثمان ابنا خلف، فعبد الله قتل مع عائشة، وعثمان قتل مع علي، فلما دخل علي قالت له صفية امرأة عبد الله، أم طلحة الطلحات: أيتم الله منك أولادك كما أيتمت أولادي، فلم يرد عليها علي شيئا، فلما خرج أعادت عليه المقالة أيضا فسكت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع ؟ فقال: ويحك ! إنا أمرنا أن نكف عن النساء وهن مشركات، أفلا نكف عنهن وهن مسلمات ؟ فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إن على الباب رجلين ينالان من عائشة، فأمر علي القعقاع بن عمرو أن يجلد كل واحد منهما مائة وأن يخرجهما من ثيابهما (1)، وقد سألت عائشة عمن قتل معها من المسلمين ومن قتل من عسكر علي، فجعلت كلما ذكر لها واحد منهم ترحمت عليه ودعت له، ولما أرادت أم المؤمنين عائشة الخروج من البصرة بعث إليها علي رضي الله عنه بكل ما ينبغي من مركب وزاد
ومتاع وغير ذلك، وأذن لمن نجا ممن جاء في الجيش معها أن يرجع إلا أن يحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر، فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء علي فوقف على الباب وحضر الناس وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس ودعت لهم، وقالت: يا بني لا يعتب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القدم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه على معتبتي لمن الاخيار.
فقال علي: صدقت والله كان بيني وبينها إلا ذاك، وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة.
وسار علي معها مودعا ومشيعا أميالا، وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم - وكان يوم السبت مستهل رجب سنة ست وثلاثين - وقصدت في مسيرها ذلك إلى مكة فأقامت بها إلى أن حجت عامها ذلك ثم رجعت إلى المدينة رضي الله عنها.
وأما مروان بن الحكم فانه لما فر استجار بمالك بن مسمع فأجاره ووفى له، ولهذا كان بنو مروان يكرمون مالكا ويشرفونه، ويقال إنه نزل دار بني خلف فلما خرجت عائشة خرج معها، فلما سارت هي إلى مكة سار إلى المدينة قالوا: وقد علم من بين مكة والمدينة والبصرة بالوقعة يوم الوقعة، وذلك مما كانت النسور تخطفه من الايدي والاقدام فيسقط منها هنالك، حتى أن أهل المدينة علموا بذلك يوم الجمل قبل أن تغرب الشمس، وذلك أن نسرا مر بهم ومعه شئ فسقط فإذا هو مكف فيه خاتم نقشه عبد الرحمن بن عتاب.
__________
(1) في الطبري 5 / 223 وهما من أزد الكوفة يقال لهما عجل وسعد ابنا عبد الله.
هذا ملخص ما ذكره أبو جعفر بن جرير رحمه الله عن أئمة هذا الشأن، وليس فيما ذكره أهل الاهواء من الشيعة وغيرهم من الاحاديث المختلفة على الصحابة والاخبار الموضوعة التي ينقولنها بما فيها، وإذا دعوا إلى الحق الواضح أعرضوا عنه وقالوا: لنا أخبارنا ولكم أخباركم، فنحن حينئذ نقول لهم: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.
فصل
في ذكر أعيان من قتل يوم الجمل من السادة النجباء من الصحابة وغيرهم من الفريقين رضي الله عنهم أجمعين، وقد قدمنا أن عدة القتلى نحو من عشرة آلاف، وأما الجرحى فلا يحصون كثرة فممن قتل يوم الجمعة في المعركة.
طلحة بن عبيد الله ابن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة أبو محمد القرشي التيمي، ويعرف بطلحة الخير، وطلحة الفياض لكرمه ولكثرة جوده أسلم قديما على يدي أبي بكر الصديق، فكان نوفل بن خويلد بن العدوية يشدهما في حبل واحد، ولا تستطيع بنو تميم أن تمنعهما منه، فلذلك كان يقال لطلحة وأبي بكر القرينان، وقد هاجر وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي أيوب الانصاري (1)، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بدرا - فإنه كان بالشام لتجارة - وقيل في رسالة، ولهذا ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره من بدر، وكانت له يوم أحد اليد البيضاء وشلت يده يوم أحد، وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمرت كذلك إلى أن مات، وكان الصديق إذا حدث عن يده أحد يقول: ذاك يوم كان كله لطلحة، وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: " أوجب طلحة " وذلك أنه كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم درعان فأراد أن ينهض وهما عليه ليصعد صخرة هنالك فما استطاع، فطأطأ له طلحة فصعد على ظهره حتى استوى عليها، وقال: " أوجب طلحة " (2) وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وقد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن صحبته حتى توفي وهو عنه راض، وكذلك أبو بكر وعمر، فلما كان قضية عثمان اعتزل عنه فنسبه بعض الناس إلى تحامل فيه، فلهذا لما حضر يوم الجمل واجتمع به علي فوعظه تأخر فوقف في بعض الصفوف، فجاءه سهم غرب فوقع في ركبته وقيل في رقبته، والاول أشهر، وانتظم السهم مع ساقه خاصرة الفرس فجمح به حتى كاد يلقيه، وجعل يقول: إلي عباد الله، فأدركه مولى له فركب وراءه وأدخله
__________
(1) في الاستيعاب: كعب بن مالك وفي ابن سعد: آخى بينه وبين أبي بن كعب.
وفي رواية عنده: سعيد بن زيد وفي الاصابة: آخى بينه وبين الزبير قبل الهجرة وفي المدينة آخى بينه وبين أبي أيوب.
(2) أخرجه الترمذي في المناقب عن الزبير.
ح 3738 ص 5 / 644 وقال أبو عيسى: هذا حديث صحيح غريب وانظر ابن سعد 3 / 218.
البصرة فمات بدار فيها، ويقال إنه مات بالمعركة، وإن عليا لما دار بين القتلى رآه فجعل يمسح عن وجهه التراب وقال: رحمة الله عليك أبا محمد، يعز علي أن أراك مجدولا تحت نجوم السماء، ثم قال: إلى الله أشكو عجري وبجري، والله لوددت أني كنت مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
ويقال إن الذي رماه بهذا السهم مروان بن الحكم، وقال لابان بن عثمان: قد كفيتك رجالا من قتلة عثمان، وقد قيل إن الذي رماه غيره، وهذا عندي أقرب، وإن كان الاول مشهورا الله أعلم.
وكان يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، ودفن طلحة إلى جانب الكلا وكان عمره ستين سنة، وقيل بضعا وستين سنة، وكان آدم، وقيل أبيض، حسن الوجه كثير الشعر إلى القصر أقرب وكانت غلته في كل يوم ألف درهم.
وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبيه أن رجلا رأى طلحة في منامه وهو يقول: حولوني عن قبري فقد أذاني الماء، ثلاث ليال، فأتى ابن عباس فأخبره - وكان نائبا على البصرة - فأشتروا له دارا بالبصرة بعشرة آلاف درهم فحولوه من قبره إليها، فإذا قد أخضر من جسده ما يلي الماء، وإذا هو كهيئة يوم أصيب، وقد وردت له فضائل كثيرة.
فمن ذلك ما رواه أبو بكر بن أبي عاصم: حدثنا الحسن بن علي بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، حدثني أبي عن جده عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد طلحة الخير، ويوم العسرة طلحة الفياض.
ويوم حنين طلحة الجود، وقال أبو يعلى الموصلي: ثنا أبو كريب، ثنا يونس عن ابن بكر عن طلحة بن يحيى عن موسى وعيسى ابني طلحة عن أبيهما أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لاعرابي جاء يسأل عمن قضى نحبه فقالوا: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله في المسجد فأعرض عنه ثم سأله فأعرض عنه ثم اطلعت من باب المسجد وعلي
ثياب خضر فقال رسول الله: " أين السائل " ؟ قال ها أنا ذا فقال: " هذا ممن قضى نحبه " وقال أبو القاسم البغوي: ثنا داود بن رشيد ثنا مكي ثنا علي بن ابراهيم ثنا الصلت بن دينار عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على رجليه فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله " (1) وقال الترمذي: حدثنا أبو سعيد الاشج ثنا أبو عبد الرحمن بن منصور العنزي - اسمه النضر - ثنا عقبة بن علقمة اليشكري سمعت علي بن أبي طالب يقول: سمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " طلحة والزبير جاراي في الجنة " (2) وقد روي من غير وجه
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب ح 3739 ص 5 / 644 وقال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه ألا من حديث الصلت وقد تكلم بعض أهل العلم في الصلت بن دينار وفي صالح بن موسى الصلحي (من ولد طلحة) من قبل حفظهما.
وانظر ابن سعد 3 / 218 - 219.
(2) الترمذي في المناقب ح 3741 ص 5 / 644 - 645.
عن علي أنه قال: إني لارجو أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان ممن قال الله * (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين) * [ الحجر: 47 ] وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب أن رجلا كان يقع في طلحة والزبير وعثمان وعلي رضي الله عنهم فجعل سعد ينهاه ويقول: لا تقع في إخواني فأبى فقام فصلى ركعتين ثم قال: اللهم إن كان سخطا لك فيما يقول، فأرني فيه اليوم آية واجعله للناس عبرة.
فخرج الرجل فإذا ببختي يشق الناس فأخذه بالبلاط فوضعه بين كركرته والبلاط فسحقه حتى قتله.
قال سعيد بن المسيب: فأنا رأيت الناس يتبعون سعدا ويقولون: هنيئا لك أبا إسحاق أجيبت دعوتك.
والزبير بن العوام بن خويلد ابن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة أبو عبد الله القرشي الاسدي، وأمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم قديما وعمره خمس عشرة سنة، وقيل أقل وقيل أكثر، هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة
فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سلمة بن سلامة بن وقش، وقد شهد المشاهد كلها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاحزاب " من يأتينا بخبر القوم ؟ فقال: أنا، ثم ندب الناس فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير " (1) ثبت ذلك من رواية زر عن علي، وثبت عن الزبير أنه قال: " جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه يوم بني قريظة " وروي أنه أول من سل سيفا في سبيل الله، وذلك بمكة حين بلغ الصحابة أن رسول الله قد قتل فجاء شاهرا سيفه حتى رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشام سيفه، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وصحب الصديق فأحسن صحبته، وكان ختنه على ابنته أسماء بنت الصديق، وابنه عبد الله منها أول مولود ولد للمسلمين بعد الهجرة، وخرج مع الناس إلى الشام مجاهدا فشهد اليرموك فتشرفوا بحضوره، وكانت له بها اليد البيضاء والهمة العلياء، اخترق جيوش الروم وصفوفهم مرتين من أولهم إلى آخرهم، وكان من جملة من دافع عن عثمان وحاجف عنه، فلما كان يوم الجمل ذكره علي بما ذكره به فرجع عن القتال وكر راجعا إلى المدينة، فمر بقوم الاحنف بن قيس - وكانوا قد انعزلوا عن الفريقين - فقال قائل يقال له الاحنف: ما بال هذا جمع بين الناس حتى إذا التقوا كر راجعا إلى بيته ؟ من رجل يكشف لنا خبره ؟ فاتبعه عمرو بن جرموز وفضالة بن حابس ونفيع في طائفة من غواة بني تميم فيقال إنهم لما ادركوه تعاونوا عليه حتى قتلوه ويقال بل أدركه عمرو بن جرموز فقال له عمرو: إن لي إليك حاجة فقال: ادن ! فقال مولى الزبير، واسمه عطية - إن معه سلاحا فقال: وإن، فتقدم إليه فجعل يحدثه وكان وقت الصلاة فقال له الزبير: الصلاة فقال: الصلاة فتقدم الزبير ليصلي بهما فطعنه
__________
(1) طبقات ابن سعد 3 / 105 وسيرة ابن هشام 3 / 3 - 10 وانظر الاصابة 2 / 545 وهامشها 2 / 580.
عمرو بن جرموز فقتله ويقال بل أدركه عمرو بواد يقال له وادي السباع وهو نائم في القائلة فهجم عليه فقتله وهذا القول هو الاشهر، ويشهد له شعر امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل وكانت آخر من تزوجها وكانت قبله تحت عمر بن الخطاب فقتل عنها وكانت قبله تحت عبد الله بن
أبي بكر الصديق فقتل عنها فلما قتل الزبير رثته بقصيدة محكمة المعنى فقالت: غدر ابن جرموز بفارس بهمة * يوم اللقاء وكان غر معرد يا عمرو لو نبهته لوجدته * لا طائشا رعش الجنان ولا اليد ثكلتك أمك أن ظفرت بمثله * ممن بقي ممن يروح ويغتدي (1) كم غمرة قد خاضها لم يثنه * عنها طرادك يا بن فقع العردد (2) والله ربي إن قتلت لمسلما * حلت عليك عقوبة المتعمد ولما قتله عمرو بن جرموز فاجتز رأسه وذهب به إلى علي ورأى أن ذلك يحصل له به حظوة عنده فاستأذن فقال علي: لا تأذنوا له وبشروه بالنار، وفي رواية أن عليا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بشر قاتل ابن صفية بالنار " ودخل ابن جرموز ومعه سيف الزبير فقال علي: إن هذا السيف طال ما فرج الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال إن عمرو بن جرموز لما سمع ذلك قتل نفسه، وقيل بل عاش إلى أن تأمر مصعب بن الزبير، على العراق فاختفى منه، فقيل لمصعب: إن عمرو بن جرموز هاهنا مختف، فهل لك فيه ؟ فقال: مروه فليظهر فهو آمن، والله ما كنت لاقيد للزبير منه فهو أحقر من أن أجعله عدلا للزبير، وقد كان الزبير ذا مال جزيل وصدقات كثيرة جدا، لما كان يوم الجمل أوصى إلى ابنه عبد الله فلما قتل وجدوا عليه من الدين ألفي ألف ومائتا ألف فوفوها عنه، وأخرجوا بعد ذلك ثلث ماله الذي أوصى به ثم قسمت التركة بعد ذلك فأصاب كل واحدة من الزوجات الاربع من ربع الثمن ألف ألف ومائتا ألف (3) درهم، فعلى هذا يكون مجموع ما قسم بين الورثة ثمانية وثلاثين ألف ألف وأربعمائة ألف والثلث الموصى به تسعة عشر ألف ألف ومائتا ألف فتلك الجملة سبعة وخمسون ألف ألف وستمائة ألف والدين المخرج قبل ذلك ألفا ألف ومائتا ألف فعلى هذا يكون جميع ما تركه من الدين والوصية والميراث تسعة وخمسين ألف ألف وثمانمائة ألف وإنما نبهنا على هذا لانه وقع في صحيح البخاري ما فيه نظر ينبغي أن ينبه له.
والله أعلم.
وقد جمع ماله هذا بعد الصدقات الكثيرة والماثر الغزيرة مما أفاء الله عليه من الجهاد ومن
خمس الخمس ما يخص أمه منه، ومن التجارة المبرورة من الخلال المشكورة، وقد قيل إنه كان له
__________
(1) في ابن سعد: ثكلتك أمك هل ظفرت بمثله * فيمن مضى فيما تروح وتغتدي (2) في ابن سعد القردد، والقردد: ما ارتفع من الارض.
(3) في طبقات ابن سعد: ومائة ألف.
ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فربما تصدق في بعض الايام بخراجهم كلهم رضي الله عنه وأرضاه، وكان قتله يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وقد نيف على الستين بست أو سبع وكان أسمر ربعة من الرجال معتدل اللحم خفيف اللحية رضي الله عنه.
وفي هذه السنة اعني سنة ست وثلاثين ولى علي بن أبي طالب نيابة الديار المصرية لقيس بن سعد بن عبادة، وكان على نيابتها في أيام عثمان عبد الله بن سعد بن أبي سرح فلما توجه أولئك الاحزاب من خوارج المصريين إلى عثمان وكان الذي جهزهم إليه مع عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء محمد بن أبي حذيفة بن عتبة، وكان لما قتل أبوه باليمامة أوصى به إلى عثمان، فكفله ورباه في حجره ومنزله وأحسن إليه إحسانا كثيرا ونشأ في عبادة وزهادة، وسأل من عثمان أن يوليه عملا فقال له: متى ما صرت أهلا لذلك وليتك، فتعتب في نفسه على عثمان فسأل من عثمان أن يخرج إلى الغزو فأذن له، فقصد الديار المصرية وحضر مع أميرها عبد الله بن سعد بن أبي سرح غزوة الصواري كما قدمنا، وجعل ينتقص عثمان رضي الله عنه وساعده على ذلك محمد بن أبي بكر، فكتب بذلك ابن أبي سرح إلى عثمان يشكوهما إليه فلم يعبأ بهما عثمان ولم يزل ذلك دأب محمد بن أبي حذيفة حتى استنفر أولئك إلى عثمان فلما بلغه أنهم قد حصروا عثمان تغلب على الديار المصرية وأخرج منها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وصلى بالناس فيها، فلما كان ابن أبي سرح ببعض الطريق جاءه الخبر بقتل أمير المؤمنين عثمان فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وبلغه أن عليا قد بعث على إمرة مصر قيس بن سعد بن
عبادة، فشمت بمحمد بن أبي حذيفة، إذ لم يمتع بملك الديار المصرية سنة، وسار عبد الله بن سعد إلى الشام إلى معاوية فأخبره مما كان من أمره بديار مصر، وأن محمد بن أبي حذيفة قد استحوذ عليها، فسار معاوية وعمرو بن العاص ليخرجاه منها لانه من أكبر الاعوان على قتل عثمان، مع أنه كان قد رباه وكفله وأحسن إليه، فعالجا دخول مصر فلم يقدرا فلم يزالا يخدعانه حتى خرج إلى العريش في ألف رجل فتحصن بها، وجاء عمرو بن العاص فنصب عليه المنجنيق حتى نزل في ثلاثين من أصحابه فقتلوا، ذكره محمد بن جرير.
ثم سار إلى مصر قيس بن سعد بن عبادة بولاية من علي، فدخل مصر في سبعة نفر، فرقي المنبر وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: بسم الله الرحمن الرحيم ! من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم فإني أحمد الله كثيرا الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن الله بحسن صنيعه وتقديره وتدبيره اختار الاسلام دينا لنفسه وملائكته ورسله، وبعث به الرسل إلى عباده وخص به من انتخب من خلقه، فكان مما أكرم الله به هذه الامة، وخصهم به من الفضيلة أن بعث محمدا صلى الله عليه وسلم يعلمهم الكتاب والحكمة والفرائض والسنة، لكيما يهتدوا، وجمعهم لكيما يتفرقوا، وزكاهم لكي يتطهروا، ووفقهم لكيلا يجوروا.
فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله إليه،
صلوات الله وسلامه عليه وبركاته ورحمته، ثم إن المسلمين استخلفوا بعده أميرين صالحين، عمالا بالكتاب [ والسنة ]، وأحسنا السيرة ولم يعدوا السنة ثم توفاهما الله فرحمهما الله، ثم ولى بعدهما وال أحدث أحداثا، فوجدت الامة عليه مقالا فقالوا، ثم نقموا عليه فغيروا، ثم جاؤوني فبايعوني فأستهدي الله بهداه وأستعينه على التقوى، ألا وإن لكم علينا العمل بكتاب الله وسنة رسول الله، والقيام عليكم بحقه والنصح لكم بالغيب والله المستعان وحسبنا الله ونعم الوكيل، وقد بعثت إليكم قيس بن سعد بن عبادة [ أميرا ] (1) فوازروه وكاتفوه وأعينوه على الحق، وقد أمرته بالاحسان إلى محسنكم والشدة على مريبكم والرفق بعوامكم وخواصكم، وهو ممن أرضى هديه
وأرجو صلاحه ونصيحته أسأل الله لنا ولكم عملا زاكيا وثوابا جزيلا ورحمة واسعة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وكتب عبد الله بن أبي رافع في صفر سنة ست وثلاثين قال: ثم قال قيس بن سعد فخطب الناس ودعاهم إلى البيعة لعلي، فقام الناس فبايعوه، واستقامت له طاعة بلاد مصر سوى قرية منها يقال لها خربتا (2)، فيها ناس قد أعظموا قتل عثمان - وكانوا سادة الناس ووجوههم وكانوا في نحو من عشرة آلاف وعليهم رجل يقال له يزيد بن الحارث المدلجي - وبعثوا إلى قيس بن سعد فوادعهم، وكذلك مسلمة بن مدلج الانصاري تأخر عن البيعة فتركه قيس بن سعد ووادعه، ثم كتب معاوية بن أبي سفيان - وقد استوثق له أمر الشام بحذافيره - إلى أقصى بلاد الروم والسواحل وجزيرة قبرص أيضا تحت حكمه وبعض بلاد الجزيرة كالرها وحران وقرقيسيا وغيرها، وقد ضوى إليها الذين هربوا يوم الجمل من العثمانية، وقد أراد الاشتر انتزاع هذه البلاد من يد نواب معاوية، فبعث إليه عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ففر منه الاشتر، واستقر أمر معاوية على تلك البلاد فكتب إلى قيس بن سعد يدعوه إلى القيام بطلب دم عثمان وأن يكون مؤازرا له على ما هو بصدده من القيام في ذلك، ووعده أن يكون نائبه على العراقين إذا تم له الامر مادام سلطانا فلما بلغه الكتاب - وكان قيس رجلا حازما - لم يخالفه ولم يوافقه بل بعث يلاطف معه الامر وذلك لبعده عن علي وقربه من بلاد الشام وما مع معاوية من الجنود، فسالمه قيس وتاركه ولم يواقعه على ما دعاه إليه ولا وافقه عليه: فكتب إليه معاوية: إنه لا يسعك معي تسويقك بي وخديعتك لي ولابد أن أعلم أنك سلم أو عدو - وكان معاوية حازما أيضا - فكتب إليه بما صمم عليه: إني مع علي إذ هو أحق بالامر منك فلما بلغ ذلك معاوية بن أبي سفيان يئس منه (3) ورجع ثم أشاع بعض أهل الشام أن
__________
(1) نص الكتاب في الطبري 5 / 227 وما بين معكوفين من الطبري.
(2) كذا بالاصل والطبري، وفي الكامل 3 / 269 خرنبا.
قال ياقوت: خرنبا خطأ وخربتا كور من كور مصر وهو حوالي الاسكندرية وهو الآن خراب لا يعرف (معجم البلدان).
(3) انظر الطبري 5 / 228 - 229 والكامل 3 / 269 - 270 نصوص الكتب المتبادلة بين قيس بن سعد ومعاوية بن
أبي سفيان.
=================
صور طبيعة خلابة , خلفيات مناظر طبيعية تخبل - مساء الخير ================
مجلد 29. كتاب :البداية والنهاية  الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي
قيس بن سعد يكاتبهم في الباطن ويمالئهم على أهل العراق، وروى ابن جرير أنه جاء من جهته كتاب مزور بمبايعته معاوية والله أعلم بصحته (1).
ولما بلغ ذلك عليا فاتهمه وكتب له أن يغزوا أهل خربتا الذين تخلفوا عن البيعة، فبعث إليه يعتذر إليه بأنهم عدد كثير، وهم وجوه الناس.
وكتب إليه: إن كنت إنما أمرتني بهذا لتختبرني لانك اتهمتني، فابعث على عملك بمصر غيري، فبعث علي على إمرة مصر الاشتر النخعي، فسار إليها الاشتر النخعي فلما بلغ القلزم شرب شربة من عسل فكان فيها حتفه فبلغ ذلك أهل الشام فقالوا: إن لله جندا من عسل، فلما بلغ عليا مهلك الاشتر بعث محمد بن أبي بكر على إمرة مصر، وقد قيل وهو الاصح إن عليا ولى محمد بن أبي بكر بعد قيس بن سعد، فارتحل قيس إلى المدينة، ثم ركب هو وسهل بن حنيف إلى علي فاعتذر إليه قيس بن سعد فعذره علي، وشهدا معه صفين كما سنذكره، فلم يزل محمد بن أبي بكر بمصر قائم الامر مهيبا بالديار المصرية، حتى كانت وقعة صفين، وبلغ أهل مصر خبر معاوية ومن معه من أهل الشام على قتال أهل العراق، وصاروا إلى التحكيم فطمع أهل مصر في محمد بن أبي بكر واجترأوا عليه وبارزوه بالعداوة فكان من أمره ما سنذكره وكان عمرو بن العاص قد بايع معاوية على القيام بطلب دم عثمان، وكان قد خرج من المدينة حين أرادوا حصره لئلا يشهد مهلكه، مع أنه كان متعتبا عليه بسبب عزله له عن ديار مصر وتوليته بدله عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فتسرح عن المدينة على تغضب فنزل قريبا من الاردن، فلما قتل عثمان صار إلى معاوية فبايعه على ما ذكرنا.
في وقعة صفين بين أهل العراق وبين أهل الشام قد تقدم ما رواه الامام أحمد عن إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن محمد بن سيرين.
أنه قال: " هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرات الالوف فلم يحضرها منهم مائة، بل لم
يبلغوا ثلاثين " وقال الامام أحمد: حدثنا أمية بن خلد قال لشعبة إن أبا شيبة روى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: " شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلا، فقال: كذب أبو شيبة، والله لقد ذاكرنا الحكم في ذلك فما وجدناه شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت ؟ وقد قيل أنه شهدها من أهل بدر سهل بن حنيف، وكذا أبو أيوب الانصاري.
قاله شيخنا العلامة ابن تيمية في كتاب الرد على الرافضة - وروى ابن بطة باسناده عن بكير بن الاشج أنه قال: أما إن رجالا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم.
__________
(1) راجع نص هذا الكتاب المختلق على قول الطبري في تاريخه 5 / 230.
وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه لما فرغ من وقعة الجمل ودخل البصرة وشيع أم المؤمنين عائشة لما أرادت الرجوع إلى مكة، سار من البصرة إلى الكوفة قال أبو الكنود عبد الرحمن بن عبيد فدخلها علي يوم الاثنين لثنتي عشرة (1) ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين فقيل له: انزل بالقصر الابيض، فقال: لا ! إن عمر بن الخطاب كان يكره نزوله فأنا أكرهه لذلك، فنزل في الرحبة وصلى في الجامع الاعظم ركعتين، ثم خطب فحثهم على الخير ونهاهم عن الشر، ومدح أهل الكوفة في خطبته هذه، ثم بعث إلى جرير بن عبد الله - وكان على همذان من زمان عثمان - وإلى الاشعث بن قيس - وهو على نيابة أذربيجان من زمان عثمان - أن يأخذا البيعة على من هنالك من الرعايا ثم يقبلا إليه، ففعلا ذلك.
فلما أراد علي رضي الله عنه أن يبعث إلى معاوية رضي الله عنه يدعوه إلى بيعته قال جرير بن عبد الله: أنا أذهب إليه يا أمير المؤمنين فإن بيني وبينه ودا، فآخذ لك منه البيعة، فقال الاشتر: لا تبعثه يا أمير المؤمنين فإني أخشى أن يكون هواه معه.
فقال علي: دعه، وبعثه وكتب معه كتابا إلى معاوية يعلمه باجتماع المهاجرين والانصار على بيعته (2)، ويخبره بما كان في وقعة الجمل، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس.
فلما انتهى إليه جرير بن عبد الله أعطاه الكتاب فطلب معاوية عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام فاستشارهم فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان، أو أن يسلم إليهم قتلة عثمان، وإن لم يفعل
قاتلوه ولم يبايعوه حتى يقتل قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
فرجع جرير إلى علي فأخبره بما قالوا، فقال الاشتر: يا أمير المؤمنين ألم أنهك أن تبعث جريرا ؟ فلو كنت بعثتني لما فتح معاوية بابا إلا أغلقته.
فقال له جرير: لو كنت ثم لقتلوك بدم عثمان.
فقال الاشتر: والله لو بعثتني لم يعيني جواب معاوية ولاعجلنه عن الفكرة، ولو أطاعني قبل لحبسك وأمثالك حتى يستقيم أمر الامة، فقام جرير مغضبا وأقام بقرقيسيا، وكتب إلى معاوية يخبره بما قال وما قيل له، فكتب إليه معاوية يأمره بالقدوم عليه وخرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من الكوفة عازما على الدخول إلى الشام فعسكر بالنخيلة (3) واستخلف على الكوفة أبا مسعود عقبة بن عامر البدري الانصاري وكان قد أشار عليه جماعة بأن يقيم بالكوفة ويبعث الجنود وأشار آخرون أن يخرج فيهم بنفسه، وبلغ معاوية أن عليا قد خرج بنفسه فاستشار عمرو بن العاص فقال له: أخرج أنت أيضا بنفسك، وقام عمرو بن العاص في الناس فقال: إن صناديد أهل الكوفة والبصرة قد تفانوا يوم الجمل، ولم يبق مع علي إلا شرذمة قليلة من الناس، ممن قتل، وقد قتل الخليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، فالله
__________
(1) كذا بالاصل ومروج الذهب والاخبار الطوال، وفي فتوح ابن الاعثم 2 / 347: لستة عشر يوما خلت...(2) في فتوح ابن الاعثم 2 / 352: أن علي كتب كتابا إلى معاوية وأرسله مع الحجاج بن عمرو بن غزية الانصاري وذلك قبل إرساله جرير بن عبد الله إلى معاوية.
وانظر كتاب علي إلى معاوية مع جرير بن عبد الله في الاخبار الطوال ص 157.
وفتوح ابن الاعثم 2 / 374.
(3) النخيلة: تصغير نخلة، موضع قرب الكوفة على سمت الشام (معجم البلدان).
الله في حقكم أن تضيعوه، وفي دمكم أن تطلوه، وكتب إلى أجناد الشام فحضروا، وعقدت الالوية والرايات للامراء، وتهيأ أهل الشام وتأهبوا، وخرجوا أيضا إلى نحو الفرات من ناحية صفين - حيث يكون مقدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه - وسار علي رضي الله عنه بمن معه من الجنود من النخيلة قاصدا أرض الشام.
قال أبو إسرائيل عن الحكم بن عيينة: وكان في جيشه ثمانون بدريا ومائة وخمسون ممن بايع تحت الشجرة (1).
رواه ابن ديزيل.
وقد اجتاز في طريقه
براهب فكان من أمره ما ذكره الحسين بن ديزيل في كتابه فيما رواه عن يحيى بن عبد الله الكرابيسي عن نصر بن مزاحم عن عمر بن سعد حدثني مسلم الاعور عن حبة العرني قال: لما أتى علي الرقة نزل بمكان يقال له البلبخ على جانب الفرات فنزل إليه راهب من صومعته فقال لعلي: إن عندنا كتابا توارثناه عن آبائنا كتبه أصحاب عيسى بن مريم عليهما السلام، أعرضه عليك ؟ فقال علي: نعم ! فقرأ الراهب الكتاب: " بسم الله الرحمن الرحيم الذي قضى فيما قضى وسطر فيما سطر، وكتب فيما كتب انه باعث في الاميين رسولا منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ويدلهم على سبيل الله، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الاسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل شرف، وفي كل صعود وهبوط، تذل ألسنتهم بالتهليل والتكبير، وينصره الله على كل من ناوأه فإذا توفاه الله اختلفت أمته ثم اجتمعت فلبثت بذلك ما شاء الله ثم اختلفت ثم يمر رجل من أمته بشاطئ هذا الفرات يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويقضي بالحق ولا ينكس الحكم، الدنيا أهون عليه من الرماد أو قال التراب - في يوم عصفت فيه الريح - والموت أهون عليه من شرب الماء، يخاف الله في السر، وينصح في العلانية، ولا يخاف في الله لومة لائم، فمن أدرك ذلك النبي من أهل البلاد فآمن به كان ثوابه رضواني والجنة، ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره فإن القتل معه شهادة " ثم قال لعلي: فأنا أصاحبك فلا أفارقك حتى يصيبني ما أصابك.
فبكى علي ثم قال: الحمد لله الذي لم يجعلني عنده نسيا منسيا، والحمد لله الذي ذكرني عنده في كتب الابرار، فمضى الراهب معه وأسلم فكان مع علي حتى أصيب يوم صفين، فلما خرج الناس يطلبون قتلاهم قال علي: اطلبوا الراهب، فوجدوه قتيلا، فلما وجدوه صلى عليه ودفنه واستغفر له.
وقد بعث علي بين يديه زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثمانية آلاف، ومعه شريح بن هاني، في أربعة آلاف، فساروا في طريق بين يديه غير طريقة، وجاء علي فقطع دجلة من جسر منبج وسارت المقدمتان، فبلغهم أن معاوية قد ركب في أهل الشام ليلتقي أمير المؤمنين عليا فهموا بلقياه فخافوا من قلة عددهم بالنسبة إليه، فعدلوا عن طريقهم وجاؤوا ليعبروا من عانات (2) فمنعهم أهل
__________
(1) في فتوح ابن الاعثم 2 / 450: مائتان وخمسون.
(2) عانات: موضع من أرياف العراق، قال الخليل: مما يلي ناحية الجزيرة تنسب إليه الخمر الجيدة (معجم ما استعجم).
عانات فساروا فعبروا من هيت ثم لحقوا عليا - وقد سبقهم - فقال علي: مقدمتي تأتي من ورائي ؟ فاعتذروا إليه مما جرى لهم، فعذرهم ثم قدمهم أمامه إلى معاوية بعد أن عبر الفرات فتلقاهم أبو الاعور عمرو بن سفيان السلمي في مقدمة أهل الشام فتواقفوا، ودعاهم زياد بن النضر أمير مقدمة أهل العراق، إلى البيعة فلم يجيبوه بشئ فكتب إلى علي بذلك فبعث إليهم علي الاشتر النخعي أميرا، وعلى ميمنته زياد، وعلى ميسرته شريح، وأمره أن لا يتقدم إليهم بقتال حتى يبدأوه بالقتال، ولكن ليدعهم إلى البيعة مرة بعد مرة، فإن امتنعوا فلا يقاتلهم حتى يقاتلوه ولا يقرب منهم قرب من يريد الحرب، ولا يبتعد منهم ابتعاد من يهاب الرجال (1)، ولكن صابرهم حتى آتينك فأنا حثيث السير وراءك إن شاء الله، فتحاجزوا يومهم ذلك، فلما كان آخر النهار حمل عليهم أبو الاعور السلمي وبعث معه بكتاب الامارة على المقدمة مع الحارث بن جهمان الجعفي، فلما قدم الاشتر على المقدمة امتثل ما أمره به علي، فتواقف هو ومقدمة معاوية وعليها أبو الاعور السلمي فثبتوا له واصطبروا لهم ساعة ثم انصرف أهل الشام عند المساء، فلما كان الغد تواقفوا أيضا وتصابروا فحمل الاشتر فقتل عبد الله بن المنذر التنوخي - وكان من فرسان أهل الشام - قتله رجل من أهل العراق يقال له ظبيان بن عمارة التميمي، فعند ذلك حمل عليهم أبو الاعور بمن معه، فتقدموا إليهم وطلب الاشتر من أبي الاعور أن يبارزه فلم يجبه أبو الاعور إلى ذلك، وكأنه رآه غير كفء له في ذلك والله أعلم.
وتحاجز القوم عن القتال عند إقبال الليل من اليوم الثاني، فلما كان صباح اليوم الثالث أقبل علي رضي الله عنه في جيوشه، وجاء معاوية رضي الله عنه في جنوده، فتواجه الفريقان وتقابل الطائفتان فبالله المستعان، فتواقفوا طويلا.
وذلك بمكان يقال له: صفين وذلك في أوائل ذي الحجة، ثم عدل علي رضي الله عنه فارتاد لجيشه منزلا، وقد كان معاوية سبق
بجيشه فنزلوا على مشرعة الماء في أسهل موضع وأفسحه، فلما نزل علي نزل بعيدا من الماء، وجاء سرعان أهل العراق ليردوا من الماء فمنعهم أهل الشام، فوقع بينهم مقاتلة بسبب ذلك، وقد كان معاوية وكل على الشريعة أبا الاعور السلمي، وليس هناك مشرعة سواها، فعطش أصحاب علي عطشا شديدا فبعث علي الاشعث بن قيس الكندي في جماعة ليصلوا إلى الماء فمنعهم أولئك وقال: موتوا عطشا كما منعتم عثمان الماء، فتراموا بالنبل ساعة، ثم تطاعنوا بالرماح أخرى، ثم تقاتلوا بالسيوف بعد ذلك كله، وأمد كل طائفة أهلها، حتى جاء الاشتر النخعي من ناحية العراقيين وعمرو بن العاص من ناحية الشاميين، واشتدت الحرب بينهم أكثر مما كانت، وقد قال رجل من أهل العراق - وهو عبد الله بن عوف بن الاحمر الازدي - وهو يقاتل: خلوا لنا ماء الفرات الجاري * أو اثبتوا بجحفل جرار لكل قرم مشرب تيار (2) * مطاعن برمحه كرار
__________
(1) في الطبري: البأس.
(2) في الطبري والكامل: لكل قرم مستميت شاري.
* ضراب هامات العدى مغوار * (1) ثم ما زال أهل العراق يكشفون الشاميين عن الماء حتى أزاحوهم عنه وخلوا بينهم وبينه، ثم اصطلحوا على الورود حتى صاروا يزدحمون في تلك الشريعة لا يكلم أحد أحدا، ولا يؤذي إنسان إنسانا.
وفي رواية أن معاوية لما أمر أبا الاعور بحفظ الشريعة وقف دونها برماح مشرعة، وسيوف مسللة، وسهام مفرقة، وقسي موترة، فجاء أصحاب علي عليا فشكوا إليه ذلك فبعث صعصعة بن صوحان إلى معاوية يقول له: إنا جئنا كافين عن قتالكم حتى نقيم عليكم الحجة، فبعثت إلينا مقدمتك فقاتلتنا قبل أن نبدأكم، ثم هذه أخرى قد منعونا الماء، فلما بلغه ذلك قال معاوية للقوم: ماذا يريدون ؟ فقال عمرو خل بينهم وبينه، فليس من النصف أن نكون ريانين وهم عطاش، وقال الوليد: دعهم يذوقوا من العطش ما أذاقوا أمير المؤمنين عثمان حين حصروه
في داره، ومنعوه طيب الماء والطعام أربعين صباحا، وقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح (2): امنعهم الماء إلى الليل فلعلهم يرجعون إلى بلادهم.
فسكت معاوية فقال له صعصعة بن صوحان: ماذا جوابك ؟ فقال: سيأتيكم رأيي بعد هذا، فلما رجع صعصعة فأخبر ركب الخيل والرجال، فما زالوا حتى أزاحوهم عن الماء ووردوه قهرا، ثم اصطلحوا فيما بينهم على ورود الماء، ولا يمنع أحد أحدا منه.
وأقام على يومين لا يكاتب معاوية ولا يكاتبه معاوية، ثم دعا علي بشير بن عمرو الانصاري وسعيد بن قيس الهمداني وشبيث بن ربعي السهمي فقال: إيتوا هذا الرجل فادعوه إلى الطاعة والجماعة واسمعوا ما يقول لكم، فلما دخلوا على معاوية قال له بشير بن عمرو: يا معاوية ! إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، والله محاسبك بعملك، ومجازيك بما قدمت يداك، وإني أنشدك الله أن تفرق جماعة هذه الامة، وأن تسفك دماءها بينها.
فقال له معاوية هلا أوصيت بذلك صاحبكم ؟ فقال له: إن صاحبي أحق هذه البرية بالامر في فضله ودينه وسابقته وقرابته، وإنه يدعوك إلى مبايعته فإنه أسلم لك في دنياك، وخير لك في آخرتك.
فقال معاوية: ويطل دم عثمان ؟ لا والله لا أفعل ذلك أبدا، ثم أراد سعيد بن قيس الهمداني أن يتكلم فبدره شبيث بن ربعي فتكلم قبله بكلام فيه غلظة وجفاء في حق معاوية، فزجره معاوية وزبره في افتياته على من هو أشرف منه، وكلامه بما لا علم له به، ثم أمر بهم فأخرجوا من بين يديه، وصمم على القيام بطلب دم عثمان الذي قتل مظلوما، فعند ذلك نشبت الحرب بينهم، وأمر علي بالطلائع والامراء أن تتقدم للحرب، وجعل علي يؤمر على كل قوم من الحرب أميرا، فمن أمرائه على الحرب الاشتر النخعي - وهو أكبر من كان يخرج
__________
(1) زاد الكامل شطرا: لم يخش غير الواحد القهار، (2) قيل أن الوليد بن عقبة وعبد الله بن أبي سرح لم يشهدا صفين.
أما الطبري والاخبار الطوال والاصابة فقد ذكروا أنهما شهدا صفين.
للحرب - وحجر بن عدي، وشبيث بن ربعي، وخالد بن المعتمر (1) وزياد بن النضر، وزياد بن
حفصة (2)، وسعيد بن قيس، ومعقل بن قيس، وقيس بن سعد، وكذلك كان معاوية يبعث على الحرب كل يوم أميرا، فمن أمرائه عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وأبو الاعور السلمي، وحبيب بن مسلم، وذو الكلاع الحميري، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب، وشرحبيل بن السمط، وحمزة بن مالك الهمداني، وربما اقتتل الناس في اليوم مرتين، وذلك في شهر ذي الحجة بكماله، وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن عباس عن أمر علي له بذلك، فلما انسلخ ذو الحجة ودخل المحرم تداعى الناس للمتاركة، لعل الله أن يصلح بينهم على أمر يكون فيه حقن دمائهم، فكان ما سنذكره.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين استهلت هذه السنة وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه متواقف هو ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، كل منهما في جنوده بمكان يقال له صفين بالقرب من الفرات شرقي بلاد الشام، وقد اقتتلوا في مدة شهر ذي الحجة كل يوم، وفي بعض الايام ربما اقتتلوا مرتين، وجرت بينهم حروب يطول ذكرها، والمقصود أنه لما دخل شهر المحرم تحاجز القوم رجاء أن يقع بينهم مهادنة وموادعة يؤول أمرها إلى الصلح بين الناس وحقن دمائهم، فذكر ابن جرير: من طريق هشام عن أبي مخنف مالك، حدثني سعيد (3) بن المجاهد الطائي عن محل بن خليفة أن عليا بعث عدي بن حاتم ويزيد بن قيس الارحبي، وشبيث بن ربعي وزياد بن خصفة (4) إلى معاوية، فلما دخلوا عليه - وعمرو بن العاص إلى جانبه - قال عدي بعد حمد الله والثناء عليه: أما بعد يا معاوية فإنا جئناك ندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمرنا، وتحقن به الدماء، ويأمن به السبل، ويصلح ذات البين، إن ابن عمك سيد المسلمين أفضلها سابقة، وأحسنها في الاسلام أثرا وقد استجمع له الناس وقد ارشدهم الله بالذي رأوا فلم يبق أحد غيرك وغير من معك من شيعتك، فأنت يا معاوية لا يصبك الله وأصحابك مثل يوم الجمل، فقال له معاوية: كأنك إنما جئت مهددا ولم تأت مصلحا، هيهات والله يا عدي، كلا والله إني لابن حرب، لا يقعقع لي بالشنان، أما والله إنك لمن المجلبين على ابن عفان، وإنك لم قتلته، وإني لارجو أن تكون ممن يقتله الله به،
وتكلم شبيث بن ربعي وزياد بن خصفة (4) فذكرا من فضل علي وقالا: اتق الله يا معاوية ولا
__________
(1) في الطبري والكامل: خالد بن المعمر.
(2) في الطبري والكامل: زياد بن خصفة التيمي.
(3) في الطبري: سعد أبو المجاهد الطائي.
(4) من الطبري والكامل، وفي الاصل حفصة تحريف.
تخالفه فأنا والله ما رأينا رجلا قط أعمل بالتقوى، ولا أزهد في الدنيا، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه.
فتكلم معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنكم دعوتموني إلى الجماعة والطاعة، فأما الجماعة فمعنا هي، وأما الطاعة فكيف أطيع رجلا أعان على قتل عثمان وهو يزعم أنه لم يقتله ؟ ونحن لا نرد ذلك عليه ولا نتهمه به، ولكنه آوى قتلته، فيدفعهم إلينا حتى نقتلهم ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة.
فقال له شبيث بن ربعي: أنشدك الله يا معاوية، لو تمكنت من عمار أكنت قاتله بعثمان ؟ قال معاوية: لو تمكنت من ابن سمية ما قتلته بعثمان، ولكني كنت قتلته بغلام (1) عثمان.
فقال له شبيث بن ربعي: وإله الارض والسماء لا تصل إلى قتل عمار حتى تندر الرؤوس عن كواهلها، ويضيق فضاء الارض ورحبها عليك.
فقال معاوية لو قد كان ذلك كانت عليك أضيق.
وخرج القوم من بين يديه فذهبوا إلى علي فأخبروه بما قال.
وبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري، وشرحبيل بن السمط، ومعن بن يزيد بن الا خمس إلى علي، فدخلوا عليه فبدأ حبيب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإن عثمان بن عفان كان خليفة مهديا عمل بكتاب الله وثبت (2) لامر الله، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته، فعدوتم عليه فقتلتموه فادفع إلينا قتله إن زعمت أنك لم تقتله، ثم اعتزل أمر الناس فيكون أمرهم شورى بينهم، فيولي الناس أمرهم من جمع عليهم رأيهم فقال له علي: وما أنت لا أم لك، وهذا الامر وهذا العزل، فاسكت فإنك لست هناك ولا بأهل لذاك، فقال له حبيب: أما والله لتريني حيث تكره، فقال له علي: وما أنت ولو أجلبت بخيلك ورجلك لا أبقى الله عليك إن أبقيت، أذهب فصعد وصوب ما بدا لك.
ثم
ذكر أهل السير كلاما طويلا جرى بينهم وبين علي (3)، وفي صحة ذلك عنهم وعنه نظر فإن في مطاوي ذلك الكلام من علي ما ينتقض فيه معاوية وأباه، وإنهم إنما دخلوا في الاسلام ولم يزالا في تردد فيه وغير ذلك وإنه قال في غبون ذلك: لا أقول إن عثمان قتل مظلوما ولا ظالما.
فقالوا: نحن نبرأ ممن لم يقل إن عثمان قتل مظلوما، وخرجوا من عنده، فقال علي: * (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون) * [ النمل: 80 ] ثم قال لاصحابه: لا يكن هؤلاء أولى بالجد في ضلالتهم منكم بالجد في حقكم وطاعة نبيكم، وهذا عندي لا يصح عن علي رضي الله عنه.
وروى ابن ديزيل من طريق عمرو بن سعد باسناده أن قراء أهل العراق وقراء أهل الشام عسكروا ناحية وكانوا قريبا من ثلاثين ألفا، وأن جماعة من قراء العراق منهم عبيدة السلماني، وعلقمة بن قيس، وعامر بن عبد قيس، وعبد الله بن عتبة بن مسعود، وغيرهم جاؤوا معاوية فقالوا له: ما تطلب ؟ قال: أطلب بدم عثمان قالوا: فمن تطلب به ؟ قال: عليا، قالوا: أهو
__________
(1) بناتل مولى عثمان (قاله الطبري والكامل).
(2) في الطبري 6 / 4: وينيب.
وفي فتوح ابن الاعثم 3 / 27 ينتهي إلى أمر الله.
(3) انظر تفاصيل ذلك في الطبري 6 / 4 - 5 والكامل 3 / 292 - 293 وفتوح ابن الاعثم 3 / 27 - 29.
قتله ؟ قال: نعم ! وآوى قتلته، فانصرفوا إلى علي فذكروا له ما قال فقال: كذب ! لم أقتله وأنتم تعلمون أني لم أقتله.
فرجعوا إلى معاوية فقال: إن لم يكن قتله بيده فقد أمر رجالا.
فرجعوا إلى علي فقال: والله لا قتلت ولا أمرت ولا ماليت.
فرجعوا فقال معاوية: فإن كان صادقا فليقدنا من قتلة عثمان، فإنهم في عسكره وجنده فرجعوا فقال علي: تأول القوم عليه القرآن في فتنة ووقعت الفرقة لاجلها وقتلوه في سلطانه وليس لي عليهم سبيل.
فرجعوا إلى معاوية فأخبروه فقال: إن كان الامر على ما يقول فماله أنفذ الامر دوننا من غير مشورة منا ولا ممن هاهنا ؟ فرجعوا إلى علي فقال علي: إنما الناس مع المهاجرين والانصار، فهم شهود الناس على ولايتهم وأمر دينهم،
ورضوا وبايعوني، ولست أستحل أن ادع مثل معاوية يحكم على الامة ويشق عصاها، فرجعوا إلى معاوية فقال: ما بال من ها هنا من المهاجرين والانصار لم يدخلوا في هذا الامر ؟ فرجعوا فقال علي: إنما هذا للبدريين دون غيرهم، وليس على وجه الارض بدري إلا وهو معي، وقد بايعني وقد رضي، فلا يغرنكم من دينكم وأنفسكم، قال: فأقاموا يتراسلون في ذلك شهر ربيع الآخر وجماديين ويقرعون في غبون ذلك القرعة بعد القرعة ويزحف بعضهم على بعض، ويحجز بينهم القراء، فلا يكون قتال قال: فقرعوا في ثلاثة أشهر خمسة وثمانين قرعة.
قال: وخرج أبو الدرداء وأبو أمامة (1) فدخلا على معاوية فقالا له: يا معاوية على ما تقاتل هذا الرجل ؟ فوالله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاما، وأقرب منك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحق بهذا الامر منك.
فقال: أقاتله على دم عثمان وإنه آوى قتلته، فاذهبا إليه فقولا له فليقدنا من قتلة عثمان ثم أنا أول من بايعه من أهل الشام، فذهبا إلى علي فقالا له ذلك فقال: هؤلاء الذين تريان فخرج خلق كثير فقالوا: كلنا قتلة عثمان فمن شاء فليرمنا.
قال: فرجع أبو الدردا وأبو أمامة فلم يشهدا لهم حربا.
قال عمرو بن سعد باسناده حتى إذا كان رجب وخشي معاوية أن تبايع القراء كلهم عليا كتب في سهم من عبد الله الناصح: يا معشر أهل العراق ! إن معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات ليغرقكم فخذوا حذركم، ورمى به في جيش أهل العراق.
فأخذه الناس فقرأوه وتحدثوا به، وذكروه لعلي فقال: إن هذا ما لا يكون ولا يقع.
وشاع ذلك، وبعث معاوية مائتي فاعل يحفرون في جنب الفرات وبلغ الناس ذلك فتشوش أهل العراق من ذلك وفزعوا إلى علي فقال: ويحكم ! إنه يريد خديعتكم ليزيلكم عن مكانكم هذا وينزل فيه لانه خير من مكانه.
فقالوا: لابد من أن نخلي عن هذا الموضع فارتحلوا منه، وجاء معاوية فنزل بجيشه - وكان علي آخر من ارتحل - فنزل بهم وهو يقول:
__________
(1) كذا بالاصل والاخبار الطوال، وفي ابن الاعثم: أبو الدرداء وأبو هريرة، وما ذكر أبو الدرداء إلا من الواقدي، وليس لهذه الحادثة أثر في الطبري أو في الكامل لابن الاثير، وقد لاحظنا قريبا أن أبا الدرداء مات في خلافة عثمان (انظر الاصابة 5 / 46 وتهذيب التهذيب 8 / 176).
فلو أني أطعت عصمت (1) قومي * إلى ركن اليمامة أو شآم ولكني إذا أبرمت أمرا * يخالفه الطغام بنو الطغام (2) قال: فأقاموا إلى شهر ذي الحجة ثم شرعوا في المقاتلة فجعل علي يؤمر على الحرب كل يوم رجلا وأكثر من كان يؤمر الاشتر.
وكذلك معاوية يؤمر كل يوم أميرا فاقتتلوا شهر ذي الحجة بكماله، وربما اقتتلوا في بعض الايام مرتين قال ابن جرير رحمه الله: ثم لم تزل الرسل تتردد بين علي ومعاوية والناس كافون عن القتال حتى انسلخ المحرم من هذه السنة ولم يقع بينهم صلح، فأمر علي بن أبي طالب يزيد (3) بن الحارث الجشمي فنادى أهل الشام عند غروب الشمس: ألا إن أمير المؤمنين يقول لكم: إني قد استأنيتكم لتراجعوا الحق، وأقمت عليكم الحجة فلم تجيبوا، وإني قد نبذت إليكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين.
ففزع أهل الشام إلى أمرائهم فأعلموهم بما سمعوا المنادي ينادي فنهض عند ذلك معاوية وعمرو فعبيا الجيش ميمنة وميسرة، وبات علي يعبي جيشه من ليلته، فجعل على خيل أهل الكوفة الاشتر النخعي، وعلى رجالتهم عمار بن ياسر، وعلى خيل أهل البصرة سهل بن حنيف، وعلى رجالتهم قيس بن سعد وهاشم بن عتبة، وعلى قرائهم سعد (4) بن فدكي التميمي، وتقدم علي إلى الناس أن لا يبدأوا واحدا بالقتال حتى يبدأ أهل الشام، وأنه لا يذفف على جريح ولا يتبع مدبرا ولا يكشف ستر امرأة ولا تهان، وإن شتمت أمراء الناس وصلحاءهم وبرز معاوية صبح تلك الليلة وقد جعل على الميمنة ابن ذي الكلاع الحميري، وعلى الميسرة حبيب بن مسلم الفهري، وعلى المقدمة أبا الاعور السلمي، وعلى خيل دمشق عمرو بن العاص، وعلى رجالتهم الضحاك بن قيس.
ذكره ابن جرير.
وروى ابن ديزيل، من طريق جابر الجعفي عن أبي جعفر الباقر ويزيد بن الحسن بن علي وغيرهما.
قالوا: لما بلغ معاوية سير علي سار معاوية نحو علي واستعمل على مقدمته سفيان بن عمرو (5) أبا الاعور السلمي وعلى الساقة بسر بن أبي أرطاة حتى توافوا جميعا سائرين إلى جانب صفين.
وزاد ابن الكلبي فقال: جعل على المقدمة أبا الاعور السلمي، وعلى الساقة بسرا،
وعلى الخيل عبيد الله بن عمر ودفع اللواء إلى عبد الرحمن بن الوليد وجعل على الميمنة حبيب بن مسلمة، وعلى رجالتها يزيد بن زحر العنسي، وعلى الميسرة عبد الله بن عمرو بن العاص، وعلى رجالتها حابس بن سعد الطائي، وعلى خيل دمشق الضحاك بن قيس وعلى رجالتهم يزيد بن
__________
(1) في ابن الاعثم: عصبت.
(2) في ابن الاعثم: تخالفني أقاويل الطغام (3) في الطبري: مرثد.
(4) في الطبري والكامل: مسعر.
(5) في مروج الذهب 2 / 419: سفيان بن عوف.
لبيد بن كرز البجلي، وجعل على أهل حمص ذا الكلاع وعلى أهل فلسطين مسلمة بن مخلد (1) وقام معاوية في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس ! والله ما أصبت الشام إلا بالطاعة ولا أضبط حرب أهل العراق إلا بالصبر ولا أكابد أهل الحجاز إلا باللطف، وقد تهيأتم وسرتم لتمنعوا الشام وتأخذوا العراق، وسار القوم ليمنعوا العراق ويأخذوا الشام ولعمري ما للشام رجال العراق ولا أموالها، ولا للعراق خبرة أهل الشام ولا بصائرها، مع أن القوم وبعدهم أعدادهم، وليس بعدكم غيركم فإن غلبتموهم لم تغلبوا إلا من أناتكم وإن غلبوكم غلبوا من بعدكم والقوم لاقوكم بكيد أهل العراق، ورقة أهل اليمن وبصائر أهل الحجاز، وقسوة أهل مصر، وإنما ينصر غدا من ينصر اليوم * (استعينوا بالله واصبروا إن الله مع الصابرين) * [ الاعراف: 128 ] وقد بلغ عليا خطبة معاوية فقام في أصحابه فحرضهم على الجهاد ومدحهم بالصبر وشجعهم بكثرتهم بالنسبة إلى أهل الشام، قال جابر الجعفي عن أبي جعفر الباقر وزيد بن أنس وغيرهما قالوا: سار علي في مائة وخمسين ألفا من أهل العراق وأقبل معاوية في نحو منهم من أهل الشام.
وقال غيرهم: أقبل علي في مائة ألف أو يزيدون، وأقبل معاوية في مائة ألف وثلاثين ألفا - رواها ابن ديزيل في كتابه - وقد تعاقد جماعة من أهل الشام على أن لا يفروا فعقلوا أنفسهم
بالعمائم، وكان هؤلاء خمسة صفوف ومعهم ستة صفوف آخرين وكذلك أهل العراق كانوا أحد عشر صفا أيضا فتواقفوا على هذه الصفة أول يوم من صفر وكان ذلك يوم الاربعاء، وكان أمير الحرب يومئذ للعراقيين الاشتر النخعي، وأمير الحرب يومئذ للشاميين حبيب بن مسلمة، فاقتتلوا ذلك اليوم قتالا شديدا ثم تراجعوا من آخر يومهم وقد انتصف بعضهم من بعض وتكافؤا في القتال ثم أصبحوا من الغد يوم الخميس وأمير حرب أهل العراق هاشم بن عتبة، وأمير الشاميين يومئذ أبا الاعور السلمي فاقتتلوا قتالا شديدا تحمل الخيل على الخيل والرجال على الرجال ثم تراجعوا من آخر يومهم وقد صبر كل من الفريقين للآخر وتكافؤا ثم خرج في اليوم الثالث - وهو يوم الجمعة - عمار بن ياسر من ناحية أهل العراق وخرج إليه عمرو بن العاص في الشاميين فاقتتل الناس قتالا شديدا وحمل على عمار عمرو بن العاص فأزاله عن موقفه وبارز زياد بن النضر الحارثي وكان على الخيالة رجلا (2) فلما توقفا تعارفا فإذا هما أخوان من أم، فانصرف كل واحد منهما إلى قومه وترك صاحبه، وتراجع الناس من العشي وقد صبر كل فريق لصاحبه، وخرج في اليوم الرابع - وهو يوم السبت - محمد بن علي - وهو ابن الحنفية - ومعه جمع عظيم فخرج إليه في كثير من جهة الشاميين عبيد الله بن عمر، فاقتتل الناس قتالا شديدا، وبرز عبيد الله بن عمر فطلب من ابن الحنفية أن يبرز إليه فبرز إليه ؟ فلما كادا أن يقتربا قال علي: من المبارز ؟ قالوا محمد ابنك وعبيد الله، فيقال إن عليا حرك دابته وأمر ابنه أن يتوقف وتقدم إلى عبيد الله فقال له: تقدم إلي فقال
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 172: خالد.
(2) ذكره الطبري 6 / 7 واسمه: عمرو بن معاوية بن المنتفق بن عامر بن عقيل وأمهما امرأة من بني يزيد.
له: لا حاجة لي في مبارزتك، فقال: بلى، فقال: لا ! فرجع عنه علي وتحاجز الناس يومهم ذلك ثم خرج في اليوم الخامس - وهو يوم الاحد - في العراقيين عبد الله بن عباس وفي الشاميين الوليد بن عقبة، واقتتل الناس قتالا شديدا، وجعل الوليد ينال من ابن عباس، فيما ذكره أبو مخنف ويقول: قتلتم خليفتكم ولم تنالوا ما طلبتم، ووالله إن الله ناصرنا عليكم.
فقال له ابن
عباس: فابرز إلي فأبى عليه ويقال إن ابن عباس قاتل يومئذ قتالا شديدا بنفسه رضي الله عنه، ثم خرج في اليوم السادس - وهو يوم الاثنين - وعلى الناس من جهة العراقيين قيس بن سعد، ومن جهة أهل الشام ابن ذي الكلاع فاقتتلوا قتالا شديدا أيضا وتصابروا ثم تراجعوا، ثم خرج الاشتر النخعي في اليوم السابع - وهو يوم الثلاثاء وخرج تليه قرنه حبيب بن مسلمة فاقتتلوا قتالا شديدا أيضا ولم يغلب أحد أحدا في هذه الايام كلها.
قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين الجهني عن زيد بن وهب أن عليا قال: حتى متى لا نناهض هؤلاء القوم بأجمعنا ؟ ثم قام في الناس عشية الاربعاء بعد العصر فقال: الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض وما أبرم لم ينقضه الناقضون، لو شاء ما اختلف اثنان من خلقه، ولا تنازعت الامة في شئ من أمره، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله، وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الاقدار وألقت بيننا في هذا المكان، فنحن من ربنا بمرأى ومسمع فلو شاء لعجل النقمة وكان منه التعسير (1) حتى يكذب الله الظالم، ويعلم الحق أين مصيره، ولكنه جعل الدنيا دار الاعمال، وجعل الآخرة عنده هي دار القرار * (ليجزي الذين أسأوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) * [ النجم: 31 ] ألا وأنكم لاقوا القوم غدا فاطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرن، واسألوا الله النصر والصبر والقوة بالجد والحزم وكونوا صادقين.
قال: فوثب الناس إلى سيوفهم ورماحهم ونبالهم يصلحونها قال: ومر بالناس وهم كذلك كعب ابن جعيل التغلبي فرأى ما يصفون فجعل يقول: أصبحت الامة في أمر عجب * والملك مجموع غدا لمن غلب فقلت قولا غير كذب * إن غدا تهلك أعلام العرب قال: ثم أصبح علي في جنوده قد عبأهم كما أراد، وركب معاوية في جيشه قد عبأهم كما أراد، وقد أمر علي كل قبية من أهل العراق أن تكفيه أختها من أهل الشام فتقاتل الناس قتالا عظيما لا يفر أحد من أحد ولا يغلب أحد أحدا، ثم تحاجزوا عند العشي، وأصبح علي فصلى الفجر بغلس وباكر القتال، ثم استقبل أهل الشام فاستقبلوه بوجوههم فقال علي فيما رواه أبو مخنف عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب: اللهم رب السقف المحفوظ المكفوف الذي جعلته
سقفا (2) لليل والنهار، وجعلت فيه مجرى الشمس والقمر ومنازل النجوم، وجعلت فيه سبطا من
__________
(1) في الطبري والكامل: التغيير.
(2) في الطبري 6 / 8: مغيضا.
الملائكة لا يسأمون العبادة، ورب الارض التي جعلتها قرارا للانام والهوام والانعام، وما لا يحصى مما نرى وما لا نرى من خلقك العظيم، ورب الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، ورب السحاب المسخر بين السماء والارض، ورب البحر المسجور المحيط بالعالم، ورب الجبال الرواسي التي جعلتها للارض أوتادا وللخلق متاعا، إن أظهرتنا على عدونا فجنبنا البغي والفساد وسددنا للحق، وإن أظهرتهم علينا فارزقني الشهادة وجنب بقية أصحابي من الفتنة.
ثم تقدم علي وهو في القلب في أهل المدينة وعلى ميمنته يومئذ عبد الله بن بديل، وعلى الميسرة عبد الله بن عباس، وعلى القراء عمار بن ياسر وقيس بن سعد، والناس على راياتهم فزحف بهم إلى القوم، وأقبل معاوية - وقد بايعه أهل الشام على الموت - فتواقف الناس في موطن مهول وأمر عظيم، وحمل عبد الله بن بديل أمير ميمنة علي على ميسرة أهل الشام وعليها حبيب بن مسلمة، فاضطره حتى ألجأه إلى القلب، وفيه معاوية، وقام عبد الله بن بديل خطيبا في الناس يحرضهم على القتال ويحثهم على الصبر والجهاد، وحرض أمير المؤمنين علي الناس على الصبر والثبات والجهاد، وحثهم على قتال أهل الشام، وقام كل أمير في أصحابه يحرضهم، وتلا عليهم آيات القتال من أماكن متفرقة من القرآن، فمن ذلك قوله تعالى * (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) * [ الصف: 4 ] ثم قال: قدموا الدارع وأخروا الحاسر وعضوا على الاضراس، فإنه أنكى (1) للسيوف عن الهام، وألبوا إلى أطراف الرماح فإنه أفوق للاسنة (2)، وغضوا الابصار فإنه أربط للجأش وأسكن للقلب، وأميتوا الاصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار، راياتكم لا تميلوها ولا تزيلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم.
وقد ذكر علماء التاريخ وغيرهم أن عليا رضي الله عنه بارز في أيام صفين وقاتل وقتل خلقا حتى ذكر بعضهم أنه قتل خمسمائة، فمن ذلك
أن كريب بن الصباح قتل أربعة من أهل العراق ثم وضعهم تحت قدميه ثم نادى: هل من مبارز ؟ فبرز إليه علي بتجاولا ساعة ثم ضربه علي فقتله ثم قال علي: هل من مبارز ؟ فبرز إليه الحارث بن وداعة الحميري فقتله، ثم برز إليه راود بن الحارث الكلاعي فقتله، ثم برز إليه المطاع بن المطلب القيسي فقتله.
فتلا علي قوله تعالى * (والحرمات قصاص) * [ البقرة: 194 ] ثم نادى ويحك يا معاوية ! ابرز إلي ولا تفني العرب بيني وبينك، فقال له عمرو بن العاص: اغتنمه فإنه قد اثخن بقتل هؤلاء الاربعة، فقال له معاوية: والله لقد علمت أن عليا لم يقهر قط، وإنما أردت قتلي لتصيب الخلافة من بعدي، اذهب إليك ! فليس مثلي يخدع.
وذكروا أن عليا حمل على عمرو بن العاص يوما فضربه بالرمح فألقاه إلى الارض فبدت سؤته فرجع عنه، فقال له أصحابه: مالك يا أمير المؤمنين رجعت عنه ؟ فقال: أتدرون ما هو ؟
__________
(1) في الطبري 6 / 9 والكامل 3 / 297: أنبى.
(2) العبارة في الطبري والكامل: والتووا في أطراف الرماح فإنه أصون للاسنة.
قالوا: لا ! قال: هذا عمرو بن العاص تلقاني بسؤته فذكرني بالرحم فرجعت عنه، فلما رجع عمرو إلى معاوية قال له: احمد الله واحمد إستك.
وقال إبراهيم بن الحسين بن ديزيل: ثنا يحيى ثنا نصر ثنا عمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن نمير الانصاري قال: والله لكأني أسمع عليا وهو يقول لاصحابه يوم صفين أما تخافون مقت الله حتى متى، ثم انفتل إلى القبلة يدعو ثم قال: والله ما سمعنا برئيس أصاب بيده ما أصاب علي يومئذ إنه قتل فيما ذكر العادون زيادة على خمسمائة رجل، يخرج فيضرب بالسيف حتى ينحني ثم يجئ فيقول معذرة إلى الله وإليكم والله لقد هممت أن أقلعه ولكن يحجزني عنه أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي " قال: فيأخذه فيصلحه ثم يرجع به.
وهذا إسناد ضعيف وحديث منكر.
وحدثنا يحيى: ثنا ابن وهب، أخبرني الليث، عن يزيد بن حبيب أنه أخبره من حضر صفين مع علي ومعاوية قال ابن وهب: وأخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب، عن ربيعة بن لقيط قال: شهدنا صفين
مع علي ومعاوية قال فمطرت السماء علينا دما عبيطا قال الليث في حديثه حتى أن كانوا ليأخذونه بالصحاف والآنية قال ابن لهيعة: فتمتلئ ونهريقها وقد ذكرنا أن عبد الله بن بديل كسر الميسرة التي فيها حبيب بن مسلمة حتى أضافها إلى القلب فأمر معاوية الشجعان أن يعاونوا حبيبا على الكرة وبعث إلى معاوية يأمره بالحملة والكرة على ابن بديل، فحمل حبيب بمن معه من الشجعان على ميمنة أهل العراق فأزالوهم عن أماكنهم وانكشفوا عن أميرهم حتى لم يبق معه إلا زهاء ثلثمائة وانجفل بقية أهل العراق، ولم يبق مع علي من تلك القبائل إلا أهل مكة وعليهم سهل بن حنيف، وثبت ربيعة مع علي رضي الله عنه واقترب أهل الشام منه حتى جعلت نبالهم تصل إليه، وتقدم إليه مولى لبني أمية فاعترضه مولي لعلي فقتله الاموي وأقبل يريد عليا وحوله بنوه الحسن الحسين ومحمد بن حنفية، فلما وصل إلى علي أخذه علي بيده فرفعه ثم ألقاه على الارض فكسر عضده ومنكبه وابتدره الحسين ومحمد بأسيافهما فقتلاه فقال علي للحسن ابنه وهو واقف معه: ما منعك أن تصنع كما صنعا فقال: كفيان أمره يا أمير المؤمنين وأسرع إلى علي أهل الشام فجعل علي لا يزيده قربهم منه سرعة في مشيته، بل هو سائر على هينته، فقال له ابنه الحسن: يا أبة لو سعيت أكثر من مشيتك هذه فقال: يا بني إن لابيك يوما لن يعدوه ولا يبطئ به عنه السعي ولا يعجل به إليه المشي إن أباك والله ما يبالي وقع على الموت أو وقع عليه، ثم إن عليا أمر الاشتر النخعي أن يلحق المنهزمين فيردهم فسار فأسرع حتى استقبل المنهزمين من العراق فجعل يؤنبهم ويوبخهم ويحرض القبائل والشجعان منهم على الكرة فجعل طائفة تتابعه وآخرون يستمرون في هزيمتهم فلم يزل ذلك دأبه حتى اجتمع عليه خلق عظيم من الناس فجعل لا يلقى إلا كشفها ولا طائفة إلا ردها حتى انتهى إلى أمير الميمنة وهو عبد الله بن بديل ومعه نحو في ثلثمائة قد ثبتوا في مكانهم فسألوا عن أمير المؤمنين فقالوا حي صالح فالتفوا إليه، فتقدم بهم حتى تراجع كثير من الناس وذلك ما بين صلاة العصر إلى الغروب، وأراد ابن بديل أن يتقدم إلى أهل الشام فأمره
الاشتر أن يثبت مكانه فإنه خير له فأبى عليه ابن بديل، وحمل نحو معاوية، فلما انتهى إليه وجده
واقفا أمام أصحابه وفي يده سيفان وحوله كتائب أمثال الجبال، فلما اقترب ابن بديل تقدم إليه جماعة منهم فقتلوه وألقوه إلى الارض قتيلا، وفر أصحابه منهزمين وأكثرهم مجروح فلما انهزم أصحابه قال معاوية لاصحابه انظروا إلى أميرهم، فجاؤوا إليه فلم يعرفوه فتقدم معاوية إليه فإذا هو عبد الله بن بديل، فقال معاوية: هذا والله كما قال الشاعر، وهو حاتم الطائي: أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها * وإن شمرت يوما به الحرب شمرا ويحمي إذا ما الموت كان لقاؤه * كذلك ذو الاشبال يحمي إذا ما تأمرا كليث هزبر كان يحمي ذماره (1) * رمته المنايا سهمها فتقطرا ثم حمل الاشتر النخعي بمن رجع معه من المنهزمين فصدق الحملة حتى خالط الصفوف الخمسة الذين تعاقدوا أن لا يفروا وهم حول معاوية، فخرق منهم أربعة وبقي بينه وبين معاوية صف، قال الاشتر فرأيت هولا عظيما، وكدت أن أفر فما ثبتني إلا قول ابن الاطنابة وهي أمه من بلقين وكان هو من الانصار وهو جاهلي: أبت لي عفتي وأبى بلائي (2) * وإقدامي على البطل المشيح وإعطائي على المكروه مالي * وضربي هامة الرجل السميح (3) وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي قال: فهذا الذي ثبتني في ذلك الموقف.
والعجب أن ابن ديزيل روى في كتابه أن أهل العراق حملوا حملة واحدة، فلم يبق لاهل الشام صف إلا أزالوه حتى أفضوا إلى معاوية فدعا بفرسه لينجو عليه، قال معاوية: فلما وضعت رجلي في الركاب تمثلت بأبيات عمرو بن الاطنابة: أبت لي عفتي وأبى بلائي * وأخذي الحمل بالثمن الربيح وإعطائي على المكروه مالي * وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي قال: فثبت ونظر معاوية إلى عمرو بن العاص فقال: اليوم صبر وغدا فخر، فقال له عمرو: صدقت قال معاوية فأصبت خير الدنيا وأنا أرجو أن أصيب خير الآخرة.
ورواه محمد بن
إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الرحمن بن حاطب، عن معاوية: وبعث معاوية إلى خالد بن المعتمر وهو أمير الخيالة لعلي فقال له: اتبعني على ما أنت ولك إمرة العراق، فطمع فيه، فلما
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 176: كليث عرين بات يحمي عرنيه...قصدها فتقطرا.
(2) في الطبري: وحياء نفسي.
(3) في الطبري 6 / 13 والكامل 2 / 303: وأخذني الحمد بالثمن الربيح.
ولي معاوية ولاه العراق فلم يصل إليها خالد رحمه الله، ثم إن عليا لما رأى الميمنة قد اجتمعت رجع إلى الناس فأنب بعضهم وعذر بعضهم وحرض الناس وثبتهم ثم تراجع أهل العراق فاجتمع شملهم ودارت رحى الحرب بينهم وجالوا في الشاميين وصالوا، وتبارز الشجعان فقتل خلق كثير من الاعيان من الفريقين فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقيل ممن قتل في هذا اليوم عبيد الله بن عمر بن الخطاب من الشاميين، واختلفوا فيمن قتله من العراقيين (1)، وقد ذكر ابراهيم بن الحسين بن ديزيل أن عبيد الله لما خرج يومئذ أميرا على الحرب أحصر امرأتيه أسماء بنت عطارد بن حاجب التميمي وبحرية بنت هانئ بن قبيصة الشيباني - فوقفتا وراءه في راحلتين لينظرا إلى قتاله وشجاعته وقوته، فواجهته من جيش العراقيين ربيعة الكوفة وعليهم زياد بن خصفة التميمي، فشدوا عليه شدة رجل واحد فقتلوه بعدما ما انهزم عنه أصحابه، ونزلت ربيعة فضربوا لاميرهم خيمة فبقي طنب منها لم يجدوا له وتدا فشدوه برجل عبيد الله، وجاءت امرأتاه يولولان حتى وقفتا عليه وبكتا عنده، وشفعت امرأته بحرية إلى الامير فأطلقه لهما فاحتملتاه معهما في هودجهما وقتل معه أيضا وذ الكلاع، قال الشعبي: ففي مقتل عبيد الله بن عمر يقول كعب بن جعيل التغلبي: ألا إنما تبكي العيون لفارس * بصفين ولت (2) خيله وهو واقف تبدل من أسماء أسياف وائل * وكان فتى لو أخطأته المتالف تركن عبيد الله بالقاع ثاويا * تسيل دماه والعروق نوازف (3)
ينوء ويغشاه شآبيب من دم (4) * كما لاح من جيب القميص الكفائف وقد صبرت حول ابن عم محمد (5) * لدى الموت أرباب (6) المناقب شارف فما برحوا حتى رأى الله صبرهم * وحتى رقت فوق الاكف المصاحف
__________
(1) قيل هاني بن خطاب الارحبي وقيل مالك بن عمرو التنعي وقيل محرز بن الصحصح وفي مروج الذهب 2 / 427 قتله حريث بن جابر الجعفي، والحنفي في الاخبار الطوال.
وقال في الاخبار الطوال ص 178: وهو المجمع عليه.
وفي فتوح ابن الاعثم: الصحيح أن الذي قتله عبد الله بن سوار العبدي.
(2) في الطبري: 6 / 20 والاخبار الطوال ص 178 أجلت.
وفي فتوح ابن الاعثم: أخلت.
(3) في الطبري 6 / 20: تركن عبيد الله بالقاع مسندا * تمج دم الخرق في العروق الذوارف وفي الاخبار الطوال ص 178 فاضحي عبيد الله بالقاع مسلما * تمج دما منه والعروق النوازف وفي فتوح ابن الاعثم 3 / 215 تركن عبيد الله بالقاع مسلما * يمج ذعافا والعروق نوازف (4) في الاخبار الطوال ص 178: ينوء وتعلوه سبائب من دم.
وفي فتوح ابن الاعثم 3 / 215 ينوء وتغشاه نواجع من دم.
(5) في الاخبار الطوال: وقد ضربت حول ابن نبينا، وفي ابن الاعثم: وقد صيرت.
(6) في الاخبار الطوال وابن الاعثم: شهباء.
وزاد غيره فيها معاوي لا تنهض بغير وثيقة * فانك بعد اليوم بالذل عارف وقد أجابه أبو جهم الاسدي بقصيدة فيها أنواع من الهجاء تركناها قصدا.
وهذا مقتل عمار بن ياسر رضي الله عنه مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قتله أهل الشام
وبان وظهر بذلك سر ما أخبره به الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه تقتله الفئة الباغية وبان بذلك أن عليا محق وأن معاوية باغ، وما في ذلك من دلائل النبوة، ذكر ابن جرير من طريق أبي مخنف حدثني مالك بن أعين الجهني، عن زيد بن وهب الجهني أن عمارا قال يومئذ: من يبتغي رضوان ربه ولا يلوي إلى مال ولا ولد، قال: فأتته عصابة من الناس فقال: أيها الناس اقصدوا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يبتغون دم عثمان ويزعمون أنه قتل مظلوما والله ما قصدهم الاخذ بدمه ولا الاخذ بثأره، ولكن القوم ذاقوا الدنيا واستحلوها واستمروا الآخرة فقلوها، وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من دنياهم وشهواتهم، ولم يكن للقوم سابقة في الاسلام يستحقون بها طاعة الناس لهم ولا الولاية عليهم ولا تمكنت من قلوبهم خشية الله التي تمنع من تمكنت من قلبه عن نيل الشهوات، وتعقله عن إرادة الدنيا وطلب العلو فيها، وتحمله على اتباع الحق والميل إلى أهله، فخدعوا أتباعهم بقولهم إمامنا قتل مظلوما، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا، وتلك مكيدة بلغوا بها ما ترون، ولولا ذلك ما تبعهم من الناس رجلان ولكانوا أذل وأخس وأقل، ولكن قول الباطل له حلاوة في أسماع الغافلين، فسيروا إلى الله سيرا جميلا، واذكروا ذكرا كثيرا ثم تقدم فلقيه عمرو بن العاص وعبيد الله بن عمر فلامهما وأنبهما ووعظهما، وذكروه من كلامه لهما ما فيه غلظة فالله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة سمعت عبد الله بن سلمة يقول: رأيت عمارا يوم صفين شيخا كبيرا آدم طوالا أخذ الحربة بيده ويده ترعد، فقال: والذي نفسي بيده لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وهذه الرابعة، والذي نفسي بيده لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعرفت أن مصلحينا على الحق، وأنهم على الضلالة (1).
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة وحجاج حدثني شعبة سمعت قتادة يحدث عن أبي نضرة قال حجاج سمعت أبا نضرة عن قيس بن عباد قال: قلت لعمار بن ياسر أرأيت قتالكم مع علي رأيا رأيتموه، فإن الرأي يخطئ ويصيب، أو عهد عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة (2).
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 4 / 319.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 4 / 262 و 319 ومسلم في صفات المنافقين ح 9 ص (4 / 2143).
وقد رواه مسلم من حديث شعبة وله تمام عن عمار عن حذيفة في المنافقين.
وهذا كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من التابعين، منهم الحارث بن سويد، وقيس بن عبادة، وأبو جحيفة وهب بن عبد الله السوائي، ويزيد بن شريك، وأبو حسان الاجرد وغيرهم أن كلا منهم قال: قلت لعلي: هل عندكم شئ عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهده إلى الناس ؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة ؟ فإذا فيها العقل وفكاك الاسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر، وأن المدينة حرم ما بين ثبير إلى ثور.
وثبت في الصحيحين أيضا من حديث الاعمش عن أبي وائل عن سفيان بن مسلم عن سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين: يا أيها الناس ! اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أقدر لرددت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، ووالله ما حملنا سيوفنا على عواتقنا منذ أسلمنا لامر يقطعنا إلا أسهل بنا إلى أمر نعرفه، غير أمرنا هذا، فإنا لا نسد منه خصما إلا انفتح لنا غيره لا ندري كيف نبالي له.
وقال أحمد: حدثنا وكيع ثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري.
قال قام عمار يوم صفين فقال: إيتوني بشربة لبن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " آخر شربة تشربها من الدنيا تشربها يوم تقتل " (1) وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن حبيب عن أبي البختري أن عمارا أتي بشربة لبن فضحك وقال: إن رسول الله قال لي: " آخر شراب أشربه لبن حين أموت " (2) وقال ابراهيم بن الحسين بن ديزيل: ثنا يحيى بن نصر، ثنا عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي قال: سمعت الشعبي عن الاحنف بن قيس: قال ثم حمل عمار بن ياسر عليهم فحمل عليه ابن جوى السكسكي وأبو الغادية الفزاري (3)، فأما أبو الغادية فطعنه، وأما ابن جوى فاحتز
رأسه.
وقد كان ذو الكلاع سمع قول عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر " تقتلك الفئة الباغية، وآخر شربة تشربها صاع لبن " فكان ذو الكلاع يقول لعمرو: ويحك ! ما هذا يا عمرو ؟ ! فيقول له عمرو: إنه سيرجع إلينا.
قال: فلما أصيب عمار بعد ذو الكلاع قال عمرو لمعاوية: ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحا، بقتل عمار أو ذي الكلاع والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمار لمال بعامة أهل الشام ولافسد علينا جندنا.
قال: وكان لا يزال يجئ رجل فيقول
__________
(1) مسند الامام أحمد ج 4 / 262، 319.
(2) المصدر السابق 4 / 319.
(3) في فتوح ابن الاعثم 3 / 266 قتله ابن الجون السكوني.
وفي الكامل 3 / 310: قتله أبو الغازية واحتز رأسه ابن حوى السكسكي.
قال: وقيل أبو الغارية.
وفي مروج الذهب 2 / 423: قتله أبو العادية العاملي وابن جون السكسكي.
لمعاوية وعمرو: أنا قتلت عمار فيقول له عمرو فما سمعته يقول فيخلطون حتى جاء جوى فقال أنا سمعته يقول: اليوم ألقى الاحبة * محمدا وحزبه فقال له عمرو: صدقت أنت أنك لصاحبه، ثم قال له: رويدا، أما والله ما ظفرت يداك ولقد أسخطت ربك.
وقد روى ابن ديزيل من طريق أبي يوسف، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الرحمن الكندي عن أبيه عن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: " تقتلك الفئة الباغية " ورواه أيضا من حديث جماعة من التابعين أرسلوه منهم عبد الله بن أبي الهذيل ومجاهد وحبيب بن أبي ثابت وحبة العرني، وساقه من طريق أبان عن أنس مرفوعا، ومن حديث عمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن أبي الزبير عن حذيفة مرفوعا: " ما خير عمار بين شيئين إلا اختار أرشدهما "، وبه عن عمرو بن شمر عن السري عن يعقوب بن راقط قال: اختصم رجلان في سلب عمار وفي قتله فأتيا عبد الله بن عمرو بن العاص ليتحاكما إليه،
فقال لهما: ويحكما اخرجا عني، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - ولعبت قريش بعمار -: " ما لهم ولعمار ؟ عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، قاتله وسالبه في النار " قال: فبلغني أن معاوية قال إنما قتله من أخرجه يخدع بذلك أهل الشام.
وقال ابراهيم بن الحسين: حدثنا يحيى ثنا عدي بن عمر، ثنا هشيم، ثنا العوام بن حوشب بن الاسود بن مسعود عن حنظلة بن خويلد - وكان ناس عند علي ومعاوية - قال: بينا هو عند معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في قتل عمار، فقال لهما عبد الله بن عمرو: ليطب كل واحد منكما نفسا لصاحبه بقتل عمار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " تقتله الفئة الباغية " فقال معاوية لعمرو: " ألا تنهى عنا مجنونك هذا ؟ ثم أقبل معاوية على عبد الله فقال له: فلم تقاتل معنا ؟ فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بطاعة والدي ما كان حيا وأنا معكم ولست أقاتل.
وحدثنا يحيى بن نصر، ثنا حفص بن عمران البرجمي، حدثني نافع بن عمر الجمحي، عن ابن أبي مليكة أن عبد الله بن عمرو قال لابيه: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بطاعتك ما سرت معك هذا المسير، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار بن ياسر " تقتلك الفئة الباغية " وحدثنا يحيى ثنا عبد الرحمن بن زياد ؟ ثنا هشيم عن مجالد عن الشعبي قال: جاء قاتل عمار يستأذن على معاوية وعنده عمرو فقال: ائذن له وبشره بالنار.
فقال الرجل: أو ما تسمع ما يقول عمرو.
قال: صدق ؟ إنما قتله الذين جاؤوا به ! وهذا كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من التابعين منهم الحارث بن سويد وقيس بن عبادة وأبو جحيفة وهب بن عبد الله السوائي ويزيد بن شريك وأبو حسان الاجرد وغيرهم أن كلا منهم قال: قلت لعلي هل عندكم شئ عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهده إلى الناس، فقال: لا ! والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة، فإذا فيها العقل وفكاك الاسير وأن لا يقتل مسلم بكافر، وأن المدينة حرام ما بين ثبير إلى ثور، وثبت في الصحيحين أيضا
من حديث الاعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين: أيها الناس اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أقدر أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره
لرددته، والله ما حملنا سيوفنا على عواتقنا منذ أسلمنا لامر يقطعنا إلا أسهل بنا إلى أمر نعرفه غير أمرنا هذا.
وقال ابن جرير: وحدثنا أحمد بن محمد، ثنا الوليد بن صالح، ثنا عطاء بن مسلم، عن الاعمش قال قال أبو عبد الرحمن السلمي: قال كنا مع علي بصفين وكنا قد وكلنا بفرسه نفسين يحفظانه يمنعانه أن يحمل، فكان إذا حانت منهما غفلة حمل فلا يرجع حتى يخضب سيفه، وإنه حمل ذات يوم فلم يرجع حتى انثنى سيفه، فألقاه إليهم وقال: لولا أنه انثنى ما رجعت، قال: ورأيت عمارا لا يأخذ واديا من أودية صفين إلا اتبعه من كان هناك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيته جاء إلى هاشم بن عتبة وهو صاحب راية علي فقال: يا هاشم تقدم ! الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الاسنة (1)، وقد فتحت أبواب الجنة وتزينت الحور العين: اليوم ألقى الاحبة * محمدا وحزبه ثم حملا هو وهاشم فقتلا رحمهما الله تعالى، قال: وحمل حينئذ علي وأصحابه على أهل الشام حملة رجل واحد كأنهما: كان - يعني عمارا وهاشما - علما لهم قال: فلما كان الليل قلت لادخلن الليلة إلى العسكر الشاميين حتى أعلم هل بلغ منهم قتل عمار ما بلغ منا ؟ - وكنا إذا توادعنا من القتال تحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم - فركبت فرسي وقد هدأت الرجل، ثم دخلت عسكرهم فإذا أنا بأربعة يتسامرون، معاوية، وأبو الاعور السلمي، وعمرو بن العاص، وابنه عبد الله بن عمرو وهو خير الاربعة.
قال: فأدخلت فرسي بينهم مخافة أن يفوتني ما يقول بعضهم لبعض، فقال عبد الله لابيه: يا أبة قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، قال: وما قال ؟ قال: ألم يكن معنا ونحن نبني المسجد والناس ينقلون حجرا حجرا، ولبنة لبنة، وعمار ينقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين [ فغشي عليه ] (2) ؟ فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: " ويحك يا بن سمية الناس ينقلون حجرا حجرا ولبنة لبنة وأنت تنقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين رغبة منك في الاجر وكنت مع ذلك ويحك تقتلك الفئة الباغية " (3) قال فرجع عمرو صدر فرسه ثم جذب معاوية إليه فقال: يا معاوية أما تسمع ما يقول عبد الله ؟ قال: وما يقول ؟ قال: يقول وأخبره الخبر فقال معاوية إنك شيخ أخرق ولا تزال تحدث بالحديث وأنت
تدحض في بولك، أو نحن قتلنا عمارا ؟ إنما قتل عمارا من جاء به ؟ قال: فخرج الناس من عند فساطيطهم وأخبيتهم وهم يقولون: إنما قتل عمارا من جاء به، فلا أدري من كان أعجب هو أو
__________
(1) في الطبري والكامل: الاسل.
(2) من الطبري.
(3) الطبري 6 / 22 - 23.
والبيهقي في الدلائل 2 / 552 وبعضه أخرجه مسلم في الفتن 4 / 233 والبخاري في الصلاة فتح الباري 1 / 541 والامام أحمد في مسنده 3 / 5 و 6 / 289 و 4 / 319.
هم.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو معاوية ثنا الاعمش عن عبد الرحمن بن أبي زياد قال: إني لاسير مع معاوية منصرفه من صفين بينه وبين عمرو بن العاص فقال عبد الله بن عمرو: يا أبه أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: " ويحك يا بن سمية تقتلك الفئة الباغية قال فقال عمرو لمعاوية: ألا تسمع ما يقول عبد الله هذا فقال معاوية لا يزال يأتينا بهنة بعد هنة، أنحن قتلناه ؟ إنما قتله الذين جاؤوا به (1).
ثم رواه أحمد عن أبي نعيم عن سفيان الثوري عن الاعمش به نحوه، تفرد به أحمد بهذا السياق من هذا الوجه، وهذا التأويل الذي سلكه معاوية رضي الله عنه بعيد، ثم لم ينفرد عبد الله بن عمرو بهذا الحديث بل قد روي من وجوه أخر، قال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن خالد عن عكرمة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: " تقتلك الفئة الباغية " (2).
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث عبد العزيز بن المختار وعبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء عن عكرمة عن أبي سعيد في قصة بناء المسجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: " يا ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " قال يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن وفي بعض نسخ البخاري يا ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، وقال أحمد: حدثنا سليمان بن داود ثنا شعبة ثنا عمرو بن دينار عن أبي هشام، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: " تقتلك الفئة الباغية "، وروى مسلم من حديث شعبة عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: حدثني من هو خير مني - يعني أبا قتادة - أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: " تقتلك الفئة الباغية " وروى مسلم أيضا من حديث شعبة عن خالد الحذاء عن الحسن وسعيد ابني أبي الحسن عن أمهما حرة عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: تقتلك الفئة الباغية، ورواه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن ابن علية عن ابن عون عن الحسن عن أبيه عن أم سلمة به وفي رواية وقاتله في النار.
وروى البيهقي عن الحاكم وغيره عن الاصم عن أبي بكر محمد بن إسحاق الصغاني (3) عن أبي الجواب عن عمار بن زريق عن عمار الدهني (4) عن سالم بن أبي الجعد عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: " إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق " وقال ابراهيم بن الحسين بن ديزيل - في سيرة علي - ثنا يحيى بن عبيد الله الكرابيسي ثنا أبو كريب ثنا أبو معاوية عن عمار بن زريق عن عمار الدهني عن سالم بن أبي الجعد قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: إن الله قد أمننا أن يظلمنا ولم يؤمنا أن يفتننا، أرأيت إذا نزلت فتنة كيف أصنع ؟ قال: عليك بكتاب الله، قلت: أرأيت إن جاء قوم كلهم يدعون إلى كتاب الله ؟ فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع
__________
(1) انظر الحاشية السابقة.
(2) مسند الامام أحمد: 2 / 161، 5 / 306، 307، 6 / 300، 311.
(3) من دلائل البيهقي 6 / 442 وفي الاصل الصنعاني تحريف.
(4) من الدلائل.
وفي الاصل الذهبي تحريف.
الحق ".
وروى ابن ديزيل عن عمرو بن العاص نفسه حديثا في ذكر عمار وأنه مع فرقة الحق، وإسناده غريب، وقال البيهقي: أنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الله الصفار، ثنا الاسفاطي، ثنا أبو مصعب ثنا يوسف بن الماجشون عن أبيه، عن أبي عبيدة، عن محمد بن عمار بن ياسر عن مولاة لعمار قالت: " اشتكى عمار شكوى أرق منها فغشي عليه، فأفاق ونحن نبكي حوله، فقال: ما تبكون ؟ أتخشون أن أموت على فراشي ؟ أخبرني حبيبي صلى الله عليه وسلم أنه تقتلني الفئة الباغية، وأن آخر زادي في الدنيا مذقة من لبن " (1) وقال أحمد: ثنا ابن أبي عدي عن داود عن أبي نضرة
عن أبي سعيد الخدري قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد فجعلنا ننقل لبنة لبنة وكان عمار ينقل لبنتين لبنتين، فتترب رأسه قال: فحدثي أصحابي ولم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جعل ينفض رأسه ويقول: ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية " (2) تفرد به أحمد وما زاده الروافض في هذا الحديث بعد قوله الباغية " لا أنالها والله شفاعتي يوم القيامة فهو كذب وبهت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قد ثبتت الاحاديث عنه صلوات الله عليه وسلامه بتسمية الفريقين مسلمين، كما نورده قريبا إن شاء الله.
قال ابن جرير وقد ذكر أن عمارا لما قتل قال علي لربيعة وهمدان: أنتم درعي ورمحي، فانتدب له نحو من أثني عشر ألفا، وتقدمهم علي ببغلته فحمل وحملوا معه حملة رجل واحد، فلم يبق لاهل الشام صف إلا انتقض وقتلوا كل من انتهوا إليه حتى بلغوا معاوية وعلي يقاتل ويقول: أضربهم ولا أرى معاوية * الجاحظ (3) العين عظيم الحاويه قال: ثم دعى علي معاوية إلى أن يبارزه فأشار عليه بالخروج إليه عمرو بن العاص فقال له معاوية: إنك لتعلم أنه لم يبارزه رجل قط إلا قتله، ولكنك طمعت فيها بعدي، ثم قدم على ابنه محمد في عصابة كثيرة من الناس، فقاتلوه قتالا شديدا ثم تبعه علي في عصابة أخرى، فحمل بهم فقتل في هذا الموطن خلق كثير من الفريقين لا يعلمهم إلا الله وقتل من العراقيين خلق كثير أيضا، وطارت أكف ومعاصم ورؤوس عن كواهلها، رحمهم الله.
ثم حانت صلاة المغرب فما صلى بالناس إلا إيماء صلاتي العشاء واستمر القتال في هذه الليلة كلها وهي من أعظم الليالي شرا بين المسلمين، وتسمى هذه الليلة ليلة الهرير، وكانت ليلة الجمعة تقصفت الرماح ونفذت النبال، وصار الناس إلى السيوف، وعلي رضي الله عنه يحرض القبائل، ويتقدم إليهم يأمر بالصبر والثبات وهو أمام الناس في قلب الجيش، وعلى الميمنة الاشتر، تولاها بعد قتل عبد الله بن بديل عشية الخميس ليلة الجمعة - وعلى الميسرة ابن عباس، والناس يقتتلون من كل جانب فذكر غير واحد
__________
(1) دلائل النبوة ج 6 / 420 والامام أحمد في مسنده 4 / 319 والحاكم في المستدرك 3 / 389.
(2) مسند الامام أحمد 2 / 161، 3 / 5، 6 / 315.
(3) في مروج الذهب 2 / 428: الاخزر.
من علمائنا علماء السير - أنهم اقتتلوا بالرماح حتى تقصفت، وبالنبال حتى فنيت، وبالسيوف حتى تحطمت ثم صاروا إلى أن تقاتلوا بالايدي والرمي بالحجارة والتراب في الوجوه، وتعاضوا بالاسنان يقتتل الرجلان حتى يثخنا ثم يجلسان يستريحان، وكل واحد منهما يهمر على الآخر ويهمر عليه ثم يقومان فيقتتلان كما كانا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولم يزل ذلك دأبهم حتى أصبح الناس من يوم الجمعة وهم كذلك وصلى الناس الصبح إيماء وهم في القتال حتى تضاحى النهار وتوجه النصر لاهل العراق على أهل الشام، وذلك أن الاشتر النخعي صارت إليه إمرة الميمنة، فجعل بمن فيها على أهل الشام وتبعه علي فتنقضت غالب صفوفهم وكادوا ينهزمون، فعند ذلك رفع أهل الشام المصاحف فوق الرماح: وقالوا: هذا بيننا وبينكم قد فني الناس فمن للثغور ؟ ومن لجهاد المشركين والكفار.
وذكر ابن جرير وغيره من أهل التاريخ أن الذي أشار بهذا هو عمرو بن العاص، وذلك لما رأى، أن أهل العراق قد استظهروا في ذلك الموقف، أحب أن ينفصل الحال وأن يتأخر الامر فإن كلا الفريقين صابر للآخر، والناس يتفانون.
فقال إلى معاوية: إني قد رأيت أمرا لا يزيدنا هذه الساعة إلا اجتماعا ولا يزيدهم إلا فرقة، أرى أن نرفع المصاحف وندعوهم إليها، فإن أجابوا كلهم إلى ذلك برد القتال، وإن اختلفوا فيما بينهم فمن قائل نجيبهم، وقائل لا نجيبهم، فشلوا وذهب ريحهم، وقال الامام أحمد، حدثنا يعلى بن عبيد عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت.
قال أتيت أبا وائل في مسجد أهله أسأله عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي بالنهروان فيما استجابوا له وفيما فارقوه، وفيما استحل قتالهم فقال: كنا بصفين فلما استحر القتال بأهل الشام اعتصموا بتل فقال عمرو بن العاص لمعاوية: أرسل إلي علي بمصحف فأدعه إلى كتاب الله فإنه لن يأبى عليك فجاء به رجل فقال: بيننا وبينكم كتاب الله * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم بعد ذلك وهم معرضون) * [ آل عمران:
23 ] فقال علي: نعم ! وأنا أولى بذلك بيننا وبينكم كتاب الله قال فجاءته الخوارج ونحن ندعوهم يومئذ القراء وسيوفهم على عواتقهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين ما ينتظر هؤلاء القوم الذين على التل ألا نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم ؟ فتكلم سهل بن حنيف فقال: يا أيها الناس اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية - يعني الصلح الذي كان بين رسول الله وبين المشركين - ولو نرى قتالا لقاتلنا فجاء عمر إلى رسول الله فقال: يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل ؟ وذكر تمام الحديث كما تقدم في موضعه (1).
رفع أهل الشام المصاحف فلما رفعت المصاحف قال أهل العراق: نجيب إلى كتاب الله وننيب إليه.
قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب الازدي عن أبيه أن عليا قال: عباد الله أمضوا إلى حقكم وصدقكم
__________
(1) انظر مسند الامام أحمد 3 / 485 - 486.
وقتال عدوكم، فإن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح والضحاك بن قيس ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم، صحبتهم أطفالا، وصحبتهم رجالا، فكانوا شر أطفال وشر رجال، ويحكم والله إنهم ما رفعوها إنهم يقرأونها ولا تعلمون بما فيها وما رفعوها إلا خديعة ودهاء ومكيدة.
فقالوا له: ما يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله.
فقال لهم: إني إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الكتاب فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم به، وتركوا عهده، ونبذوا كتابه.
فقال له مسعر بن فدكى التميمي وزيد بن حصين الطائي ثم السبائي (1) في عصابة معهما من القراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج: يا علي أجب إلى كتاب الله إذ دعيت إليه وإلا دفعناك برمتك إلى القوم أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان، إنه غلبنا أن يعمل بكتاب الله فقتلناه، والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك.
قال: فاحفظوا عني نهيي إياكم واحفظوا مقالتكم لي، أما أنا فإن تطيعوني فقاتلوا، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم، قالوا: فابعث إلى الاشتر فليأتك ويكف عن القتال، فبعث إليه علي ليكف عن القتال، وقد ذكر الهيثم بن عدي في
كتابه الذي صنفه في الخوارج فقال: قال ابن عباس: فحدثني محمد بن المنتشر الهمداني عن من شهد صفين وعن ناس من رؤوس الخوارج ممن لا يتهم على كذب أن عمار بن ياسر كره ذلك وأبى وقال في علي بعض ما أكره ذكره، ثم قال: من رائح إلى الله قبل أن يبتغي غير الله حكما ؟ فحمل فقاتل حتى قتل رحمة الله عليه.
وكان ممن دعا إلى ذلك سادات الشاميين عبد الله بن عمرو بن العاص قام في أهل العراق فدعاهم إلى الموادعة والكف وترك القتال والائتمار بما في القرآن، وذلك عن أمر معاوية له بذلك رضي الله عنهما، وكان ممن أشار على علي بالقبول والدخول في ذلك الاشعث بن قيس الكندي رضي الله عنه، فروى أبو مخنف من وجه آخر أن عليا لما بعث إلى الاشتر قال: قل له إنه ليس هذه ساعة ينبغي أن لا تزيلني عن موقفي فيها، إني قد رجوت أن يفتح الله علي، فلا تعجلني، فرجع الرسول - وهو يزيد بن هانئ - إلى علي فأخبره عن الاشتر بما قال، وصمم الاشتر على القتال لينتهز الفرصة، فارتفع الهرج وعلت الاصوات فقال أولئك القوم لعلي: والله ما نراك إلا أمرته أن يقاتل، فقال: أرأيتموني ساررته ؟ ألم أبعث إليه جهرة وأنتم تسمعون ؟ فقالوا: فابعث إليه فليأتك وإلا والله اعتزلناك، فقال علي ليزيد بن هانئ: ويحك ! قل له أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت، فلما رجع إليه يزيد بن هانئ فأبلغه عن أمير المؤمنين أنه ينصرف عن القتال ويقبل إليه، جعل يتململ ويقول: ويحك ألا ترى إلى ما نحن فيه من النصر ولم يبق إلا القليل ؟ فقلت: أيهما أحب إليك أن تقبل أو يقتل أمير المؤمنين كما قتل عثمان ؟ ثم ماذا يغني عنك نصرتك هاهنا ؟ قال: فأقبل الاشتر إلى علي وترك القتال فقال: يا أهل العراق ! يا أهل الذل والوهن أحين علوتم القوم وظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها، وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها، وسنة من أنزلت عليه، فلا تجيبوهم، أمهلوني فإني قد أحسست بالفتح،
__________
(1) في الطبري: السنبسي.
قالوا: لا ! قال: أمهلوني عدو الفرس فإني قد طمعت في النصر، قالوا إذا ندخل معك في خطيئتك، ثم أخذ الاشتر يناظر أولئك القراء الداعين إلى إجابة أهل الشام بما حاصله: إن كان
أول قتالكم هؤلاء حقا فاستمروا عليه، وإن كان باطلا فاشهدوا لقتلاكم بالنار، فقالوا: دعنا منك فإنا لا نطيعك ولا صاحبك أبدا، ونحن قاتلنا هؤلاء في الله، وتركنا قتالهم لله، فقال لهم الاشتر: خدعتم والله فانخدعتم، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب السوء (1) كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقا إلى لقاء الله، فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت، يا أشباه النيب الجلالة ما أنتم بربانيين (2) بعدها.
فابعدوا كل بعد القوم الظالمون.
فسبوه وسبهم فضربوا وجه دابته بسياطهم، وجرت بينهم أمور طويلة، ورغب أكثر الناس من العراقيين وأهل الشام بكمالهم إلى المصالحة والمسالمة مدة لعله يتفق أمر يكون فيه حقن لدماء المسلمين، فإن الناس تفانوا في هذه المدة، ولا سيما في هذه الثلاثة الايام المتأخرة التي آخر أمرها ليلة الجمعة وهي ليلة الهرير.
كل من الجيشين فيه من الشجاعة والصبر ما ليس يوجد في الدنيا مثله، ولهذا لم يفر أحد عن أحد، بل صبروا حتى قتل من الفريقين فيما ذكره غير واحد سبعون ألفا.
خمسة وأربعون ألفا من أهل الشام، وخمسة وعشرون ألفا من أهل العراق.
قاله غير واحد منهم ابن سيرين وسيف وغيره.
وزاد أبو الحسن بن البراء - وكان في أهل العراق - خمسة وعشرون بدريا، قال: وكان بينهم في هذه المدة تسعون زحفا واختلفا في مدة المقام بصفين فقال سيف: سبعة أشهر أو تسعة أشهر.
وقال أبو الحسن بن البراء مائة وعشرة أيام.
قلت: ومقتضى كلام أبي مخنف أنه كان من مستهل ذي الحجة في يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من صفر وذلك سبعة وسبعون يوما فالله أعلم، وقال الزهري: بلغني أنه كان يدفن في القبر الواحد خمسون نفسا، هذا كله ملخص من كلام ابن جرير وابن الجوزي في المنتظم.
وقد روي البيهقي من طريق يعقوب بن سفيان، عن أبي اليمان، عن صفوان بن عمرو: كان أهل الشام ستين ألفا فقتل منهم عشرون ألفا، وكان أهل العراق مائة وعشرين ألفا فقتل منهم أربعون ألفا (3).
وحمل البيهقي هذه الوقعة على الحديث الذي أخرجاه في الصحيحين من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه، عن أبي هريرة ورواه البخاري من حديث شعيب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة ومن حديث شعيب عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي
هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يقتل بينهما مقتلة
__________
(1) في الطبري 6 / 28 والكامل 3 / 318: يا أصحاب الجباه السود.
(2) في الطبري والكامل: براثين.
(3) دلائل النبوة ج 6 / 419، وقال في مروج الذهب 2 / 437: حضر من أهل الشام خمسون ومائة ألف مقاتل سوى الخدم والاتباع وأهل العراق في عشرين ومائة ألف دون الخدم والاتباع.
عظيمة ودعواهما واحدة " (1).
ورواه مجالد عن أبي الحواري عن أبي سعيد مرفوعا مثله ورواه الثوري عن ابن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعوتهما واحدة فبينما هم كذلك مرق منهما مارقة تقتلهم أولى الطائفتين بالحق " وقد تقدم ما رواه الامام أحمد عن مهدي وإسحاق عن سفيان عن منصور بن ربعي بن خراش عن البراء بن ناجية الكاهلي عن ابن مسعود.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن رحى الاسلام ستزول لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين، فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما، فقال عمر: يا رسول الله أمما مضى أم مما بقي ؟ قال: بل مما بقي " (2).
وقد رواه ابراهيم بن الحسين بن ديزيل في كتاب جمعه في سيرة علي عن أبي نعيم الفضل بن دكين عن شريك عن منصور به مثله.
وقال أيضا: حدثنا أبو نعيم، ثنا شريك بن عبد الله النخعي، عن مجالد، عن عامر الشعبي، عن مسروق عن عبد الله.
قال قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن رحى الاسلام ستزول بعد خمس وثلاثين سنة فإن يصطلحوا فيما بينهم يأكلوا الدنيا سبعين عاما رغدا، وإن يقتتلوا يركبوا سنن من كان قبلهم " وقال ابن ديزيل: حدثنا عبد الله بن عمر ثنا عبد الله بن خراش الشيباني عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التميمي.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تدور رحى الاسلام عند قتل رجل من بني أمية " - يعني عثمان رضي الله عنه - وقال أيضا: حدثنا الحكم عن نافع عن صفوان بن عمرو عن الاشياخ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعي إلى جنازة رجل من الانصار فقال - وهو قاعد ينتظرها - " كيف أنتم إذا رأعيتم حبلين [ كذا ] في الاسلام ؟
قال أبو بكر: أو يكون ذلك في أمة إلهها واحد ونبيها واحد ؟ قال: نعم ! قال: أفأدرك ذلك يا رسول الله ؟ قال: لا ! قال عمر: أفأدرك ذلك يا رسول الله ؟ قال: لا ! قال عثمان: أفأدرك ذلك يا رسول الله ؟ قال: نعم ! بك يفتنون " وقال أيضا عمر لابن عباس: كيف يختلفون وإلههم واحد وكتابهم واحد وملتهم واحدة ؟ فقال: إنه سيجئ قوم لا يفهمون القرآن كما نفهمه، فيختلفون فيه فإذا اختلفوا فيه اقتتلوا.
فأقر عمر بن الخطاب بذلك.
وقال أيضا: حدثنا أبو نعيم ثنا سعيد بن عبد الرحمن - أخو أبي حمزة - ثنا محمد بن سيرين قال: لما قتل عثمان قال عدي بن حاتم: لا ينتطح في قتله عنزان.
فلما كان يوم صفين فقئت عينه فقيل: لا ينتطح في قتله عنزان، فقال: بلى وتفقأ عيون كثيرة.
وروي عن كعب الاحبار أن مر بصفين فرأى حجارتها فقال: لقد اقتتل في هذا الموضع بنو إسرائيل تسع مرات، وإن العرب ستقتتل فيها العاشرة، حتى يتقاذفوا بالحجارة التي تقاذف فيها بنو إسرائيل ويتفانوا كما تفانوا.
وقد ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أخرجه البخاري في المناقب (25) علامات النبوة في الاسلام.
وفي كتاب الفتن باب (25) وفي المرتدين باب (8).
وأخرجه مسلم في الفتن (4) باب ح (17) والامام أحمد في مسنده 2 / 313.
(2) مسند الامام أحمد ج 1 / 390، 393، 395، 451 وأخرجه أبو داود في أول كتاب الفتن.
ورواه الحاكم في المستدرك 4 / 521 قال: " صحيح الاسناد ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي.
قال: " سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها، وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من سواهم فيستبيح بيضتهم فأعطانيها، وسألته أن لا يسلط بعضهم على بعض فمنعنيها " (1) ذكرنا ذلك عند تفسير قوله تعالى * (أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) * [ الانعام: 65 ] قال رسول الله: هذا أهون.
قصة التحكيم ثم تراوض الفريقان بعد مكاتبات ومراجعات يطول ذكرها على التحكيم، وهو أن يحكم كل واحد من الاميرين - علي ومعاوية - رجلا من جهته.
ثم يتفق الحكمان على ما فيه مصلحة
للمسلمين.
فوكل معاوية عمرو بن العاص، وأراد علي أن يوكل عبد الله بن عباس - وليته فعل - ولكنه منعه القراء ممن ذكرنا وقالوا: لا نرضى إلا بأبي موسى الاشعري.
وذكر الهيثم بن عدي في كتاب الخوارج له أن أول من أشار بأبي موسى الاشعري الاشعث بن قيس، وتابعه أهل اليمن، ووصفوه أنه كان ينهي الناس عن الفتنة والقتال، وكان أبو موسى قد اعتزل في بعض أرض الحجاز.
قال علي: فإني أجعل الاشتر حكما، فقالوا: وهل سعر الحرب وشعر الارض إلا الاشتر ؟ قال: فاصنعوا ما شئتم، فقال الاحنف لعلي: والله لقد رميت بحجر إنه لا يصلح هؤلاء القوم إلا رجل منهم، يدنو منهم حتى يصير في أكفهم، ويبتعد حتى يصير بمنزلة النجم، فإن أبيت أن تجعلني حكما فاجعلني ثانيا وثالثا، فإنه لن يعقد عقدة إلا أحلها، ولا يحل عقدة عقدتها إلا عقدت لك أخرى مثلها أو أحكم منها.
قال: فأبوا إلا أبا موسى الاشعري فذهبت الرسل إلى أبي موسى الاشعري - وكان قد اعتزل - فلما قيل له إن الناس قد اصطلحوا قال: الحمد لله، قيل له: وقد جعلت حكما، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم أخذوه حتى أحضروه إلى علي رضي الله عنه وكتبوا بينهم كتابا هذه صورته.
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قاضى عليه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، فقال عمرو بن العاص: اكتب اسمه واسم أبيه، هو أميركم وليس بأميرنا، فقال الاحنف: لا تكتب إلا أمير المؤمنين، فقال علي: امح أمير المؤمنين واكتب هذا ما قاضى عليه علي بن أبي طالب ثم استشهد علي بقصة الحديبية حين امتنع أهل مكة هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فامتنع المشركون من ذلك وقالوا: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فكتب الكاتب: هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضي علي على أهل العراق ومن معهم من شيعتهم والمسلمين، وقاضي معاوية على أهل الشام ومن كان معه من المؤمنين والمسلمين إنا ننزل عند حكم الله وكتابه ونحيي ما أحيى الله، ونميت ما أمات الله فما وجد الحكمان في كتاب الله - وهما أبو موسى
__________
(1) صحيح مسلم - كتاب الفتن - (5) باب ح 19 و 20 ص 4 / 2215 - 2216.
الاشعري وعمرو بن العاص -، عملا به وما لم يجدا في كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المتفرقة.
ثم أخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما، والامة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كليهما عهد الله وميثاقه أنهما على ما في هذه الصحيفة، وأجلا القضاء إلى رمضان وإن أحبا أن يوخرا ذلك على تراض منهما، وكتب في يوم الاربعاء لثلاث عشر خلت من صفر سنة سبع وثلاثين، على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان، ومع كل واحد من الحكمين أربعمائة من أصحابه، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح، وقد ذكر الهيثم في كتابه في الخوارج أن الاشعث بن قيس لما ذهب إلى معاوية بالكتاب وفيه: " هذا ما قاضى عبد الله علي أمير المؤمنين معاية بن أبي سفيان " قال معاوية: لو كان أمير المؤمنين لم أقاتله، ولكن ليكتب اسمه وليبدأ به قبل اسمي لفضله وسابقته، فرجع إلى علي فكتب كما قال معاوية.
وذكر الهيثم أن أهل الشام أبوا أن يبدأ باسم علي قبل معاوية، وباسم أهل العراق قبلهم، حتى كتب كتابان كتاب لهؤلاء فيه تقديم معاوية على علي وكتاب آخر لاهل العراق بتقديم اسم علي وأهل العراق على معاوية وأهل الشام وهذه تسمية من شهد على هذا التحكيم من جيش علي: عبد الله بن عباس، والاشعث بن قيس الكندي، وسعيد بن قيس الهمداني، وعبد الله بن الطفيل المعافري (1)، وحجر بن يزيد (2) الكندي، وورقاء بن سمي العجلي، وعبد الله بن بلال (3) العجلي، وعقبة بن زياد الانصاري، ويزيد بن جحفة (4) التميمي، ومالك بن كعب الهمداني.
فهؤلاء عشرة.
وأما من الشاميين فعشرة آخرون، وهم أبو الاعور السلمي، وحبيب بن مسلمة، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، ومخارق بن الحارث الزبيدي، ووائل بن علقمة العدوي (5)، وعلقمة بن يزيد الحضرمي، وحمزة بن مالك الهمداني، وسبيع بن يزيد الحضرمي، وعتبة بن أبي سفيان أخو معاوية، ويزيد بن الحر العبسي.
وخرج الاشعث بن قيس بذلك الكتاب يقرأه على الناس ويعرضه على الطائفتين.
ثم شرع الناس في دفن قتلاهم قال
الزهري.
بلغني أنه دفن في كل قبر خمسون نفسا، وكان علي قد أسر جماعة من أهل الشام، فلما
__________
(1) في الطبري والكامل: العامري.
(2) في الطبري والكامل: عدي.
(3) في الطبري والكامل: محل.
(4) في الطبري والكامل: حجية وفي الاخبار الطوال: حجية النكري.
(5) لم يرد في الطبري ولا في الكامل، وورد فيهما مكانه: زمل بن عمرو العذري.
انظر اسماء الشهود في الطبري 6 / 30 والكامل 3 / 318 - 319 وذكر في الاخبار الطوال ص 195 - 196 اسماء كثيرة من الفريقين.
أراد الانصراف أطلقهم، وكان مثلهم أو قريب منهم في يد معاوية وكان قد عزم على قتلهم لظنه أنه قد قتل أسراهم، فلما جاءه أولئك الذين أطلقهم أطلق معاوية الذين في يده، ويقال إن رجلا يقال له عمرو بن أوس - من الازد - كان من الاسارى فأراد معاوية قتله فقال: امنن علي فإنك خالي، فقال: ويحك ! من أين أنا خالك ؟ فقال: إن أم حبيبة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أم المؤمنين وأنا ابنها (1) وأنت أخوها وأنت خالي، فأعجب ذلك معاوية وأطلقه.
وقال عبد الرحمن بن زياد بن أنعم - وذكر أهل صفين - فقال: كانوا عربا يعرف بعضهم بعضا في الجاهلية فالتقوا في الاسلام معهم على الحمية وسنة الاسلام، فتصابروا واستحيوا من الفرار، وكانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء، وهؤلاء في عسكر هؤلاء، فيستخرجون قتلاهم فيدفنوهم.
قال الشعبي: هم أهل الجنة، لقي بعضهم بعضا فلم يفر أحد من أحد.
خروج الخوارج وذلك أن الاشعث بن قيس مر على ملا من بني تميم فقرأ عليهم الكتاب فقام إليه عروة بن أذينة (2) وهي أمه وهو عروة بن جرير من بني ربيعة بن حنظلة وهو أخو أبي (3) بلال بن مرداس بن جرير فقال: أتحكمون في دين الله الرجال ؟ ثم ضرب بسيفه عجز دابة الاشعث بن قيس،
فغضب الاشعث وقومه، وجاء الاحنف بن قيس وجماعة من رؤسائهم يعتذرون إلى الاشعث بن قيس من ذلك، قال الهيثم بن عدي: والخوارج يزعمون أن أول من حكم عبد الله بن وهب الراسبي.
قلت: والصحيح الاول وقد أخذ هذه الكلمة من هذا الرجل طوائف من أصحاب علي من القراء وقالوا: لا حكم إلا لله، فسموا المحكمية (4) وتفرق الناس إلى بلادهم من صفين، وخرج معاوية إلى دمشق بأصحابه، ورجع علي إلى الكوفة على طريق هيت فلما دخل
__________
(1) أجمعت المصادر على أن أم حبيبة - رملة - بنت أبي سفيان كانت تحت عبيد الله بن جحش وهاجرت معه بعد أن أسلما إلى الحبشة - ثم تنصر هناك وبقيت أم حبيبة مسلمة ويقال ولدت ابنتها في الحبشة وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله إلى النجاشي فخطبها منه وأصدقها أربعمائة دينار وقدم بها من أرض الحبشة خالد بن سعيد وعمرو بن العاص عام الهدنة.
ولم يرد في أي من المصادر أن لها ابنا اسمه عمرو، أو أنها تزوجت برجل أودي.
(2) في الطبري 6 / 31 وفي الكامل: 3 / 321: أدية والاخبار الطوال ص 197 وفي مروج الذهب 2 / 436: أذية.
(3) في مروج الذهب: أخو بلال الخارجي.
(4) في الملل والنحل ص 50 وفي الفرق بين الفرق ص 51 المحكمة الاولى.
قال الشهرستاني وهم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه حين جرى أمر المحكمين واجتمعوا بحروراء.
وسموا بالحرورية وكانوا اثني عشر ألفا وزعيمهم ابن الكواء وعتاب بن الاعور وعبد الله بن وهب الراسبي.
ويقال ان أول سيف سل من سيوف الخوارج سيف عروة بن حدير - أو أذينة - أخو مرداس الخارجي وقد نجا من حرب النهروان وبقي إلى أيام معاوية.
وضرب عنقه زياد بن أبيه.
الكوفة سمع رجلا يقول: ذهب علي ورجع في غير شئ.
فقال علي: للذين فارقناهم خير من هؤلاء وأنشأ يقول: أخوك الذي إن أحرجتك (1) ملمة * من الدهر لم يبرح لبثك راحما (2) وليس أخوك بالذي إن تشعبت * عليك أمور ظل يلحاك لائما
ثم مضى فجعل يذكر الله حتى دخل قصر الامارة من الكوفة، ولما كان قد قارب دخول الكوفة اعتزل من جيشه قريب من - اثني عشر ألفا - وهم الخوارج، وأبوا أن يساكنوه في بلده، ونزلوا بمكان يقال له حروراء وأنكروا عليه أشياء فيما يزعمون أنه ارتكبها، فبعث إليهم علي رضي الله عنه عبد الله بن عباس فناظرهم فرجع أكثرهم وبقي بقيتهم، فقاتلهم علي بن أبي طالب وأصحابه كما سيأتي بيانه وتفصيله قريبا إن شاء الله تعالى.
والمقصود أن هؤلاء الخوارج هم المشار إليهم في الحديث المتفق على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال تمرق مارقة على حين فرقة من الناس - وفي رواية من المسلمين، وفي رواية من أمتي - فيقتلها أولى الطائفتين ".
وهذا الحديث له طرق متعددة وألفاظ كثيرة قال الامام أحمد: حدثنا وكيع وعفان بن القاسم بن الفضل عن أبي نضرة عن أبي سعيد.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق " (3) رواه مسلم عن شيبان بن فروخ عن القاسم بن محمد به.
وقال أحمد: حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " تكون أمتي فرقتين تخرج بينهما مارقة تلي قتلها أولاهما " (4) ورواه مسلم من حديث قتادة وداود بن أبي هند عن أبي نضرة به.
وقال أحمد: حدثنا ابن أبي عدي عن سليمان عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس، سيماهم التحليق هم شر الخلق - أو من شر الخلق - يقتلهم أدنى الطائفتين من الحق " (5) قال أبو سعيد: فأنتم قتلتموهم يا أهل العراق.
وقال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر ثنا عوف عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تفترق أمتي فرقتين فتمرق بينهما مارقة فيقتلها أولى الطائفتين بالحق " (6) ورواه عن يحيى القطان عن عوف وهو الاعرابي به مثله فهذه طرق متعددة عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة العبدي، وهو أحد الثقات الرفعاء ورواه مسلم أيضا من حديث سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن الضحاك المشرقي عن أبي سعيد بنحوه.
__________
(1) في الطبري والكامل: أجرضتك.
(2) في الطبري 6 / 35 والكامل 3 / 325: واجما.
(3) أخرجه مسلم في الزكاة (47) باب ح (150) ص 2 / 745 وأخرجه الامام أحمد في مسنده ح 3 / 32 و 92.
(4) أخرجه الامام أحمد في مسنده 3 / 45 ومسلم في الموضع السابق ح (151) ص 2 / 746.
(5) مسلم في الموضع السابق ح 153 ص 2 / 746.
(6) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 3 / 79.
فهذا الحديث من دلائل النبوة إذ قد وقع الامر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وفيه الحكم باسلام الطائفتين أهل الشام وأهل العراق، لا كما يزعمه فرقة الرافضة والجهلة الطغام، من تكفيرهم أهل الشام، وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أن عليا هو المصيب وإن كان معاوية مجتهدا، وهو مأجور إن شاء الله، ولكن علي هو الامام فله أجران كما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر " (1) وسيأتي بيان كيفية قتال علي رضي الله عنه للخوارج، وصفة المخدج الذي أخبر عنه عليه السلام فوجد كما أخبر ففرح بذلك علي رضي الله عنه وسجد للشكر.
فصل قد تقدم أن عليا رضي الله عنه لما رجع من الشام بعد وقعة صفين، ذهب إلى الكوفة، فلما دخلها انعزل عنه طائفة من جيشه، قيل ستة عشر ألفا وقيل اثني عشر ألفا، وقيل أقل من ذلك، فباينوه وخرجوا عليه وأنكروا أشياء، فبعث إليهم عبد الله بن عباس فناظرهم فيها ورد عليهم ما توهموه شبهة، ولم يكن له حقيقة في نفس الامر، فرجع بعضهم واستمر بعضهم على ضلالهم حتى كان منهم ما سنورده قريبا، ويقال إن عليا رضي الله عنه ذهب إليهم فناظرهم فيما نقموا عليه حتى استرجعهم عما كانوا عليه، ودخلوا معه الكوفة، ثم إنهم عاهدوا فنكثوا ما عاهدوا عليه وتعاهدوا فيما بينهم على القيام بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام على الناس في ذلك ثم تحيزوا إلى موضع يقال له النهروان، وهناك قاتلهم علي كما سيأتي.
قال الامام أحمد:
حدثنا إسحاق بن عيسى الطباع، حدثني يحيى بن سليم، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبيد الله بن عياض بن عمرو القارئ قال: جاء عبد الله بن شداد فدخل على عائشة ونحن عندها مرجعه من العراق ليالي قتل علي، فقالت له: يا عبد الله بن شداد هل أنت صادقي عما أسألك عنه ؟ فحدثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي، فقال: ومالي لا أصدقك ؟ قالت: فحدثني عن قصتهم، قال: فإن عليا لما كتب معاوية وحكم الحكمان خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس فنزلوا بأرض يقال لها حروراء من جانب الكوفة، وأنهم عتبوا عليه فقالوا: انسلخت من قميص ألبسكه الله، واسم سماك به الله ثم انطلقت فحكمت في يدن الله ولا حكم إلا لله، فلما أن بلغ عليا ما عتبوا عليه وفارقوه عليه، أمر فأذن مؤذن أن لا يدخل على أمير المؤمنين رجل إلا رجلا قد حمل القرآن، فلما أن امتلات الدار من قراء الناس دعا بمصحف إمام عظيم فوضعه بين
__________
(1) أخرجه البخاري في الاعتصام (21) ومسلم في الاقضية باب (15) وأبو داود في الاقضية (2) والترمذي في الاحكام (2) والنسائي في القضاء (3) وأحمد في المسند 2 / 187 و 4 / 198، 204، 205 وابن ماجة في الاحكام (3).
يديه فجعل يصكه بيده ويقول: أيها المصحف ! حدث الناس فناداه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين ما تسأل عنه إنما هو مداد في ورق، ونحن نتكلم بما روينا منه، فماذا تريد ؟ قال: أصحابكم هؤلاء الذين خرجوا بيني وبينهم كتاب الله يقول الله تعالى في كتابه في امرأة ورجل: * (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) * [ النساء: 35 ] فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دما وحرمة من امرأة ورجل، ونقموا علي أن كاتبت معاوية كتبت علي بن أبي طالب، وقد جاءنا سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صالح قومه قريشا فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: لا أكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال: كيف تكتب ؟ " قال اكتب باسمك اللهم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب فكتب، فقال: أكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال: لو أعلم أنك رسول الله لم أخالفك،
فكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله قريشا، يقول الله تعالى في كتابه * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) * [ الاحزاب: 21 ] فبعث إليهم عبد الله بن عباس فخرجت معه حتى إذا توسطت عسكرهم فقام ابن الكوا (1) فخطب الناس فقال يا حملة القرآن هذا عبد الله بن عباس فمن لم يكن يعرفه فأنا أعرفه ممن يخاصم في كتاب الله بمالا يعرفه، هذا ممن نزل فيه وفي قومه * (بل هم قوم خصمون) * [ الزخرف: 58 ] فردوه إلى صاحبه ولا تواضعوه كتاب الله، فقال بعضهم: والله لنواضعنه فإن جاء بحق نعرفه لنتبعنه وإن جاء بباطل لنكبتنه بباطله، فواضعوا عبد الله الكتاب ثلاثة أيام، فرجع منهم أربعة آلاف كلهم تائب، فيهم ابن الكوا، حتى أدخلهم على علي الكوفة، فبعث علي إلى بقيتهم فقال: قد كان من أمرنا وأمر الناس ما قد رأيتم، فقفوا حيث شئتم حتى تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم بيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما أو تقطعوا سبيلا أو تظلموا ذمة فإنكم إن فعلتم فقد نبذنا إليكم الحرب على سواء * (إن الله لا يحب الخائنين) * [ الانفال: 58 ] فقالت له عائشة: يا بن شداد فقتلهم فقالوا والله ما بعثت إليهم حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدماء واستحلوا أهل الذمة، فقالت الله، قال: الله لا إله إلا هو قد كان ذلك قالت: فما شئ بلغني عن أهل العراق يقولون ذو الثدي وذو الثدية ؟ قال: قد رأيته وكنت مع علي في القتلى فدعا الناس فقال: أتعرفون هذا ؟ فما أكثر من جاء يقول: قد رأيته في مسجد بني فلان، ورأيته في مسجد بني فلان يصلي ولم يأتوا فيه بثبت يعرف إلا ذلك.
قالت: فما قول علي حيث قام عليه كما يزعم أهل العراق ؟ قال سمعته يقول صدق الله ورسوله قالت: هل سمعت منه أنه قال غير ذلك ؟ قال: اللهم لا ! قالت أجل ! صدق الله ورسوله، يرحم الله عليا إنه كان لا يرى شيئا يعجبه إلا قال صدق الله ورسوله،
__________
(1) هو عبد الله بن الكواء اليشكري أول أمير للخوارج من حين اعتزلوا جيش علي وخرجوا عليه، وكان قبل من أصحاب علي ومن المحرضين على القتال وقد قال شعرا في مدح علي وتحريض جيش صفين.
فيذهب أهل العراق يكذبون عليه ويزيدون عليه في الحديث (1) تفرد به أحمد وإسناده صحيح
واختاره الضياء ففي هذا السياق ما يقتضي أن عدتهم كانوا ثمانية آلاف، لكن من القراء، وقد يكون واطأهم على مذهبهم آخرون من غيرهم حتى بلغوا اثني عشر ألفا، أو ستة عشر ألفا.
ولما ناظرهم ابن عباس رجع منهم أربعة آلاف وبقي بقيتهم على ما هم عليه، وقد رواه يعقوب بن سفيان عن موسى بن مسعود عن عكرمة بن عمار عن سماك أبي زميل عن ابن عباس فذكر القصة وأنهم عتبوا عليه في كونه حكم الرجال، وأنه محى اسمه من الامرة، وأنه غزا يوم الجمل فقتل الانفس الحرام ولم يقسم الاموال والسبي، فأجاب عن الاولين بما تقدم، وعن الثالث بما قال: قد كان في السبي أم المؤمنين فإن قلتم ليست لكم بأم فقد كفرتم، وإن استحللتم سبي أمهاتكم فقد كفرتم.
قال: فرجع منهم ألفان وخرج سائرهم فتقاتلوا.
وذكر غيره أن ابن عباس لبس حلة لما دخل عليهم، فناظروه في لبسه إياها، فاحتج بقوله تعالى * (قال من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) * الآية [ الاعراف: 32 ].
وذكر ابن جرير أن عليا خرج بنفسه إلى بقيتهم فلم يزل يناظرهم حتى رجعوا معه إلى الكوفة وذلك يوم عيد الفطر أو الاضحى شك الراوي في ذلك، ثم جعلوا يعرضون له في الكلام ويسمعونه شتما ويتأولون بتأويل في قوله.
قال الشافعي رحمه الله: قال رجل من الخوارج لعلي وهو في الصلاة * (لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) * [ الزمر: 65 ] فقرأ علي * (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) * [ الروم: 60 ].
وقد ذكر ابن جرير أن هذا كان وعلي في الخطبة.
وذكر ابن جرير أيضا أن عليا بينما هو يخطب يوما إذ قام إليه رجل من الخوارج فقال: يا علي أشركت في دين الله الرجال ولا حكم إلا لله، فتنادوا من كل جانب لا حكم إلا لله، لا حكم إلا لله، فجعل علي يقول: هذه كلمة حق يراد بها باطل، ثم قال: إن لكم علينا أن لا نمنعكم فيئا ما دامت أيديكم معنا، وأن لا نمنعكم مساجد الله، وأن لا نبدأكم بالقتال حتى تبدأونا.
ثم إنهم خرجوا بالكلية عن الكوفة وتحيزوا إلى النهروان على ما سنذكره بعد حكم الحكمين.
اجتماع الحكمين أبي موسى وعمرو بن العاص
بدومة الجندل وذلك في شهر رمضان كما تشارطوا عليه وقت التحكيم بصفين، وقال الواقدي اجتمعوا في شعبان وذلك أن عليا رضي الله عنه لما كان مجئ رمضان بعث أربعمائة فارس مع شريح بن هانئ، ومعهم أبو موسى، وعبد الله بن عباس، وإليه الصلاة وبعث معاوية عمرو بن العاص في
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 1 / 86 - 87.
أربعمائة فارس من أهل الشام ومنهم عبد الله بن عمر (1)، فتوافوا بدومة الجندل بأذرح - وهي نصف المسافة بين الكوفة والشام، بينها وبين كل من البلدين تسع مراحل - وشهد معهم جماعة من رؤوس الناس، كعبد الله بن عمر، و عبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي.
وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري وأبي جهم بن حذيفة.
وزعم بعض الناس أن سعد بن أبي وقاص شهدهم أيضا (2)، وأنكر حضوره آخرون.
وقد ذكر ابن جرير أن عمر بن سعد خرج إلى أبيه وهو على ماء لبني سليم بالبادية معتزل: فقال يا أبة: قد بلغك ما كان من الناس بصفين، وقد حكم الناس أبا موسى الاشعري وعمرو بن العاص، وقد شهدهم نفر من قريش، فاشهدهم فإنك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد أصحاب الشورى ولم تدخل في شئ كرهته هذه الامة فاحضر إنك أحق الناس بالخلافة.
فقال: لا أفعل ! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنه ستكون فتنة خير الناس فيها الخفي البقي " والله لا أشهد شيئا من هذا الامر أبدا.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا أبو بكر الحنفي عبد الكبير بن عبد المجيد، ثنا بكر بن سمار، عن عامر بن سعد أن أخاه عمر انطلق إلى سعد في غنم له خارجا من المدينة فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فلما أتاه قال: يا أبة أرضيت أن تكون أعرابيا في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة ؟ فضرب سعد صدر عمر وقال: اسكت فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي " (3) وهكذا رواه مسلم في صحيحه.
وقال أحمد أيضا: حدثنا عبد الملك بن عمرو، ثنا كثير بن زيد الاسلمي، عن المطلب، عن عمر بن
سعد عن أبيه أنه جاءه ابنه عامر فقال: يا أبة: الناس يقاتلون على الدنيا وأنت ههنا ؟ فقال: يا بني أفي الفتنة تأمرني أن أكون رأسا ؟ لا والله حتى أعطي سيفا إن ضربت به مؤمنا نبا عنه وإن ضربت به كافرا قتلته، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله يحب الغني الخفي التقي " (4) وهذا السياق كان عكس الاول، والظاهر أن عمر بن سعد استعان بأخيه عامر على أبيه ليشير عليه أن يحضر أمر التحكيم لعلهم يعدلون عن معاوية وعلي ويولونه فامتنع سعد من ذلك وأباه أشد الاباء وقنع بما هو فيه من الكفاية والخفاء كما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قد " أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه " وكان عمر بن سعد هذا يحب الامارة، فلم يزل ذلك دأبه حتى كان هو أمير السرية التي قتلت الحسين بن علي رضي الله عنه كما سيأتي بيانه في موضعه، ولو قنع بما كان أبوه عليه لم يكن شئ من ذلك.
والمقصود أن سعدا لم يحضر أمر التحكيم ولا أراد ذلك ولا هم به، وإنما حضره من ذكرنا.
فلما اجتمع الحكمان تراوضا على المصلحة للمسلمين،
__________
(1) قال في مروج الذهب 2 / 438 وقتوح ابن الاعثم 4 / 22 ومعه شرحبيل بن السمط.
(2) وهو قول المسعودي 2 / 439 الاخبار الطوال ص 198، أما الطبري فأنكر حضوره 6 / 38 ووافقه ابن الاثير في الكامل 3 / 330.
(3) مسند الامام أحمد ج 1 / 168.
(4) مسند الامام أحمد ج 1 / 177.
ونظرا في تقدير أمور ثم اتفقا على أن يعزلا عليا ومعاوية ثم يجعلا الامر شورى بين الناس ليتفقوا على الاصلح لهم منهما أو من غيرهما، وقد أشار أبو موسى بتولية عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقال له عمرو: فول ابن عبد الله فإنه يقاربه في العالم والعمل والزهد.
فقال له أبو موسى: إنك قد غمست ابنك في الفتن معك، وهو مع ذلك رجل صدق.
قال أبو مخنف: فحدثني محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال عمرو بن العاص: إن هذا الامر لا يصلحه إلا رجل له ضرس يأكل ويطعم.
وكان ابن عمر فيه غفلة،
فقال له ابن الزبير: افطن وانتبه، فقال ابن عمر: لا والله لا أرشو عليها شيئا أبدا، ثم قال: يا بن العاص إن العرب قد أسندت إليك أمرها بعدما تقارعت بالسيوف وتشاركت بالرماح، فلا تردنهم في فتنة مثلها أو أشد منها ثم إن عمرو بن العاص حاول أبا موسى على أن يقر معاوية وحده على الناس فأبى عليه، ثم حاوله ليكون ابنه عبد الله بن عمرو هو الخليفة، فأبى أيضا، وطلب أبو موسى من عمرو أن يوليا عبد الله بن عمر فامتنع عمرو أيضا، ثم اصطلحا على أن يخلعا معاوية وعليا ويتركا الامر شورى بين الناس ليتفقوا على من يختاروه لانفسهم، ثم جاءا إلى المجمع الذي فيه الناس - وكان عمرو لا يتقدم بين يدي أبي موسى بل يقدمه في كل الامور أدبا وإجلالا - فقال له: يا أبا موسى قم فأعلم الناس بما اتفقنا عليه، فخطب أبو موسى الناس فحمد الله واثنى عليه ثم صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الامة فلم نر أمرا أصلح لها ولا ألم لشعثها من رأي اتفقت أنا وعمرو عليه، وهو أنا نخلع عليا ومعاوية ونترك الامر شورى، وتستقبل الامة هذا الامر فيولوا عليهم من أحبوه، وإني قد خلعت عليا ومعاوية.
ثم تنحى وجاء عمرو فقام مقامه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا قد قال ما سمعتم، وإنه قد خلع صاحبه، وإني قد خلعته كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية فإنه ولي عثمان بن عفان، والطالب بدمه، وهو أحق الناس بمقامه - وكان عمرو بن العاص رأى أن ترك الناس بلا إمام والحالة هذه يؤدي إلى مفسدة طويلة عريضة أربى مما الناس فيه من الاختلاف، فأقر معاوية لما رأى ذلك من المصلحة، والاجتهاد يخطئ ويصيب.
ويقال إن أبا موسى تكلم معه بكلام فيه غلظة ورد عليه عمرو بن العاص مثله.
وذكر ابن جرير أن شريح بن هانئ - مقدم جيش علي - وثب على عمرو بن العاص فضربه بالسوط وقام إليه ابن لعمرو فضربه بالسوط، وتفرق الناس في كل وجه إلى بلادهم، فأما عمرو وأصحابه فدخلوا على معاوية فسلموا عليه بتحية الخلافة، وأما أبو موسى فاستحيى من علي فذهب إلى مكة، ورجع ابن عباس وشريح بن هانئ إلى علي فأخبراه بما فعل أبو موسى وعمرو، فاستضعفوا رأي أبي موسى وعرفوا أنه لا يوازن عمرو بن العاص.
فذكر أبو مخنف عن أبي جناب
الكلبي أن عليا لما بلغه ما فعل عمرو كان يلعن في قنوته معاوية، وعمرو بن العاص، وأبا الاعور السلمي، وحبيب بن مسلمة، والضحاك بن قيس، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد،
والوليد بن عقبة، فلما بلغ ذلك معاوية كان يلعن في قنوته عليا وحسنا وحسينا وابن عباس والاشتر النخعي، ولا يصح هذا والله أعلم.
فأما الحديث الذي قال البيهقي في الدلائل: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا إسماعيل بن الفضل، ثنا قتيبة بن سعيد، عن جرير، عن زكريا بن يحيى، عن عبد الله بن يزيد وحبيب بن يسار عن سويد بن غفلة قال: إني لامشي مع علي بشط الفرات فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن بني إسرائيل اختلفوا فلم يزل اختلافهم بينهم حتى بعثوا حكمين فضلا وأضلا، وإن هذه الامة ستختلف فلا يزال اختلافهم بينهم حتى يبعثوا حكمين فيضلان ويضلان من اتبعهما " (1) فإنه حديث منكر ورفعه موضوع والله أعلم.
إذ لو كان هذا معلوما عند علي لم يوافق على تحكيم الحكمين حتى لا يكون سببا لاضلال الناس، كما نطق به هذا الحديث.
وآفة هذا الحديث هو زكريا بن يحيى وهو الكندي الحميري الاعمى قال ابن معين ليس بشئ.
خروج الخوارج من الكوفة ومبارزتهم عليا لما بعث علي أبا موسى ومن معه من الجيش إلى دومة الجندل اشتد أمر الخوارج وبالغوا في النكير على علي وصرحوا بكفره، فجاء إليه رجلان منهم، وهما زرعة بن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي فقالا: لا حكم إلا لله، فقال علي: لا حكم إلا لله، فقال له حرقوص: تب من خطيئتك واذهب بنا إلى عدونا حتى نقاتلهم حتى نلقى ربنا.
فقال علي: قد أردتكم على ذلك فأبيتم، وقد كتبنا بيننا وبين القوم عهودا وقد قال الله تعالى: * (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) * الآية [ النحل: 91 ] فقال له حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه، فقال علي: ما هو بذنب ولكنه عجز من الرأي، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه، ونهيتكم عنه، فقال له زرعة بن البرج: أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله لاقاتلنك أطلب بذلك
رحمة الله ورضوانه.
، فقال علي: تبا لك ما أشقاك ! كأني بك قتيلا تسفي عليك الريح، فقال: وددت أن قد كان ذلك، فقال له علي: إنك لو كنت محقا كان في الموت تعزية عن الدنيا، ولكن الشيطان قد استهواكم، فخرجا من عنده يحكمان وفشى فيهم ذلك، وجاهروا به الناس، وتعرضوا لعلي في خطبه وأسمعوه السب والشتم والتعريض بآيات من القرآن، وذلك أن عليا قام خطيبا في بعض الجمع فذكر أمر الخوارج فذمه وعابه.
فقام جماعة منهم كل يقول لا حكم إلا لله، وقام رجل منهم وهو واضع أصبعه في أذنيه يقول: * (ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) * [ الزمر: 65 ] فجعل علي يقلب يديه هكذا وهكذا وهو على المنبر ويقول: حكم الله ننتظر فيكم.
ثم قال: إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ما لم تخرجوا علينا ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفئ ما دامت أيديكم مع
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل 6 / 423.
أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا.
وقال أبو مخنف عن عبد الملك عن أبي حرة أن عليا لما بعث أبا موسى لانفاذ الحكومة اجتمع الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسبي فخطبهم خطبة بليغة زهدهم في هذه الدنيا ورغبهم في الآخرة والجنة، وحثهم على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال: فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها، إلى جانب هذا السواد إلى بعض كور الجبال، أو بعض هذه المدائن، منكرين لهذه الاحكام الجائرة.
ثم قال حرقوص بن زهير فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا يدعونكم زينتها أو بهجتها إلى المقام بها، ولا تلتفت بكم عن طلب الحق وإنكار الظلم * (إن الله مع الذين التقوا والذين هم محسنون) * [ النحل: 128 ] فقال سنان بن حمزة الاسدي (1): يا قوم إن الرأي ما رأيتم، وإن الحق ما ذكرتم، فولوا أمركم رجلا منكم، فإنه لابد لكم من عماد وسناد، ومن راية تحفون بها وترجعون إليها، فبعثوا إلى زيد بن حصن الطائي - وكان من رؤوسهم - فعرضوا عليه الامارة فأبى، ثم عرضوها على حرقوص بن زهير فأبى، وعرضوها على حمزة بن سنان فأبى،
وعرضوها على شريح بن أبي أوفى العبسي فأبى وعرضوها على عبد الله بن وهب الراسبي فقبلها وقال: أما والله لا أقبلها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقا من الموت.
واجتمعوا أيضا في بيت زيد بن حصن (2) الطائي السنبسي فخطبهم وحثهم على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلا عليهم آيات من القرآن منها قوله تعالى * (يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) * الآية [ ص: 26 ] وقوله تعالى: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * [ المائدة: 44 ] وكذا التي بعدها وبعدها الظالمون الفاسقون ثم قال: فأشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا أنهم قد اتبعوا الهوى، ونبذوا حكم الكتاب، وجاروا في القول والاعمال، وأن جهادهم حق على المؤمنين، فبكى رجل منهم يقال له عبد الله بن سخبرة السلمي، ثم حرض أولئك على الخروج على الناس، وقال في كلامه: اضربوا وجوههم وجباههم بالسيوف حتى يطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم وأطيع الله كما أردتم أثابكم ثواب المطيعين له العاملين بأمره، وإن قتلتم فأي شئ أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته ؟ قلت: وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوع خلقه كما أراد، وسبق في قدره العظيم.
وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج إنهم المذكورون في قوله تعالى: * (قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) * [ الكهف: 103 ] والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضلال، والاشقياء في الاقوال والافعال، اجتمع
__________
(1) في الطبري 6 / 42 والكامل 3 / 335: حمزة بن سنان الاسدي، وفي الاخبار الطوال ص 202: حمزة بن سيار.
(2) في الطبري والكامل: حصين.
وفي الاخبار الطوال ص 202: يزيد بن الحصين.
رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين، وتواطأوا على المسير إلى المدائن ليملكوها على الناس ويتحصنوا بها ويبعثوا إلى إخوانهم وأضرابهم - ممن هو على رأيهم ومذهبهم، من أهل البصرة
وغيرها - فيوافوهم إليها.
ويكون اجتماعهم عليها.
فقال لهم زيد بن حصن الطائي: إن المدائن لا تقدرون عليها، فإن بها جيشا لا تطيقونه وسيمنعوها منكم، ولكن واعدوا إخوانكم إلى جسر نهر جوخى (1)، ولا تخرجوا من الكوفة جماعات، ولكن اخرجوا وحدانا لئلا يفطن بكم، فكتبوا كتابا عاما إلى من هو على مذهبهم ومسلكهم من أهل البصرة وغيرها وبعثوا به إليهم ليوافوهم إلى النهر ليكونوا يدا واحدة على الناس، ثم خرجوا يتسللون وحدانا لئلا يعلم أحد بهم فيمنعوهم من الخروج فخرجوا من بين الآباء والامهات والاخوال والخالات وفارقوا سائر القرابات، يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم أن هذا الامر يرضي رب الارض والسموات، ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر الموبقات، والعظائم والخطيئات، وأنه مما زينه لهم إبليس الشيطان الرجيم المطرود عن السموات الذي نصب العداوة لابينا آدم ثم لذريته ما دامت أرواحهم في أجسادهم مترددات، والله المسؤول أن يعصمنا منه بحوله وقوته إنه مجيب الدعوات، وقد تدارك جماعة من الناس بعض أولادهم وإخوانهم فردوهم وأنبوهم ووبخوهم فمنهم من استمر على الاستقامة، ومنه من فر بعد ذلك فلحق بالخوارج فخسر إلى يوم القيامة، وذهب الباقون إلى ذلك الموضع ووافى إليهم من كانوا كتبوا إليه من أهل البصرة وغيرها، واجتمع الجميع بالنهروان وصارت لهم شوكة ومنعة، وهم جند مستقلون وفيهم شجاعة وعندهم أنهم متقربون بذلك.
فهم لا يصطلى لهم بنار، ولا يطمع في أن يؤخذ منهم بثأر، وبالله المستعان.
وقال أبو مخنف عن أبي روق عن الشعبي: أن عليا لما خرجت الخوارج إلى النهروان وهرب أبو موسى إلى مكة، ورد ابن عباس إلى البصرة، قام في الناس بالكوفة خطيبا فقال: الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدثان الجليل الكادح، وأشهد أن لا إله غيره وأن محمدا رسول الله، أما بعد فإن المعصية تشين وتسوء وتورث الحسرة، وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وفي هذه الحكومة بأمري، ونحلتكم رأيي، فأبيتم إلا ما أردتم، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن: (2) بذلت لهم نصحي بمنعرج اللوى (3) * فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد ثم تكلم فيما فعله الحكمان فرد عليهما ما حكما به وأنبهما، وقال ما فيه حط عليهما، ثم ندب
__________
(1) نهر جوخى: عليه كورة واسعة في سواد بغداد، وهو بين خانقين وخوزستان (معجم البلدان).
(2) في مروج الذهب 2 / 446 أخو بني جشم، وأخو جشم أو هوازن هو دريد بن الصمة أحد الفرسان المعمرين في الجاهلية، أدرك الاسلام ولم يسلم وقتل على دين الجاهلية يوم حنين.
(3) في مروج الذهب والطبري 6 / 43 أمرتهم أمري بمنعرج اللوى.
وفي شرح النهج 2 / 13: النصح بدل الرشد، وفي ابن الاعثم 4 / 102: أمرتكم أمري بمنقطع اللوى فلم تستبينوا...
الناس إلى الخروج إلى الجهاد في أهل الشام (1)، وعين لهم يوم الاثنين يخرجون فيه، وندب إلى ابن عباس والي البصرة يستنفر له الناس إلى الخروج إلى أهل الشام، وكتب إلى الخوارج يعلمهم أن الذي حكم به الحكمان مردود عليهما، وأنه قد عزم على الذهاب إلى الشام، فهلموا حتى نجتمع على قتالهم (2).
فكتبوا إليه: أما بعد فإنك لم تغضب لربك، وإنما غضبت لنفسك وإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك على سواء * (إن الله لا يحب الخائنين) * [ الانفال: 58 ]، فلما قرأ علي كتابهم يئس منهم وعزم على الذهاب إلى أهل الشام ليناجزهم، وخرج من الكوفة إلى النخيلة في عسكر كثيف - خمسة وستين ألفا - وبعث إليه ابن عباس بثلاثة آلاف ومائتي فارس من أهل البصرة مع جارية بن قدامة ألف وخمسمائة، ومع أبي الاسود الدؤلي ألف وسبعمائة، فكمل جيش علي في ثمانية وستين ألف فارس ومائتي فارس وقام علي أمير المؤمنين خطيبا: فحثهم على الجهاد والصبر عند لقاء العدو، وهو عازم على الشام، فبينما هو كذلك إذ بلغه أن الخوارج قد عاثوا في الارض فسادا وسفكوا الدماء وقطعوا السبل واستحلوا المحارم، وكان من جملة من قتلوه عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسروه وامرأته معه وهي حامل فقالوا: من أنت ؟ قال: أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وانكم قد روعتموني فقالوا: لا بأس عليك، حدثنا ما سمعت من أبيك فقال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي " (3) فاقتادوه بيده فبينما ههو يسير معهم إذ لقي بعضهم خنزيرا
لبعض أهل الذمة فضربه بعضهم فشق جلده فقال له آخر: لم فعلت هذا وهو لذمي ؟ فذهب إلى ذلك الذمي فاستحله وأرضاه وبينا هو معهم إذ سقطت تمرة من نخلة فأخذها أحدهم فألقاها في فمه، فقال له آخر: بغير إذن ولا ثمن ؟ فألقاها ذاك من فمه، ومع هذا قدموا عبد الله بن خباب فذبحوه، وجاؤوا إلى امرأته فقالت: إني امرأة حبلى، ألا تتقون الله، فذبحوها وبقروا بطنها عن ولدها، فلما بلغ الناس هذا من صنيعهم خافوا إن هم ذهبوا إلى الشام واشتغلوا بقتال أهله أن يخلفهم هؤلاء في ذراريهم وديارهم بهذا الصنع، فخافوا غائلتهم، وأشاروا على علي بأن يبدأ بهؤلاء، ثم إذا فرغ منهم ذهب إلى أهل الشام بعد ذلك والناس آمنون من شر هؤلاء فاجتمع الرأي على هذا وفيه خيرة عظيمة لهم ولاهل الشام أيضا فأرسل علي إلى الخوارج رسولا من جهته وهو الحرث بن مرة العبدي، فقال: اخبر لي خبرهم، وأعلم لي أمرهم واكتب إلي به على
__________
(1) الخطبة في الطبري 6 / 43 - 44 وبمعناها في مروج الذهب 3 / 446 ووردت في الفتوح لابن الاعثم 4 / 102 - 103 وفي البيان والتبيين للجاحظ 2 / 54 بألفاظ مختلفة فلتراجع هناك.
(2) انظر كتابه في الاخبار الطوال ص 206.
والطبري 6 / 44 وفي الفتوح لابن الاعثم: كتاب مطول من علي ج 4 / 106.
(3) الطبري 6 / 46 وطبقات ابن سعد 5 / 182 وشرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 28 والكامل للمبرد ص 560.
الجلية، فلما قدم عليهم قتلوه ولم ينظروه، فلما بلغ ذلك عليا عزم على الذهاب إليهم أولا قبل أهل الشام.
مسير أمير المؤمنين علي إلى الخوارج لما عزم علي ومن معه من الجيش على البداءة بالخوارج، نادى مناديه في الناس بالرحيل فعبر الجسر فصلى ركعتين عنده ثم سلك على دير عبد الرحمن، ثم دير أبي موسى، ثم على شاطئ الفرات، فلقيه هنالك منجم (1) فأشار عليه بوقت من النهار يسير فيه ولا يسير في غيره، فإنه يخشى عليه فخالفه علي فسار على خلاف ما قال فأظفره الله، وقال علي: إنما أردت أن أبين للناس خطأه
وخشيت أن يقول جاهل،: إنما ظفر لكونه وافقه، وسلك علي ناحية الانبار وبعث بين يديه قيس بن سعد، وأمره أن يأتي المدائن وأن يتلقاه بنائبها سعد بن مسعود، وهو أخو عبد الله بن مسعود الثقفي - في جيش المدائن فاجتمع الناس هنالك على علي، وبعث إلى الخوارج: أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم حتى أقتلهم ثم أنا تارككم وذاهب إلى العرب - يعني أهل الشام - ثم لعل الله أن يقبل بقلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه.
فبعثوا إلى علي يقولون: كلنا قتل إخوانكم ونحن مستحلون دماءهم ودماءكم.
فتقدم إليهم قيس بن سعد بن عبادة فوعظهم فيما ارتكبوه من الامر العظيم، والخطب الجسيم، فلم ينفع وكذلك أبو أيوب الانصاري أنبهم ووبخهم فلم ينجع، وتقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إليهم فوعظهم وخوفهم وحذرهم وأنذرهم وتوعدهم وقال: إنكم أنكرتم علي أمرا أنتم دعوتموني إليه فنهيتكم عنه فلم تقبلوا وها أنا وأنتم فارجعوا إلى ما خرجتم منه ولا ترتكبوا محارم الله، فإنكم قد سولت لكم أنفسكم أمرا تقتلون عليه المسلمين، والله لو قتلتم عليه دجاجة لكان عظيما عند الله، فكيف بدماء المسلمين ؟ فلم يكن لهم جواب إلا أن تنادوا فيما بينهم أن لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيئوا للقاء الرب عز وجل، الرواح الرواح إلى الجنة.
وتقدموا فاصطفوا للقتال وتأهبوا للنزال فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصن (2) الطائي السنبسي، وعلى الميسرة شريح بن أوفى، وعلى خيالتهم حمزة بن سنان، وعلى الرجالة حرقوص بن زهير السعدي.
ووقفوا مقاتلين لعلي وأصحابه.
وجعل علي على ميمنته حجر بن عدي، وعلى الميسرة شبيث بن ربعي ومعقل بن قيس الرياحي، وعلى الخيل أبا أيوب الانصاري، وعلى الرجالة أبا قتادة الانصاري، وعلى أهل المدينة - وكانوا في سبعمائة - قيس بن سعد بن عبادة، وأمر علي أبا أيوب الانصاري أن يرفع راية أمان للخوارج ويقول لهم: من جاء إلى هذه الراية فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن، إنه لا حاجة لنا فيكم إلا فيمن قتل إخواننا، فانصرف منهم طوائف كثيرون - وكانوا في أربعة آلاف - فلم يبق منهم إلا ألف
__________
(1) ذكره الكامل 3 / 343: مسافر بن عفيف الازدي.
(2) في الطبري والكامل والاخبار الطوال: حصين.
أو أقل (1) مع عبد الله بن وهب الراسبي، فزحفوا إلى علي فقدم علي بين يديه الخيل وقدم منهم الرماة وصف الرجالة وراء الخيالة، وقال لاصحابه: كفوا عنهم حتى يبدأوكم، وأقبلت الخوارج يقولون: لا حكم إلا لله، الرواح الرواح إلى الجنة، فحملوا على الخيالة الذين قدمهم علي، ففرقوهم حتى أخذت طائفة من الخيالة إلى الميمنة، وأخرى إلى الميسرة، فاستقبلهم الرماة بالنبل، فرموا وجوههم، وعطفت عليهم الخيالة من الميمنة والميسرة ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف فأناموا الخوارج فصاروا صرعى تحت سنابك الخيول، وقتل أمراؤهم عبد الله بن وهب، وحرقوص بن زهير، وشريح بن أوفى، وعبد الله بن سخبرة السلمي (2)، قبحهم الله.
قال أبو أيوب: وطعنت رجلا من الخوارج بالرمح فانفذته من ظهره وقلت له: أبشر يا عدو الله بالنار، فقال: ستعلم أينا أولى بها صليا.
قالوا: ولم يقتل من أصحاب علي إلا سبعة نفر وجعل علي يمشي بين القتلى منهم ويقول: بؤسا لكم ! لقد ضركم من غركم، فقالوا: يا أمير المؤمنين ومن غرهم ؟ قال: الشيطان وانفس بالسوء أمارة، غرتهم بالاماني وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون ثم أمر بالجرحى من بينهم فإذا هم أربعمائة، فسلمهم إلى قبائلهم ليداووهم، وقسم ما وجد من سلاح ومتاع لهم.
وقال الهيثم بن عدي في كتاب الخوارج: وحدثنا محمد بن قيس الاسدي ومنصور بن دينار عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة أن عليا لم يخمس ما أصاب من الخوارج يوم النهروان ولكن رده إلى أهله كله (3) حتى كان آخر ذلك مرجل أتي به فرده.
وقال أبو مخنف: حدثني عبد الملك بن أبي حرة أن عليا خرج في طلب ذي الثدية ومعه سليمان بن ثمامة الحنفي أبو حرة (4) والريان بن صبرة بن هوذة فوجده الرياني في حفرة على جانب النهر في أربعين أو خمسين قتيلا، قال: فلما استخرج نظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة له حلمة عليها شعرات سود، فإذا مدت امتدت حتى تحاذي يده الاخرى ثم تنزل فتعود إلى منكبه كثدي المرأة، فلما رآه علي قال: أما والله ما كذبت لولا أن تتكلوا على العمل لاخبرتكم بما قضى الله في قتالهم عارفا للحق.
وقال الهيثم بن عدي في كتابه في الخوارج: وحدثني محمد بن ربيعة
الاخنسي: عن نافع بن مسلمة الاخنسي، قال كان ذو الثدية رجلا من عرنة من بجيلة، وكان أسود شديد السواد، له ريح منتنة معروف في العسكر، وكان يرافقنا قبل ذلك وينازلنا وننازله.
__________
(1) في الطبري 6 / 49 والكامل 3 / 346: ألفين وثمانمائة.
وفي فتوح ابن الاعثم 4 / 132 أربعة آلاف.
وفي الاخبار الطوال ص 210: أقل من أربعة آلاف.
(2) في الطبري 6 / 50 والكامل 3 / 347 عبد الله بن شجرة.
وفي الاخبار الطوال ص 207: السخبر.
(3) في الطبري 6 / 50 والكامل 3 / 348 والاخبار الطوال ص 211: السلاح والدواب وما شهدوا به عليه الحرب قسمه بين المسلمين.
وأخذ ما في عسكرهم من شئ، وأما العبيد والمتاع والاماء فإنه رده على أهله.
وفي الاخبار الطوال: وما سوى ذلك (السلاح والدواب...) فأمر أن يدفع إلى وراثهم...(4) في الطبري: أبو جبرة.
وحدثني أبو إسماعيل الحنفي عن الريان بن صبرة الحنفي.
قال: شهدنا النهروان مع علي، فلما وجد المخدج سجد سجدة طويلة.
وحدثني سفيان الثوري عن محمد بن قيس الهمداني عن رجل من قومه يكنى أبا موسى أن عليا لما وجد المخدج سجد سجدة طويلة.
وحدثني يونس بن أبي إسحاق، حدثني إسماعيل عن حبة العرني.
قال: لما أقبل أهل النهروان جعل الناس يقولون: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي قطع دابرهم.
فقال علي: كلا والله إنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء، فإذا خرجوا من بين الشرايين فقل ما يلقون أحدا إلا ألبوا أن يظهروا عليه، قال: وكان عبد الله بن وهب الراسبي قد قحلت مواضع السجود منه من شدة اجتهاده وكثرة السجود، وكان يقال له: ذو البينات.
وروى الهيثم عن بعض الخوارج أنه قال: ما كان عبد الله بن وهب من بغضه عليا يسميه إلا الجاحد.
وقال الهيثم بن عدي: ثنا إسماعيل، عن خالد، عن علقمة بن عامر، قال: سئل علي عن أهل النهروان أمشركون هم ؟ فقال: من الشرك فروا، قيل أفمنافقون ؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا: فقيل فما هم يا أمير المؤمنين ؟ قال: إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا.
فهذا ما أورده ابن جرير وغيره في هذا
المقام.
ما ورد فيهم من الاحاديث الشريفة الحديث الاول: عن علي رضي الله عنه، ورواه عنه زيد بن وهب، وسويد بن غفلة، وطارق بن زياد، وعبد الله بن شداد، وعبيد الله بن أبي رافع، وعبيدة بن عمرو السلماني، وكليب أبو عاصم، وأبو كثير وأبو مريم، وأبو موسى، وأبو وائل الوضي فهذه اثنتا عشرة طريقا إليه ستراها بأسانيدها وألفاظها ومثل هذا يبلغ حد التواتر.
الطريق الاولى قال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا عبد بن حميد، ثنا عبد الرزاق، عن همام، ثنا عبد الملك بن أبي سليمان، ثنا سلمة بن كهيل، حدثني زيد بن وهب الجهني أنه كان في الجيش الذين كانوا مع [ علي ] الذين ساروا إلى الخوارج فقال علي: يا أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يخرج قوم من أمتي يقرأون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشئ، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشئ، ولا صيامكم إلى صيامهم بشئ، يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم [ لا تجاوز صلاتهم تراقيهم.
يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية ]، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم لا تكلوا على العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس لها ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض، فيذهبون إلى معاوية وأهل الشاع ويتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم، وإني لارجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس، فسيروا على اسم الله.
قال
سلمة: فذكر زيد بن وهب منزلا منزلا حتى مروا على قنطرة فلما التقينا - وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي - فقال لهم: ألقوا الرماح وسلوا سيوفكم وكسروا جفونها فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء، فرجعوا.
فوحشوا برماحهم وسلوا السيوف فشجرهم الناس برماحهم.
قال: وقتل بعضهم على بعض وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان، قال علي:
التمسوا فيهم المخدج، فالتمسوه فلم يجدوه، فقام علي بنفسه حتى أتى ناسا بعضهم إلى بعض، فقال: أخروه فوجدوه مما يلي الارض فقال: أخروهم فوجدوهم مما يلي الارض فكبر ثم قال: صدق الله وبلغ رسوله قال: فقام إليه عبيدة السلماني فقال: يا أمير المؤمنين والله الذي لا إله إلا هو لسمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أي والله الذي لا إله إلا هو، فاستحلفه ثلاثا وهو يحلف له أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1)، هذا لفظ مسلم.
وقد رواه أبو داود عن الحسن بن علي الخلال عن عبد الرزاق بنحوه.
طريق أخرى عن علي قال الامام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا الاعمش، وعبد الرحمن عن سفيان عن الاعمش بن خيثمة عن سويد بن غفلة قال قال علي: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلان أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يخرج قوم من أمتي في آخر الزمان أحداث الاسنان، سفهاء الاحلام، يقولون من قول خير البرية يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم - قال عبد الرحمن لا يجاوز إيمانهم حناجرهم - يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قاتلهم عند الله يوم القيامة " (2) وأخرجاه في الصحيحين من طرق عن الاعمش به.
طريق أخرى قال الامام أحمد: حدثنا أبو نعيم ثنا الوليد بن القاسم الهمداني، ثنا إسرائيل عن إبراهيم بن عبد الاعلى، عن طارق بن زياد قال: سار علي إلى النهروان قال الوليد في روايته: وخرجنا معه لقتل الخوارج فقال اطلبوا المخدج فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سيجئ قوم يتكلمون بكلمة الحق لا تجاوز حلوقهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية سيماهم أو فيهم رجل
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الزكاة - 48 باب - ح (156) ص 2 / 748 - 749.
وأبو داود في السنة باب في قتال الخوارج ح 4768 ص 4 / 244 - ما بين معكوفين زيادة من مسلم.
- سرح الناس: ماشيهم السائمة.
جفون السيوف: أغمادها.
وحشوا برماحمهم: رموا بها عن بعد منهم.
(2) أخرجه البخاري في المناقب (25) باب علامات النبوة في الاسلام.
ومسلم في الزكاة (48) باب ح (154) ص (2 / 746).
والامام أحمد في مسند ج 1 / 81.
أسود مخدج اليد في يده شعرات سود، إن كان فيهم فقد قتلتم شر الناس، وإن لم يكن فيهم فقد قتلتم خير الناس.
قال الوليد، في روايته: فبكينا قال: إنا وجدنا المخدج فخررنا سجودا وخر علي ساجدا معنا " تفرد به أحمد من هذا الوجه.
طريق أخرى رواه عبد الله بن شداد عن علي كما تقدم قريبا إيراده بطوله.
طريق أخرى عن علي قال مسلم: حدثني أبو الطاهر ويونس بن عبد الاعلى ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الاشج عن بشر (1) بن سعيد، عن عبيد الله بن أبي رافع، مولى رسول الله أن الحرورية لما خرجت - وهو مع علي بن أبي طالب - قالوا: لا حكم إلا لله، قال علي: كلمة حق أريد بها باطل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناسا إني لاعرف صفتهم في هؤلاء، يقولون: الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم - وأشار إلى حلقه - من أبغض خلق الله منهم أسود إحدى يديه طبي (2) شاة أو حلمة ثدي " فلما قتلهم علي بن أبي طالب قال: انظروا فنظروا فلم يجدوا شيئا فقال: ارجعوا فانظروا، فوالله ما كذبت ولا كذبت - مرتين أو ثلاثا - فوجده في خربة فأتوا به عليا حتى وضعوه بين يديه، قال عبيد الله: وأنا حاضر ذلك من أمرهم، وقول علي فيهم، زاد يونس في روايته قال بكير: وحدثني رجل عن ابن حنين أنه قال: رأيت ذلك الاسود (3).
تفرد به مسلم.
طريق أخرى قال أحمد: حدثنا إسماعيل، ثنا أيوب، عن محمد، عن عبيدة عن علي قال: ذكرت
الخوارج عند علي فقال: فيهم مخدج اليد أو مثدون اليد ؟ - أو قال مودن اليد - ولولا أن تبطروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونكم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، قال قلت: أنت سمعته من محمد ؟ قال: إي ورب الكعبة إي ورب الكعبة، إي ورب الكعبة، وقال أحمد: ثنا وكيع، ثنا جرير بن حازم، وأبو عمرو بن العلاء عن ابن سيرين سمعاه عن عبيدة عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخرج قوم فيهم رجل مودن اليد أو مثدون اليد أو مخدج اليد ولولا أن تبطروا لانبأتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، قال عبيدة قلت لعلي: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: إي ورب الكعبة إي ورب الكعبة.
وقال أحمد: ثنا يزيد ثنا هشام عن محمد عن عبيدة قال
__________
(1) في مسلم: بسر.
(2) طبي شاة: المراد به ضرع شاة وهو فيها مجاز واستعارة وإنما أصله للكلبة والسباع.
(3) أخرجه مسلم في الزكاة - (48) باب.
ح 157 ص 2 / 749.
قال علي لاهل النهروان: فيهم رجل مثدون اليد أو مخدوج اليد، ولولا أن تبطروا لاخبرتكم بما قضى الله عليه لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لمن قتلهم، قال عبيدة: فقلت لعلي: أنت سمعته ؟ قال: إي ورب الكعبة، يحلف عليها ثلاثا.
وقال أحمد: ثنا ابن أبي عدي عن ابن عون عن محمد قال قال عبيدة: لا أحدثك إلا ما سمعت منه، قال محمد: فحلف لنا عبيدة ثلاث مرات، وحلف له علي قال قال: لولا أن تبطروا لانبأتكم ما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم قال: قلت أنت سمعته ؟ قال: إي ورب الكعبة، إي ورب الكعبة، إي ورب الكعبة، فيهم رجل مخدج اليد أو مثدون اليد أحسبه قال: أو مودن اليد.
وقد رواه مسلم من حديث إسماعيل بن علية وحماد بن زيد كلاهما عن أيوب وعن محمد بن المثنى عن ابن أبي عدي عن ابن عون كلاهما عن محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي (1).
وقد ذكرناه من طرق متعددة تفيد القطع عند كثيرين عن محمد بن سيرين.
وقد حلف علي أنه سمعه من عبيدة وحلف عبيدة أنه سمعه من علي أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال علي: لان أخر من السماء إلى الارض أحب إلي من أن أكذب على
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
طريق أخرى قال عبد الله بن الامام أحمد بن حنبل: حدثني إسماعيل أبو معمر، ثنا عبد الله بن إدريس، ثنا عاصم بن كليب، عن أبيه قال: كنت جالسا عند علي إذ دخل رجل عليه ثياب السفر فاستأذن على علي وهو يكلم الناس فشغل عنه فقال علي: إني دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة فقال: " كيف أنت ويوم كذا وكذا ؟ فقلت: الله ورسوله أعلم.
قال: فقال قوم يخرجون من قبل المشرق يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فيهم رجل مخدج اليد كأن يديه يدي حبشية، أنشدكم بالله هل أخبرتكم أنه فيهم " (2) فذكر الحديث بطوله، ثم رواه عبد الله بن أحمد عن أبي خيثمة زهير بن حرب عن القاسم بن مالك عن عاصم بن كليب عن أبيه عن علي.
فذكر نحوه إسناده جيد.
طريق أخرى قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: أخبرنا أبو القاسم الازهري، أنا علي بن عبد الرحمن الكناني أنا محمد بن عبد الله بن عطاء، عن سليمان الحضرمي، أنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، أنا خالد بن عبيد الله، عن عطاء بن السائب، عن ميسرة قال قال أبو جحيفة: قال علي حين فرغنا من الحرب إن فيهم رجلا ليس في عضده عظم ثم عضده كحلمة
__________
(1) أخرجه مسلم في الزكاة 2 / 747 - 748 ح 155 - 156.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 1 / 160.
الثدي عليها شعرات طوال عقف، فالتمسوه فلم يجدوه قال: فما رأيت عليا جزع جزعا أشد من جزعه يومئذ، فقالوا: ما نجده يا أمير المؤمنين.
فقال: ويلكم ما اسم هذا المكان ؟ قالوا: النهروان، قال: كذبتم إنه لفيهم، فثورنا القتلى فلم نجده فعندنا إليه فقلنا: يا أمير المؤمنين ما نجده، قال: ما اسم هذا المكان ؟ قلنا: النهروان، قال: صدق الله ورسوله وكذبتم، إنه
لفيهم فالتمسوه فوجدناه في ساقية فجئنا به فنظرت إلى عضده ليس فيها عظم وعليها كحلمة ثدي المرأة عليها شعرات طوال عقف.
طريق أخرى قال الامام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، ثنا إسماعيل بن مسلم العبدي، ثنا أبو كثر مولى الانصار قال: كنت مع سيدي مع علي بن أبي طالب حيث قتل أهل النهروان، فكأن الناس وجدوا في أنفسهم من قتلهم، فقال علي: يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم " قد حدثنا بأقوام يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يرجعون فيه أبدا حتى يرجع السهم على فوقه (1)، وإن آية ذلك أن فيهم رجلا أسود مخدج اليد إحدى يديه كثدي المرأة، لها حلمة كحلمة ثدي المرأة، حوله سبع هلبات فالتمسوه فإني أراه فيهم، فالتمسوه فوجده إلى شفير النهر تحت القتلى فأخرجوه فكبر علي، فقال: الله أكبر ! صدق الله ورسوله، وإنه لمتقلد قوسا له عربية فأخذها بيده فجعل يطعن بها في مخدجته ويقول: صدر الله ورسوله.
وكبر الناس حين رأوه واستبشروا وذهب عنهم ما كانوا يجدون " (2) تفرد به أحمد.
طريق أخرى قال عبد الله بن أحمد: حدثنا أبو خيثمة ثنا شبابة بن سوار، حدثني نعيم بن حكيم، حدثني أبو مريم ثنا علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن قوما يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، علامتهم رجل مخدج " وقال أبو داود في سننه: حدثنا بشر بن خالد، ثنا شبابة بن سوار، عن نعيم بن حكيم، عن أبي مريم قال: إن كان ذاك المخدج لمعنا يومئذ في المسجد نجالسه الليل والنهار، وكان فقيرا، ورأيته مع المساكين يشهد طعام علي مع الناس، وقد كسوته برنسا لي، قال أبو مريم: وكان المخدج يسمى نافعا ذا الثدية، ودان في يده مثل ثدي المرأة على رأسه حلمة مثل حلمة الثدي عليه شعرات مثل سبالة السنور (3).
__________
(1) فوق السهم.
موضع الوتر منه.
والجمع: أفواق وفوق: وقيل: مشق رأس السهم.
حيث يقع الوتر.
(2) أخرجه الامام أجمد في مسنده ج 1 / 88.
(3) سنن أبي داود - كتاب السنة ح (4770) ص 4 / 245.
طريق أخرى قال الحافظ البيهقي في الدلائل: أخبرنا أبو علي الروزباري أنا أبو محمد بن عمرو بن شوذب المقري الواسطي بها ثنا شعيب بن أيوب، ثنا أبو [ نعيم ] (1) الفضل بن دكين، عن سفيان - هو الثوري - عن محمد بن قيس، عن أبي موسى رجل من قومه قال: كنت مع علي فجعل يقول: التمسوا المخدج فالتمسوه فلم يجدوه، قال: فأخذ يعرق ويقول: والله ما كذبت ولا كذبت، فوجدوه في نهر أو دالية فسجد.
طريق أخرى قال أبو بكر البزار: حدثني محمد بن مثنى ومحمد بن معمر ثنا عبد الصمد، ثنا سويد بن عبيد العجلي، ثنا أبو مؤمن.
قال: شهدت علي بن أبي طالب يوم قتل الحرورية وأنا مع مولاي فقال: انظروا فإن فيهم رجلا إحدى يدي مثل ثدي المرأة، وأخبرني النبي صلى الله عليه وسلم أني صاحبه، فقلبوا القتلى فلم يجدوه، وقالوا: سبعة نفر تحت النخلة لم نقلبهم بعد، قال: ويلكم انظروا، قال أبو مؤمن: فرأيت في رجليه حبلين يجرونه بهما حتى ألقوه بين يديه فخر علي ساجدا وقال: أبشروا قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار، ثم قال البزار: لا نعلم روى أبو موسى عن علي غير هذا الحديث.
طريق أخرى قال البزار: حدثنا يوسف بن موسى، ثنا إسحاق بن سليمان الرازي، سمعت أبا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت قال: قلت لشقيق بن سلمة - يعني أبا وائل - حدثني عن ذي الثدية، قال: لما قاتلناهم قال علي: اطلبوا رجلا علامته كذا وكذا، فطلبناه فلم نجده، فبكى وقال: اطلبوه، فوالله ما كذبت ولا كذبت، قال: فطلبناه فلم نجده فبكى وقال: اطلبوه فوالله ما
كذبت ولا كذبت، قال: فطلبناه فلم نجده قال: وركب بغلته الشهباء فطلبناه فوجدناه تحت بردى فلما رآه سجد.
ثم قال البزار: لا نعلم روى حبيب عن شقيق عن علي إلا هذا الحديث.
طريق أخرى قال عبد الله بن أحمد: حدثني عبيد الله بن عمرو القواريري ثنا حماد بن زيد، ثنا جميل بن مرة، عن أبي الوضي قال: شهدت عليا حين قتل أهل النهروان قال: التمسوا المخدج: فطلبوه في القتلى فقالوا ليس نجده فقال: ارجعوا فالتمسوه فوالله ما كذبت ولا كذبت، فرجعوا فطلبوه فردد ذلك مرارا، كل ذلك يحلف بالله ما كذبت ولا كذبت، فانطلقوا فوجدوه تحت القتلى في طين
__________
(1) من الدلائل 6 / 433.
فاستخرجوه فجئ به، قال أبو الوضي: فكأني انظر إليه حبشي عليه ثدي قد طبق، إحدى يديه مثل ثدي المرأة، عليها شعرات مثل شعرات تكون على ذنب اليربوع " (1) وقد رواه أبو داود عن محمد بن عبيد بن حساب، عن حماد بن زيد، ثنا جميل بن مرة ثنا أبو الوضي - واسمه عباد بن نسيب - ولكنه اختصره وقال عبد الله بن أحمد أيضا: حدثنا حجاج بن يوسف الشاعر، حدثني عبد الصمد بن عبد الوارث ثنا يزيد بن أبي صالح أن أبا الوضي عبادا حدثه أنه قال: كنا عائدين إلى الكوفة مع علي بن أبي طالب.
فلما بلغنا مسيرة ليلتين أو ثلاثا من حروراء شذ منا ناس كثيرون فذكرنا ذلك لعلي فقال: لا يهولنكم أمرهم فإنهم سيرجعون فذكر الحديث بطوله قال: فحمد الله علي بن أبي طالب وقال: إن خليلي أخبرني أن قائد هؤلاء رجل مخدج اليد على حلمة ثديه شعرات كأنهن ذنب اليربوع، فالتمسوه فلم يجدوه فأتيناه فقلنا: إنا لم نجده، فجعل يقول: اقلبوا ذا، اقلبوا ذا ؟ حتى جاء رجل من أهل الكوفة فقال: هو هذا ؟ فقال علي: الله أكبر، لا يأتيكم أحد يخبركم من أبوه، فجعل الناس يقولون: هذا مالك، هذا مالك فقال علي: ابن من (2) ؟ وقال عبد الله بن أحمد أيضا: حدثني حجاج بن الشاعر حدثني عبد الصمد بن عبد الوارث ثنا يزيد بن أبي صالح أن أبا الوضي عبادا حدثه قال: كنا دين الى الكوفة مع علي فذكر حديث المخدج قال
علي: " فوالله ما كذبت ولا كذبت ثلاثا، ثم قال علي: أما أن خليلي أخبرني بثلاثة إخوة من الجن هذا أكبرهم والثاني له جمع كثير، والثالث فيه ضعف " (3) وهذا السياق فيه غرابة جدا.
وقد يمكن أن يكون ذو الثدية من الجن ؟ بل هو من الشياطين إما شياطين الانس أو شياطين الجن، إن صح هذا السياق والله تعالى أعلم.
والمقصود أن هذه طرق متواترة عن علي إذ قد روي من طرق متعددة عن جماعة متباينة لا يمكن تواطؤهم على الكذب، فأصل القصة محفوظ وإن كان بعض الالفاظ وقع فيها اختلاف بين الرواة ولكن معناها وأصلها الذي تواطأت الروايات عليه صحيح لا يشك فيه عن علي أنه رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن صفة الخوارج وذي الثدية الذي هو علامة عليهم، وقد روي ذلك من طريق جماعة من الصحابة غير علي كما تراها بأسانيدها وألفاظها وبالله المستعان.
وقد رواه جماعة من الصحابة منهم أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، ورافع بن عمرو الغفاري، وسعد بن أبي وقاص، وأبو سعيد سعد بن مالك بن سنان الانصاري، وسهل بن حنيف، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن مسعود، وعلي، وأبو ذر، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين.
وقد قدمنا حديث علي بطرقه لانه أحد الخلفاء الاربعة وأحد العشرة وصاحب القصة.
__________
(1) مسند الامام أحمد 1 / 139 - 140.
ورواه أبو داود في السنة - قتل الخوارج ح (4769) ص 4 / 245.
(2) رواه الامام أحمد في مسنده ج 1 / 140 - 141.
(3) رواه الامام أحمد في مسنده ج 1 / 141.
ولنذكر بعده حديث ابن مسعود لتقدم وفاته على وقعة الخوارج.
الحديث الثاني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن أبي بكير، ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن ذر، عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يخرج قوم في آخر الزمان سفهاء الاحلام، أحداث - أو حدثاء - الاسنان، يقولون من خير قول الناس يقرأون القرآن بألسنتهم لا يعدو تراقيهم، يمرقون
من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية، فمن أدركهم فليقتلهم فإن في قتلهم أجرا عظيما عند الله لمن قتلهم " (1) وقد رواه الترمذي عن أبي كريب وأخرجه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة وعبد الله بن عامر بن زرارة ثلاثتهم عن أبي بكر بن عياش به، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ابن مسعود مات قبل ظهور الخوارج بنحو من خمس سنين فخبره في ذلك من أقوى الاسانيد.
الحديث الثالث عن أنس بن مالك قال الامام أحمد: حدثنا إسماعيل ثنا سليمان التميمي ثنا أنس قال: ذكر لي أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال - ولم أسمعه منه -: " إن فيكم فرقة يتعبدون ويدينون حتى يعجبوا الناس وتعجبهم أنفسهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " (2).
طريق أخرى قال الامام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، ثنا الاوزاعي حدثني قتادة، عن أنس بن مالك وأبي سعيد قال أحمد: وقد حدثنا أبو المغيرة فقال: عن أنس عن أبي سعيد، ثم رجع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سيكون في أمتي اختلاف وفرقة قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يرجعون حتى يرتد السهم على فوقه، هم شر الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شئ، من قاتلهم كان أولى بالله منهم،.
قالوا: يا رسول الله ما سيماهم ؟ قال: التحليق " (3).
وقد رواه أبو داود في سننه عن نصر بن عاصم الانطاكي عن الوليد بن مسلم وقيس بن إسماعيل الحلبي كلاهما عن الاوزاعي عن قتادة وأبي سعيد عن أنس به.
وأخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الرزاق عن معمر عن قتادة
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده 1 / 404 وابن ماجه في المقدمة ح (167) (ص 1 / 59) والترمذي في الفتن: باب (24) في صفة المارقة ح (2188) ص (4 / 481).
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 3 / 183، 189.
(3) أخرجه الامام أحمد في مسنده 3 / 224.
وأبو داود في سننه ح (4765) و (4766) ص 4 / 243 - 244.
وأخرجه ابن ماجة في المقدمة ح (175) ص (1 / 62).
عن أنس وحده.
وقد روى البزار من طريق أبي سفيان وأبو يعلى من طريق يزيد الرقاشي كلاهما عن أنس بن مالك حديثا في الخوارج قريبا من حديث أبي سعيد كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
الحديث الرابع عن جابر بن عبد الله قال الامام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، ثنا ابن شهاب، عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الجعرانة وهو يقسم فضة في ثوب بلال للناس فقال رجل: يا رسول الله اعدل، فقال: " ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ لقد خبت إن لم أكن أعدل، فقال عمر: يا رسول الله دعني أقتل هذا المنافق، فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، أو تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية " (1) وقال أحمد: حدثنا علي بن عياش، ثنا إسماعيل بن عياش، حدثني يحيى بن سعيد أخبرني أبو الزبير قال: سمعت جابرا يقول: بصر عيني وسمع أذني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وفي ثوب بلال فضة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبضها للناس يعطيهم، فقال رجل: اعدل فقال: " ويلك من يعدل إذا لم أكن أعدل ؟ فقال عمر بن الخطاب: دعني أقتل هذا المنافق الخبيث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " (2).
ثم رواه أحمد عن أبي المغيرة عن معاذ بن رفاعة ثنا أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم هوازن بالجعرانة (3) قام رجل من بني تميم فقال: اعدل يا محمد فقال: " ويلك ومن يعدل إن لم أعدل ؟ لقد خبت وخسرت إن لم أعدل قال: فقال عمر: يا رسول الله ألا أقوم فأقتل هذا المنافق ؟ قال: معاذ الله أن يتسامع الامم أن محمدا يقتل أصحابه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا وأصحابا له يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية "
قال معاذ: فقال لي أبو الزبير: فعرضت هذا الحديث على الزهري فما خالفني فيه إلا أنه قال النضو (4) وقلت القدح قال: ألست رجلا عربيا ؟ وقد رواه مسلم عن محمد بن رمح، عن الليث، وعن محمد بن مثنى عن عبد الوهاب الثقفي وأخرجه النسائي من حديث الليث ومالك بن أنس كلهم عن يحيى بن سعيد الانصاري به بنحوه حديث رافع بن عمرو الانصاري مع حديث أبي ذر رضي الله عنهما.
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده 3 / 56، 353، 355.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 3 / 354 وأخرجه مسلم في الزكاة (47) باب.
ح (142).
(3) الجعرانة: قال ياقوت بكسر الجيم اجماعا، هي ماء بين مكة والطائف وهي إلى مكة أقرب قال الباجي: بينه وبين مكة ثمانية عشر ميلا قرأها أصحاب الحديث بتشديد الراء واللغويون بتخفيفها.
(4) النضو: السهم بلا نصل ولا ريش.
الحديث الخامس عن سعد بن أبي وقاص قال يعقوب بن سفيان: حدثنا الحميدي ثنا سفيان - هو ابن عيينة - حدثني العلاء بن أبي عياش أنه سمع أبا الطفيل يحدث عن بكر بن قرواش عن سعد بن أبي وقاص قال: " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا الثدية فقال: شيطان الردهة كراعي الخيل يحتذره رجل من بجيلة يقال له: الاشهب أو ابن الاشهب علابة في قوم ظلمة " قال سفيان: فأخبرني عمار الدهني (1) أنه جاء رجل يقال له: الاشهب.
وقد روى هذا الحديث الامام أحمد عن سفيان بن عيينة به مختصرا ولفظه " شيطان الردهة يحتذره رجل من بجيلة " تفرد به أحمد.
وحكى البخاري عن علي بن المديني قال: لم اسمع بذكر بكر بن قرواش إلا في هذا الحديث.
وروى يعقوب بن سفيان عن عبد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة عن أبي إسحاق عن حامد الهمداني قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: " قتل علي شيطان الردهة " قال الحافظ أبو بكر البيهقي: يريد والله أعلم قتله أصحاب علي بأمره (2).
وقال الهيثم بن عدي: حدثنا إسرائيل بن يونس عن جده أبي إسحاق السبيعي عن رجل قال: بلغ
سعد بن أبي وقاص أن عليا بن أبي طالب قتل الخوارج فقال: قتل علي بن أبي طالب شيطان الردهة.
الحديث السادس عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الانصاري وله طرق عنه الاولى منها قال الامام أحمد: حدثنا بكر بن عيسى، ثنا جامع بن قطر الحبطي، ثنا أبو روية شداد بن عمر العنسي عن أبي سعيد الخدري أن أبا بكر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني مررت بوادي كذا وكذا فإذا رجل متخشع حسن الهيئة يصلي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اذهب إليه فاقتله " قال فذهب إليه أبو بكر فلما رآه على تلك الحالة كره أن يقتله.
فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: " اذهب إليه فاقتله " قال: فذهب عمر فرآه على تلك الحال التي رآه أبو بكر فكره أن يقتله فرجع فقال: يا رسول الله إني رأيته متخشعا فكرهت أن أقتله.
قال: " يا علي اذهب فاقتله " فذهب علي فلم يره فرجع، فقال: يا رسول الله إني لم أره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية لا يعودون فيه حتى يعود السهم في فوقه فاقتلوهم هم شرى البرية " (3) تفرد به أحمد.
وقد روى البزار في
__________
(1) من دلائل البيهقي 6 / 434 وتقريب التهذيب.
وفي الاصل الذهبي تحريف.
وأخرج الحديث الامام أحمد في مسنده ج 1 / 179.
(2) انظر دلائل النبوة للبيهقي ج 6 / 434.
(3) أخرجه أحمد في المسند 3 / 15.
مسنده من طريق الاعمش عن أبي سفيان عن أنس بن مالك وأبو يعلى عن أبي خيثمة عن عمر بن يونس عن عكرمة بن عمار وعن يزيد الرقاشي عن أنس من هذه القصة وأطول منها وفيها زيادات أخرى.
الطريق الثاني
قال الامام أحمد: حدثنا أبو أحمد، ثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن الضحاك المشرقي، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث " ذكر قوما يخرجون على فرقة من الناس مختلفة يقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق " (1) أخرجاه في الصحيحين كما سيأتي في ترجمة أبي سلمة عن أبي سعيد.
الطريق الثالث قال الامام أحمد: ثنا وكيع، ثنا عكرمة بن عمار، ثنا عاصم بن شميخ، عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حلف فاجتهد في اليمن قال " والذي نفس أبي القاسم بيده ليخرجن قوم من أمتي تحقرون أعمالكم عند أعمالهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية.
فالوا: فهل من علامة يعرفون بها ؟ قال: فيهم رجل ذو يديه أو ثدية محلقي رؤوسهم " (2) قال أبو سعيد فحدثني عشرون أو بضع وعشرون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن عليا ولي قتلهم قال فرأيت أبا سعيد بعد ما كبر ويديه ترتعش ويقول: قتالهم عندي أحل من قتال عدتهم من الترك.
وقد رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل به.
الطريق الرابع قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنا سفيان، عن أبيه عن ابن أبي نعيم، عن أبي سعيد الخدري قال: " بعث علي وهو باليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذهيبة في تربتها فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الاقرع بن حابس الحنظلي ثم أحد بني مجاشع، وبين عيينة بن بدر الفزاري وبين علقمة بن علاثة أو عامر بن الطفيل أحد بني كلاب، وبين زيد الخيل الطائي، ثم أحد بني نبهان.
قال: فغضبت قريش والانصار قالوا تعطي صناديد أهل نجد وتدعنا ؟ قال: إنما أتألفهم.
قال: فأقبل رجل غائر العينين ناتئ الجبين كث اللحية مشرف الوجنتين محلوق الرأس فقال: يا محمد اتق الله فقال: من يطيع الله إذا عصيته ؟ يأمنني على أهل الارض ولا تأمنوني، قال: فسأل رجل من القوم قتله النبي صلى الله عليه وسلم - أراه خالد بن الوليد - فمنعه، فلما ولي قال: إن ضئضئ هذا قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الاسلام مروق السهم من الرمية
__________
(1) أخرجه مسلم في الزكاة، (47) باب ذكر الخوارج، ح (153) ص (2 / 746).
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده 1 / 184، 2 / 323.
يقتلون أهل الاسلام ويدعون أهل الاوثان، لئن أنا أدركتهم لاقتلهم قتل عاد (1).
رواه البخاري من حديث عبد الرزاق به، ثم رواه أحمد عن محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد وفيه الجزم بأن خالدا سأل أن يقتل ذلك الرجل، ولا ينافي سؤال عمر بن الخطاب.
وهو في الصحيحين من حديث عمارة بن القعقاع من سيرته: وقال فيه إنه سيخرج من صلبه ونسله، لان الخوارج الذين ذكرنا لم يكونوا من سلالة هذا، بل ولا أعلم أحدا منهم من نسله وإنما أراد من ضئضئ هذا أي من شكله وعلى صفته فالله أعلم.
وهذا الرجل هو ذو الخويصرة التميمي وسماه بعضهم حرقوصا.
فالله أعلم.
الطريق الخامس قال الامام أحمد: ثنا عفان، ثنا مهدي بن ميمون، ثنا محمد بن سيرين، عن معبد بن سيرين، عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يخرج أناس من قبل المشرق يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم على فوقه، قيل، ما سيماهم ؟ قال: سيماهم التحليق أو التسبيد " (2) ورواه البخاري عن أبي النعمان محمد بن الفضل عن مهدي بن ميمون به.
الطريق السادس قال الامام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد ثنا سويد بن نجيح عن يزيد الفقير قال: قلت لابي سعيد: إن منا رجالاهم أقرؤنا القرآن، وأكثرنا صلاة وأوصلنا للرحم، وأكثرنا صوما، خرجوا علينا بأسيافهم.
فقال أبو سعيد: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " يخرج قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " تفرد به أحمد ولم يخرجوه في الكتب الستة ولا واحد منهم، وإسناده لا بأس به رجاله كلهم ثقات وسويد بن نجيح هذا مستور.
الطريق السابع قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسما إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله.
فقال: " ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله أتأذن لي فيه فأضرب عنقه ؟ فقال: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم،
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده 3 / 73 وأخرجه البخاري في الانبياء (6) باب.
ومسلم في الزكاة (47) باب.
ح (143) ص 2 / 741.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 3 / 64 ورواه البخاري في علامات النبوة - وقال أبو داود: التسبيد: استئصال الشعر.
وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فينظر في قذذه (1) فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر في نضيه فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر في رصافه فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شئ، قد سبق الفرث (2) والدم، آيتهم رجل أسود إحدى يديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فترة من الناس، فنزلت فيه * (ومنهم من يلمزك في الصدقات) * الآية [ التوبة: 58 ] " قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن عليا حين قتلهم وأنا معه جئ بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
ورواه البخاري عن أبي بكر بن أبي شيبة عن هشام بن يوسف عن معمر، ورواه البخاري من حديث شعبة، ومسلم من حديث يونس بن يزيد عن الزهري به، لكن في رواية مسلم عن حرملة وأحمد بن عبد الرحمن كلاهما عن ابن وهب عن يونس عن الزهري عن أبي سلمة، والضحاك الهمداني عن أبي سعيد به.
ثم رواه أحمد عن محمد بن مصعب عن الاوزاعي عن الزهري عن أبي سلمة والضحاك المشرقي عن أبي سعيد فذكر نحو ما تقدم من هذا السياق، وفيه أن عمر هو استأذن في قتله، وفيه " يخرجون على حين فرقة من الناس يقتلهم أولى الطائفتين بالله " قال أبو
سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأني شهدت عليا حين قتلهم، فالتمس في القتلى فوجد على النعت الذي نعته رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواه البخاري عن دحيم عن الوليد عن الاوزاعي كذلك.
وقال أحمد: قرأت على عبد الرحمن بن مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يرى شيئا، ثم ينظر في القدح فلا يرى شيئا، ثم ينظر في الريش فلا يرى شيئا ويتمارى في الفوق " قال عبد الرحمن: حدثنا به مالك - يعني هذا الحديث - ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به.
ورواه البخاري ومسلم عن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة وعطاء بن يسار عن أبي سعيد به وقال أحمد: حدثنا يزيد أنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة قال: جاء رجل إلى أبي سعيد فقال: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر في الحرورية شيئا ؟ فقال: سمعته يذكر قوما يتعمقون في الدين يحقر أحدكم صلاته عند صلاتهم، وصومه عند صومهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، أخذ سهمه فينظر في نصله فلم ير شيئا ثم ينظر في رصافه فلم ير شيئا، ثم ينظر في القذذ
__________
(1) القذذ: ريش السهم.
(2) أي جاوزهما ولم يعلق فيه منهما شيئا.
(3) أخرجه الامام أحمد في المسند 3 / 56.
وأخرجه البخاري في المناقب (25) باب علامات النبوة في الاسلام.
ومسلم في الزكاة (47) باب.
ح (148) ص (2 / 744 - 745) وح (159).
فيمارى هل يرى شيئا أم لا " ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون به.
الطريق الثامن قال الامام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي، عن سليمان عن أبي نضرة، عن أبي سعيد أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحليق، ثم هم شر الخلق، ومن شر الخلق، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق، قال: فضرب النبي صلى الله عليه وسلم لهم مثلا - أو قال قولا - الرجل يرمي الرمية - أو قال الغرض - فينظر في النصل فلا يرى بصيرة، وينظر في النضي فلا يرى بصيرة، وينظر في الفوق فلا يرى بصيرة " فقال أبو سعيد: وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق.
وقد رواه عن محمد بن المثنى عن محمد بن أبي عدي عن سليمان - وهو ابن طرخان التيمي عن أبي نضرة واسمه المنذر بن مالك بن قطعة عن أبي سعيد الخدري بنحوه.
الحديث الثامن عن سلمان الفارسي قال الهيثم بن عدي ثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال قال: جاء رجل إلى قوم فقال: لمن هذه الخباء ؟ قالوا: لسلمان الفارسي، قال أفلا تنطلقون معي فيحدثنا ونسمع منه، فانطلق معه بعض القوم فقال: يا أبا عبد الله لو أدنيت خباك وكنت منا قريبا فحدثتنا وسمعنا منك ؟ فقال: ومن أنت ؟ قال: فلان بن فلان.
قال سلمان: قد بلغني عنك معروف.
بلغني أنك تخف في سبيل الله، وتقاتل العدو، وتخدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن اخطأتك واحدة أن تكون من هؤلاء القوم الذين ذكرهم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالوا: فوجد ذلك الرجل قتيلا في أصحاب النهروان.
الحديث التاسع عن سهل بن حنيف الانصاري قال الامام أحمد: حدثنا أبو النضر، ثنا حزام بن إسماعيل العامري، عن أبي إسحاق الشيباني، عن بسر (1) بن عمرو قال: دخلت على سهل بن حنيف فقلت حدثني ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحرورية، قال: أحدثك ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم لا أزيدك عليه شيئا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم " يذكر قوما يخرجون من هاهنا - وأشار بيده نحو العراق - يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " قال: قلت هل ذكر لهم علامة ؟
قال: هذا ما سمعت لا أزيدك عليه (2).
وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الواحد بن
__________
(1) في المسند 2 / 486 ودلائل البيهقي 6 / 428: يسير.
(2) رواه أحمد في مسنده 2 / 486 وأخرجه مسلم في الزكاة (49) باب.
ح (159) ص 2 / 750.
والبيهقي في =
زياد ومسلم من حديث علي بن مسهر والعوام بن حوشب والنسائي من حديث محمد بن فضيل كلهم عن أبي إسحاق الشيباني به.
وقد رواه مسلم: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا علي بن مسهر عن الشيباني عن بسر (1) بن عمرو قال: سألت سهل بن حنيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الخوارج ؟ فقال: سمعته - وأشار بيده نحو المشرق - قوم يقرأون القرآن بألسنتهم لا يعدو تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية حدثناه أبو كامل ثنا عبد الواحد ثنا سليمان الشيباني بهذا الاسناد وقال: " يخرج منه أقوام " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق جميعا عن يزيد قال أبو بكر: حدثنا يزيد بن هارون عن العوام بن حوشب ثنا أبو إسحاق الشيباني عن بسر (1) بن عمرو عن سهل بن حنيف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فتنة قوم قبل المشرق محلقة رؤوسهم (2).
الحديث العاشر عن ابن عباس قال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا يوسف بن موسى، ثنا الحسن بن الربيع، ثنا أبو الاحوص عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقرأ القرآن أقوام من أمتي يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " (2).
ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة وسويد بن سعيد كلاهما عن أبي الاحوص باسناده مثله.
الحديث الحادي عشر عن ابن عمر قال الامام أحمد: حدثنا يزيد، ثنا أبو حساب يحيى بن أبي حبة، عن شهر بن حوشب قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يخرج من أمتي قوم يسيئون الاعمال يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم " قال يزيد: لا أعلمه إلا قال: " يحقر أحدكم عمله مع عملهم يقتلون أهل الاسلام فإذا خرجوا فاقتلوهم فطوبى لمن قتلهم وطوبى لمن قتلوه،
كلما طلع منهم قرن قطعة الله كلما طلع منهم قرن قطعه الله، كلما طلع منهم قرن قطعه الله " فردد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين مرة أو أكثر وأنا أسمع.
تفرد به أحمد من هذا الوجه، وقد ثبت من حديث سالم ونافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الفتنة من ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان - وأشار بيده نحو المشرق - ".
الحديث الثاني عشر عن عبد الله بن عمرو قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن قتادة، عن شهر بن حوشب قال:
__________
= الدلائل 6 / 428.
(1) انظر حاشية (1) من صفحة 334.
(2) مسلم المصدر السابق ح (160) ص 2 / 750.
(3) رواه ابن ماجه في المقدمة ج 1 / 62.
لما جاءتنا بيعة يزيد بن معاوية، قدمت الشام فأخبرت بمقام يقومه نوف البكالي، فجئته فجاء رجل فانتبذ الناس عليه خميصة فإذا هو عبد الله بن عمرو بن العاص فلما رآه نوف أمسك عن الحديث فقال عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنها ستكون هجرة بعد هجرة، ينحاز الناس إلى مهاجر إبراهيم، لا يبقى في الارض إلا شرار أهلها، تلفظهم أرضهم، تقذرهم نفس الرحمن، تحشرهم النار مع القردة والخنازير، تبيت معهم إذا باتوا، وتقيل معهم إذا قالوا، وتأكل من تخلف - " قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سيخرج ناس من أمتي قبل المشرق يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم كلما خرج منهم قرن قطع حتى عدها زيادة على عشر مرات، كلما خرج منهم قرن قطع حتى يخرج الدجال في بقيتهم (2) " وقد روى أبو داود أوله في كتاب الجهاد من سننه عن القواريري عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة.
وقد تقدم حديث عبد الله بن مسعود وحديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
الحديث الثالث عشر عن أبي ذر
قال مسلم بن الحجاج: حدثنا شيبان بن فروخ، ثنا سليمان بن المغيرة، ثنا حبيب بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن بعدي من أمتي - أو سيكون بعدي من أمتي - قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية لا يعودون فيه شر الخلق والخليقة قال ابن الصامت: فلقيت رافع بن عمرو الغفاري أخا الحاكم الغفاري (2) قال: ما حديث سمعت من أبي ذر: كذا كذا ؟ فقال: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لم يروه البخاري.
الحديث الرابع عشر عن أم المؤمنين عائشة قال الحافظ البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو، ثنا أبو العباس الاصم، ثنا السري بن يحيى، ثنا أحمد بن يونس، ثنا علي بن عياش عن حبيب بن مسلمة.
قال قال علي: " لقد علمت عائشة أن جيش المروة وأهل النهروان ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم " قال ابن عياش: جيش المشرق (3) قتلة عثمان رضي الله عنه.
وقال الهيثم بن عدي: حدثني إسرائيل، عن يونس عن جده أبي إسحاق السبيعي عن رجل عن عائشة قال: بلغها قتل علي الخوارج فقالت: قتل علي بن أبي طالب شيطان الردهة - تعني المخدج - وقال الحافظ أبو بكر
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده 2 / 84 وروى أوله أبو داود في الجهاد - باب في سكنى الشام ح (2482) ص 3 / 4.
(2) في صحيح مسلم 2 / 750: الحكم الغفاري، وفي دلائل البيهقي 6 / 629 الحكم بن عمرو الغفاري والحديث أخرجه مسلم في الزكاة ح (158).
(3) في دلائل البيهقي 6 / 434: جيش المروة.
البزار: حدثنا محمد بن عمارة بن صبيح ثنا سهل بن عامر البجلي ثنا أبو خالد عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوارج فقال: " شرار أمتي يقتلهم خيار أمتي " قال: وحدثناه إبراهيم بن سعيد ثنا حسين بن محمد ثنا سليمان بن قرم ثنا عطاء بن
السائب عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه قال: فرأيت عليا قتلهم وهم أصحاب النهروان.
ثم قال البزار: لا نعلم روي عن عطاء عن أبي الضحى عن مسروق إلا هذا الحديث، ولا نعلم رواه عن عطاء إلا سليمان بن قرم وسليمان بن قرم قد تكلموا فيه لكن الاسناد الاول يشهد لهذا كما أن هذا يشهد للاول فهما متعاضدان، وهو غريب من حديث أم المؤمنين، وقد تقدم في حديث عبد الله بن شهاب عن علي ما يدل على أن عائشة استغربت حديث الخوارج ولا سيما خبر ذي الثدية كما تقدم، وإنما أوردنا هذه الطرق كلها ليعلم الواقف عليها أن ذلك حق وصدق وهو من أكبر دلالات النبوة، كما ذكره غير واحد من الائمة فيها والله تعالى أعلم.
وقال: سألت عائشة رضي الله عنها بعد ذلك عن خبر ذي الثدية فتيقنته من طرق متعددة.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي في الدلائل: أنا أبو عبد الله، أنا الحسين بن الحسن بن عامر الكندي بالكوفة من أصل سماعه ثنا (1) محمد بن صدقة الكاتب، حدثني أحمد بن أبان فقرأت فيه حدثني الحسن بن عيينة، وعبد الله بن أبي السفر عن عامر الشعبي عن مسروق قالت عائشة: عندك علم عن ذي الثدية الذي أصابه علي في الحرورية: قلت ! لا قالت: فاكتب لي بشهادة من شهدهم، فرجعت إلى الكوفة وبها يومئذ أسباع فكتبت شهادة عشرة من كل سبع ثم أتيتها بشهادتهم فقرأتها عليها، قالت: أكل هؤلاء عاينوه ؟ قلت.
لقد سألتهم فأخبروني بأن كلهم قد عاينوه، فقالت: لعن الله فلانا فإنه كتب إلي أنه أصابهم بنيل مصر ثم أرخت عينيها فبكت فلما سكنت عبرتها قالت: رحم الله عليا لقد كان على الحق، وما كان بيني وبينه إلا كما يكون بين المرأة وأحمائها (2).
حديث آخر عن رجلين من الصحابة قال الهيثم بن عدي في كتاب الخوارج: حدثني سليمان بن المغيرة عن حبيب بن هلال قال: أقبل رجلان من أهل الحجاز حتى قدما العراق فقيل لهما: ما أقدمكما العراق ؟ قالا: رجونا أن ندرك هؤلاء القوم الذين ذكرهم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدنا علي بن أبي طالب قد سبقنا إليهم - يعنيان أهل النهروان.
__________
(1) في دلائل البيهقي: ثنا أحمد بن محمد بن صدقة الكاتب قال: حدثنا عمر بن عبد الله بن عمر بن محمد أبان بن صالح قال: هذا كتاب جدي: محمد بن أبان فقرأت فيه حدثنا الحسن بن الحر قال: حدثنا الحكم بن عتيبة وعبد الله بن أبي السفر...(2) أخرجه البيهقي في الدلائل 6 / 434 - 435.
حديث في مدح علي رضي الله عنه على قتال الخوارج قال الامام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، ثنا فطر، عن إسماعيل بن رجاء بن ربيعة الزبيدي، عن أبيه قال: سمعت أبا سعيد يقول: " كنا جلوسا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج علينا من بيوت بعض نسائه قال فقمنا معه، فانقطعت نعله فتخلف عليها علي يخصفها فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضينا معه ثم قام ينتظره وقمنا معه، فقال إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فاستشرف لها وفيهم أبو بكر، وعمر فقال: لا ولكنه خاصف النعل، قال: فجئنا نبشره قال: فكأنه قد سمعه " (1) ورواه أحمد عن وكيع وأبي أسامة عن فطر بن خليفة فأما الحديث الذي قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إسماعيل بن موسى، ثنا الربيع بن سهل، عن سعيد بن عبيد، عن علي بن ربيعة قال: سمعت عليا على منبركم هذا يقول: " عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين " وقد رواه أبو بكر بن المقرئ عن الجد بن عبادة البصري عن يعقوب بن عباد، عن الربيع بن سهل الفزاري به، فإنه حديث غريب ومنكر، على أنه قد روي من طرق عن علي وعن غيره ولا تخلو واحدة منها عن ضعف والمراد بالناكثين يعني أهل الجمل وبالقاسطين أهل الشام وأما المارقون فالخوارج لانهم مرقوا من الدين وقد رواه الحافظ أبو أحمد بن عدي في كامله عن أحمد بن حفص البغدادي عن سليمان بن يوسف، عن عبيد الله بن موسى، عن فطر، عن حكيم بن جبير، عن إبراهيم، عن علقمة عن علي قال: أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: أخبرني الازهري ثنا محمد بن المظفر، ثنا محمد بن أحمد بن ثابت قال: وجدت في كتاب جدي
محمد بن ثابت، ثنا شعيب بن الحسن السلمي، عن جعفر الاحمر، عن يونس بن الارقم، عن أبان عن خليد المصري قال: سمعت عليا أمير المؤمنين يقول يوم النهروان: " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الناكثين والمارقين والقاسطين " وقد رواه الحافظ أبو القاسم بن عساكر من حديث محمد بن فرج الجند يسابوري: أنا هارون بن إسحاق، ثنا أبو غسان عن جعفر - أحسبه الاحمر - عن عبد الجبار الهمداني، عن أنس بن عمرو، عن أبيه عن علي.
قال: " إمرت بقتال ثلاثة المارقين والقاسطين والناكثين " وقال الحاكم أبو عبد الله أنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن غنم الحنظلي بقنطرة بردان، ثنا محمد بن الحسن بن عطية بن سعد العوفي، حدثني أبي، حدثني عمي، عن عمرو بن عطية بن سعد، عن أخيه الحسن بن عطية حدثني، جدي سعد بن جنادة عن علي رضي الله عنه قال: أمرت بقتال ثلاثة، القاسطين، والناكثين، والمارقين.
فأما القاسطون فأهل الشام، وأما الناكثون فذكرهم، وأما المارقون فأهل النهروان - يعني الحرورية -
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده 3 / 82 والترمذي بمعناه في المناقب (20) باب مناقب علي ص (5 / 634) عن ربعي بن خراش عن علي بن أبي طالب.
وقال الحافظ ابن عساكر: أنا أبو القسم زاهر بن طاهر، أنا أبو سعيد الاديب، أنا السيد أبو الحسن محمد بن علي بن الحسين ثنا محمد بن أحمد الصوفي ثنا محمد بن عمرو الباهلي، ثنا كثير بن يحيى، ثنا أبو عوانة عن أبي الجارود عن زيد بن علي بن الحسين بن علي عن أبيه عن جده عن علي قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الناكثين والمارقين والقاسطين.
حديث ابن مسعود في ذلك قال الحافظ: حدثنا الامام أبو بكر أحمد بن الحسن الفقيه، أنا الحسن بن علي، ثنا زكريا بن يحيى الخراز المقرئ ثنا إسماعيل بن عباد المقرئ ثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة عن عبد الله قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى منزل أم سلمة فجاء علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أم سلمة هذا والله قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين من بعدي ".
حديث أبي سعيد في ذلك قال الحاكم: حدثنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني، ثنا الحسين بن الحكم الحيري، ثنا إسماعيل بن أبان، ثنا إسحاق بن إبراهيم الازدي، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين فقلت: يا رسول الله ! أمرتنا بقتال هؤلاء فمع من ؟ فقال: مع علي بن أبي طالب معه يقتل عمار بن ياسر ".
حديث أبي أيوب في ذلك قال الحاكم: أنا أبو الحسن علي بن حماد المعدل، ثنا إبراهيم بن الحسين بن ديزيل، ثنا عبد العزيز بن الخطاب، ثنا محمد بن كثير، عن الحرث بن خضيرة، عن أبي صادق، عن مخنف بن سليمان.
قال: أتينا أبا أيوب فقلنا: قاتلت بسيفك المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جئت تقاتل المسلمين ؟ فقال: " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الناكثين والمارقين والقاسطين " قال الحاكم: وحدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه، ثنا الحسن بن علي بن شبيب العمري، ثنا محمد بن حميد، ثنا سلمة بن الفضل، حدثني أبو زيد الاموي، عن عتاب بن ثعلبة في خلافة عمر بن الخطاب قال: " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الناكثين القاسطين والمارقين مع علي بن أبي طالب وقال الخطيب البغدادي: حدثنا الحسن بن علي بن عبد الله المقرئ ثنا أحمد بن محمد بن يوسف، ثنا محمد بن جعفر المطيري، ثنا أحمد بن عبد الله المؤدب بسر من رأى، ثنا المعلى بن عبد الرحمن ببغداد ثنا شريك عن سليمان بن مهران عن الاعمش، عن علقمة والاسود قالا: أتينا أبا أيوب الانصاري عند منصرفه من صفين فقلنا له: يا أبا أيوب ! إن الله أكرمك بنزول محمد صلى الله عليه وسلم وبمجئ ناقته تفضلا من الله وإكراما لك حين أناخت ببابك دون الناس ثم جئت بسيفك
على عاتقك تضرب به أهل لا إله إلا الله ؟ فقال: يا هذا إن الرائد لا يكذب أهله، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بقتال ثلاثة مع علي، بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.
فأما الناكثون فقد قاتلناهم
وهم أهل الجمل، طلحة والزبير، وأما القاسطون فهذا منصرفنا من عندهم - يعني معاوية وعمرا - وأما المارقون فهم أهل الطرفات وأهل السعيفات وأهل النخيلات وأهل النهروان، والله ما أدري أين هم ولكن لابد من قتالهم إن شاء الله.
قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: " يا عمار تقتلك الفئة الباغية وأنت مذ ذاك مع الحق والحق معك، يا عمار بن ياسر إن رأيت عليا قد سلك واديا وسلك الناس غيره فاسلك مع علي فإنه لن يدليك في ردى ولن يخرجك من هدى، يا عمار من تقلد سيفا أعان به عليا على عدوه قلده الله يوم القيامة وشاحين من در، ومن تقلد سيفا أعان به عدو علي عليه قلده الله يوم القيامة وشاحين من نار فقلنا: يا هذا ! حسبك رحكم الله حسبك رحكم الله "، هذا السياق الظاهر أنه موضوع وآفته من جهة المعلى بن عبد الرحمن فإنه متروك الحديث.
فصل قال الهيثم بن عدي في كتابه الذي جمعه في الخوارج وهو من أحسن ما صنف في ذلك قال: وذكر عيسى بن دآب قال: لما انصرف علي رضي الله عنه من النهروان قام في الناس خطيبا فقال: بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد فإن الله قد أعز نصركم فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم من أهل الشام فقاموا إليه فقالوا: يا أمير المؤمنين نفذت نبالنا وكلت سيوفنا ونصلت أسنتنا (1)، فانصرف بنا إلى مصرنا حتى نستعد بأحسن عدتنا، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عدتنا عدة من فارقنا وهلك منا فإنه أقوى لنا على عدونا - وكان الذي تكلم بهذا الاشعث بن قيس الكندي فبايعهم وأقبل بالناس حتى نزل بالنخيلة وأمرهم أن يلزموا معسكرهم ويوطنوا أنفسهم على جهاد عدوهم ويقلوا زيارة نسائهم وابنائهم، فأقاموا معه أياما متمسكين برأيه وقوله، ثم تسللوا حتى لم يبق منهم أحد إلا رؤوس أصحابه (2)، فقام علي فيهم خطيبا فقال: الحمد لله فاطر الخلق وفالق الاصباح وناشر الموتى وباعث من في القبور، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأوصيكم بتقوى الله فإن أفضل ما توسل به العبد الايمان والجهاد في سبيله وكلمة الاخلاص فانها الفطرة، وإقام الصلاة، فإنها الملة، وإيتاء الزكاة فإنها من
فريضته، وصوم شهر رمضان فإنه جنة من عذابه، وحج البيت فإنه منفاة للفقر مدحضة للذنب، وصلة الرحم فإنها مثراة في المال، منسأة في الاجل، محبة في الاهل، وصدقة السر فإنها تكفر الخطيئة وتطفئ غضب الرب، وصنع المعروف فإنه يدفع ميتة السوء ويقي مصارع الهول،
__________
(1) في الطبري: ونصلت أسنة رماحنا وعاد أكثرها قصدا...6 / 51.
(2) في الاخبار الطوال ص 211: لم يبق في المعسكر معه إلا زهاء ألف رجل من الوجوه.
أفيضوا في ذكر الله فإنه أحسن الذكر، وارغبوا فيما وعد المتقون فإن وعد الله أصدق الوعد، واقتدوا بهدي نبيكم صلى الله عليه وسلم فإنه أفضل الهدى، واستسنوا بسنته فإنها أفضل السنن، وتعلموا كتاب الله فإنه أفضل الحديث، وتفقهوا في الدين فإنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنه شفاء لما في الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنه أحسن القصص، وإذا قرئ عليكم فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون، وإذا هديتم لعلمه فاعملوا بما علمتم به لعلكم تهتدون، فإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الجائر الذي لا يستقيم عن جهله، بل قد رأيت أن الحجة أعظم، والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه على هذا الجاهل المتحير في جهله، وكلاهما مضلل مثبور، لا ترتابوا فتشكوا، ولا تشكوا فتكفروا، ولا ترخصوا لانفسكم فتذهلوا، ولا تذهلوا في الحق فتخسروا، ألا وان من الحزم أن تثقوا، ومن الثقة أن لا تغتروا، وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم لربه وإن أغشكم لنفسه أعصاكم لربه، من يطع الله يأمن ويستبشر، ومن يعص الله يخف ويندم، ثم سلوا الله اليقين وارغبوا إليه في العافية، وخير ما دام في القلب اليقين، إن عوازم الامور أفضلها، وإن محدثاتها شرارها وكل محدث بدعة وكل محدث مبتدع، ومن ابتدع فقد صيع، وما أحدث محدث بدعة إلا ترك بها سنة، المغبون من غبن دينه، والمغبون من خسر نفسه، وإن الربا من الشرك، وإن الاخلاص من العمل والايمان، ومجالس اللهو تنسي القرآن ويحضرها الشيطان، وتدعو إلى كل غي، ومجالسة النساء تزيغ القلوب وتطمح إليه الابصار، وهي مصائد الشيطان، فأصدقوا الله فإن الله مع من صدق وجانبوا الكذب فإن الكذب مجانب للايمان ألا إن الصدق على
شرف منجاة وكرامة، وإن الكذب على شرف ردئ وهلكة، ألا وقولوا الحق تعرفوا به واعملوا به تكونوا من أهله، وأدوا الامانة إلى من ائتمنكم، وصلوا أرحام من قطعكم وعودوا بالفضل على من حرمكم، وإذ عاهدتم فأوفوا، وإذا حكمتم فاعدلوا، ولا تفاخروا بالآباء، ولا تنابزوا بالالقاب، ولا تمازحوا، ولا يغضب بعضكم بعضا، وأعينوا الضعيف والمظلوم والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وارحموا الارملة واليتيم، وافشوا السلام وردوا التحية على أهلها بمثلها أو بأحسن منها * (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب) * [ المائدة: 2 ] وأكرموا الضيف، وأحسنوا إلى الجار، وعودوا المرضى، وشيعوا الجنائز، وكونوا عباد الله إخوانا، أما بعد فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع (1)، وإن الآخرة قد أظلت وأشرفت باطلاع، وان المضمار (2) اليوم وغدا السباق وإن السبقة (3) الجنة والغاية النار، ألا وإنكم في أيام مهل من ورائها أجل يحثه عجل، فمن أخلص لله
__________
(1) آذانت بوداع: أعلمت، وإيذانها بالوداع إنما هو بما أودع في طبيعتها من التغلب والتحول.
(2) المضمار: الموضع والزمن الذي تضمر فيه الخيل، وتضمير الخيل أن تربط ويكثر علفها وماؤها حتى تسمن ثم يقلل علفها وماؤها وتجري في الميدان حتى تهزل.
(3) السبقة: بالتحريك، الغاية التي يجب السابق أن يصل إليها.
وبالفتح المرة من السبق.
ومن معاني السبقة بالتحريك الرهن.
عمله في أيام مهله قبل حضور أجله فقد أحسن عمله ونال أمله، ومن قصر عن ذلك فقد خسر عمله وخاب أمله، وضره أمله، فاعملوا في الرغبة والرهبة فإن نزلت بكم رغبة فاشكروا الله واجمعوا معها رهبة، وإن نزلت بكم رهبة فاذكروا الله واجمعوا معها رغبة، فإن الله قد تأذن المسلمين بالحسنى، ولمن شكر بالزيادة، وإني لم أر مثل الجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها ولا أكثر مكتسبا من شئ كسبه ليوم تدخر فيه الدخائر، وتبلى فيه السرائر، وتجتمع فيه لكبائر، وإنه من لا ينفعه الحق يضره الباطل، ومن لا يستقيم به الهدى يجر به الضلال، ومن لا ينفعه
اليقين يضره الشك، ومن لا ينفعه حاضره فعازبه عنه أعور، وغائبه عنه أعجز: وإنكم قد أمرت بالظعن (4) ودللتم على الزاد، ألا وإن أخوف ما أخاف عليكم إثنان طول الامل واتباع الهوى، فأما طول الامل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيبعد عن الحق، ألا وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة، ولهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة إن استطعتم، ولا تكونوا من بني الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل، وهذه خطبة بليغة نافعة جامعة للخير ناهية عن الشر.
وقد روي لها شواهد من وجوه أخر متصلة ولله الحمد والمنة.
وقد ذكر ابن جرير: أن عليا رضي الله عنه لما نكل أهل العراق عن الذهاب إلى الشام خطبهم فوبخهم وأنبهم وتوعدهم وهددهم وتلا عليهم آيات في الجهاد من سور متفرقة، وحث على المسير إلى عدوهم فأبوا من ذلك وخالفوا ولم يوافقوه، واستمروا في بلادهم، وتفرقوا عنه هاهنا وهاهنا، فدخل على الكوفة.
فصل وقد ذكر الهيثم بن عدي أنه خرج على علي بعد النهروان رجل يقال له: الحارث (5) بن راشد الناجي، قدم مع أهل البصرة، فقال لعلي: إنك قد قاتلت أهل النهروان في كونهم أنكروا عليك قصة التحكيم وتزعم أنك قد أعطيت أهل الشام عهودك ومواثيقك، وأنك لست بناقضها، وهذان الحكمان قد اتفقا على خلعك ثم اختلفا في ولاية معاوية فولاه عمرو وامتنع أبو موسى من ذلك، فأنت مخلوع باتفاقهما، وأنا قد خلعتك وخلعت معاوية معك، وتبع الحارث هذا بشر كثير من قومه - بني ناجية وغيرهم - وتحيزوا ناحية، فبعث إليهم علي معقل بن قيس الرماحي في جيش كثيف فقتلهم معقل ذريعا وسبى من بني ناجية خمسمائة أهل بيت فقدم بهم ليقدم بهم على علي فتلقاه رجل يقال له: مصقلة بن هبيرة أبو المغلس - وكان عاملا لعلي على بعض الاقاليم - فتضرروا
__________
(1) الظعن: الرحيل عن الدنيا وأمرنا به أمر تكوين أي كما خلقنا الله خلق فينا أن نرحل عن حياتنا الاولى لنستقر في الاخرى.
(2) في الطبري والكامل: الخريت.
وفيهما أنه ظهر سنة ثمان وثلاثين، وسيرد خبره عنهما قريبا.
إليه وشكوا ما هم فيه من السبي، فاشتراهم مصقلة من معقل بخمسمائة ألف درهم وأعتقهم، فطالبه بالثمن فهرب منه إلى ابن عباس بالبصرة، فكتب معقل إلى ابن عباس فقال له مصقلة: إني انما جئت لادفع ثمنهم إليك ثم هرب منه إلى علي فكتب ابن عباس ومعقل إلى علي فطالبه علي فدفع من الثمن مائتي ألف (1) ثم انشمر هاربا فلحق بمعاوية بن أبي سفيان بالشام، فأمضى علي عتقهم وقال: ما بقي من المال في ذمة مصقلة ؟ وأمر بداره في الكوفة فهدمت.
وقد روى الهيثم عن سفيان الثوري وإسرائيل عن عمار الدهني عن أبي الطفيل أن بني ناجية ارتدوا فبعث إليهم: معقل بن قيس فسباهم فاشتراهم مصقلة من علي بثلثمائة ألف فأعتقهم ثم هرب إلى معاوية.
قال الهيثم وهذا قول الشيعة ولم يسمع بحي من العرب ارتدوا بعد الردة التي كانت في أيام الصديق.
وقال الهيثم: حدثني عبد الله (2) بن تميم بن طرفة الطائي حدثني أبي أن عدي بن حاتم قال مرة لعلي بن أبي طالب وهو يخطب: قتلت أهل النهروان على انكار الحكومة، وقتلت الحريث (3) بن راشد على مسألتهم إياك أيضا الحكومة، والله ما بينهما موضع قدم.
فقال له علي: أسكت إنما كنت أعرابيا تأكل الضبع بجبل طئ بالامس.
فقال له عدي: وأنت والله قد رأيناك بالامس تأكل البلح بالمدينة.
قال الهيثم: ثم خرج على علي رجل من أهل البصرة فقتل فأمر أصحابه عليهم الاشرس بن عوف الشيباني، فقتل هو وأصحابه، قال: ثم خرج على علي الاشهب بن بشر البجلي ثم أحد عرينة من أهل الكوفة فقتل هو وأصحابه.
قال: ثم خرج على علي سعيد بن نغد التميمي ثم من بني ثعلبة من أهل الكوفة فقتل بقنطرة درربجان فوق المدائن.
قال الهيثم: أخبرني بذلك عبد الله بن عياش عن مشيخته.
فصل ذكر ابن جرير عن أبي مخنف لوط بن يحيى - وهو أحد أئمة هذا الشأن - أن قتال علي للخوارج يوم النهروان، كان في هذه السنة - أعني سنة سبع وثلاثين - قال ابن جرير: وأكثر أهل السير على أن ذلك كان في سنة ثمان وثلاثين وصححه ابن جرير، قلت: وهو الاشبه كما في
سننبه عليه في السنة الآتية إن شاء الله تعالى.
قال ابن جرير: وحج بالناس في هذه السنة - يعني سنة سبع وثلاثين - عبيد الله بن عباس نائب علي على اليمن ومخاليفها.
وكان نائب مكة قثم بن العباس، وعلى المدينة تمام بن عباس، وقيل سهل بن حنيف، وعلى البصرة عبد الله بن عباس، وعلى قضائها أبو الاسود الدؤلي، وعلى مصر محمد بن أبي بكر، وعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين
__________
(1) في فتوح ابن الاعثم 4 / 80: مائة ألف.
وفي الطبري والكامل: فكالاصل مائتي ألف.
(2) في هامش النسخة المطبوعة قال: كذا في الاصل وفي نسخة عبيد بن تميم.
(3) تقدم اسمه: الخريت.
مقيم بالكوفة، ومعاوية بن أبي سفيان مستحوذ على الشام.
قلت: ومن نيته أن يأخذ مصر من محمد بن أبي بكر.
ذكر من توفي فيها من الاعيان خباب بن الارت بن جندلة بن سعد بن خزيمة كان قد أصابه سبي في الجاهلية فأشترته أنمار (1) الخزاعية التي كانت تختن النساء، وهي أم سباع بن عبد العزى الذي قتله حمزة يوم أحد وحالف بني زهرة، أسلم خباب قديما قبل دار الارقم، وكان ممن يؤدي في الله فيصبر ويحتسب، وهاجر وشهد بدرا وما بعدها من المشاهد.
قال الشعبي: دخل يوما على عمر فأكرم مجلسه وقال: ما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا بلال.
فقال: يا أمير المؤمنين إن بلالا كان يؤذى وكان له من يمنعه، وإني كنت لا ناصر لي والله لقد سلقوني يوما في نار أججوها ووضع رجل على صدري فما اتقيت الارض إلا بظهري، ثم كشف عن ظهره فإذا هو برص رضي الله عنه، ولما مرض دخل عليه أناس من الصحابة يعودونه فقالوا: أبشر غدا تلقى الاحبة محمدا وحزبه فقال: والله إن إخواني مضوا ولم يأكلوا من دنياهم شيئا، وإنا قد أينعت لنا ثمرتها فنحن نهدبها، فهذا الذي يهمني.
قال: وتوفي بالكوفة في هذه السنة عن ثلاث وستين سنة وهو أول من دفن بظاهر الكوفة.
خزيمة بن ثابت ابن الفاكه بن ثعلبة بن ساعدة الانصاري ذو الشهادتين وكانت راية بني حطمة معه يوم الفتح، وشهد صفين مع علي، وقتل يومئذ رضي الله عنه.
سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قدمنا ترجمته في الموالي المنسوبين إليه صلوات الله وسلامه عليه.
عبد الله بن الارقم بن أبي الارقم أسلم عام الفتح وكتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد تقدم مع كتاب الوحي * عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، قتل يوم صفين وكان أمير الميمنة لعلي فصارت امرتها للاشتر النخعي * عبد الله بن خباب بن الارت.
ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكان موصوفا بالخير، قتله الخوارج كما قدمنا بالنهروان في هذه السنة، فلما جاء علي قال لهم: أعطونا قتلته ثم أنتم آمنون فقالوا: كلنا قتله فقاتلهم * عبد الله بن سعد بن أبي سرح: أحد كتاب الوحي أيضا، أسلم قديما وكتب الوحي ثم ارتد ثم عاد إلى الاسلام عام الفتح واستأمن له عثمان - وكان أخاه لامه - وحسن إسلامه وقد ولاه عثمان نيابة مصر بعد موت عمرو بن العاص، فغزا إفريقية وبلاد النوبة، وفتح الاندلس وغزا
__________
(1) في الاستيعاب والاصابة 1 / 416 وهامشها 1 / 423: أم أنمار.
ذات الصواري مع الروم في البحر فقتل منهم ما صبغ وجه الماء من الدماء، ثم لما حصر عثمان تغلب عليه محمد بن أبي حذيفة وأخرجه من مصر فمات في هذه السنة وهو معتزل عليا ومعاوية، في صلاة الفجر بين التسليمتين رضي الله عنه.
عمار بن ياسر أبو اليقظان العبسي من عبس اليمن، وهو حليف بني مخزوم، أسلم قديما وكان ممن يعذب في الله هو وأبوه وأمه سمية، ويقال إنه أول من اتخذ مسجدا في بيته يتعبد فيه، وقد شهد بدرا وما بعدها وقد قدمنا كيفية مقتله يوم صفين وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تقتلك الفئة الباغية " (1) وروى الترمذي من
حديث الحسن عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة، علي وعمار وسلمان " (2) وفي الحديث الآخر الذي رواه الثوري وقيس بن الربيع وشريك القاضي وغيرهم عن أبي إسحاق عن هانئ بن هانئ عن علي أن عمارا استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " مرحبا بالطيب المطيب " (3) وقال إبراهيم بن الحسين: حدثنا يحيى حدثني نصر ثنا سفيان الثوري عن أبي الاعمش، عن أبي عمار، عن عمرو بن شرحبيل، عن رجل من أصحاب رسول الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لقد ملئ عمار إيمانا من قدمه إلى مشاشه " وحدثنا يحيى بن معلى، عن الاعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة أنها قالت: " ما من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشاء أن أقول فيه إلا عمار بن ياسر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن عمار بن ياسر حشي ما بين أخمص قدميه إلى شحمة أذنه إيمانا " وحدثنا يحيى ثنا عمرو بن عون أنا هشيم عن العوام بن حوشب عن سلمة بن كهيل عن علقمة قال: أتيت أهل الشام فلقيت خالد بن الوليد فحدثني قال: كان بيني وبين عمار بن ياسر كلام في شئ فشكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا خالد ! لا تؤذ عمارا فإنه من يبغض عمارا يبغضه الله، ومن يعاد عمارا يعاده الله " قال: فعرضت له بعد ذلك فسللت ما في نفسه.
وله أحاديث كثيرة في فضائله رضي الله عنه قتل بصفين عن إحدى وقيل ثلاث وقيل أربع وتسعين سنة طعنة أبو الغادية فسقط ثم أكب عليه رجل فاحتز رأسه، ثم اختصما إلى معاوية أيهما قتله فقال لهما عمرو بن العاص: اندرا فوالله إنكما لتختصمان في النار، فسمعها منه معاوية فلامه على تسميعه إياهما ذلك، فقال له عمرو: والله إنك لتعلم ذلك، ولوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
قال الواقدي، حدثني الحسن بن الحسين بن عمارة عن أبي إسحاق عن عاصم أن عليا صلى عليه ولم يغسله وصلى مع علي هاشم بن عتبة، فكان عمار مما يلي عليا،
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) أخرجه الترمذي في المناقب ح (3797) ص 5 / 667 وقال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن صالح.
(3) المصدر السابق ح 3798 وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وهاشم إلى نحو القبلة.
قالوا، وقبر هنالك، وكان آدم اللوم، طويلا بعيدا ما بين المنكبين: أشهل العينين، رجلا لا يغير شيبه رضي الله عنه.
الربيع بنت معوذ بن عفراء أسلمت قديما وكانت تخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزوات فتداوي الجرحى، وتسقي الماء للكلمى، وروت أحاديث كثيرة * وقد قتل في هذه السنة في أيام صفين خلق كثير وجم غفير، فقيل قتل من أهل الشام خمسة وأربعون ألفا ومن أهل العراق خمسة وعشرون ألفا.
وقيل قتل من أهل العراق أربعون ألفا - من مائة وعشرين ألفا - وقيل من أهل الشام عشرون ألفا من ستين ألفا وبالجملة فقد كان فيهم أعيان ومشاهير يطول استقصاؤهم وفيما ذكرنا كفاية والله تعالى أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين فيها بعث معاوية عمرو بن العاص إلى ديار مصر فأخذها من محمد بن أبي بكر واستناب معاوية عمرا عليها، وذلك كما سنبينه، وقد كان علي رضي الله عنه استناب عليها قيس بن سعد بن عبادة وانتزعها من يد محمد بن أبي حذيفة حين كان استحوذ عليها ومنع عبد الله بن سعد بن أبي سرح من التصرف فيها، حين حصر عثمان - وقد كان عثمان استخلفه عليها وعزل عنها عمرو بن العاص - وعمرو كان هو الذي افتتحها كما قدمنا ذكر ذلك.
ثم إن عليا عزل قيس بن سعد عنها وولى عليها محمد بن أبي بكر وقد ندم علي على عزل قيس بن سعد عنها، وذلك أنه كان كفوا لمعاوية وعمرو، ولما ولى محمد بن أبي بكر لم يكن فيه قوة تعادل معاوية وعمرا، وحين عزل قيس بن سعد عنها رجع إلى المدينة ثم سار إلى علي بالعراق فكان معه، وكان معاوية يقول: والله لقيس بن سعد عند علي أبغض إلي من مائة ألف مقاتل بدله عنده، فشهد معه صفين فلما فرغ علي من صفين وبلغه أن أهل مصر قد استخفوا بمحمد بن أبي بكر لكونه شاب ابن ست وعشرين سنة أو نحو ذلك عزم على رد مصر إلى قيس بن سعد وكان قد جعله على شرطته أو إلى الاشتر النخعي وقد كان نائبه على الموصل ونصيبين، فكتب إليه بعد صفين فاستقدمه عليه ثم ولاه
مصر، فلما بلغ معاوية تولية علي للاشتر النخعي ديار مصر بدل محمد بن أبي بكر عظم ذلك عليه، وذلك أنه كان قد طمع في مصر واستنزاعها من يد محمد بن أبي بكر، وعلم أن الاشتر سيمنعها منه لحزمه وشجاعته، فلما سار الاشتر إليها وانتهى إلى القلزم استقبله الخانسار (1) وهو مقدم على الخراج فقدم إليه طعاما وسقاه شرابا من عسل فمات منه، فلما بلغ ذلك معاوية وعمرا وأهل الشام قالوا: إن لله جنودا من عسل.
وقد ذكر ابن جرير في تاريخه أن معاوية كان قد تقدم إلى هذا الرجل في أن يحتال على الاشتر ليقتله ووعده على ذلك بأمور ففعل ذلك (2)، وفي هذا نظر،
__________
(1) في الطبري 6 / 54: الجايستار، وفي مروج الذهب 2 / 455: دهقان كان بالعريش.
(2) انظر الطبري 6 / 54 والكامل 3 / 353 قال وقد وعده معاوية: لم آخذ منك خراجا ما بقيت.
وفي مروج =
وبتقدير صحته فمعاوية يستجيز قتل الاشتر لانه من قتلة عثمان ري الله عنه.
والمقصود أن معاوية وأهل الشام فرحوا فرحا شديدا بموت الاشتر النخعي، ولما بلغ ذلك عليا تأسف على شجاعته وغنائه، وكتب إلى محمد بن أبي بكر باستقراره واستمراره بديار مصر (1)، غير أنه ضعف جأشه مع ما كان فيه من الخلاف عليه من العثمانية الذين ببلد خربتا وقد كانوا استفحل أمرهم حين انصرف علي من صفين، وحين كان من أمر التحكيم ما كان، وحين نكل أهل العراق عن قتال أهل الشام، وقد كان أهل الشام حين انقضت الحكومة بدومة الجندل سلموا على معاوية بالخلافة وقوي أمرهم جدا، فعند ذلك جمع معاوية أمراءه عمرو بن العاص، وشرحبيل بن السمط وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والضحاك بن قيس، وبسر بن أبي أرطاة، وأبا الاعور السلمي، وحمزة بن سنان الهمداني وغيرهم، فاستشارهم في المسير إلى ديار مصر فاستجابوا له وقالوا: سر حيث شئت فنحن معك، وعين معاوية نيابتها لعمرو بن العاص إذا فتحها ففرح بذلك عمرو بن العاص، ثم قال عمرو لمعاوية: أرى أن تبعث إليهم رجالا مع رجل مأمون عارف بالحرب، فإن بها جماعة ممن يوالي عثمان فيساعدونه على حرب من خالفهم، فقال معاوية: لكن أرى أن أبعث إلى شيعتنا ممن هنالك كتابا يعلمهم بقدومهم عليهم، ونبعث إلى مخالفينا كتابا
ندعوهم فيه إلى الصلح.
وقال معاوية: إنك يا عمرو رجل بورك لك في العجلة وإني امرؤ بورك لي في التؤدة، فقال عمرو: افعل ما أراك الله، فوالله ما أمرك وأمرهم إلا سيصير إلى الحرب العوان، فكتب عند ذلك معاوية إلى مسلمة بن مخلد الانصاري، وإلى معاوية بن خديج السكوني - وهما رئيسا العثمانية ببلاد مصر ممن لم يبايع عليا ولم يأتمر بأمر نوابه بمصر في نحو من عشرة آلاف - يخبرهم بقدوم الجيش عليهم سريعا، وبعث به مع مولى له يقال له سبيع (2)، فلما وصل الكتاب إلى مسلمة ومعاوية بن خديج فرحا به وردا جوابه بالاستبشار والمعاونة والمناصرة له ولمن يبعثه من الجيوش والجند والمدد إن شاء الله تعالى، فعند ذلك جهز معاوية عمرو بن العاص في ستة آلاف (3)، وخرج معاوية مودعا وأوصاه بتقوى الله والرفق والمهل والتؤدة، وأن يقتل من قاتل ويعفو عمن أدبر، وأن يدعو الناس إلى الصلح والجماعة، فإذا أنت ظهرت فليكن أنصارك آثر الناس عندك، فسار عمرو بن العاص إلى مصر، فلما قدمها اجتمعت عليه العثمانية فقادهم، وكتب عمرو بن العاص إلى محمد بن أبي بكر: أما بعد فتنح فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر،
__________
= الذهب: اترك خراجك عشرين سنة.
(1) في مروج الذهب 2 / 455: كانت تولية علي للاشتر على مصر بعد مقتل محمد بن أبي بكر وفي ولاة مصر للكندي ص 46: سار إليها في مستهل رجب سنة سبع وثلاثين بعد قيس بن عبادة ثم كانت ولاية محمد بن أبي بكر في رمضان سنة سبع وثلاثين بعد مقتل الاشتر.
(2) انظر نص الكتاب في الطبري 6 / 57 وقد أشار إليه ابن الاثير في الكامل 3 / 355.
(3) كذا بالاصل وفي الطبري والكامل، وفي مروج الذهب: أربعة آلاف.
فإن الناس قد اجتمعوا بهذه البلاد على خلافك ورفض أمرك، وندموا على اتباعك، فهم مسلموك لو قد التقت حلقتا البطان (1)، فاخرج منها فإني لك لمن الناصحين والسلام.
وبعث إليه عمرو أيضا بكتاب معاوية إليه: أما بعد فإن غب البغي والظلم عظيم الوبال، وإن سفك الدم الحرام لا يسلم صاحبه من النقمة في الدنيا والتبعة الموبقة في الآخرة وإنا لا نعلم أحدا كان أشد
خلافا على عثمان منك (2) حين تطعن بمشاقصك بين خششائه (3) وأوداجه، ثم إنك تظن أني عنك نائم أو ناس ذلك لك، حتى تأتي فتأمر على بلاد أنت بها جاري وجل أهلها أنصاري وقد بعثت إليك بجيوش يتقربون إلى الله بجهادك ولن يسلمك الله من القصاص أينما كنت والسلام (4).
قال: فطوى محمد بن أبي بكر الكتابين وبعث بهما إلى علي وأعلمه بقدوم عمرو إلى مصر في جيش من قبل معاوية، فان كانت لك بأرض مصر حاجة فابعث إلي بأموال ورجال والسلام.
فكتب إليه يأمره بالصبر وبمجاهدة العدو، وأنه سيبعث إليه الرجال والاموال، ويمده بما أمكنه من الجيوش.
وكتب محمد بن أبي بكر كتابا إلى معاوية في جواب ما قال وفيه غلظة، وكذلك كتب إلى عمرو بن العاص وفيه كلام غليظ (5) وقام محمد بن أبي بكر في الناس فخطبهم وحثهم على الجهاد ومناجزة من قصدهم من أهل الشام، وتقدم عمرو بن العاص إلى مصر في جيوشه، ومن لحق به من العثمانية المصريين، والجميع في قريب من ستة عشر ألفا، وركب محمد بن أبي بكر في ألفي فارس الذين انتدبوا معه من المصريين وقدم على جيشه بين يديه كنانة بن بشر فجعل لا يلقاه أحد من الشاميين إلا قاتلهم حتى يلحقهم مغلوبين إلى عمرو بن العاص، فبعث عمرو بن العاص إليه معاوية بن خديج فجاءه من ورائه وأقبل إليه الشاميون حتى أحاطوا به من كل جانب، فترجل عند ذلك كنانة وهو يتلو * (وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله كتابا مؤجلا) * الآية [ آل عمران: 145 ]، ثم قاتل حتى قتل وتفرق أصحاب محمد بن أبي بكر عنه ورجع يمشي فرأى خربة فآوى إليها ودخل عمرو بن العاص فسطاط مصر وذهب معاوية بن خديج في طلب محمد بن أبي بكر فمر بعلوج في الطريق فقال لهم: هل مر بكم أحد تستنكرونه ؟ قالوا: لا ! فقال رجل منهم: إني رأيت رجلا جالسا في هذه الخربة، فقال: هو هو ورب الكعبة: فدخلوا عليه فاستخرجوه منها - وقد كاد يموت عطشا - فانطلق أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص - وكان قد قدم معه إلى مصر - فقال: أيقتل أخي صبرا ؟ فبعث عمرو بن
__________
(1) البطان: حزام القتب الذي يجعل تحت بطن البعير.
(2) العبارة في الطبري 6 / 58: ولا نعلم أحدا كان أعظم على عثمان بغيا ولا أسوأ له عيبا ولا أشد عليه خلافا منك
سعيت عليه في الساعين وسفكت دمه في السافكين ثم أنت تظن...(3) خششاء: العظم الناتئ خلف الاذن، وفي نسخ البداية المطبوعة: حشاشته.
(4) نص الكتابين في الطبري 6 / 58 ونص كتاب عمرو إليه في الكامل وأشار إلى كتاب معاوية 3 / 356.
(5) المصدر السابق.
العاص إلى معاوية بن خديج أن يأتيه بمحمد بن أبي بكر ولا يقتله فقال معاوية: كلا والله، أيقتلون كنانة بن بشر واترك محمد بن أبي بكر، وقد كان ممن قتل عثمان وقد سألهم عثمان الماء، وقد سألهم محمد بن أبي بكر أن يسقوه شربة من الماء فقال معاوية: لا سقاني الله إن سقيتك قطرة من الماء أبدا، إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه صائما محرما فتلقاه الله بالرحيق المختوم.
وقد ذكر ابن جرير وغيره أن محمد بن أبي بكر نال من معاوية بن خديج هذا ومن عمرو بن العاص ومن معاوية ومن عثمان بن عفان أيضا، فعند ذلك غضب معاوية بن خديج فقدمه فقتله ثم جعله في جيفة حمار فأحرقه بالنار، فلما بلغ ذلك عائشة جزعت عليه جزعا شديدا وضمت عياله إليها، وكان فيهم ابنه القاسم وجعلت تدعو على معاوية وعمرو بن العاص دبر الصلوات.
وذكر الواقدي أن عمرو بن العاص قدم مصر في أربعة آلاف فيهم أبو الاعور السلمي فالتقوا مع المصريين بالمسناة فاقتتلوا قتالا شديدا حتى قتل كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي، فهرب عند ذلك محمد بن أبي بكر فاختبأ عند رجل يقال له جبلة بن مسروق، فدل عليه فجاء معاوية بن خديج وأصحابه فأحاطوا به فخرج إليهم محمد بن أبي بكر فقاتل حتى قتل.
قال الواقدي: وكان ذلك في صفر من هذه السنة، قال الواقدي: ولما قتل محمد بن أبي بكر بعث علي الاشتر النخعي إلى مصر فمات في الطريق فالله أعلم.
قال: وكانت أذرح في شعبان في هذه السنة أيضا، وكتب عمرو بن العاص إلى معاوية يخبره بما كان من الامر وأن الله قد فتح عليه بلاد مصر ورجعوا إلى السمع والطاعة واجتماع الجماعة، وبما عهد لهم من الامر.
وقد زعم هشام بن محمد الكلبي أن محمد بن أبي حذيفة بن عتبة مسك بعد مقتل محمد بن أبي بكر - وكان من جملة المحرضين على قتل
عثمان - فبعثه عمرو بن العاص إلى معاوية ولم يبادر إلى قتله لانه ابن خال معاوية، فحبسه معاوية بفلسطين فهرب من السجن، فلحقه رجل يقال له عبد الله بن عمر بن ظلام بأرض البلقاء، فاختفى محمد بغار فجاءت حمر وحش لتأوي إليه فلما رأته فيه نفرت فتعجب من نفرها جماعة من الحصادين هنالك، فذهبوا إلى الغار فوجدوه فيه، فجاء أولئك إليه فخشي عبد الله بن عمرو بن ظلام أن يرده إلى معاوية فيعفو عنه، فضرب عنقه، هكذا ذكر ذلك ابن الكلبي.
وقد ذكر الواقدي وغيره أن محمد بن أبي حذيفة قتل في سنة ست وثلاثين كما قدمنا.
فالله أعلم.
وقال إبراهيم بن الحسين بن ديزيل في كتابه: ثنا عبد الله بن صالح، حدثني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب أن عمرو بن العاص استحل مال قبطي من قبط مصر لانه استقر عنده أنه كان يظهر الروم على عورات المسلمين - يكتب إليهم بذلك - فاستخرج منه بضعا وخمسين أردبا دنانير، قال أبو صالح: والاردب ست ويبات الويبة مثل القفيز واعتبرنا الويبة فوجدناها تسعا وثلاثين ألف دينار، قلت: فعلى هذا يكون يبلغ ما كان أخذ من القبطي ما يقارب ثلاثة عشر ألف ألف دينار.
قال أبو مخنف باسناده: ولما بلغ علي بن أبي طالب مقتل محمد بن أبي بكر وما كان بمصر من الامر، وتملك عمرو لها، واجتماع الناس عليه وعلى معاوية قام في الناس خطيبا
فحثهم على الجهاد والصبر والمسير إلى أعدائهم من الشامين والمصريين، وواعدهم الجرعة بين الكوفة والحيرة، فلما كان الغد خرج يمشي إليها حتى نزلها فلم يخرج إليه أحد من الجيش، فلما كان العشي بعث إلى أشراف الناس فدخلوا عليه وهو حزين كئيب فقام فيهم خطيبا فقال: الحمد لله على ما قضى من أمر وقدر من فعل وابتلاني بكم وبمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت، أو ليس عجبا أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه بغير عطاء ولا معونة، ويجيبونه في السنة مرتين والثلاث إلى أي وجه شاء ؟ وأنا أدعوكم وأنتم أولو النهي وبقية الناس على المعونة وطائفة من العطاء فتفرقون عني وتعصونني وتختلفون علي ؟ فقام إليه مالك بن كعب الاوسي (1) فندب الناس إلى امتثال أمر علي والسمع والطاعة فانتدب ألفا فأمر عليهم مالك بن كعب هذا فسار بهم
خمسا، ثم قدم على علي جماعة (2) ممن كان مع محمد بن أبي بكر بمصر فأخبروه كيف وقع الامر وكيف قتل محمد بن أبي بكر وكيف استقر أمر عمرو بها، فبعث إلى مالك بن كعب فرده من الطريق - وذلك أنه خشي عليهم من أهل الشام قبل وصولهم إلى مصر واستقر أمر العراقيين على مخالفة علي فيما يأمرهم به وينهاهم عنه، والخروج عليه والبعد عن أحكامه وأقواله وأفعاله، لجهلهم وقلة عقلهم وجفائهم وغلظتهم وفجور كثير منهم، فكتب علي عند ذلك إلى ابن عباس - وهو نائبه على البصرة - يشكو إليه ما يلقاه من الناس من المخالفة والمعاندة، فرد عليه ابن عباس يسليه في ذلك، ويعزيه في محمد بن أبي بكر ويحثه على تلافي الناس والصبر على مسيئهم، فإن ثواب الله خير من الدنيا، ثم ركب ابن عباس من البصرة إلى علي وهو بالكوفة واستخلف ابن عباس على البصرة زيادا، وفي هذا الحين بعث معاوية بن أبي سفيان كتابا مع عبد الله بن عمرو الحضرمي إلى أهل البصرة يدعوهم إلى الاقرار بما حكم له عمرو بن العاص، فلما قدمها نزل على بني تميم فأجاروه فنهض إليه زياد وبعث إليه أعين بن ضبيعة في جماعة من الناس فساروا إليهم فاقتتلوا فقتل أعين بن ضبيعة، فكتب زياد إلى علي يعلمه بما وقع بالبصرة بعد خروج ابن عباس منها، فبعث عند ذلك علي جارية بن قدامة التميمي في خمسين رجلا إلى قومه بني تميم، وكتب معه كتابا إليهم فرجع أكثرهم عن ابن الحضرمي وقصده جارية فحصره في دار هو وجماعة معه، قيل: كان عددهم أربعين، وقيل سبعين، فحرقهم بالنار بعد أن أعذر إليهم وأنذرهم فلم يقبلوا ولم يرجعوا عما جاؤوا له.
فصل وقد صحح ابن جرير أن قتال علي لاهل النهروان كان في هذه السنة، وكذلك خروج
__________
(1) في الطبري الهمداني ثم الارحبي.
(2) ذكر الطبري 6 / 62: الحجاج بن غزية الانصاري وعبد الرحمن بن شبيب الفزاري، قدما على علي وأخبراه خبر محمد بن أبي بكر، وقد قدم الحجاج من مصر وعبد الرحمن من الشام (وانظر الكامل 3 / 358).
الحريث (1) بن راشد الناجي كان في هذه السنة أيضا، وكان مع الحريث ثلثمائة رجل من قومه بني ناجية - وكان مع علي بالكوفة - فجاء إلى علي فقام بين يديه وقال: والله يا علي لا أطيع أمرك ولا أصلي خلفك، إني لك غدا لمفارق.
فقال له علي: ثكلتك أمك إذا تعصى ربك وتنقض عهدك ولا تضر إلا نفسك، ولم تفعل ذلك ؟ قال: لانك حكمت في الكتاب وضعفت عن قيام الحق إذ جد الجد، وركنت إلى القوم الظالمين، فأنا عليك زاري وعليك (2) ناقم، وإنا لكم جميعا مباينون.
ثم رجع إلى أصحابه فسار بهم نحو بلاد البصرة فبعث إليهم معقل بن قيس ثم أردفه بخالد بن معدان الطائي - وكان من أهل الصلاح والدين والبأس والنجدة - وأمره أن يسمع له ويطيع، فلما اجتمعوا صاروا جيشا واحدا، ثم خرجوا في آثار الحريث (3) وأصحابه فلحقوهم - وقد أخذوا في جبال رامهرمز.
قال فصففنا لهم ثم أقبلنا إليهم فجعل معقل على ميمنته يزيد بن معقل (4)، وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضبي، ووقف الحريث (3) فيمن معه من العرب فكانوا ميمنة، وجعل من اتبعه من الاكراد والعلوج ميسرة، قال: وسار فينا معقل بن قيس فقال: عباد الله ! لا تبدأوا القوم وغضوا أبصاركم، وأقلوا الكلام، ووطنوا أنفسكم على الطعن والضرب، وأبشروا في قتالكم بالاجرة إنما تقاتلون مارقة مرقت من الدين، وعلوجا كسروا الخراج، ولصوصا وأكرادا، فإذا حملت فشدوا شدة رجل واحد.
ثم تقدم فحرك دابته (5) تحريكتين ثم حمل عليهم في الثالثة وحملنا معه جميعنا فوالله ما صبروا لنا ساعة واحدة حتى ولوا منهزمين، وقتلنا من العلوج والاكراد نحوا من ثلثمائة، وفر الحريث (3) منهزما حتى لحق باساف (6) - وبها جماعة من قومه كثيرة - فاتبعوه فقتلوه مع جماعة من أصحابه بسيف البحر، قتله النعمان بن صهبان (7)، وقتل معه في المعركة مائة وسبعون رجلا.
ثم ذكر ابن جرير وقعات كثيرة كانت بين أصحاب علي والخوارج فيها أيضا ثم قال: حدثني عمر بن شبة ثنا أبو الحسن - يعني المدائني - علي بن محمد بن علي بن مجاهد قال قال الشعبي: لما قتل علي أهل النهروان خالفه قوم كثير، وانتقضت أطرافه وخالفه بنو ناجية، وقدم ابن الحضرمي إلى البصرة، وانتقض أهل الجبال (8)، وطمع أهل الخراج في كسره وأخرجوا سهل بن حنيف من فارس - وكان عاملا
__________
(1) في الطبري والكامل وفتح ابن الاعثم والتجريد: الخريت.
(2) في الطبري: وعليهم.
(3) في الطبري 6 / 71 المغفل وفي الكامل 3 / 366 فكالاصل.
(4) الخريت، كما تقدم.
(5) في الطبري: رايته وفي الكامل: رأسه.
(6) في الطبري والكامل بأسياف البحر.
(7) في فتوح ابن الاعثم 4 / 78 قتله معقل بن قيس ضربه على أم رأسه فجدله قتيلا.
(8) في الطبري 6 / 71: الاهواز.
عليها - فأشار عليه ابن عباس بزياد بن أبيه أن يوليه إياها فولاه إياها فسار إليها في السنة الآتية في جمع كثير، فوطئهم حتى أدوا الخراج.
قال ابن جرير وغيره: وحج بالناس في هذه السنة قثم بن العباس، نائب علي على مكة، وأخوه عبيد الله بن عباس نائب اليمن، وأخوهما عبد الله نائب البصرة، وأخوهم تمام بن عباس نائب المدينة، وعلى خراسان خالد بن قرة اليربوعي وقيل ابن أبزي، وأما مصر فقد استقرت بيد معاوية فاستناب عليها عمرو بن العاص.
ذكر من توفي في هذه السنة من الاعيان سهل بن حنيف ابن واهب بن العليم (1) بن ثعلبة الانصاري الاوسي، شهد بدرا، وثبت يوم أحد، وحضر بقية المشاهد، وكان صاحبا لعلي بن أبي طالب، وقد شهد معه مشاهده كلها أيضا غير الجمل فإنه كان قد استخلفه على المدينة، ومات سهل بن حنيف في سنة ثمان وثلاثين بالكوفة، وصلى عليه علي فكبر خمسا وقيل ستا وقال إنه من أهل بدر رضي الله عنه.
صنوان بن بيضاء أخو سهيل بن بيضاء
شهد المشاهد كلها وتوفي في هذه السنة في رمضانها وليس له عقب (2).
صهيب بن سنان بن مالك الرومي وأصله من اليمن أبو يحيى بن قاسط وكان أبوه أو عمه عاملا لكسرى على الايلة، وكانت منازلهم على دجلة عند الموصل، وقيل على الفرات، فأغارث على بلادهم الروم فاسرته وهو صغير، فأقام عندهم حينا ثم اشترته بنو كلب فحملوه إلى مكة فابتاعه عبد الله بن جدعان فأعتقه وأقام بمكة حينا، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن به، وكان ممن أسلم قديما وهو وعمار في يوم واحد بعد بضعة وثلاثين رجلا، وكان من المستضعفين الذين يعذبون في الله عز وجل، ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر صهيب بعده بأيام فلحقه قوم من المشركين يريدون أن يصدوه عن الهجرة، فلما أحسن بهم نثل كنانته فوضعها بين يديه وقال: والله لقد علمتم أني من أرماكم، ووالله لا تصلون إلي حتى أقتل بكل سهم من هذه رجلا منكم، ثم أقاتلكم بسيفي حتى أقتل.
وإن كنتم تريدون المال فأنا أدلكم على مالي هو مدفون في مكان كذا وكذا، فانصرفوا عنه فأخذوا ماله، فلما قدم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ربح البيع أبا يحيى " وأنزل الله * (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد) * ورواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب،
__________
(1) في الاصابة 2 / 87 والاستيعاب (هامش الاصابة 2 / 92): العكيم.
(2) في الاستيعاب (2 / 183): قتل يوم بدر.
وشهد بدرا وأحدا وما بعدهما، ولما جعل عمر الامر شورى كان هو الذي يصلي بالناس حتى تعين عثمان، وهو الذي ولي الصلاة على عمر - وكان له صاحبا - وكان أحمر شديد الحمرة ليس بالطويل ولا بالقصير أقرن الحاجبين كثير الشعر وكان لسانه فيه عجمة شديدة، وكان مع فضله ودينه فيه دعابة وفكاهة وانشراح، روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه يأكل بقثاء رطبا وهو أرمد إحدى العينين، فقال: " اتأكل رطبا وأنت أرمد " ؟ فقال: إنما آكل من ناحية عيني الصحيحة، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت وفاته بالمدينة سنة ثمان وثلاثين، وقيل سنة تسع وثلاثين، وقد نيف على
السبعين.
محمد بن أبي بكر الصديق ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع تحت الشجرة عند الحرم وأمه أسماء بنت عميس، ولما احتضر الصديق أوصى أن تغسله فغسلته، ثم لما انقضت عدتها تزوجها علي فنشأ في حجره، فلما صارت إليه الخلافة استنابه على بلاد مصر بعد قيس بن سعد بن عبادة كما قدمنا، فلما كانت هذه السنة بعث معاوية عمرو بن العاص فاستلب منه بلاد مصر وقتل محمد بن أبي بكر كما تقدم، وله من العمر دون الثلاثين، رحمه الله ورضي عنه.
أسماء بنت عميس ابن معبد (1) بن الحارث الخثعمية، أسلمت بمكة وهاجرت مع زوجها جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة وقدمت معه إلى خيبر، ولها منه عبد الله، ومحمد، وعون.
ولما قتل جعفر بمؤتة تزوجها بعده أبو بكر الصديق فولدت منه محمد بن أبي بكر أمير مصر ثم لما مات الصديق تزوجها بعده علي بن أبي طالب فولدت له يحيى وعونا، وهي أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين لامها.
وكذلك هي أخت أم الفضل امرأة العباس لامها، وكان لها من الاخوات لامها تسع أخوات، وهى أخت سلمى بنت عميس امرأة العباس (2) التي له منها بنت اسمها عمارة.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين فيها جهز معاوية بن أبي سفيان جيوشا كثيرة ففرقها في أطراف معاملات علي بن أبي طالب، وذلك أن معاوية رأى بعد أن ولاه عمرو بن العاص بعد اتفاقه مع أبي موسى على عزل علي، أن ولايته وقعت الموقع، فهو الذي يجب طاعته فيما يعتقده، ولان جيوش علي من أهل العراق لا
__________
(1) في الاستيعاب والاصابة 4 / 235: معد بن الحارث بن تيم، وفي ابن سعد 8 / 280: معد بن تيم بن الحارث.
(2) في ابن سعد 8 / 285: زوجة حمزة بن عبد المطلب: وولدت منه عمارة.
أما ابن عبد البر قال في الاستيعاب (هامش الاصابة 4 / 326) كانت تحت حمزة وولدت منه أمة الله.
تطيعه في كثير من الامر ولا يأتمرون بأمره، فلا يحصل بمباشرته المقصود من الامارة والحالة هذه، فهو يزعم أنه أولى منه إذ كان الامر كذلك.
وكان ممن بعث في هذه السنة النعمان بن بشير في ألفي فارس إلى عين التمر (1)، وعليها مالك بن كعب الارحبي في ألف فارس مسلحة (2) لعلي، فلما سمعوا بقدوم الشاميين أرفضوا عنه فلم يبق مع مالك بن كعب إلا مائة رجل فكتب عند ذلك إلى علي يعلمه بما كان من الامر، فندب علي الناس إلى مالك بن كعب فتثاقلوا ونكلوا عنه ولم يجيبوا إلى الخروج، فخطبهم علي عند ذلك فقال في خطبته: " يا أهل الكوفة ! كلما سمعتم بمنسر من مناسر أهل الشام انجحر كل منكم في بيته، وغلق عليه بابه.
انجحار الضب في جحره، والضبع في وجاره، المغرور والله من غررتموه، ولمن (3) فارقكم فاز بالسهم الاصيب، لا أحرار عند النداء، ولا إخوان ثقة عند النجاة، إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا منيت به منكم، عمي لا تبصرون، وبكم لا تنطقون، وصم لا تسمعون، إنا لله وإنا إليه راجعون " ودهمهم النعمان بن بشير فاقتتلوا قتالا شديدا وليس مع ملك بن كعب إلا مائة رجل قد كسروا جفون سيوفهم واستقتلوا، فبيناهم كذلك إذ جاءهم نجدة من جهة مخنف بن سليم مع ابنه عبد الرحمن بن مخنف في خمسين رجلا، فلما رآهم الشاميون ظنوا أنهم مدد عظيم ففروا هربا، فاتبعهم مالك بن كعب فقتل منهم ثلاثة أنفس وذهب الباقون على وجوههم ولم يتم لهم أمر من هذا الوجه.
وفيها بعث معاوية سفيان بن عوف في ستة آلاف وأمره بأن يأتي هيت فيغير عليها، ثم يأتي الانبار والمدائن، فسار حتى انتهى إلى هيت فلم يجد بها أحدا، ثم إلى الانبار وفيها مسلحة لعلي نحو من خمسمائة، فتفرقوا ولم يبق منهم إلا مائة رجل، فقاتلوا مع قلتهم وصبروا حتى قتل أميرهم - وهو أشرس بن حسان البلوي (4) - في ثلاثين رجلا من أصحابه، واحتملوا ما كان بالانبار من الاموال وكروا راجعين إلى الشام، فلما بلغ عليا رضي الله عنه ركب بنفسه فنزل بالنخيلة فقال له الناس: نحن نكفيك ذلك يا أمير المؤمنين.
فقال: والله ما تكفونني ولا أنفسكم، وسرح سعد بن قيس في أثر القوم فساروا وراءهم حتى بلغ هيت فلم يلحقهم فرجع.
وفيها بعث
معاوية عبد الله بن مسعدة الفزاري في ألف وسبعمائة إلى تيماء وأمره أن يصدق أهل البوادي ومن امتنع من إعطائه فليقتله ثم يأتي المدينة ومكة والحجاز.
فسار إلى تيماء واجتمع عليه بشر كثير، فلما بلغ عليا بعث المسيب بن نجية الفزاري في ألفي رجل فالتقوا بتيماء قتالا شديدا عند
__________
(1) عين التمر: بلدة قريبة من الانبار غربي الكوفة افتتحها المسلمون في أيام أبي بكر الصديق على يد خالد بن الوليد عنوة سنة 12.
(2) المسلحة: موضع السلاح كالثغر والمرقب ج مسالح وهي ما يكون فيها أقوام يرقبون العدو لئلا يطرف الجند على غفلة (3) في الطبري 6 / 77 والكامل 3 / 376: ولمن فاز بكم فاز بالسهم الاخيب.
(4) في الطبري والكامل: البكري.
زوال الشمس، وحمل المسيب بن نجية على ابن مسعدة فضربه ثلاث ضربات وهو لا يريد قتله بل يقول له: النجا النجا، فانحاز ابن مسعدة في طائفة من قومه إلى حصن هناك فتحصنوا به وهرب بقيتهم إلى الشام، وانتهبت الاعراب ما كان جمعه ابن نجية من إبل الصدقة، وحاصرهم المسيب بن نجية ثلاثة أيام ثم ألقى الحطب على الباب وألهب فيه النار، فلما أحسوا بالهلاك أشرفوا من الحصن، ومتوا إليه بأنهم من قومه فرق لهم وأطفأ النار، فلما كان الليل فتح باب الحصن وخرجوا هرابا إلى الشام، فقال عبد الرحمن بن شبيب للمسيب بن نجية: سر حتى ألحقهم ! فقال: لا ! فقال: غششت أمير المؤمنين داهنت في أمرهم.
وفيها وجه معاوية الضحاك بن قيس في ثلاث آلاف وأمره أن يغير على أطراف جيش علي، فجهز علي حجر بن عدي في أربعة آلاف وأنفق فيهم خمسين درهما خمسين درهما، فالتقوا بتدمر فقتل من أصحاب الضحاك تسعة عشر رجلا، ومن أصحاب حجر بن عدي رجلان، وغشيهم الليل فتفرقوا، واستمر الضحاك بأصحابه فارا إلى الشام.
وفيها سار معاوية بنفسه في جيش كثيف حتى بلغ دجلة ثم كر راجعا.
ذكره محمد بن سعد عن الواقدي باسناده وأبو معشر أيضا.
وفي هذه السنة ولى علي بن أبي طالب زياد بن أبيه على أرض فارس، وكانوا قد منعوا الخراج والطاعة، وسبب ذلك حين قتل ابن الحضرمي وأصحابه بالنار حين حرقهم جارية بن قدامة في تلك الدار كما قدمنا، فلما اشتهر هذا الصنيع في البلاد تشوش قلوب كثير من الناس على علي، واختلفوا على علي، ومنع أكثر أهل تلك النواحي خراجهم، ولاسيما أهل فارس فإنهم تمردوا وأخرجوا عاملهم سله بن حنيف - كما تقدم في العام الماضي - من بين أظهرهم، فاستشار علي الناس فيمن يوليه عليهم، فأشار ابن عباس وجارية بن قدامة أن يولي عليهم زياد بن أبيه، فإنه صليب الرأي، عالم بالسياسة.
فقال علي: هو لها، فولاه فارس وكرمان وجهزه إليهما في أربعة آلاف فارس، فسار إليها في هذه السنة فدوخ أهلها وقهرهم حتى استقاموا وأدوا الخراج وما كان عليهم من الحقوق، ورجعوا إلى السمع والطاعة، وسار فيهم بالمعدلة والامانة، حتى كان أهل تلك البلاد يقولون: ما رأينا سيرة أشبه بسيرة كسرى أنو شروان من سيرة هذا العربي في اللين والمداراة والعلم بما يأتي، وصفت له تلك البلاد بعدله وعلمه وصرامته، واتخذ للمال قلعة حصينة (1)، فكانت تعرف بقلعة زياد، ثم لما تحصن فيها منصور اليشكري فيما بعد ذلك عرفت به فكان يقال لها قلعة منصور.
قال الواقدي: وفي هذه السنة بعث علي بن أبي طالب عبد الله بن عباس على الموسم وبعث معاوية يزيد بن سخبرة الرهاوي ليقيم للناس الحج فلما اجتمعا بمكة تنازعا وأبى كل واحد منهما أن يسلم لصاحبه فاصطلحا على شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الحجبي فحج بالناس وصلى بهم في أيام الموسم قال أبو الحسن المدائني: لم يشهد عبد الله بن عباس الموسم في أيام علي حتى قتل، والذي
__________
(1) وهي ما بين بيضاء إصطخر ومدينة إصطخر.
وتسمى أيضا بقلعة اصطخر قاله في الاخبار الطوال ص 219.
نازعه يزيد بن سخبرة إنما هو قثم بن العباس حتى اصطلحا على شيبة بن عثمان.
قال ابن جرير: وكما قال أبو الحسن المدائني قال أبو مصعب.
قال ابن جرير: وأما عمال علي على الامصار فهم الذين ذكرنا في السنة الماضية غير أن ابن عباس كان قد سار من البصرة إلى الكوفة واستخلف على
البصرة زياد بن أبيه ثم سار زياد في هذه السنة إلى فارس وكرمان كما ذكرنا.
ذكر من توفي في هذه السنة من الاعيان سعد القرظي مؤذن مسجد قبا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ولي عمر الخلافة ولاه أذان المسجد النبوي وكان أصله مولى لعمار بن ياسر، وهو الذي كان يحمل العنزة بين يدي أبي بكر وعمر وعلي إلى المصلى يوم العيد وبقي الاذان في ذريته مدة طويلة.
عقبة بن عمرو بن ثعلبة أبو مسعود البدري سكن ماء بدر ولم يشهد الوقعة بها على الصحيح، وقد شهد العقبة، وهو من سادات الصحابة وكان ينوب لعلي بالكوفة إذا خرج لصفين وغيرها (1).
سنة أربعين من الهجرة قال ابن جرير فمما كان في هذه السنة من الامور الجلية توجيه معاوية بسر بن أبي أرطاة في ثلاثة آلاف من المقاتلة إلى الحجاز، فذكر عن زياد بن عبد الله البكائي عن عوانة قال: أرسل معاوية بعد تحكيم الحكمين بسر بن أبي أرطاة - وهو رجل من بني عامر بن لؤي - في جيش فساروا من الشام حتى قدموا المدينة - وعامل علي عليها يومئذ أبو أيوب - ففر منهم أبو أيوب فأتى عليا بالكوفة، ودخل بسر المدينة ولم يقاتله أحد، فصعد منبرها فنادى على المنبر: يا دينار ويا نجار ويا زريق شيخي شيخي عهدي به ها هنا بالامس فأين هو ؟ - يعني عثمان بن عفان - ثم قال: يا أهل المدينة والله لولا ما عهد إلي معاوية ما تركت بها محتلما إلا قتلته، ثم بايع أهل المدينة وأرسل إلى بني سلمة فقال: والله ما لكم عندي من أمان ولا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله - يعني حتى يبايعه - فانطلق جابر إلى أم سلمة فقال لها: ماذا ترين إني خشيت أن أقتل وهذه بيعة ضلالة ؟ فقالت: أرى أن تبايع فإني قد أمرت ابني عمر وختني عبد الله بن زمعة - وهو زوج ابنتها زينب - أن يبايعا فأتاه جابر فبايعه.
قال: وهدم بسر دورا بالمدينة ثم مضى حتى فخافه أبو موسى الاشعري أن يقتله فقال له بسر: ما كنت لافعل بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فخلى عنه، وكتب أبو موسى
قبل ذلك إلى أهل اليمن أن خيلا مبعوثة من عند معاوية تقتل من أبى أن يقر بالحكومة، ثم مضى بسر إلى اليمن وعليها عبيد الله بن عباس ففر إلى الكوفة حتى لحق بعلي، واستخلف على اليمن
__________
(1) في الاستيعاب (هامش الاصابة 3 / 105) مات سنة إحدى أو اثنتين وأربعين.
وجزم ابن حجر انه مات بعد سنة أربعين فقد ثبت انه أدرك إمارة المغيرة على الكوفة وذلك بعد سنة أربعين (الاصابة 2 / 491).
عبد الله بن عبد الله بن المدان الحاوي (1)، فلما دخل بسر اليمن قتله وقتل ابنه، ولقى بسر ثقل عبيد الله ابن عباس وفيه ابنان صغيران له فقتلهما وهما عبد الرحمن وقثم، ويقال إن بسرا قتل خلقا من شيعة علي في مسيره هذا وهذا الخبر مشهور عند أصحاب المغازي والسير، وفي صحته عندي نظر والله تعالى أعلم.
ولما بلغ عليا خبر بسر وجه جارية بن قدامة في ألفين، ووهب بن مسعود في ألفين، فسار جارية حتى بلغ نجران فخرق بها وقتل ناسا من شيعة عثمان، وهرب بسر وأصحابه فاتبعهم حتى بلغ مكة، فقال لهم جارية: بايعوا فقالوا: لمن نبايع وقد هلك أمير المؤمنين فلمن نبايع ؟ فقال: بايعوا لمن بايع له أصحاب علي، فتثاقلوا ثم بايعوا من خوف، ثم سار حتى أتى المدينة وأبو هريرة يصلي بهم فهرب منه فقال جارية: والله لو أخذت أبا سنور لضربت عنقه، ثم قال لاهل المدينة: بايعوا للحسن بن علي، فبايعوا وأقام عندهم ثم خرج منصرفا إلى الكوفة وعاد أبو هريرة يصلي بهم.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة جرت بين علي ومعاوية المهادنة بعد مكاتبات يطول ذكرها على وضع الحرب بينهما، وأن يكون ملك العراق لعلي ولمعاوية الشام، ولا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزوة.
ثم ذكر عن زياد عن ابن إسحاق ما هذا مضمونه أن معاوية كتب إلى علي: أما بعد فإن الامة قد قتل بعضها بعضا يعني فلك العراق ولي الشام.
فأقر بذلك علي رضي الله عنه.
وأمسك كل واحد منهما عن قتال الآخر، وبعث الجيوش إلى بلاده، واستقر الامر على ذلك.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة خرج ابن عباس من البصرة إلى مكة وترك العمل في قول عامة أهل السير، وقد أنكر ذلك بعضهم وزعم أنه لم يزل عاملا على البصرة حتى صالح علي معاوية، وأنه كان شاهدا للصلح، ممن نص على ذلك أبو عبيدة كما
سيأتي.
ثم ذكر ابن جرير سبب خروج ابن عباس عن البصرة وذلك أنه كلم أبا الاسود الدؤلي القاضي بكلام فيه غض من أبي الاسود فكتب أبو الاسود إلى علي يشكو إليه ابن عباس وينال من عرضه فإنه تناول شيئا من أموال بيت المال فبعث علي إلى ابن عباس فعاتبه في ذلك وحرر عليه التبعة فغضب ابن عباس من ذلك وكتب إلى علي: ابعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعن عنه والسلام.
ثم سار ابن عباس إلى مكة مع أخواله بني هلال وتبعهم قيس كلها، وقد أخذ شيئا من بيت المال مما كان اجتمع له من العمالة والفئ، ولما سار تبعته أقوام أخر فلحقهم بنو غنم وأرادوا منعهم من المسير فكان بينهم قتال، ثم تحاجزوا ودخل ابن عباس مكة.
ذكر مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وما ورد من الاحاديث النبوية من الاخبار بمقتله وكيفيته كان أمير المؤمنين رضي الله عنه قد تنغصت عليه الامور، واضطرب عليه جيشه، وخالفه
__________
(1) في الطبري 6 / 80 والكامل 3 / 383: عبد الله بن عبد المدان الحارثي.
أهل العراق، ونكلوا عن القيام معه، واستفحل أمر أهل الشام، وصالوا وجالوا يمينا وشمالا، زاعمين أن الامرة لمعاوية بمقتضى حكم الحكمين في خلعهما عليا وتولية عمرو بن العاص معاوية عند خلو الامرة عن أحد، وقد كان أهل الشام بعد التحكيم يسمون معاوية الامير، وكلما ازداد أهل الشام قوة ضعف جأش أهل العراق، هذا وأميرهم علي بن أبي طالب خير أهل الارض في ذلك الزمان، أعبدهم وأزهدهم، وأعلمهم وأخشاهم لله عز وجل، ومع هذا كله خذلوه وتخلوا عنه حتى كره الحياة وتمنى الموت، وذلك لكثرة الفتن وظهور المحن، فكان يكثر أن يقول: ما يحبس أشقاها، أي ما ينتظر ؟ ما له لا يقتل ؟ ثم يقول: والله لتخضبن هذه ويشير إلى لحيته من هذه ويشير إلى هامته، كما قال البيهقي عن الحاكم عن الاصم عن محمد بن إسحاق الصنعاني (1) ثنا أبو الجواب الاحوص بن جواب، ثنا عمار بن زريق عن الاعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن ثعلبة بن
يزيد قال قال علي: " والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لتخضبن هذه من هذه للحيته من رأسه فما يحبس أشقاها " ؟ فقال عبد الله بن سبع: والله يا أمير المؤمنين لو أن رجلا فعل ذلك لابدنا عترته: فقال أنشدكم بالله أن يقتل [ بي ] غير قاتلي.
فقالوا: يا أمير المؤمنين ألا تستخلف ؟ فقال: لا ولكن أترككم كما ترككم رسول الله.
قالوا: فما تقول لربك إذا لقيته وقد تركتنا هملا ؟ أقول اللهم استخلفتني فيهم ما بدا لك ثم قبضتني وتركتك فيهم فإن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم (2).
طريق أخرى قال أبو داود الطيالسي في مسنده: ثنا شريك عن عثمان بن المغيرة عن زيد بن وهب.
قال جاءت الخوارج إلى علي فقالوا له: اتق الله فإنك ميت.
قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ولكن مقتول من ضربة على هذه تخضب هذه - وأشار بيده إلى لحيته - عهد معهود وقضى مقضي، وقد خاب من افترى (3).
طريق أخرى عنه قال الحافظ أبو يعلى: ثنا سويد بن سعيد ثنا رشدين بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة، عن عثمان بن صهيب عن أبيه.
قال قال علي: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أشقى الاولين ؟ قلت: عاقر الناقة، قال: صدقت فمن أشقى الآخرين ؟ قلت: لا علم لي يا رسول الله، قال: الذي يضربك على هذه - وأشار بيده - على يافوخه فيخضب هذه من هذه
__________
(1) في دلائل البيهقي 6 / 439 الصغاني.
(2) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 439 ورواه أيضا في السنن الكبرى عن زيد بن أسلم عن أبي سنان الدؤلي عن علي.
(3) أخرجه أبو داود الطيالسي، وعنه نقله البيهقي في الدلائل من طريق يونس بن حبيب 6 / 438.
يعني لحيته من دم رأسه قال: " فكان يقول: وددت أنه قد انبعث أشقاكم ".
طريق اخرى عن علي قال الامام أحمد: حدثنا وكيع ثنا الاعمش عن سالم بن أبي الجعد عن عبد الله بن سبع.
قال: سمعت عليا يقول لتخضبن هذه من هذه فما ينتظر بي إلا شقي، فقالوا: يا أمير المؤمنين اخبرنا به نبد عترته، قال: إذا تالله تقتلون بي غير قاتلي، قالوا: فاستخلف علينا، قال: لا ! ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فما تقول لربك إذا أتيته ؟ قال: أقول: اللهم تركتني فيهم ما بدا لك ثم قبضتني إليك وأنت فيهم، إن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم.
وقال الامام أحمد: حدثنا أسود بن عامر ثنا أبو بكر عن الاعمش عن سلمة بن كهيل عن عبد الله بن بسع قال: خطبنا علي فقال: " والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لتخضبن هذه من هذه، قال فقال الناس: فأعلمنا من هو والله لنبيدنه أو لنبيدن عترته.
قال: أنشدكم بالله أن يقتل غير قاتلي، قالوا: إن كنت علمت ذلك فاستخلف قال لا ولكن أكلكم إلى ما وكلكم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم " تفرد به أحمد.
طريق أخرى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال الامام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم ثنا محمد - يعني ابن راشد - عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن فضالة بن أبي فضالة الانصاري - وكان أبو (1) فضالة من أهل بدر -: وقال " خرجت مع أبي عائدا لعلي بن أبي طالب من مرض أصابه ثقل منه، قال فقال له أبي: ما يقيمك بمنزلك هذا لو أصابك أجلك [ لم يلك ] (2) إلا أعراب جهينة ؟ تحمل إلى المدينة فإن أصابك أجلك وليك أصحابك وصلوا عليك، فقال علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي أن لا أموت حتى أؤمر ثم تخضب هذه - يعني لحيته - من دم هذه - يعني هامته - قال فقتل وقتل أبو (1) فضالة يوم صفين " تفرد به أحمد أيضا.
وقد رواه البيهقي في الدلائل عن الحاكم عن الاصم عن الحسن بن مكرم عن أبي النضر هاشم بن القاسم به (3).
طريق أخرى عنه
قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا أحمد بن أبان القرشي ثنا سفيان بن عيينة ثنا
__________
(1) من دلائل البيهقي 6 / 438، وفي نسخ البداية المطبوعة " ابن " تحريف.
(2) من دلائل البيهقي.
(3) تقدم الحديث في كتابنا هذا الجزء السادس، ورواه أحمد في المسند 1 / 202 والهيثمي في مجمع الزوائد عن البزار 9 / 136 وأخرجه ابن سعد في الطبقات 3 / 34.
كوفي يقال له عبد الملك بن أعين عن أبي حرب بن أبي الاسود عن أبيه قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: " قال لي عبد الله بن سلام وقد وضعت رجلي في غرز الركاب لا تأتي العراق فإنك إن أتيتها أصابك بها ذباب السيف قال: وايم الله لقد قالها ولقد قالها النبي صلى الله عليه وسلم لي قبله.
قال أبو الاسود فقلت: تالله ما رأيت رجلا محاربا يحدث بهذا قبلك غيرك ".
ثم قال البزار: ولا نعلم رواه إلا علي بن أبي طالب بهذا الاسناد، ولا نعلم رواه إلا عبد مالملك بن أعين عن أبي حرب، ولا رواه عنه إلا ابن عيينة.
هكذا قال: وقد رأيت من الطرق المتعددة خلاف ذلك.
وقال البيهقي بعد ذكره طرفا من هذه الطرق: وقد روينا في كتاب السنن باسناد صحيح عن زيد بن أسلم عن أبي سنان الدؤلي عن علي في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقتله (1).
حديث آخر في ذلك قال الخطيب البغدادي: أخبرني علي بن القاسم البصري، ثنا علي بن اسحاق المارداني، أنا محمد بن اسحاق الصنعاني (2) ثنا إسماعيل بن أبان الوراق، ثنا ناصح بن عبد الله المحلمي، عن سماك، عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: " من أشقى الاولين، قال: عاقر الناقة، قال: فمن أشقى الآخرين ؟ قال الله ورسوله أعلم، قال: قاتلك ".
حديث آخر في معنى ذلك وروى البيهقي من طريق فطر بن خليفة وعبد العزيز بن سياه كلاهما عن حبيب بن أبي ثابت، عن ثعلبة الحماني قال: سمعت عليا على المنبر وهو يقول: " والله إنه لعهد النبي الامي إلي
إن الامة ستغدر بك بعدي " قال البخاري: ثعلبة بن زيد (3) الحماني في حديثه هذا نظر.
قال البيهقي: وقد رويناه باسناد آخر عن علي إن كان محفوظا.
أخبرنا أبو علي الروذباري، أنا أبو محمد بن شوذب الواسطي بها، ثنا شعيب بن أيوب، ثنا عمرو بن عون، عن هشيم، عن إسماعيل بن سالم، عن أبي أدريس الازدي عن علي.
قال: " إن مما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الامة ستغدر بك بعدي " قال البيهقي: فإن صح فيحتمل أن يكون المراد به والله أعلم في خروج من خرج عليه ثم في قتله (4).
وقال الاعمش عن عمرو بن مرة بن عبد الله بن الحارث، عن زهير بن الارقم.
قال: خطبنا علي يوم جمعة فقال نبئت أن بسرا قد طلع اليمن، وإني والله لاحسب أن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم، وما يظهرون عليكم إلا بعصيانكم إمامكم وطاعتهم إمامهم، وخيانتكم وأمانتهم، وإفسادكم في أرضكم وإصلاحهم، قد بعثت فلانا فخان وغدر،
__________
(1) انظر الدلائل 6 / 440.
(2) تقدم: هو الصغاني وليس الصنعاني.
(3) في رواية الدلائل: يزيد، وانظر ترجمته في الضعفاء الكبير.
(4) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 440.
وبعثت فلانا فخان وغدر، وبعث المال إلى معاوية لو ائتمنت أحدكم على قدح لاخذ علاقته، اللهم ستمتهم وسئموني، وكرهتهم وكرهوني، اللهم فأرحهم مني وأرحني منهم " قال: فما صلى الجمعة الاخرى حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه.
صفة مقتله رضي الله عنه ذكر ابن جرير وغير واحد من علماء التاريخ والسير وأيام الناس: أن ثلاثة من الخوارج وهم عبد الرحمن بن عمرو المعروف بابن ملجم الحميري ثم الكندي حليف بني حنيفة من كندة المصري وكان أسمر حسن الوجه أبلج شعره مع شحمة أذنيه وفي وجهه أثر السجود.
والبرك بن عبد الله التميمي (1) وعمرو بن بكر التميمي (2) أيضا - اجتمعوا فتذاكروا قتل علي إخوانهم من أهل النهروان
فترحموا عليهم وقالوا: ماذا نصنع بالبقاء بعدهم ؟ كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فلو شرينا أنفسنا فأتينا أئمة الضلال فقتلناهم فأرحنا منهم البلاد وأخذنا منهم ثأر إخواننا ؟ فقال ابن ملجم: أما أنا فأكفيكم علي ابن أبي طالب.
وقال البرك وأنا أكفيكم معاوية: وقال عمرو بن بكر وأنا أكفيكم عمرو بن العاص.
فتعاهدوا وتواثقوا أن لا ينكص رجل منهم عن صاحبه حتى يقتله أو يموت دونه فأخذوا أسيافهم فسموها واتعدوا لسبع عشرة من رمضان أن يبيت كل واحد منهم صاحبه في بلده الذي هو فيه فأما ابن ملجم فسار إلى الكوفة فدخلها وكتم أمره حتى عن أصحابه من الخوارج الذين هم بها، فبينما هو جالس في قوم من بني الرباب يتذاكرون قتلاهم يوم النهروان إذا أقبلت امرأة منهم يقال لها قطام بنت الشجنة (3)، قد قتل علي يوم النهروان أباها وأخاها، وكانت فائقة الجمال مشهورة به، وكانت قد انقطعت في المسجد الجامع تتعبد فيه، فلما رآها ابن ملجم سلبت عقله ونسي حاجته التي جاء لها، وخطبها إلى نفسها فاشترطت عليه ثلاثة آلاف درهم وخادما وقينة.
وأن يقتل لها علي بن أبي طالب.
قال: فهو لك ووالله ما جاء بي إلى هذه البلدة إلا قتل علي، فتزوجها ودخل بها ثم شرعت تحرضه على ذلك وندبت له رجلا من قومها، من تيم الرباب يقال له وردان، ليكون معه ردءا، واستمال عبد الرحمن بن ملجم رجلا آخر يقال له شبيب بن نجدة (2) الاشجعي الحروري قال له ابن ملجم: هل لك في شرف الدنيا والآخرة ؟ فقال: وما ذاك: قال ؟ قتل علي، فقال: ثكلتك أمك، لقد جئت شيئا إدا كيف تقدر عليه ؟ قال أكمن له في المسجد فإذا خرج لصلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه، فإن نجونا شفينا أنفسنا
__________
(1) في مروج الذهب 2 / 457: اسمه الحجاج بن عبد الله الصريمي، ولقبه البرك.
وفي الاخبار الطوال ص 213: النزال بن عامر.
(2) في مروج الذهب: زادويه مولى بني العنبر، وفي الاخبار الطوال ص 213: عبد الله بن مالك الصيداوي.
(3) في فتوح ابن الاعثم: 4 / 137 قطام بنت الاضبع.
وفي مروج الذهب 2 / 457: قطام ابنة عمه.
(4) في ابن سعد 3 / 36: بجرة.
وأدركنا ثأرنا، وإن قتلنا فما عند الله خير من الدنيا.
فقال: ويحك لو غير علي كان أهون علي ؟ قد عرفت سابقته في الاسلام وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أجدني أنشرح صدرا لقتله.
فقال: أما تعلم أنه قتل أهل النهروان ؟ فقال: بلى قال: فنقتله بمن قتل من اخواننا.
فأجابه إلى ذلك بعد لاي ودخل شهر رمضان فواعدهم ابن ملجم ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت (1)، وقال: هذه الليلة التي واعدت أصحابي فيها أن يثأروا بمعاوية وعمرو بن العاص فجاء هؤلاء الثلاثة - وهم ابن ملجم، ووردان، وشبيب - وهم مشتملون على سيوفهم فجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي، فلما خرج جعل ينهض الناس من النوم إلى الصلاة، ويقول: الصلاة الصلاة فثار إليه شبيب بالسيف فضربه فوقع في الطاق، فضربه ابن ملجم بالسيف على قرنه فسال دمه على لحيته رضي الله عنه، ولما ضربه ابن ملجم قال: لا حكم إلا لله ليس لك يا علي ولا لاصحابك، وجعل يتلو قوله تعالى * (ومن الناس من يشرط نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد) * [ البقرة: 207 ] ونادى علي: عليكم به، وهرب وردان فأدركه رجل من حضرموت فقتله، وذهب شبيب فنجا بنفسه وفات الناس، ومسك ابن ملجم وقدم على جعدة بن هبيرة بن أبي وهب فصلى بالناس صلاة الفجر، وحمل علي إلى منزله، وحمل إليه عبد الرحمن بن ملجم فأوقف بين يديه وهو مكتوف - قبحه الله - فقال له: أي عدو الله ألم أحسن إليك ؟ قال: بلى: قال.
فما حملك على هذا: قال ؟ شحذته أربعين صباحا وسألت الله أن يقتل به شر خلقه، فقال له علي لا أراك إلا مقتولا به، ولا أراك إلا من شر خلق الله، ثم قال: إن مت فاقتلوه وإن عشت فأنا أعلم كيف أصنع به، فقال جندب بن عبد الله: يا أمير المؤمنين إن مت نبايع الحسن ؟ فقال لا آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر.
ولما احتضر علي جعل يكثر من قول لا إله إلا الله، لا يتلفظ بغيرها.
وقد قيل إن آخر ما تكلم به * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * [ الزلزلة: 7 ].
وقد أوصى ولديه الحسن والحسين بتقوى الله والصلاة والزكاة وكظم الغيظ وصلة الرحم والحلم عن الجاهل والتفقه في الدين والتثبيت في الامر، والتعاهد للقرآن، وحسن الجوار، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتناب الفواحش، ووصاهما بأخيهما محمد بن
الحنفية ووصاه بما وصاهما به، وأن يعظمهما ولا يقطع أمرا دونهما وكتب ذلك كله في كتاب وصيته رضي الله عنه وأرضاه.
وصورة الوصية: " بسم الله الرحمن الرحيم ! هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، أوصيك يا حسن وجميع ولدي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ربكم
__________
(1) كذا بالاصل والطبري والكامل، وفي فتوح ابن الاعثم: يوم ثالث وعشرين من شهر رمضان، وفي شرح النهج 2 / 175: تسع عشرة.
وفي الكامل للمبرد ص / 550: إحدى وعشرين من شهر رمضان.
ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: " إن صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام " أنظروا إلى ذوي أرحاكم فصلوا ليهون الله عليكم الحساب الله الله في الايتام فلا تعفو أفواههم ولا يضيعن بحضرتكم، والله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم، ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم، والله الله في القرآن فلا يسبقنكم إلى العمل به غيركم، والله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم، والله الله في بيت ربكم فلا يخلون منكم ما بقيتم فإنه إن ترك لم تناظروا، والله الله في شهر رمضان فإن صيامه جنة من النار، والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، والله الله في الزكاة فإنها تطفئ غضب الرب، والله الله في ذمة نبيكم لا تظلمن بين ظهرانيكم، والله الله في أصحاب نبيكم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بهم، والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معاشكم، والله الله فيما ملكت أيمانكم فإن آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: " أوصيكم بالضعيفين نسائكم وما ملكت أيمانكم " الصلاة الصلاة لا تخافن في الله لومة لائم يكفكم من أرادكم وبغى عليكم، وقولوا للناس حسنا كما أمركم الله، ولا تتركوا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولي الامر شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم، وعليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع
والتفرق، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب، حفظكم الله من أهل بيت، وحفظ عليكم نبيكم، أستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام ورحمه الله (1).
ثم لم ينقط إلا بلا إله إلا الله حتى قبض في شهر رمضان سنة أربعين.
وقد غسله ابناه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وصلى عليه الحسن فكبر عليه تسع تكبيرات (2).
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو أحمد الزبيري ثنا شريك عن عمران بن ظبيان عن أبي يحيى قال: لما ضرب ابن ملجم عليا قال لهم " افعلوا به كما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل برجل أراد قتله فقال: اقتلوه ثم حرقوه ".
وقد روي أن أم كلثوم قالت لابن ملجم وهو واقف: ويحك ! لم ضربت أمير المؤمنين ؟ قال: إنما ضربت أباك فقالت: إنه لا بأس عليه، فقال: لم تبكين ؟ والله لقد ضربته ضربة لو أصابت أهل المصر لماتوا أجمعين، والله لقد سمعت هذا السيف شهرا ولقد اشتريته بألف وسممته بألف.
قال الهيثم بن عدي: حدثني رجل من بجيلة عن مشيخة قومه أن عبد الرحمن بن ملجم رأى امرأة من تيم الرباب يقال لها قطام كانت من أجمل النساء ترى رأي الخوارج، قد قتل علي قومها على هذا الرأي فلما أبصرها عشقها فخطبها فقالت: لا أتزوجك إلا على ثلاثة آلاف وعبد
__________
(1) وردت وصيته في الطبري 6 / 85 - 86، ووردت في فتوح ابن الاعثم 4 / 143 - 144 باختلاف يسير، وانظر أيضا لوصاياه في شرح نهج البلاغة 2 / 180.
(2) في ابن سعد 3 / 38: أربع تكبيرات.
وفي مروج الذهب 2 / 461: سبع تكبيرات.
وقينة، فتزوجها على ذلك فلما بنى بها قالت له: يا هذا قد فرعت فافرع فخرج ملبسا سلاحه وخرجت معه فضربت له قبة في المسجد وخرج علي يقول: الصلاة الصلاة، فاتبعه عبد الرحمن فضربه بالسيف على قرن رأسه فقال الشاعر: - قال ابن جرير: هو ابن أبي مياس المرادي.
فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة * كمهر قطام بينا (1) غير معجم ثلاثة آلاف وعبد وقينة * وقتل (2) علي بالحسام المصمم
فلا مهر أغلا من علي وإن غلا * ولا فتك إلا دون فتك (3) ابن ملجم وقد عزى ابن جرير هذه الابيات إلى ابن شاس (4) المرادي وأنشد له ابن جرير في قتلهم عليا: ونحن ضربنا مالك الخير حيدرا * أبا حسن مأمومة فتقطرا ونحن خلعنا ملكه من نظامه * بضربة سيف إذ علا وتجبرا ونحن كرام في الهياج أعزة * إذا الموت بالموت ارتدى وتأزرا وقد امتدح ابن ملجم بعض الخوارج المتأخرين في زمن التابعين وهو عمران بن حطان وكان أحد العباد ممن يروي عن عائشة في صحيح البخاري فقال فيه: يا ضربة من تقي ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لاذكره يوما فأحسبه * أوفى البرية عند الله ميزانا وأما صاحب معاوية - وهو البرك - فإنه حمل عليه وهو خارج إلى صلاة الفجر في هذا اليوم فضربه بالسيف، وقيل بخنجر مسموم فجاءت الضربة في وركه فجرحت إليته ومسك الخارجي فقتل، وقد قال لمعاوية: اتركني فإني أبشرك ببشارة، فقال: وما هي ؟ فقال: إن أخي قد قتل في هذا اليوم علي بن أبي طالب، قال: فلعله لم يقدر عليه، قال: بلى إنه لا حرس معه، فأمر به فقتل (5)، وجاء الطبيب فقال لمعاوية: إن جرحك مسموم فأما أن أكويك وأما أن أسقيك شربة فيذهب السم ولكن ينقطع نسلك فقال معاوية: أما النار فلا طاقة لي بها، وأما النسل ففي
__________
(1) في الطبري 6 / 87 والاخبار الطوال ص 214: من.
(2) في الطبري والاخبار الطوال: وضرب.
(3) كذا بالاصل والاخبار الطوال.
وفي نسخة والطبري: ولا قتل دون قتل.
(4) في الطبري 6 / 87: ابن أبي مياس.
وفي سمط النجوم العوالي 2 / 468 الفرزدق، وفي شرح النهج 2 / 171 والكامل للمبرد ص 549 هذه الابيات منسوبة إلى ابن ملجم لعنه الله.
وفي الاخبار الطوال ص 214 قال الشاعر، وفي فتوح ابن الاعثم: يقول العبدي، وزاد على الابيات ثلاثة أبيات أخرى 4 / 147.
(5) في مروج الذهب 2 / 464: قال بعض الناس حبسه حتى جاءه خبر قتل علي فأطلقه.
وفي رواية في الكامل 3 / 393: قيل إن معاوية لم يقتله إنما قطعت يده ورجله وبقي إلى أن ولي زياد البصرة وقد صار إليها البرك وولد له، فقتله زياد وصلبه.
يزيد وعبد الله ما تقر به عيني.
فسقاه شربة (1) فبرأ من ألمه وجراحه واستقل وسلم رضي الله عنه.
ومن حينئذ عملت المقصورة في المسجد الجامع وجعل الحرس حولها في حال السجود، فكان أول من اتخذها معاوية لهذه الحادثة.
وأما صاحب عمرو بن العاص - وهو عمرو بن بكر - فإنه كمن له ليخرج إلى الصلاة فاتفق أن عرض لعمرو بن العاص مغص شديد في ذلك اليوم فلم يخرج إلا نائبه إلى الصلاة - وهو خارجة بن أبي حبيبة (2) من بني عامر بن لؤي وكان على شرطة عمرو بن العاص فحمل عليه الخارجي فقتله وهو يعتقده عمرو بن العاص، فلما أخذ الخارجي قال: أردت عمرا وأراد الله خارجة، فأرسلها مثلا، وقتل قبحه الله، وقد قيل إن الذي قالها عمرو بن العاص، وذلك حين جئ بالخارجي فقال: ما هذا ؟ قالوا قتل نائبك خارجة، ثم أمر به فضربت عنقه.
والمقصود أن عليا رضي الله عنه لما مات صلى عليه ابنه الحسن فكبر عليه تسع تكبيرات ودفن بدار الامارة بالكوفة خوفا عليه من الخوارج أن ينبشوا عن جثته، هذا هو المشهور ومن قال إنه حمل على راحلته فذهبت به فلا يدري أين ذهب فقد أخطأ وتكلف مالا علم له به ولا يسيغه عقل ولا شرع، وما يعتقده كثير من جهلة الروافض من أن قبره بمشهد النجف فلا دليل على ذلك ولا أصل له، ويقال إنما ذاك قبر المغيرة بن شعبة، حكاه الخطيب البغدادي عن أبي نعيم الحافظ عن أبي بكر الطلحي، عن محمد بن عبد الله الحضرمي الحافظ، عن مطر أنه قال: لو علمت الشيعة قبر هذا الذي يعظمونه بالنجف لرجموه بالحجارة، هذا قبر المغيرة بن شعبة.
قال الواقدي: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي الباقر كم كان سن علي يوم قتل ؟ قال: ثلاثا وستين سنة.
قلت: أين دفن ؟ قال: دفن
بالكوفة ليلا وقد غبي عن دفنه، وفي رواية عن جعفر الصادق أنه كان عمره ثمان وخمسين سنة، وقد قيل إن عليا دفن قبلي المسجد الجامع من الكوفة.
قاله الواقدي، والمشهور بدار الامارة.
وقد حكى الخطيب البغدادي عن أبي نعيم الفضل بن دكين، أن الحسن والحسين حولاه فنقلاه إلى المدينة فدفناه بالبقيع عند قبر فاطمة، وقيل إنهم لما حملوه على البعير ضل منهم فأخذته طئ يظنونه مالا فلما رأوا أن الذي في الصندوق ميت ولم يعرفوه دفنوا الصندوق بما فيه فلا يعلم أحد أين قبره، حكاه الخطيب أيضا.
وروى الحافظ ابن عساكر عن الحسن قال: دفنت عليا في حجرة من دور آل جعدة.
وعن عبد الملك بن عمير قال: لما حفر خالد بن عبد الله أساس دار ابنه يزيد
__________
(1) كذا بالاصل والطبري والكامل، وفي الاخبار الطوال ص 215: أمر (الطبيب) أن يقطع ما حول الوجأة من اللحم.
خوفا من أن يكون الخنجر مسموما.
(2) كذا بالاصل والكامل، وفي الطبري 6 / 87: خارجة بن حذافة، وقال في مروج الذهب 2 / 464 كان قاضي مصر.
استخرجوا شيخا مدفونا أبيض الرأس واللحية كأنما دفن بالامس فهم باحراقه ثم صرفه الله عن ذلك فاستدعى بقباطي فلفه فيها وطيبه وتركه مكانه.
قالوا وذلك المكان بحذاء باب الوراقين مما يلي قبلة المسجد في بيت اسكاف وما يكاد يقر في ذلك الموضع أحد إلا انتقل منه.
وعن جعفر بن محمد الصادق: قال: صلي على علي ليلا ودفن بالكوفة وعمي موضع قبره ولكنه عند قصر الامارة.
وقال ابن الكلبي: شهد دفنه في الليل الحسن والحسين وابن الحنفية وعبد الله بن جعفر وغيرهم من أهل بيتهم فدفنوه في ظاهر الكوفة وعموا قبره خيفة عليه من الخوارج وغيرهم، وحاصل الامر أن عليا قتل يوم الجمعة سحرا وذلك لسبع عشرة خلت من رمضان من سنة أربعين وقيل إنه قتل في ربيع الاول والاول هو الاصح الاشهر والله أعلم.
ودفن بالكوفة عن ثلاث وستين سنة وصححه الواقدي وابن جرير وغير واحد، وقيل عن خمس وستين وقيل عن ثمان وستين سنة رضي الله عنه.
وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر.
فلما مات علي رضي الله عنه استدعى
الحسن بابن ملجم فقال له ابن ملجم: إني أعرض عليك خصلة قال: وما هي ؟ قال: إني كنت عاهدت الله عند الحطيم (1) أن أقتل عليا ومعاوية أو أموت دونهما، فإن خليتني ذهبت إلى معاوية على أني إن لم أقتله أو قتلته وبقيت فلله علي أن أرجع إليك حتى أضع يدي في يدك.
فقال له الحسن: كلا والله حتى تعاين النار، ثم قدمه فقتله ثم أخذه الناس فأدرجوه في بواري (2) ثم أحرقوه بالنار، وقد قيل إن عبد الله بن جعفر قطع يديه ورجليه وكحلت عيناه وهو مع ذلك يقرأ سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق إلى آخرها ثم جاؤوا ليقطعوا لسانه فجزع وقال: إني أخشى أن تمر علي ساعة لا أذكر الله فيها ثم قطعوا لسانه ثم قتلوه ثم حرقوه في قوصرة والله أعلم.
وروى ابن جرير قال: حدثني الحارث ثنا ابن سعد عن محمد بن عمر قال: ضرب علي يوم الجمعة فمكث يوم الجمعة، وليلة السبت وتوفي ليلة الاحد لاحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان سنة أربعين عن ثلاث وستين سنة.
قال الواقدي: وهو المثبت عندنا والله أعلم بالصواب.
ذكر زوجاته وبنيه وبناته قال الامام أحمد: حدثنا حجاج ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن هانئ بن هانئ عن علي قال: " لما ولد الحسن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أروني ابني، ما سميتموه ؟ فقلت: سميته حربا، فقال: بل هو حسن، فلما ولد الحسين قال: أروني ابني، ما سميتموه ؟ فقلت: سميته حربا قال: بل هو حسين، فلما ولد الثالث جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال أروني ابني ما سميتموه ؟ فقلت:
__________
(1) الحطيم: في مكة ما كان بين الركن الاسود والباب.
وكان ابن ملجم ورفيقاه قد اتفقوا وتعاهدوا في الموسم على تنفيذ مؤامرتهم بقتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص.
وذكر الاستاذ واشنطن ايرفنج انهم اجتمعوا بمسجد مكة وذكر أهل النهر...(2) بواري: الارض الخربة.
حربا فقال: بل هو محسن، ثم قال: إني سميتهم باسم ولد هارون شبر وشبير ومشبر " (1) وقد رواه محمد بن سعد عن يحيى بن عيسى التيمي عن الاعمش عن سالم بن أبي الجعد قال قال علي:
كنت رجلا أحب الحرب فلما ولد الحسن هممت أن أسميه حربا، فذكر الحديث بنحو ما تقدم لكن لم يذكر الثالث.
وقد ورد في بعض الاحاديث أن عليا سمى الحسن أولا بحمزة وحسينا بجعفر فغير اسميهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأول زوجة تزوجها علي رضي الله عنه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى بها بعد وقعة بدر فولدت له الحسن وحسينا ويقال ومحسنا ومات وهو صغير، وولدت له زينب الكبرى وأم كلثوم وهذه تزوج بها عمر بن الخطاب كما تقدم.
ولم يتزوج علي على فاطمة حتى توفيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، فلما ماتت تزوج بعدها بزوجات كثيرة، منهن من توفيت في حياته ومنهن من طلقها، وتوفي عن أربع كما سيأتي، فمن زوجاته أم البنين بنت حرام وهو المحل بن خالد (2) بن ربيعة بن كعب بن عامر بن كلاب فولدت له العباس وجعفرا وعبد الله وعثمان.
وقد قتل هؤلاء مع أخيهم الحسين بكربلاء ولا عقب لهم سوى العباس.
ومنهن ليلى بنت مسعود بن خالد بن مالك من بني تميم فولدت له عبيد الله وأبا بكر، قال هشام بن الكلبي: وقد قتلا بكربلاء أيضا.
وزعم الواقدي أن عبيد الله قتله المختار بن أبي عبيد يوم الدار (3).
ومنهن أسماء بنت عميس الخثعمية فولدت له يحيى ومحمدا الاصغر قاله الكلبي.
وقال الواقدي: ولدت له يحيى وعونا قال الواقدي: فأما محمد الاصغر فمن أم ولد.
ومنهن أم حبيبة بنت زمعة (4) بن بحر بن العبد بن علقمة وهي أم ولد من السبي الذين سباهم خالد من بني تغلب حين أغار على عين التمر فولدت له عمر - وقد عمر خمسا وثلاثين (5) سنة - ورقية.
ومنهن أم سعيد بنت عروة بن مسعود بن معتب بن مالك الثقفي فولدت له أم الحسن ورملة الكبرى.
ومنهن ابنة امرئ القيس (6) بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم بن كلب الكلبية فولدت له جارية فكانت تخرج مع علي إلى المسجد وهي صغيرة فيقال لها: من أخوالك ؟ فتقول: وه وه تعني بني كلب: ومنهن أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي وأمها زينب بنت رسول الله
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 1 / 98، 118.
(2) في نسبه: في ابن سعد 3 / 20: خالد بن جعفر بن ربيعة بن الوحيد بن عامر بن كعب بن كلاب وفي الطبري
6 / 89: خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب، وفي الاصابة: 1 / 375: خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كلاب بن ربيعة العامري ثم الوحيدي.
(3) في ابن سعد والطبري: بالمذار.
(4) في الطبري والكامل وابن سعد: وهي الصهباء بنت ربيعة بن بجير...(5) في الطبري والكامل: خمسا وثمانين.
(6) واسمها محياة قاله ابن سعد والطبري، وفي الكامل: مخباة.
صلى الله عليه وسلم، وهي التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحملها وهو في الصلاة إذا قام حملها وإذا سجد وضعها، فولدت له محمدا الاوسط، وأما ابنه محمد الاكبر فهو ابن الحنفية وهي خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل سباها خالد أيام الصديق أيام الردة من بني حنيفة فصارت لعلي بن أبي طالب فولدت له محمدا هذا، ومن الشيعة من يدعي فيه الامامة والعصمة، وقد كان من سادات المسلمين ولكن ليس بمعصوم ولا أبوه معصوم بل ولا من هو أفضل من أبيه من الخلفاء الراشدين قبله ليسوا بواجبي العصمة كما هو مقرر في موضعه والله أعلم.
وقد كان لعلي أولاد كثيرة من أمهات أولاد شتى فإنه مات عن أربع نسوة وتسع عشرة سرية رضي الله عنه فمن أولاده رضي الله عنهم ممن لا يعرف أسماء أمهاتهم أم هانئ وميمونة وزينب الصغرى ورملة الكبرى وأم كلثوم الصغرى وفاطمة وأمامة وخديجة وأم الكرام وأم جعفر وأم سلمة وجمانة، قال ابن جرير: فجميع ولد علي أربعة عشر ذكرا وسبع عشرة أنثى (1).
قال الواقدي: وإنما كان النسل من خمسة وهم الحسن والحسين ومحمد [ ابن الحنفية والعباس بن ] (2) الكلابية وعمر بن التغلبية رضي الله عنهم أجمعين.
وقد قال ابن جرير: حدثتي ابن سنان القزاز ثنا أبو عاصم ثنا مسكين بن عبد العزيز أنا حفص بن خالد حدثني أبي خالد بن جابر قال: " سمعت الحسن لما قتل علي قام خطيبا فقال: لقد قتلتم الليلة رجلا في ليلة نزل فيها القرآن، ورفع فيها عيسى بن مريم، وفيها
قتل يوشع بن نون فتى موسى والله ما سبقه أحد كان قبله ولا يدركه أحد يكوه بعده، والله أن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبعثه في السرية جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، والله ما ترك صفراء ولا بيضاء إلا ثمانمائة أو تسعمائة أرصدها لحادثة " وهذا غريب جدا وفيه نكارة والله أعلم.
وهكذا رواه أبو يعلى عن إبراهيم بن الحجاج عن مسكين به.
وقال الامام أحمد: حدثنا وكيع عن شريك عن أبي إسحاق عن هبيرة قال: خطبنا الحسن بن علي قال: " لقد فارقكم رجل بالامس لم يسبقه الاولون بعلم ولا يدركه الآخرون، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه بالراية جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله لا ينصرف حتى يفتح له.
ورواه زيد العمي وشعيب بن خالد عن أبي إسحاق به وقال " ما ترك إلا سبعمائة كان أرصدها يشتري بها خادما " (3): وقال الامام أحمد: حدثنا حجاج ثنا شريك، عن عاصم بن كريب، عن محمد بن كعب القرظي أن عليا قال: " لقد رأيتني مع رسول الله وإني لاربط الحجر على بطني من الجوع، وإن صدقتي اليوم لتبلغ أربعين ألفا " ورواه عن أسود عن شريك به وقال " إن صدقتي لتبلغ أربعين ألف دينار ".
__________
(1) في ابن سعد: تسع عشرة انثى.
(2) بياض في الاصل، والزيادة من الطبري وابن سعد.
(3) وهي رواية المسعودي في مروج الذهب 2 / 461 وفتوح ابن الاعثم 4 / 146 وزاد: قال الحسن وقد أمرني أن أردها إلى بيت المال.
شئ من فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من ذلك أنه أقرب العشرة المشهود لهم بالجنة نسبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنه علي بن أبي طالب بن عبد المطلب واسمه شيبة بن هاشم واسمه عمرو بن عبد مناف واسمه المغيرة بن قصي واسمه زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، أبو الحسن القرشي الهاشمي فهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.
قال الزبير بن بكار: وهي
أول هاشمية ولدت هاشميا.
وقد أسلمت وهاجرت، وأبوه هو العم الشقيق الرفيق أبو طالب واسمه عبد مناف كذا نص على ذلك الامام أحمد بن حنبل هو وغير واحد من علماء النسب وأيام الناس.
وزعمت الروافض أن اسم أبي طالب عمران وانه المراد من قوله تعالى * (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) * [ آل عمران: 33 ] وقد أخطأوا في ذلك خطأ كثيرا ولم يتأملوا القرآن قبل أن يقولوا هذا البهتان من القول في تفسيرهم له على غير مراد الله تعالى، فإنه قد ذكر بعد هذه قوله تعالى * (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا) * [ آل عمران: 35 ] فذكر ميلاد مريم بنت عمران عليها السلام وهذا ظاهر ولله الحمد.
وقد كان أبو طالب كثير المحبة الطبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن به إلى أن مات على دينه كما ثبت ذلك في صحيح البخاري من رواية سعيد بن المسيب عن أبيه في عرضه عليه السلام على عمه أبي طالب وهو في السياق أن يقول لا إله إلا الله فقال له أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فقال كان آخر ما قال هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فخرج رسول الله وهو يقول " أما لاستغفرن لك ما لم أنه عنك " فنزل في ذلك قوله تعالى * (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) * [ القصص: 56 ] ثم نزل بالمدينة قوله تعالى * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم.
وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لاواه حليم) * [ التوبة: 113 ] وقد قررنا ذلك في أوائل المبعث ونبهنا على خطأ الرافضة في دعواهم أنه أسلم وافترائهم ذلك بلا دليل على مخالفة النصوص الصريحة.
وأما علي رضي الله عنه فإنه أسلم قديما وهو دون البلوغ على المشهور، ويقال إنه أول من أسلم من الغلمان، كما أن خديجة أول من أسلم من النساء، وأبو بكر الصديق أول من أسلم من الرجال الاحرار، وزيد بن حارثة أول من أسلم من الموالي.
وقد روى الترمذي وأبو يعلى عن إسماعيل بن السدي عن علي بن عياش عن مسلم الملائي عن حبة بن جوين عن علي - وحبة لا يساوي حبة - عن أنس بن مالك قال: " بعث رسول الله يوم الاثنين وصلى علي يوم الثلاثاء "
ورواه بعضهم عن مسلم الملائي عن حبة بن جوين عن علي - وحبة لا يساوي حبة - وقد روى سلمة بن كهيل عن حبة عن علي قال: عبدت الله مع رسول الله سبع سنين قبل أن يعبده أحد "
وهذا لا يصح أبدا وهو كذب وروى سفيان الثوري وشعبة عن سلمة عن حبة عن علي قال: " أنا أول من أسلم " وهذا لا يصح أيضا وحبة ضعيف وقال سويد بن سعيد ثنا نوح بن قيس بن سليمان بن عبد الله عن معاذة العدوية قالت: سمعت علي بن أبي طالب على منبر البصرة يقول: " أنا الصديق الاكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، وأسلمت قبل أن يسلم " وهذا لا يصح قاله البخاري، وقد ثبت عنه بالتواتر أنه قال على منبر الكوفة: " أيها الناس ! إن خير هذه الامة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ولو شئت أن أسمي الثالث لسميت ".
وقد تقدم ذلك في فضائل الشيخين رضي الله عنهما وارضاهما.
قال الامام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، ثنا أبو عوانة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس قال: " أول من صلى - وفي رواية أسلم - مع رسول الله بعد خديجة علي بن أبي طالب " ورواه الترمذي من حديث شعبة عن أبي بلج به وقد روي عن زيد بن أرقم وأبي أيوب الانصاري أنه صلى قبل الناس بسبع سنين وهذا لا يصح من أي وجه كان روي عنه.
وقد ورد في أنه أول من أسلم من هذه الامة أحاديث كثيرة لا يصح منها شئ، وأجود ما في ذلك ما ذكرنا.
على أنه قد خولف فيه وقد اعتنى الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر في تاريخه بتطريق هذه الروايات، فمن أراد كشف ذلك فعليه بكتابه التاريخ والله الموفق للصواب.
وقد روى الترمذي والنسائي عن عمرو بن مرة، عن طلحة بن زيد، عن زيد بن أرقم قال: " أول من أسلم علي " قال الترمذي: حسن صحيح.
وصحب علي رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة مقامه بمكة، وكان عنده في المنزل وفي كفالته في حياة أبيه لفقر حصل لابيه في بعض السنين مع كثرة العيال، ثم استمر في نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلى زمن الهجرة وقد خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليؤدي ما كان عنده عليه السلام من ودائع الناس، فإنه كان يعرف في قومه بالامين، فكانوا يودعونه الاموال والاشياء النفسية ثم هاجر علي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن توفي وهو راض
عنه وحضر معه مشاهده كلها وجرت له مواقف شريفة بين يديه في مواطن الحرب كما بينا ذلك في السيرة بما أغنى عن إعادته ها هنا، كيوم بدر وأحد والاحزاب وخيبر وغيرها، ولما استخلفه عام تبوك على أهله بالمدينة قال: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي " وقد ذكرنا تزويجه فاطمة بنت رسول الله ودخوله بها بعد وقعة بدر بما أغنى عن إعادته.
ولما رجع عليه السلام من حجة الوداع فكان بين مكة والمدينة بمكان يقال له غدير خم خطب الناس هنالك في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة في خطبته: " من كنت مولاه فعلي مولاه " وفي بعض الروايات: " اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله " والمحفوظ الاول، وإنما كان سبب هذه الخطبة والتنبيه على قضله ما ذكره ابن إسحاق من أن عليا لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن أميرا هو وخالد بن الوليد ورجع علي فوافى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة في حجة الوداع وقد كثرت فيه المقالة وتكلم فيه بعض من كان معه بسبب استرجاعه منهم خلعا كان خلعها نائبه عليهم لما تعجل السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما تفرغ رسول الله من حجة الوداع أحب أن
يبرئ ساحة علي مما نسب إليه من القول الذي لا أصل له، وقد اتخذت الروافض هذا اليوم عيدا، فكانت تضرب فيه الطبول ببغداد في أيام بني بويه في حدود الاربعمائة كما سننبه عليه إذا انتهينا إليه إن شاء الله.
ثم بعد ذلك بنحو من عشرين يوما تعلق المسوح على أبواب الدكاكين ويذر التبن والرماد، وتدور الذراري والنساء في سكك البلد تنوح على الحسين بن علي يوم عاشوراء صبيحة قراءتهم المصرع المكذوب في قتله، وسنبين الحق في صفة قتله كيف وقع الامر على الجلية إن شاء الله تعالى.
وقد كان بعض بني أمية يعيب عليا بتسميته أبا تراب وهذا الاسم إنما سماه به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين عن سهل بن سعد أن عليا غاضب فاطمة فراح إلى المسجد فجاءه رسول الله فوجده نائما وقد لصق التراب بجلده فجعل ينفض عنه التراب ويقول: " إجلس أبا تراب ".
حديث المؤاخاة
قال الحاكم حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجنيد، ثنا الحسين بن جعفر القرشي، ثنا العلاء بن عمرو الحنفي، ثنا أيوب بن مدرك، عن مكحول عن أبي أمامة قال: " لما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس آخى بينه وبين علي " ثم قال الحاكم لم نكتبه من حديث مكحول إلا من هذا الوجه وكان المشايخ يعجبهم هذا الحديث لكونه من رواية أهل الشام.
قلت: وفي صحة هذا الحديث نظر، وورد من طريق أنس وعمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أنت أخي في الدنيا والآخرة " وكذلك من طريق زيد بن أبي أوفى وابن عباس ومحدوج بن زيد الذهلي وجابر بن عبد الله وعامر بن ربيعة وأبي ذر وعلي نفسه نحو ذلك واسانيدها كلها ضعيفة لايقو بشئ منها حجة والله أعلم.
وقد جاء من غير وجه أنه قال: " أنا عبد الله وأخو رسوله لا يقولها بعدي إلا كذاب " وقال الترمذي: ثنا يوسف بن موسى القطان البغدادي، ثنا علي بن قادم، ثنا علي بن صالح بن حيي.
عن حكيم بن جبير، عن جميع بن عمير التيمي، عن ابن عمر قال: " آخى رسول الله بين أصحابه فجاء علي تدمع عيناه فقال يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تواخي بيني وبين أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت أخي في الدنيا والآخرة " ثم قال: هذا حديث حسن غريب وفيه عن زيد بن أبي أوفى، وقد شهد بدرا.
وقد قال رسول الله لعمر: " وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " ؟ وبارز يومئذ كما تقدم وكانت له اليد البيضاء ودفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية يومئذ وهو ابن عشرين سنة قاله الحكم عن مقسم عن ابن عباس.
قال وكانت تكون معه راية المهاجرين في المواقف كلها، وكذلك قال سعيد بن المسيب وقتادة.
وقال خيثمة بن سليمان الاطرابلسي الحافظ: حدثنا أحمد بن حازم عن ابن أبي غرزة، ثنا إسماعيل بن أبان، ثنا ناصح بن عبد الله المحلمي، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة قال قالوا يا رسول الله من يحمل رايتك يوم القيامة ؟ قال: " ومن عسى أن يحملها يوم القيامة إلا من
كان يحملها في الدنيا علي بن أبي طالب " ؟ وهذا إسناد ضعيف.
ورواه ابن عساكر عن أنس بن مالك ولا يصح أيضا.
وقال الحسن بن عرفة: حدثني عمار بن محمد عن سعيد بن محمد
الحنظلي، عن أبي جعفر بن علي قال: نادى مناد في السماء يوم بدر: " لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا على " قال الحافظ ابن عساكر وهذا مرسل وإنما تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر ثم وهبه لعلي بعد ذلك (1).
وقال الزبير بن بكار: حدثني علي بن المغيرة عن معمر بن المثنى قال: كان لواء المشركين يوم بدر مع طلحة بن أبي طلحة فقتله علي بن أبي طالب ففي ذلك يقول الحجاج بن علاط السلمي: لله أي مذنب عن حربه * أعني ابن فاطمة المعم المخولا جادت يداك له بعاجل طعنة * تركت طليحة للجبين مجندلا وشددت شدة باسل فكشفتهم * بالحق إذ يهوون أخول أخولا وعللت سيفك بالدماء ولم تكن * لترده حران حتى ينهلا وشهد بيعة الرضوان وقد قال الله تعالى * (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) * [ الفتح: 18 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لن يدخل أحد بايع تحت الشجرة النار ".
وقد ثبت في الصحاح وغيرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: " لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ليس بفرار يفتح الله على يديه " فبات الناس يدوكون (2) أيهم يعطاها حتى قال عمر: ما أحببت الامارة إلا يومئذ، فلما أصبح أعطاها عليا ففتح الله على يديه (3)، ورواه جماعة منهم مالك والحسن ويعقوب بن عبد الرحمن وجرير بن عبد الحميد، وحماد بن سلمة، وعبد العزيز بن المختار، وخالد بن عبد الله بن سهيل، عن أبيه عن أبي هريرة أخرح مسلم.
ورواه ابن أبي حازم عن سهل بن سعد أخرجاه في الصحيحين وقال في حديثه: " فدعا به رسول الله وهو أرمد فبصق في عينيه فبرأ " ورواه إياس بن سلمة بن الاكوع عن أبيه ويزيد بن أبي عبيد عن مولاه سلمة أيضا، وحديثه عنه في الصحيحين (4).
وقال محمد بن إسحاق: حدثني بريدة عن سفيان عن أبي فروة الاسلمي عن أبيه عن سلمة بن عمرو بن الاكوع قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر الصديق برايته إلى بعض حصون خيبر، فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح وقد جهد، ثم بعث عمر بن الخطاب فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح وقد جهد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أخرجه الترمذي في السير، باب في النفل عن هناد بن السري.
وأخرجه ابن ماجه في الجهاد (باب) السلاح عن أبي كريب عن محمد بن الصلت كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن ابن عباس.
(2) يدوكون: أي يخوضون ويموجون، يقال: وقع الناس في دوكة أي اختلاط وخوض.
(3) أخرجه البخاري في المغازي (38) باب.
ومسلم في كتاب فضائل الصحابة (4) باب ح (34) عن قتيبة بن سعيد.
ورواه مسلم عن أبي هريرة من طريق سهيل بن أبي صالح (ح 33) ص (1871).
(4) البخاري في غزوة خيبر ومسلم في فضائل أصحاب النبي ح (35).
لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه ليس بفرار، قال سلمة: فدعا رسول الله عليا وهو أرمد فتفل في عينيه ثم قال: خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك، قال سلمة فخرج والله بها يهرول هرولة وإنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رجم من حجارة تحت الحصن فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن فقال: من أنت ؟ قال: علي بن أبي طالب، قال اليهودي: غلبتم ومن أنزل التوراة على موسى قال: فما رجع حتى فتح الله على يديه " (1) وقد رواه عكرمة بن عمار، عن عطاء مولى السائب عن سلمة بن الاكوع وفيه أنه هو الذي جاء به يقوده وهو أرمد حتى بصق رسول الله في عينيه فبرأ.
رواية بريدة بن الحصيب.
وقال الامام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب ثنا الحسين بن واقد، حدثني عبد الله بن بريدة، حدثني بريدة بن الحصيب قال: حاصرنا خيبر فأخذ اللواء أبو بكر فانصرف ولم يفتح له، ثم أخذه من الغد عمر فخرج فرجع ولم يفتح له، وأصاب الناس يومئذ شدة وجهد فقال رسول الله: إني دافع اللواء غدا إلى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح له - وبتنا طيبة أنفسنا أن الفتح غدا - قال: فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الغداة، ثم قام قائما فدعا باللواء والناس على مصافهم فدعا عليا وهو أرمد فتفل في عينيه ودفع إليه اللواء ففتح له، قال بريدة: وأنا فيمن تطاول لها (2)، ورواه النسائي من حديث الحسين بن واقد به أطول منه ثم رواه أحمد عن محمد بن جعفر وروح كلاهما عن عوف عن ميمون أبي عبد الله الكردي
عن عبد الله بن بريدة عن أبيه به نحوه، وأخرجه النسائي عن بندار وغندر به وفيه الشعر.
رواية عبد الله بن عمر ورواه هشيم عن العوام بن حوشب، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر فذكر سياق حديث بريدة ورواه كثير من النواء عن جميع بن عمير عن ابن عمر نحوه وفيه " قال علي: فما رمدت بعد يومئذ " ورواه أحمد عن وكيع عن هشام بن سعيد عن عمر بن أسيد عن ابن عمر كما سيأتي.
رواية ابن عباس وقال أبو يعلى: حدثنا يحيى بن عبد الحميد، ثنا أبو عوانة، عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فقال أين علي ؟ قالوا: يطحن، قال وما أحد منهم يرضى أن يطحن، فأتي به فدفع إليه الراية فجاء بصفية بنت حيي بن أخطب " وهذا غريب من هذا الوجه وهو مختصر من حديث طويل، ورواه الامام أحمد عن يحيى بن حماد، عن أبي عوانة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس فذكره بتمامه فقال الامام أحمد عن يحيى بن حماد: ثنا
__________
(1) رواه ابن هشام في السيرة 3 / 289 - 290 وعبارة " وما انزل على موسى " المراد بها القسم بما أنزل عليه.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 5 / 353 ورواه البيهقي في الدلائل 4 / 210.
أبو عوانة ثنا أبو بلج ثنا عمرو بن ميمون قال: إني لجالس إلى ابن عباس، إذ أتاه تسعة رهط فقالوا: يا بن عباس أما أن تقوم معنا وإما أن تخلونا هؤلاء ؟ فقال: بل أقوم معكم - وهو يومئذ صحيح قبل أن يعمى - قال: وابتدأوا فتحدثوا فلا ندري ما قالوا قال فجاء ينفض ثوبه ويقول: أف وتف، وقعوا في رجل له عشر وقعوا في رجل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " لابعثن رجلا لا يخزيه الله أبدا يحب الله ورسوله قال: فاستشرف لها من استشرف قال: أي علي ؟ قالوا: هو في الرحا يطحن، قال: وما كان أحدكم ليطحن، قال فجاء وهو أرمد لا يكاد أن يبصر فنفث في عينيه ثم هز الراية ثلاثا فأعطاها إياه فجاء بصفية بنت حيي بن أخطب قال: ثم بعث فلانا بسورة التوبة فبعث عليا خلفه فأخذها ثم قال: لا يذهب بها إلا رجل مني وأنا منه.
قال وقال لبني عمه: أيكم
يواليني في الدنيا والآخرة ؟ فأبوا قال: وعلي معه جالس فقال علي: أنا أواليك في الدنيا والآخرة قال فتركه ثم أقبل على رجال منهم فقال: أيكم يواليني في الدنيا والآخرة فأبوا فقال علي: أنا أواليك في الدنيا والآخرة فقال: أنت وليي في الدنيا والآخرة " قال: وكان أول من أسلم من الناس بعد خديجة، قال: وأخذ رسول الله ثوبه فوضعه على علي وفاطمة وحسن وحسين فقال: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " قال وشرى على نفسه لبس ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ثم نام مكانه، قال وكان المشركون يرومون رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أبو بكر وعلي نائم وأبو بكر يحسب أنه نبي الله فقال: يا نبي الله ! فقال له علي: إن نبي الله قد انطلق نحو بئر ميمونة فأدركه، قال: فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار قال: وجعل علي يرمي بالحجارة كما كان يرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتضرر وقد لف رأسه في الثوب لا يخرجه حتى أصبح ثم كشف عن رأسه فقالوا: إنك لئيم كان صاحبك نرميه فلا يتضرر وأنت تتضرر وقد استنكرنا ذلك، قال: وخرج - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك - فقال له علي: أخرج معك ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا ! فبكى علي فقال: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنك لست بنبي ؟ إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي " قال وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنت وليى كل مؤمن " بعدي قال وسد أبواب المسجد غير باب علي قال فيدخل المسجد جنبا وهو طريقه ليس له طريق غيره، قال وقال " من كنت مولاه فإن عليا مولاه " قال: وأخبرنا الله في القرآن أنه قد رضي عن أصحاب الشجرة فعلم ما في قلوبهم فهل حدثنا أنه سخط عليهم بعد.
قال وقال نبي الله صلى الله عليه وسلم لعمر حين قال ائذن لي أن أضرب عنق هذا المنافق - يعني حاطب بن أبي بلتعة - قال: " وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " وقد روى الترمذي بعضه من طريق شعبة عن أبي بلج يحيى بن أبي سليم واستغربه، وأخرج النسائي بعضه أيضا عن محمد بن المثنى عن يحيى بن حماد به.
وقال البخاري في التاريخ: ثنا عمر بن عبد الوهاب الرماحي ثنا معمر بن سليمان، عن أبيه عن منصور، عن ربعي، عن عمران بن حصين.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لادفعن الراية إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فبعث إلى علي وهو أرمد فتفل في عينيه
وأعطاه الراية فما رد وجهه وما اشتكاهما بعد " ورواه أبو القاسم البغوي عن إسحاق بن إبراهيم، عن أبي موسى الهروي، عن علي بن هاشم، عن محمد بن علي، عن منصور عن ربعي عن عمران فذكره.
وأخرجه النسائي عن عباس العنبري عن عمر بن عبد الوهاب به.
رواية أبي سعيد في ذلك قال الامام أحمد: حدثنا مصعب بن المقدام وحجين بن المثنى قالا: ثنا إسرائيل ثنا عبد الله بن عصمة قال سمعت أبا سعيد الخدري يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الراية فهزها ثم قال: " من يأخذها بحقها فجاء فلان فقال أنا فقال: امض ثم جاء رجل آخر فقال أنا فقال أمض ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم والذي أكرم وجه محمد لاعطينها رجلا لا يفر، فجاء علي فانطلق حتى فتح الله عليه خيبر وفدك وجاء بعجوتهما وقد يدهما ".
ورواه أبو يعلى عن حسين بن محمد عن إسرائيل وقال في سياقه " فجاء الزبير فقال أنا فقال: امض ثم جاء آخر فقال: امض " (1) وذكره تفرد به أحمد.
رواية علي بن أبي طالب في ذلك وقال الامام أحمد حدثنا وكيع عن ابن أبي ليلى عن المنهال عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال كان أبي ليلى قال كان أبي يسير مع علي وكان علي يلبس ثياب الصيف في الشتاء وثياب الشتاء في الصيف فقيل له لو سألته فسأله فقال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلي وأنا أرمد العين يوم خيبر فقلت يا رسول الله إني أرمد العين فتفل في عيني فقال اللهم أذهب عنه الحر والبرد فما وجدت حرا ولا بردا منه يومئذ، وقال لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ليس بفرار فتشرف لها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأعطانيها (2) " تفرد به أحمد وقد رواه غير واحد عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه عن علي به مطولا.
وقال أبو يعلى: حدثنا زهير، ثنا جرير، عن مغيرة عن أم موسى قالت سمعت عليا يقول: " ما رمدت ولا صدعت منذ مسح رسول الله وجهي وتفل في عيني يوم خيبر وأعطاني الراية " (3).
رواية سعد بن أبي وقاص في ذلك.
ثبت في الصحيحين من حديث شعبة عن سعد بن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " أما
ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي " ؟ (4) قال أحمد ومسلم والترمذي: حدثنا قتيبة بن سعيد ثنا حاتم بن إسماعيل عن بكير بن مسمار عن عامر بن سعد بن
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 3 / 16.
(2) مسند أحمد 1 / 99، 133.
(3) رواه البيهقي في الدلائل 4 / 213، وذكره الهيثمي في الزوائد 9 / 122 وقال: رواه أبو يعلى وأحمد باختصار، ورجالهما رجال الصحيح، غير أم موسى وحديثها مستقيم.
(4) الحديث أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله باب مناقب علي 5 / 22 الطبعة الاميرية.
وفي كتاب المغازي - باب غزوة تبوك.
ومسلم في فضائل الصحابة (4) باب.
ح (30 - 31).
أبي وقاص عن أبيه قال له: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال ما يمنعك أن تسب أبا تراب ؟ فقال أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ لان تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - وخلفه في بعض مغازيه - فقال له علي يا رسول الله أتخلفني مع النساء والصبيان ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " ؟ وسمعته يقول يوم خيبر: لاعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال فتطاولت لها قال ادعوا لي عليا فأتي به أرمد فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه " ولما نزلت هذه الآية * (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) * [ آل عمران: 61 ] " دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ثم قال اللهم هؤلاء أهلي " (1) وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سعيد بن المسيب عن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " وقال الترمذي: ويستغرب من رواية سعيد عن سعد.
وقال الامام أحمد: حدثنا أحمد الزبيري، ثنا عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت، عن حمزة بن عبد الله عن أبيه - يعني عبد الله بن عمر - عن سعد قال: لما خرج رسول الله إلى تبوك خلفا عليا فقال: أتخلفني ؟ قال: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي " وهذا
إسناد جيد ولم يخرجوه.
وقال الحسن بن عرفة العبدي: ثنا محمد بن حازم أبو معاوية الضرير عن موسى بن مسلم الشيباني عن عبد الرحمن بن سابط عن سعد بن أبي وقاص قال: قدم معاوية في بعض حجاته فأتاه سعد بن أبي وقاص فذكروا عليا فقال سعد: له ثلاث خصال لان تكون لي واحدة منهن أحب إلي من الدنيا وما فيها.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من كنت مولاه فعلي مولاه، وسمعته يقول: لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وسمعته يقول: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " لم يخرجوه وإسناده حسن.
وقال أبو زرعة الدمشقي: ثنا أحمد بن خالد الذهبي أبو سعيد ثنا محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن أبيه قال: " لما حج معاوية وأخذ بيد سعد بن أبي وقاص فقال يا أبا إسحاق إنا قوم قد أجفانا هذا الغزو عن الحج حتى كدنا أن ننسى بعض سننه فطف نطف بطوافك، قال: فما فرغ أدخله دار الندوة فأجلسه معه على سريره ثم ذكر علي بن أبي طالب فوقع فيه فقال: أدخلتني دارك واجلستني على سريرك ثم وقعت في علي تشتمه ؟ والله لان يكون في إحدى خلاله الثلاث أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، ولان يكون لي ما قال له حين غز تبوكا " ألا ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " ؟ أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ولان يكون لي ما قال له يوم خيبر: " لاعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه ليس بفرار " أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ولان أكون صهره على ابنته ولي منها
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده 1 / 173، 175، 182، 184، 331 و 3 / 338.
ورواه الترمذي في المناقب ح 3724 ص 5 / 638.
ومسلم في فضائل الصحابة (4) باب ح (32) ص 4 / 1871.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب : القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد محمد بن علي بن محمد الشوكاني

كتاب : القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد محمد بن علي بن محمد الشوكاني    القول المفيد للشوكاني إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ون...