روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

Translate

الثلاثاء، 17 مايو 2022

رسالة في علم الباطن والظاهر لابن تيمية

 

رسالة في علم الباطن والظاهر لابن تيمية

شيخ الإسلام ابن تيمية

..................

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَفَقِّرَةِ يَدَّعُونَ أَنَّ لِلْقُرْآنِ بَاطِنًا وَأَنَّ لِذَلِكَ الْبَاطِنِ بَاطِنًا إلَى سَبْعَةِ أَبْطُنٍ وَيَرْوُونَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لِلْقُرْآنِ بَاطِنٌ وَلِلْبَاطِنِ بَاطِنٌ إلَى سَبْعَةِ أَبْطُنٍ } وَيُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِغَيْرِ الْمَعْرُوفِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ : لَوْ شِئْت لأوقرت مِنْ تَفْسِيرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ كَذَا وَكَذَا حِمْلَ جَمَلٍ وَيَقُولُونَ : إنَّمَا هُوَ مِنْ عِلْمِنَا إذْ هُوَ اللدني . وَيَقُولُونَ كَلَامًا مَعْنَاهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ كُلَّ قَوْمٍ بِمَا يَصْلُحُ لَهُمْ فَإِنَّهُ أَمَرَ قَوْمًا بِالْإِمْسَاكِ وَقَوْمًا بِالْإِنْفَاقِ وَقَوْمًا بِالْكَسْبِ وَقَوْمًا بِتَرْكِ الْكَسْبِ . وَيَقُولُونَ : إنَّ هَذَا ذَكَرَتْهُ أَشْيَاخُنَا فِي " الْعَوَارِفِ " وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْمُحَقِّقِينَ وَرُبَّمَا ذَكَرُوا أَنَّ حُذَيْفَةَ كَانَ يَعْلَمُ أَسْمَاءَ الْمُنَافِقِينَ خَصَّهُ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { حَفِظْت جِرَابَيْنِ } . وَيَرْوُونَ كَلَامًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخَرَّازِ أَنَّهُ قَالَ : لِلْعَارِفِينَ خَزَائِنُ أَوْدَعُوهَا عُلُومًا غَرِيبَةً يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِلِسَانِ الْأَبَدِيَّةِ يُخْبِرُونَ عَنْهَا بِلِسَانِ الْأَزَلِيَّةِ وَيَقُولُونَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ مِنْ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَخْزُونِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا الْعُلَمَاءُ بِاَللَّهِ فَإِذَا نَطَقُوا بِهِ لَمْ يُنْكِرْهُ إلَّا أَهِلُ الْغِرَّةِ بِاَللَّهِ } . فَهَلْ مَا ادَّعَوْهُ صَحِيحًا أَمْ لَا ؟ . فَسَيِّدِي يُبَيِّنُ لَنَا مَقَالَاتِهِمْ ؛ فَإِنَّ الْمَمْلُوكَ وَقَفَ عَلَى كَلَامٍ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ الْوَاحِدِيَّ قَالَ : أَلَّفَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي كِتَابًا سَمَّاهُ " حَقَائِقُ التَّفْسِيرِ " إنْ صَحَّ عَنْهُ فَقَدْ كَفَرَ وَوَقَفْت عَلَى هَذَا الْكِتَابِ فَوَجَدْت كَلَامَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْهُ أَوْ مَا شَابَهَهُ فَمَا رَأْيُ سَيِّدِي فِي ذَلِكَ ؟ وَهَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لِلْقُرْآنِ بَاطِنٌ } الْحَدِيثُ يُفَسِّرُونَهُ عَلَى مَا يَرَوْنَهُ مِنْ أَذْوَاقِهِمْ وَمَوَاجِيدِهِمْ الْمَرْدُودَةِ شَرْعًا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .

 

فَأَجَابَ الشَّيْخُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . أَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فَمِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلَقَةِ الَّتِي لَمْ يَرْوِهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ ؛ وَلَكِنْ يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مَوْقُوفًا أَوْ مُرْسَلًا { إنَّ لِكُلِّ آيَةٍ ظَهْرًا وَبَطْنًا وَحَدًّا وَمَطْلَعًا } وَقَدْ شَاعَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ : " عِلْمُ الظَّاهِرِ وَعِلْمُ الْبَاطِنِ " و " أَهْلُ الظَّاهِرِ وَأَهْلُ الْبَاطِنِ " . وَدَخَلَ فِي هَذِهِ الْعِبَارَاتِ حَقٌّ وَبَاطِلٌ . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ لَكِنْ نَذْكُرُ هُنَا جُمَلًا مِنْ ذَلِكَ فَنَقُولُ : قَوْلُ الرَّجُلِ : " الْبَاطِنُ " إمَّا أَنْ يُرِيدَ عِلْمَ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ مِثْلَ الْعِلْمِ بِمَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَالْعِلْمِ بِالْغُيُوبِ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعِلْمَ الْبَاطِنَ أَيْ الَّذِي يَبْطُنُ عَنْ فَهْمِ أَكْثَرِ النَّاسِ أَوْ عَنْ فَهْمِ مَنْ وَقَفَ مَعَ الظَّاهِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعِلْمَ مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالظَّاهِرِ كَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ وَمِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَاطِنِ كَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَمِنْهُ مَا هُوَ عِلْمٌ بِالشَّهَادَةِ وَهُوَ مَا يَشْهَدُهُ النَّاسُ بِحَوَاسِّهِمْ وَمِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَيْبِ وَهُوَ مَا غَابَ عَنْ إحْسَاسِهِمْ . وَأَصْلُ الْإِيمَانِ هُوَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الم } { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } وَالْغَيْبُ الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ ؛ فَإِنَّ وَصْفَ الرِّسَالَةِ هُوَ مِنْ الْغَيْبِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } وَقَالَ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } .

 وَالْعِلْمُ بِأَحْوَالِ الْقُلُوبِ . - كَالْعِلْمِ بِالِاعْتِقَادَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ وَالْإِرَادَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ وَالْعِلْمِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَخَشْيَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالرَّجَاءِ لَهُ وَالْحُبِّ فِيهِ وَالْبُغْضِ فِيهِ وَالرِّضَا بِحُكْمِهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَالْعِلْمِ بِمَا يُحْمَدُ وَيُذَمُّ مِنْ أَخْلَاقِ النُّفُوسِ كَالسَّخَاءِ وَالْحَيَاءِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأُمُورِ بَاطِنَةٍ فِي الْقُلُوبِ وَنَحْوِهِ - قَدْ يُقَالُ : لَهُ : " عِلْمُ الْبَاطِنِ " أَيْ عِلْمٌ بِالْأَمْرِ الْبَاطِنِ فَالْمَعْلُومُ هُوَ الْبَاطِنُ وَأَمَّا الْعِلْمُ الظَّاهِرُ فَهُوَ ظَاهِرٌ يُتَكَلَّمُ بِهِ وَيُكْتَبُ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَكَلَامُ السَّلَفِ وَأَتْبَاعُهُمْ بَلْ غَالِبُ آيِ الْقُرْآنِ هُوَ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ { وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } . بَلْ هَذَا الْعِلْمُ هُوَ الْعِلْمُ بِأُصُولِ الدِّينِ ؛ فَإِنَّ اعْتِقَادَ الْقَلْبِ أَصْلٌ لِقَوْلِ اللِّسَانِ وَعَمَلُ الْقَلْبِ أَصْلٌ لِعَمَلِ الْجَوَارِحِ وَالْقَلْبُ هُوَ مَلِكُ الْبَدَنِ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْقَلْبُ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } . وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِمَا يُصْلِحُ بَاطِنَهُ وَيُفْسِدُهُ وَلَمْ يَقْصِدْ صَلَاحَ قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ وَدَفْعِ النِّفَاقِ كَانَ مُنَافِقًا إنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُظْهِرُهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ وَهُوَ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ } وَكَلَامُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْهَا فِي الْإِجَارَةِ وَالشُّفْعَةِ وَالْحَيْضِ وَالطَّهَارَةِ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ ؛ وَلَكِنَّ هَذَا الْعِلْمَ ظَاهِرٌ مَوْجُودٌ مَقُولٌ بِاللِّسَانِ مَكْتُوبٌ فِي الْكُتُبِ ؛ وَلَكِنْ مَنْ كَانَ بِأُمُورِ الْقَلْبِ أَعْلَمَ كَانَ أَعْلَمَ بِهِ وَأَعْلَمَ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ .

وَعَامَّةُ النَّاسِ يَجِدُونَ هَذِهِ الْأُمُورَ فِي أَنْفُسِهِمْ ذَوْقًا وَوَجْدًا فَتَكُونُ مَحْسُوسَةً لَهُمْ بِالْحِسِّ الْبَاطِنِ ؛ لَكِنَّ النَّاسَ فِي حَقَائِقِ الْإِيمَانِ مُتَفَاضِلُونَ تَفَاضُلًا عَظِيمًا فَأَهْلُ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا يَعْلَمُونَ حَالَ أَهْلِ السُّفْلَى مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ يَنْزِلُ الْأَعْلَى إلَى الْأَسْفَلِ وَلَا يَصْعَدُ الْأَسْفَلُ إلَى الْأَعْلَى وَالْعَالِمُ يَعْرِفُ الْجَاهِلَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا وَالْجَاهِلُ لَا يَعْرِفُ الْعَالِمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا ؛ فَلِهَذَا كَانَ فِي حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةِ وَحَقَائِقِ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ مَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا خَوَاصُّ النَّاسِ فَيَكُونُ هَذَا الْعِلْمُ بَاطِنًا مِنْ جِهَتَيْنِ : مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْمَعْلُومِ بَاطِنًا وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْعِلْمِ بَاطِنًا لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ . ثُمَّ إنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْعِلْمِ يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مَا لَا يَدْخُلُ فِي غَيْرِهِ فَمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَهُوَ حَقٌّ وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ كَالْكَلَامِ فِي الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ .

فَصْلٌ وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالْعِلْمِ الْبَاطِنِ الْعِلْمُ الَّذِي يَبْطُنُ عَنْ أَكْثَرِ النَّاسِ أَوْ عَنْ بَعْضِهِمْ فَهَذَا عَلَى نَوْعَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " بَاطِنٌ يُخَالِفُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ .

و " الثَّانِي " لَا يُخَالِفُهُ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَبَاطِلٌ ؛ فَمَنْ ادَّعَى عِلْمًا بَاطِنًا أَوْ عِلْمًا بِبَاطِنِ وَذَلِكَ يُخَالِفُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ كَانَ مُخْطِئًا إمَّا مُلْحِدًا زِنْدِيقًا وَإِمَّا جَاهِلًا ضَالًّا .

وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ فِي الْعِلْمِ الظَّاهِرِ قَدْ يَكُونُ حَقًّا وَقَدْ يَكُونُ بَاطِلًا فَإِنَّ الْبَاطِنَ إذَا لَمْ يُخَالِفْ الظَّاهِرَ لَمْ يُعْلَمْ بُطْلَانُهُ مِنْ جِهَةِ مُخَالَفَتِهِ لِلظَّاهِرِ الْمَعْلُومِ فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ حَقٌّ قُبِلَ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ بَاطِلٌ رُدَّ وَإِلَّا أُمْسِكَ عَنْهُ وَأَمَّا الْبَاطِنُ الْمُخَالِفُ لِلظَّاهِرِ الْمَعْلُومِ فَمِثْلُ مَا يَدَّعِيهِ الْبَاطِنِيَّةُ الْقَرَامِطَةُ مِنْ الإسماعيلية والنصيرية وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَغُلَاةِ الْمُتَصَوِّفَةِ والمتكلمين . وَشَرُّ هَؤُلَاءِ الْقَرَامِطَةُ فَإِنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ لِلْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ بَاطِنًا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ ؛ فَيَقُولُونَ : " الصَّلَاةُ " الْمَأْمُورُ بِهَا لَيْسَتْ هَذِهِ الصَّلَاةَ أَوْ هَذِهِ الصَّلَاةَ إنَّمَا يُؤْمَرُ بِهَا الْعَامَّةُ وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَالصَّلَاةُ فِي حَقِّهِمْ مَعْرِفَةُ أَسْرَارِنَا و " الصِّيَامُ " كِتْمَانُ أَسْرَارِنَا و " الْحَجُّ " السَّفَر إلَى زِيَارَةِ شُيُوخِنَا الْمُقَدَّسِينَ وَيَقُولُونَ : إنَّ " الْجَنَّةَ " لِلْخَاصَّةِ : هِيَ التَّمَتُّعُ فِي الدُّنْيَا بِاللَّذَّاتِ و " النَّارُ " هِيَ الْتِزَامُ الشَّرَائِعِ وَالدُّخُولُ تَحْتَ أَثْقَالِهَا وَيَقُولُونَ : إنَّ " الدَّابَّةَ " الَّتِي يُخْرِجُهَا اللَّهُ لِلنَّاسِ هِيَ الْعَالِمُ النَّاطِقُ بِالْعِلْمِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَإِنَّ " إسْرَافِيلَ " الَّذِي يَنْفُخُ فِي الصُّورِ هُوَ الْعَالِمُ الَّذِي يَنْفُخُ بِعِلْمِهِ فِي الْقُلُوبِ حَتَّى تَحْيَا و " جِبْرِيلُ " هُوَ الْعَقْلُ الْفَعَّالُ الَّذِي تَفِيضُ عَنْهُ الْمَوْجُودَاتُ و " الْقَلَمُ " هُوَ الْعَقْلُ الْأَوَّلُ الَّذِي تَزْعُمُ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّهُ الْمُبْدِعُ الْأَوَّلُ وَأَنَّ الْكَوَاكِبَ وَالْقَمَرَ وَالشَّمْسَ الَّتِي رَآهَا إبْرَاهِيمُ هِيَ النَّفْسُ وَالْعَقْلُ وَوَاجِبُ الْوُجُودِ وَأَنَّ الْأَنْهَارَ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي رَآهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ هِيَ الْعَنَاصِرُ الْأَرْبَعَةُ وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّتِي رَآهَا فِي السَّمَاءِ هِيَ الْكَوَاكِبُ . فَآدَمُ هُوَ الْقَمَرُ وَيُوسُفُ هُوَ الزُّهْرَةُ وَإِدْرِيسُ هُوَ الشَّمْسُ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ . وَقَدْ دَخَلَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَقْوَالِ هَؤُلَاءِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ والمتصوفين ؛ لَكِنَّ أُولَئِكَ الْقَرَامِطَةَ ظَاهِرُهُمْ الرَّفْضُ وَبَاطِنُهُمْ الْكُفْرُ الْمَحْضُ وَعَامَّةُ الصُّوفِيَّةِ والمتكلمين لَيْسُوا رَافِضَةً يُفَسِّقُونَ الصَّحَابَةَ وَلَا يُكَفِّرُونَهُمْ ؛ لَكِنْ فِيهِمْ مَنْ هُوَ كَالزَّيْدِيَّةِ الَّذِينَ يُفَضِّلُونَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَفِيهِمْ مَنْ يُفَضِّلُ عَلِيًّا فِي الْعِلْمِ الْبَاطِنِ كَطَرِيقَةِ الْحَرْبِيِّ وَأَمْثَالِهِ وَيَدَّعُونَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ أَعْلَمَ بِالْبَاطِنِ وَأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ أَفْضَلُ مِنْ جِهَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ كَانَ أَعْلَمَ بِالظَّاهِرِ . وَهَؤُلَاءِ عَكْسُ مُحَقِّقِي الصُّوفِيَّةِ وَأَئِمَّتِهِمْ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَعْلَمَ الْخَلْقِ بِالْعِلْمِ الْبَاطِنِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ . وَهَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةُ قَدْ يُفَسِّرُونَ : { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ مُبِينٍ } أَنَّهُ عَلِيٌّ وَيُفَسِّرُونَ قَوْله تَعَالَى { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } بِأَنَّهُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَقَوْلَهُ : { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } أَنَّهُمْ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ و { وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ } بِأَنَّهَا بَنُو أُمَيَّةَ . وَأَمَّا بَاطِنِيَّةُ الصُّوفِيَّةِ فَيَقُولُونَ فِي قَوْله تَعَالَى { اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ } إنَّهُ الْقَلْبُ و { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } إنَّهَا النَّفْسُ وَيَقُولُ أُولَئِكَ هِيَ عَائِشَةُ وَيُفَسِّرُونَ هُمْ وَالْفَلَاسِفَةُ تَكْلِيمَ مُوسَى بِمَا يَفِيضُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ أَوْ غَيْرِهِ وَيَجْعَلُونَ ( خَلْعَ النَّعْلَيْنِ تَرْكَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيُفَسِّرُونَ ( الشَّجَرَةَ الَّتِي كُلِّمَ مِنْهَا مُوسَى و ( الْوَادِيَ الْمُقَدَّسَ وَنَحْوَ ذَلِكَ بِأَحْوَالِ تَعْرِضُ لِلْقَلْبِ عِنْدَ حُصُولِ الْمَعَارِفِ لَهُ وَمِمَّنْ سَلَكَ ذَلِكَ صَاحِبُ " مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ " وَأَمْثَالُهُ وَهِيَ مِمَّا أَعْظَمَ الْمُسْلِمُونَ إنْكَارَهُ عَلَيْهِ وَقَالُوا أَمْرَضَهُ " الشِّفَاءُ " وَقَالُوا : دَخَلَ فِي بُطُونِ الْفَلَاسِفَةِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ فَمَا قَدَرَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَطْعَنُ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ وَيَقُولُ : إنَّهَا مَكْذُوبَةٌ عَلَيْهِ وَآخَرُونَ يَقُولُونَ : بَلْ رَجَعَ عَنْهَا وَهَذَا أَقْرَبُ الْأَقْوَالِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِكُفْرِ الْفَلَاسِفَةِ فِي مَسَائِلَ وَتَضْلِيلِهِمْ فِي مَسَائِلَ أَكْثَرَ مِنْهَا وَصَرَّحَ بِأَنَّ طَرِيقَتَهُمْ لَا تُوَصِّلُ إلَى الْمَطْلُوبِ . وَبَاطِنِيَّةُ الْفَلَاسِفَةِ يُفَسِّرُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالشَّيَاطِينَ بِقُوَى النَّفْسِ وَمَا وُعِدَ النَّاسُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ بِأَمْثَالِ مَضْرُوبَةٍ لِتَفْهِيمِ مَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ اللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ لَا بِإِثْبَاتِ حَقَائِقَ مُنْفَصِلَةٍ يَتَنَعَّمُ بِهَا وَيَتَأَلَّمُ بِهَا وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي الصُّوفِيَّةِ مَا لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ وَمُتَقَدِّمِيهِمْ كَمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُوجَدُ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ وَمُتَقَدِّمِيهِمْ . وَهَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ - مَعَ ضَلَالِهِمْ وَجَهْلِهِمْ - يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ وَأَعْرَفُ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَمُتَقَدِّمِيهَا حَتَّى آلَ الْأَمْرُ بِهِمْ إلَى أَنْ جَعَلُوا الْوُجُودَ وَاحِدًا كَمَا فَعَلَ ابْنُ عَرَبِيٍّ صَاحِبُ الْفُصُوصِ وَأَمْثَالُهُ فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ كُلِّ عَقْلٍ وَدِينٍ وَهُمْ يَدَّعُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الشُّيُوخَ الْمُتَقَدِّمِينَ : كالجنيد بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَإِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصِ وَغَيْرِهِمْ مَاتُوا وَمَا عَرَفُوا التَّوْحِيدَ وَيُنْكِرُونَ عَلَى الجنيد وَأَمْثَالِهِ إذَا مَيَّزُوا بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ كَقَوْلِهِ : " التَّوْحِيدُ " إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ . وَلَعَمْرِي إنَّ تَوْحِيدَهُمْ الَّذِي جَعَلُوا فِيهِ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْإِلْحَادِ الَّذِي أَنْكَرَهُ الْمَشَايِخُ الْمُهْتَدُونَ وَهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ بَاطِلٌ فَأَنْكَرُوهُ وَحَذَّرُوا النَّاسَ مِنْهُ وَأَمَرُوهُمْ بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ وَالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَالْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ وَأَنْ التَّوْحِيدَ أَنْ يَعْلَمَ مُبَايَنَةَ الرَّبِّ لِمَخْلُوقَاتِهِ وَامْتِيَازَهُ عَنْهَا وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ . ثُمَّ إنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ مِنْ الْمُرْسَلِينَ وَأَنَّ الرُّسُلَ إنَّمَا تَسْتَفِيدُ مَعْرِفَةَ اللَّهِ مِنْ مِشْكَاتِهِمْ وَيُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِمَا يُوَافِقُ بَاطِنَهُمْ الْبَاطِلَ كَقَوْلِهِ : { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ } فَهِيَ الَّتِي خَطَتْ بِهِمْ فَغَرِقُوا فِي بِحَارِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَقَوْلِهِمْ إنَّ الْعَذَابَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعُذُوبَةِ وَيَقُولُونَ : إنَّ كَلَامَ نُوحٍ فِي حَقِّ قَوْمِهِ ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِ الذَّمِّ وَيُفَسِّرُونَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } بِعِلْمِ الظَّاهِرِ بَلْ { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } فَلَا يَعْلَمُونَ غَيْرَهُ { وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ } فَلَا يَسْمَعُونَ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا يَرَوْنَ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ لَا غَيْرَ لَهُ فَلَا يَرَوْنَ غَيْرَهُ . وَيَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ } أَنَّ مَعْنَاهُ قَدَّرَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ مَوْجُودٌ سِوَاهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ فَكُلُّ مَنْ عَبَدَ الْأَصْنَامَ وَالْعِجْلَ مَا عَبَدَ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ مَا ثَمَّ غَيْرٌ وَأَمْثَالُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ وَالتَّفْسِيرَاتِ الَّتِي يَعْلَمُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَكُلُّ يَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ كَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ . وَجِمَاعُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ نَوْعَانِ : " أَحَدُهُمَا " أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ بَاطِلًا ؛ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِمَا عَلِمَ فَهَذَا هُوَ فِي نَفْسِهِ بَاطِلٌ فَلَا يَكُونُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ إلَّا بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ الْبَاطِلَ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يَقْتَضِي أَنَّهُ حَقٌّ . و " الثَّانِي " مَا كَانَ فِي نَفْسِهِ حَقًّا لَكِنْ يَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ بِأَلْفَاظِ لَمْ يُرِدْ بِهَا ذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ " إشَارَاتٍ " و " حَقَائِقُ التَّفْسِيرِ " لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِيهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ كَثِيرٌ . و أَمَّا " النَّوْعُ الْأَوَّلُ " فَيُوجَدُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ الْقَرَامِطَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ الْمُخَالِفِينَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي أُصُولِ دِينِهِمْ فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ قَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا يَذْكُرُونَهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَمَنْ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا دَامَ عَقْلُهُ حَاضِرًا عَلِمَ أَنَّ مَنْ تَأَوَّلَ نَصًّا عَلَى سُقُوطِ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِهِمْ فَقَدْ افْتَرَى وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْفَوَاحِشَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا دَامَ عَقْلُهُ حَاضِرًا عَلِمَ أَنَّ مَنْ تَأَوَّلَ نَصًّا يَقْتَضِي تَحْلِيلُ ذَلِكَ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ مُفْتَرٍ . وَأَمَّا " النَّوْعُ الثَّانِي " فَهُوَ الَّذِي يَشْتَبِهُ كَثِيرًا عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَإِنَّ الْمَعْنَى يَكُونُ صَحِيحًا لِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِي كَوْنِ اللَّفْظِ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ دَلَّ عَلَيْهِ وَهَذَانِ قِسْمَانِ : " أَحَدُهُمَا " أَنْ يُقَالَ : إنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُرَادٌ بِاللَّفْظِ فَهَذَا افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ فَمَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { تَذْبَحُوا بَقَرَةً } هِيَ النَّفْسُ وَبِقَوْلِهِ { اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ } هُوَ الْقَلْبُ { وَالَّذِينَ مَعَهُ } أَبُو بَكْرٍ { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ } عُمَرُ { رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } عُثْمَانُ { تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا } عَلِيٌّ : فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ إمَّا مُتَعَمِّدًا وَإِمَّا مُخْطِئًا . و " الْقِسْمُ الثَّانِي " أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ لَا مِنْ بَابِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ فَهَذَا مِنْ نَوْعِ الْقِيَاسِ فَاَلَّذِي تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ قِيَاسًا هُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الصُّوفِيَّةُ إشَارَةً وَهَذَا يَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَبَاطِلٍ كَانْقِسَامِ الْقِيَاسِ إلَى ذَلِكَ فَمَنْ سَمِعَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ } وَقَالَ : إنَّهُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ أَوْ الْمُصْحَفُ فَقَالَ : كَمَا أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ لَا يَمَسُّهُ إلَّا بَدَنٌ طَاهِرٌ فَمَعَانِي الْقُرْآنِ لَا يَذُوقُهَا إلَّا الْقُلُوبُ الطَّاهِرَةُ وَهِيَ قُلُوبُ الْمُتَّقِينَ كَانَ هَذَا مَعْنًى صَحِيحًا وَاعْتِبَارًا صَحِيحًا وَلِهَذَا يُرْوَى هَذَا عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ ؛ قَالَ تَعَالَى : { الم } { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وَقَالَ : { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ } وَقَالَ : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } وَأَمْثَالَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : " لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا جُنُبٌ " فَاعْتَبَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ لَا يَدْخُلُهُ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ إذَا كَانَ فِيهِ مَا يُنَجِّسُهُ مِنْ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ فَقَدْ أَصَابَ قَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } وَأَمْثَالَ ذَلِكَ . و " كِتَابُ حَقَائِقِ التَّفْسِيرِ " لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ : " أَحَدُهَا " نُقُولٌ ضَعِيفَةٌ عَمَّنْ نُقِلَتْ عَنْهُ مِثْلُ أَكْثَرِ مَا نَقَلَهُ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ فَإِنَّ أَكْثَرَهُ بَاطِلٌ عَنْهُ وَعَامَّتُهَا فِيهِ مِنْ مَوْقُوفِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَقَدْ تَكَلَّمَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ فِي نَفْسِ رِوَايَةِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَتَّى كَانَ البيهقي إذَا حَدَّثَ عَنْهُ يَقُولُ حَدَّثَنَا مِنْ أَصْلِ سَمَاعِهِ . و " الثَّانِي " أَنْ يَكُونَ الْمَنْقُولُ صَحِيحًا لَكِنَّ النَّاقِلَ أَخْطَأَ فِيمَا قَالَ . و " الثَّالِثُ " نُقُولٌ صَحِيحَةٌ عَنْ قَائِلٍ مُصِيبٍ . فَكُلُّ مَعْنًى يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَحُجَّتُهُ دَاحِضَةٌ وَكُلُّ مَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْمُرَادُ بِالْخِطَابِ غَيْرُهُ إذَا فُسِّرَ بِهِ الْخِطَابُ فَهُوَ خَطَأٌ وَإِنْ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الْإِشَارَةِ وَالِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ فَقَدْ يَكُونُ حَقًّا وَقَدْ يَكُونُ بَاطِلًا . وَقَدْ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَسَّرَ الْقُرْآنَ أَوْ الْحَدِيثَ وَتَأَوَّلَهُ عَلَى غَيْرِ التَّفْسِيرِ الْمَعْرُوفِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَهُوَ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ مُلْحِدٌ فِي آيَاتِ اللَّهِ مُحَرِّفٌ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَهَذَا فَتْحٌ لِبَابِ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ وَهُوَ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ الْكَلَامِ الْمُجْمَلِ مِثْلِ قَوْلِ بَعْضِهِمْ : لَوْ شِئْت لأوقرت مِنْ تَفْسِيرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ إلَخْ . فَهَذَا إذَا صَحَّ عَمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ كَعَلِيِّ وَغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْبَاطِنِ الْمُخَالِفِ لِلظَّاهِرِ ؛ بَلْ يَكُونُ هَذَا مِنْ الْبَاطِنِ الصَّحِيحِ الْمُوَافِقِ لِلظَّاهِرِ الصَّحِيحِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَاطِنَ إذَا أُرِيدَ بِهِ مَا لَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ الْمَعْلُومَ فَقَدْ يَكُونُ حَقًّا وَقَدْ يَكُونُ بَاطِلًا ؛ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ قَدْ كَذَبَ عَلَى عَلِيٍّ وَأَهْلِ بَيْتِهِ ؛ لَا سِيَّمَا عَلَى جَعْفَرٍ الصَّادِقِ مَا لَمْ يَكْذِبْ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ حَتَّى إنَّ الإسماعيلية والنصيرية يُضِيفُونَ مَذْهَبَهُمْ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ . وَكَذَلِكَ فِرْقَةُ التَّصَوُّفِ يَقُولُونَ : إنْ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ صَحِبَهُ وَإِنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى الْحَسَنَ يَقُصُّ مَعَ الْقُصَّاصِ فَقَالَ : مَا صَلَاحُ الدِّينِ ؟ قَالَ الْوَرَعُ . قَالَ : فَمَا فَسَادُهُ ؟ قَالَ الطَّمَعُ فَأَقَرَّهُ وَأَخْرَجَ غَيْرَهُ ؛ وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْمَنْقُولَاتِ أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَصْحَبْ عَلِيًّا وَلَمْ يَأْخُذْ عَنْهُ شَيْئًا وَإِنَّمَا أَخَذَ عَنْ أَصْحَابِهِ كَالْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ وَقَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَبَّادٍ وَأَمْثَالِهِمَا وَلَمْ يَقُصَّ الْحَسَنُ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ ؛ بَلْ وَلَا فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ ؛ وَإِنَّمَا قَصَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ كَانُوا فِي زَمَنِ عَلِيٍّ يَكْذِبُونَ عَلَيْهِ حَتَّى كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابٌ تَقْرَءُونَهُ ؟ فَقَالَ : لَا وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إلَّا هَذِهِ الصَّحِيفَةَ . وَفِيهَا أَسْنَانُ الْإِبِلِ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ وَأَلَّا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرِ وَفِي لَفْظٍ : هَلْ عَهِدَ إلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إلَى النَّاسِ ؟ فَقَالَ : لَا وَفِي لَفْظٍ : إلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ } . وَأَمَّا " الْعِلْمُ اللدني " فَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ يَفْتَحُ عَلَى قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ بِسَبَبِ طَهَارَةِ قُلُوبِهِمْ مِمَّا يَكْرَهُهُ وَاتِّبَاعِهِمْ مَا يُحِبُّهُ مَا لَا يَفْتَحُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ . وَهَذَا كَمَا قَالَ عَلِيٌّ : إلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ وَفِي الْأَثَرِ : " مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ " وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } { وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا } { وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ فَعَلَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ يَهْدِيهِ اللَّهُ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَقَالَ تَعَالَى : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } وَقَالَ : { إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } وَقَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } . وَأَخْبَرَ أَنَّ اتِّبَاعَ مَا يَكْرَهُهُ يَصْرِفُ عَنْ الْعِلْمِ وَالْهُدَى كَقَوْلِهِ : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وَقَوْلِهِ : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } أَيْ : وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ أَيْ يَتْرُكُونَ الْإِيمَانَ وَنَحْنُ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُؤْمِنُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ أَيْ مَا يُدْرِيكُمْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ هَذَا وَهَذَا حِينَئِذٍ . وَمَنْ فَهِمَ مَعْنَى الْآيَةِ عَرَفَ خَطَأَ مَنْ قَالَ ( أَنَّ بِمَعْنَى لَعَلَّ وَاسْتَشْكَلَ قِرَاءَةَ الْفَتْحِ ؛ بَلْ يَعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنَّهَا أَحْسَنُ مِنْ قِرَاءَةِ الْكَسْرِ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ . وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ طَرَفَانِ وَوَسَطٌ . فَقَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّ مُجَرَّدَ الزُّهْدِ وَتَصْفِيَةِ الْقَلْبِ وَرِيَاضَةِ النَّفْسِ تُوجِبُ حُصُولَ الْعِلْمِ بِلَا سَبَبٍ آخَرَ . وَقَوْمٌ يَقُولُونَ : لَا أَثَرَ لِذَلِكَ بَلْ الْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ الْعِلْمُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ الْعَقْلِيَّةِ . وَأَمَّا الْوَسَطُ : فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ مُعَاوَنَةً عَلَى نَيْلِ الْعِلْمِ ؛ بَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي حُصُولِ كَثِيرٍ مِنْ الْعِلْمِ وَلَيْسَ هُوَ وَحْدَهُ كَافِيًا ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ آخَرَ إمَّا الْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ فِيمَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِهِ وَإِمَّا التَّصَوُّرِ الصَّحِيحِ لِطَرَفَيْ الْقَضِيَّةِ فِي الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ . وَأَمَّا الْعِلْمُ النَّافِعُ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ النَّجَاةُ مِنْ النَّارِ وَيَسْعَدُ بِهِ الْعِبَادُ فَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِاتِّبَاعِ الْكُتُبِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ قَالَ تَعَالَى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا } { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } { وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ } إلَخْ وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْهُدَى وَالْإِيمَانَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ طَرِيقِ الْعِلْمِ مَعَ عَدَمِ الْعَمَلِ بِهِ أَوْ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ وَالزُّهْدِ بِدُونِ الْعِلْمِ فَقَدْ ضَلَّ . وَأَضَلُّ مِنْهُمَا مَنْ سَلَكَ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ طَرِيقَ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ بِدُونِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا الْعَمَلِ بِمُوجِبِ الْعِلْمِ أَوْ سَلَكَ فِي الْعَمَلِ وَالزُّهْدِ طَرِيقَ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَالتَّصَوُّفِ بِدُونِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا اعْتِبَارِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ ؛ فَأَعْرَضَ هَؤُلَاءِ عَنْ الْعِلْمِ وَالشَّرْعِ وَأَعْرَضَ أُولَئِكَ عَنْ الْعَمَلِ وَالشَّرْعِ فَضَلَّ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَتَبَايَنُوا تَبَايُنًا عَظِيمًا حَتَّى أَشْبَهَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ وَأَشْبَهَ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى الضَّالِّينَ ؛ بَلْ صَارَ مِنْهُمَا مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَالْقَرَامِطَةِ والاتحادية وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الْفَلَاسِفَةِ .

 

فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ كُلَّ قَوْمٍ بِمَا يَصْلُحُ لَهُمْ إلَخْ فَهَذَا الْكَلَامُ لَهُ وَجْهَانِ : إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْأَعْمَالَ الْمَشْرُوعَةَ يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِيهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْفَقِيرُ كَمَا يُؤْمَرُ بِهِ الْغَنِيُّ وَلَا مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْمَرِيضُ كَمَا يُؤْمَرُ بِهِ الصَّحِيحُ وَلَا مَا يُؤْمَرُ بِهِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ هُوَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ عِنْدَ النِّعَمِ وَلَا مَا تُؤْمَرُ بِهِ الْحَائِضُ كَمَا تُؤْمَرُ بِهِ الطَّاهِرَةُ وَلَا مَا تُؤْمَرُ بِهِ الْأَئِمَّةُ كَاَلَّذِي تُؤْمَرُ بِهِ الرَّعِيَّةُ فَأَمْرُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ قَدْ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ أَحْوَالِهِمْ كَمَا قَدْ يَشْتَرِكُونَ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَتَوْحِيده وَالْإِيمَانِ بِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ . وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ فِي نَفْسِهَا تَخْتَلِفُ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاطَبَ زَيْدًا بِخِطَابِ يُنَاقِضُ مَا خَاطَبَ بِهِ عَمْرًا أَوْ أَظْهَرَ لِهَذَا شَيْئًا يُنَاقِضُ مَا أَظْهَرَهُ لِهَذَا كَمَا يَرْوِيهِ الْكَذَّابُونَ { أَنَّ عَائِشَةَ سَأَلَتْهُ هَلْ رَأَيْت رَبَّك ؟ فَقَالَ : لَا . وَسَأَلَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ : نَعَمْ } . " وَأَنَّهُ أَجَابَ عَنْ مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ بِجَوَابَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ لِاخْتِلَافِ حَالِ السَّائِلَيْنِ " فَهَذَا مِنْ كَلَامِ الْكَذَّابِينَ الْمُفْتَرِينَ ؛ بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَاحِدَةِ الْمُنَافِقِينَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَا يَنْبَغِي لِنَبِيِّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ } وَالْحَدِيثُ فِي سُنَنِ أَبِي داود وَغَيْرِهِ { وَكَانَ عَامَ الْفَتْحِ قَدْ أَهْدَرَ دَمَ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَجَاءَ بِهِ عُثْمَانُ لِيُبَايِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ بَايَعَهُ ثُمَّ قَالَ : أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَنْظُرُ إلَيَّ وَقَدْ أَعْرَضْت عَنْ هَذَا فَيَقْتُلُهُ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هَلَّا أَوْمَضْت إلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَا يَنْبَغِي لِنَبِيِّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ } وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي اسْتِوَاءِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ وَسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ وَأَنَّهُ لَا يُبْطِنُ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ عَلَى عَادَةِ الْمَكَّارِينَ الْمُنَافِقِينَ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقَرَامِطَةَ وَأَمْثَالَهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ يَقُولُونَ : إنَّهُ أَظْهَرَ خِلَافَ مَا أَبْطَنَ وَأَنَّهُ خَاطَبَ الْعَامَّةَ بِأُمُورِ أَرَادَ بِهَا خِلَافَ مَا أَفْهَمَهُمْ لِأَجْلِ مَصْلَحَتِهِمْ ؛ إذْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ صَلَاحُهُمْ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَقَدْ زَعَمَ ذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَأَصْحَابُ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ ؛ فَإِنَّ ابْنَ سِينَا كَانَ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ مِنْ أَتْبَاعِ الْحَاكِمِ القرمطي العبيدي الَّذِي كَانَ بِمِصْرِ . وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ كَمَا أَنَّهُ مِنْ أَكْفَرِ الْأَقْوَالِ فَجَهْلُهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَهُ أَهْلُ الْعَقْلِ وَالذَّكَاءِ مِنْ النَّاسِ وَإِذَا عَلِمُوهُ امْتَنَعَ فِي الْعَادَةِ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى كِتْمَانِهِ كَمَا يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ فَإِنَّهُ كَمَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ تَوَاطُؤُ الْجَمِيعِ عَلَى الْكَذِبِ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى كِتْمَانِ مَا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى بَيَانِهِ وَذِكْرِهِ لَا سِيَّمَا مِثْلُ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي مَعْرِفَتُهَا وَالتَّكَلُّمُ بِهَا مِنْ أَعْظَمِ مَا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَاطِنِيَّةَ وَنَحْوَهُمْ أَبْطَنُوا خِلَافَ مَا أَظْهَرُوهُ لِلنَّاسِ وَسَعَوْا فِي ذَلِكَ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَتَوَاطَئُوا عَلَيْهِ مَا شَاءَ اللَّهُ . حَتَّى الْتَبَسَ أَمْرُهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ . ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ اطَّلَعَ عَلَى حَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ جَمِيعُ أَذْكِيَاءِ النَّاسِ مِنْ مُوَافَقِيهِمْ وَمُخَالِفِيهِمْ وَصَنَّفُوا الْكُتُبَ فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَرَفْعِ أَسْتَارِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي الْبَاطِنِ حُرْمَةٌ عِنْدَ مَنْ عَرَفَ بَاطِنَهُمْ وَلَا ثِقَةٌ بِمَا يُخْبِرُونَ بِهِ وَلَا الْتِزَامُ طَاعَةٍ لِمَا يَأْمُرُونَ وَكَذَلِكَ مَنْ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . فَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ السَّبِيلَ لَمْ يَبْقَ لِمَنْ عَلِمَ أَمْرَهُ ثِقَةٌ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ وَبِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَحِينَئِذٍ فَيُنْتَقَضُ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَا خَاطَبَ بِهِ النَّاسَ فَإِنَّهُ مَا مِنْ خِطَابٍ يُخَاطِبُهُمْ بِهِ إلَّا وَيُجَوِّزُونَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ مَا أَظْهَرَهُ لَهُمْ فَلَا يَثِقُونَ بِأَخْبَارِهِ وَأَوَامِرِهِ فَيَخْتَلُّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَيَكُونُ مَقْصُودُهُ صَلَاحَهُمْ فَيَعُودُ ذَلِكَ بِالْفَسَادِ الْعَظِيمِ ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ وَافَقَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ خِلَافَ مَا أَبْطَنَ كَاتِّبَاعِ مَنْ سَلَكَ هَذِهِ السَّبِيلَ مِنْ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ لَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ مُوَافِقِيهِمْ إلَّا وَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ ظَاهِرَهُ خِلَافُ بَاطِنِهِ وَيَحْصُلُ لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ كَشْفِ الْأَسْرَارِ وَهَتْكِ الْأَسْتَارِ مَا يَصِيرُونَ بِهِ مِنْ شِرَارِ الْكُفَّارِ . وَإِذَا كَانَتْ الرُّسُلُ تُبْطِنُ خِلَافَ مَا تُظْهِرُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهَذَا الِاخْتِلَافِ مُمْكِنًا لِغَيْرِهِمْ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا كَانَ مُدَّعِي ذَلِكَ كَذَّابًا مُفْتَرِيًا ؛ فَبَطَلَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَأَمْثَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ مُمْكِنًا عَلِمَ بَعْضُ النَّاسِ مُخَالَفَةَ الْبَاطِنِ لِلظَّاهِرِ وَلَيْسَ لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ حَدٌّ مَحْدُودٌ ؛ بَلْ إذَا عَلِمَهُ هَذَا عَلَّمَهُ هَذَا وَعَلَّمَهُ هَذَا فَيَشِيعُ هَذَا وَيَظْهَرُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ اعْتَقَدَ هَذَا فِي الْأَنْبِيَاءِ كَهَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَنَحْوِهِمْ مُعْرِضِينَ عَنْ حَقِيقَةِ خَبَرِهِ وَأَمْرِهِ لَا يَعْتَقِدُونَ بَاطِنَ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَلَا مَا أَمَرَ ؛ بَلْ يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ خَبَرِهِ مَا يَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ وَلَا تَجِدُ فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ مَنْ يُحْسِنُ بِهِمْ الظَّنَّ ؛ بَلْ يَظْهَرُ فِسْقُهُمْ وَنِفَاقُهُمْ لِعَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ فَضْلًا عَنْ خَوَاصِّهِمْ . وَأَيْضًا فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ كَانَ خَوَاصُّهُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِبَاطِنِهِ وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ يُوجِبُ الِانْحِلَالَ فِي الْبَاطِنِ وَمَنْ عَلِمَ حَالَ خَاصَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ - عَلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْظَمَ النَّاسِ تَصْدِيقًا لِبَاطِنِ أَمْرِ خَبَرِهِ وَظَاهِرِهِ وَطَاعَتَهُمْ لَهُ فِي سِرِّهِمْ وَعَلَانِيَتِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَعْتَقِدُ فِي خَبَرِهِ وَأَمْرِهِ مَا يُنَاقِضُ ظَاهِرَ مَا بَيَّنَهُ لَهُمْ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ وَأَرْشَدَهُمْ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ تَأَوَّلَ شَيْئًا مِنْ نُصُوصِهِ عَلَى خِلَافِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ اللَّهُ عَنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَلَا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ هَذَا مَا ظَهَرَ إلَّا مِمَّنْ هُوَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالِاتِّحَادِ كَالْقَرَامِطَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ والجهمية نفاة حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ . وَمِنْ تَمَامِ هَذَا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخُصَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ بِخِطَابِ فِي عِلْمِ الدِّينِ قَصَدَ كِتْمَانَهُ عَنْ غَيْرِهِ وَلَكِنْ كَانَ قَدْ يَسْأَلُ الرَّجُلَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ جَوَابُهَا ؛ فَيُجِيبُهُ بِمَا يَنْفَعُهُ { كَالْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ السَّاعَةِ وَالسَّاعَةُ لَا يُعْلَمُ مَتَى هِيَ ؟ فَقَالَ : مَا أَعْدَدْت لَهَا ؟ فَقَالَ مَا أَعْدَدْت لَهَا مِنْ كَثِيرِ عَمَلٍ ؛ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَالَ : الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ } فَأَجَابَهُ بِالْمَقْصُودِ مِنْ عِلْمِهِ بِالسَّاعَةِ وَلَمْ يَكُنْ يُخَاطِبُ أَصْحَابَهُ بِخِطَابِ لَا يَفْهَمُونَهُ ؛ بَلْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَكْمَلَ فَهْمًا لِكَلَامِهِ مِنْ بَعْضٍ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ ؛ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ : بَلْ نَفْدِيك بِأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَعْجَبُونَ أَنْ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ } فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ عَبْدًا مُطْلَقًا لَمْ يُعَيِّنْهُ وَلَا فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ؛ لَكِنْ أَبُو بَكْرٍ لِكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ بِمَقَاصِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ ذَلِكَ الْعَبْدُ فَلَمْ يُخَصَّ عَنْهُمْ بِبَاطِنِ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ ؛ بَلْ يُوَافِقُهُ وَلَا يُخَالِفُ مَفْهُومَ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ .

وَأَمَّا مَا يَرْوِيهِ بَعْضُ الْكَذَّابِينَ { عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ يَتَحَدَّثَانِ وَكُنْت كَالزِّنْجِيِّ بَيْنَهُمَا } فَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْأَكَاذِيبِ الْمُخْتَلَقَةِ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ مِنْ أَظْهَرِ الْكَذِبِ فَإِنَّ عُمَرَ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ الْمُحَدَّثُ الْمُلْهَمُ الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَهُوَ أَفْضَلُ الْمُخَاطَبِينَ الْمُحَدَّثِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِذَا كَانَ هُوَ حَاضِرًا يَسْمَعُ الْأَلْفَاظَ وَلَمْ يَفْهَمْ الْكَلَامَ كَالزِّنْجِيِّ فَهَلْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ أَفْهَمَ مِنْهُ لِذَلِكَ ؟ فَكَيْفَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ أَلْفَاظَ الرَّسُولِ ؟ بَلْ يَزْعُمُ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْمَعَانِي هِيَ تِلْكَ الْمَعَانِي بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى الَّتِي لَوْ كَانَتْ مُجَرَّدَةً لَمْ تُقْبَلْ فَكَيْفَ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى كَذِبِ مُدَّعِيهَا ؟ . وَأَمَّا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ : فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ حُذَيْفَةَ كَانَ يَعْلَمُ السِّرَّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ } وَكَانَ ذَلِكَ مَا أَسَرَّهُ إلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ مِنْ أَعْيَانِ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْمُنَافِقِينَ أَرَادُوا أَنْ يَحِلُّوا حِزَامَ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ لِيَسْقُطَ عَنْ بَعِيرِهِ فَيَمُوتَ وَأَنَّهُ أُوحِيَ إلَيْهِ بِذَلِكَ وَكَانَ حُذَيْفَةُ قَرِيبًا مِنْهُ فَأَسَرَّ إلَيْهِ أَسْمَاءَهُمْ . وَيُقَالُ إنَّ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهِ حُذَيْفَةُ وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ حَقَائِقِ الدِّينِ وَلَا مِنْ الْبَاطِنِ الَّذِي يُخَالِفُ الظَّاهِرَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَأَخْبَارِهِمْ مَا ذَكَرَهُ حَتَّى أَنَّ سُورَةَ " بَرَاءَة " سُمِّيَتْ الْفَاضِحَةَ لِكَوْنِهَا فَضَحَتْ الْمُنَافِقِينَ وَسُمِّيَتْ الْمُبَعْثِرَةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ لَكِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَذْكُرْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَإِذَا عَرَفَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ فُلَانًا وَفُلَانًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْمَوْصُوفِينَ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَعْرِيفِهِ أَنَّ فُلَانًا وَفُلَانًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ فَإِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرَهُمَا فِي الْجَنَّةِ كَإِخْبَارِهِ أَنَّ أُولَئِكَ مُنَافِقُونَ وَهَذَا إذَا كَانَ مِنْ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ فَهُوَ مِنْ الْبَاطِنِ الْمُوَافِقِ لِلظَّاهِرِ الْمُحَقِّقِ لَهُ الْمُطَابِقِ لَهُ . وَنَظِيرُهُ فِي " الْأَمْرِ " مَا يُسَمَّى " تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ " وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ قَدْ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِوَصْفِ فَنَعْلَمُ ثُبُوتَهُ فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ كَأَمْرِهِ بِاسْتِشْهَادِ ذوي عَدْلٍ وَلَمْ يُعَيِّنْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا ذُو عَدْلٍ كُنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ مَوْصُوفٌ بِالْعَدْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ لِمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ ؛ فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الشَّرَابَ الْمَصْنُوعَ مِنْ الذُّرَةِ وَالْعَسَلِ خَمْرًا عَلِمْنَا أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي هَذَا النَّصِّ فَعَلِمْنَا بِأَعْيَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَعْيَانِ الْمُنَافِقِينَ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَهَذَا هُوَ مِنْ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ . وَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كُلَّ مُؤْمِنٍ وَكُلَّ مُنَافِقٍ وَمَقَادِيرَ إيمَانِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ وَمَا يُخْتَمُ لَهُمْ . وَأَمَّا الرَّسُولُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } فَاَللَّهُ يُطْلِعُ رَسُولَهُ وَمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ قَالَ : " حَفِظْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِرَابَيْنِ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْته فِيكُمْ وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْته لَقَطَعْتُمْ هَذَا الْبُلْعُومَ " . وَلَكِنْ لَيْسَ فِي هَذَا مِنْ الْبَاطِنِ الَّذِي يُخَالِفُ الظَّاهِرَ شَيْءٌ ؛ بَلْ وَلَا فِيهِ مِنْ حَقَائِقِ الدِّينِ وَإِنَّمَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْجِرَابِ الْخَبَرُ عَمَّا سَيَكُونُ مِنْ الْمَلَاحِمِ وَالْفِتَنِ فَالْمَلَاحِمُ الْحُرُوبُ الَّتِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ وَالْفِتَنِ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : لَوْ أَخْبَرَكُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّكُمْ تَقْتُلُونَ خَلِيفَتَكُمْ وَتَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا لَقُلْتُمْ كَذَبَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَإِظْهَارُ مِثْلِ هَذَا مِمَّا تَكْرَهُهُ الْمُلُوكُ وَأَعْوَانُهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِخْبَارِ بِتَغَيُّرِ دُوَلِهِمْ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ إنَّمَا أَسْلَمَ عَامَ خَيْبَرَ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الدِّينِ مِنْهُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُهُ وَغَيْرَهُ بِالْحَدِيثِ فَيَسْمَعُونَهُ كُلُّهُمْ وَلَكِنْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَحْفَظَهُمْ لِلْحَدِيثِ بِبَرَكَةِ حَصَلَتْ لَهُ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ حَدِيثًا فَقَالَ : أَيُّكُمْ يَبْسُطُ ثَوْبَهُ فَلَا يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ } وَقَدْ رُوِيَ " أَنَّهُ كَانَ يُجَزِّئُ اللَّيْلَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ : ثُلُثًا يُصَلِّي وَثُلُثًا يَنَامُ وَثُلُثًا يَدْرُسُ الْحَدِيثَ " وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ قَطُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثًا يُوَافِقُ الْبَاطِنِيَّةَ وَلَا حَدِيثًا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ الْمَعْلُومَ مِنْ الدِّينِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ أَنْ يَنْقُلَ عَنْهُ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْهُ بَلْ النُّقُولُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْهُ كُلُّهَا تُصَدِّقُ مَا ظَهَرَ مِنْ الدِّينِ وَقَدْ رَوَى مِنْ أَحَادِيثِ صِفَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَتَحْقِيقِ الْعِبَادَاتِ مَا يُوَافِقُ أُصُولَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَيُخَالِفُ قَوْلَ أَهْلِ الْبُهْتَانِ .

وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخَرَّازِ وَأَمْثَالِهِ فِي هَذَا الْبَابِ وَمَا يَذْكُرُهُ أَبُو طَالِبٍ فِي كِتَابِهِ وَغَيْرُهُ وَكَلَامُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ يَقُولُ بِبَاطِنِ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَمَا يُوجَدُ مِنْ ذَلِكَ فِي كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ أَوْ غَيْرِهِ . فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا كُلِّهِ أَنْ يُقَالَ : مَا عُلِمَ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ فَهُوَ نَقْلُ مُصَدِّقٍ عَنْ قَائِلٍ مَعْصُومٍ وَمَا عَارَضَ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَقْلًا عَنْ غَيْرِ مُصَدِّقٍ أَوْ قَوْلًا لِغَيْرِ مَعْصُومٍ فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّا يُنْقَلُ عَنْ هَؤُلَاءِ كَذِبٌ عَلَيْهِمْ وَالصِّدْقُ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ مَا أَصَابُوا فِيهِ تَارَةً وَأَخْطَئُوا فِيهِ أُخْرَى وَأَكْثَرُ عِبَارَاتِهِمْ الثَّابِتَةِ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ مُتَشَابِهَةٌ لَوْ كَانَتْ مِنْ أَلْفَاظِ الْمَعْصُومِ لَمْ تُعَارِضْ الْحُكْمَ الْمَعْلُومَ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ مِنْ قَوْلِ غَيْرِ الْمَعْصُومِ . وَقَدْ جَمَعَ أَبُو الْفَضْلِ الْفَلَكِيُّ كِتَابًا مِنْ كَلَامِ أَبِي يَزِيدَ البسطامي سَمَّاهُ " النُّور مِنْ كَلَامِ طيفور " فِيهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ لَا رَيْبَ أَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى أَبِي يَزِيدَ البسطامي وَفِيهِ أَشْيَاءُ مِنْ غَلَطِ أَبِي يَزِيدَ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - وَفِيهِ أَشْيَاءُ حَسَنَةٌ مِنْ كَلَامِ أَبِي يَزِيدَ وَكُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَنْ قِيلَ لَهُ عَنْ أَبِي يَزِيدَ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَشَايِخِ : أَنَّهُ قَالَ لِمُرِيدِيهِ إنْ تَرَكْتُمْ أَحَدًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ يَدْخُلُ النَّارَ فَأَنَا مِنْكُمْ بَرِيءٌ فَعَارَضَهُ الْآخَرُ وَقَالَ : قُلْت لِمُرِيدِيَّ إنْ تَرَكْتُمْ أَحَدًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ يَدْخُلُ النَّارَ فَأَنَا مِنْكُمْ بَرِيءٌ ؛ فَصَدَّقَ هَذَا النَّقْلَ عَنْهُ ثُمَّ جَعَلَ هَذَا الْمُصَدِّقُ لِهَذَا عَنْ أَبِي يَزِيدَ أَوْ غَيْرِهِ يَسْتَحْسِنُهُ وَيَسْتَعْظِمُ حَالَهُ فَقَدْ دَلَّ عَلَى عَظِيمِ جَهْلِهِ أَوْ نِفَاقِهِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ دُخُولِ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ يُشَفَّعُ فِيهِمْ بَعْدَ أَنْ تُطْلَبَ الشَّفَاعَةُ مِنْ الرُّسُلِ الْكِبَارِ : كَنُوحِ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى فَيَمْتَنِعُونَ وَيَعْتَذِرُونَ . ثُمَّ صَدَّقَ أَنَّ مُرِيدِي أَبِي يَزِيدَ أَوْ غَيْرِهِ يَمْنَعُونَ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ مِنْ دُخُولِ النَّارِ أَوْ يُخْرِجُونَ هُمْ كُلَّ مَنْ دَخَلَهَا كَانَ ذَلِكَ كُفْرًا مِنْهُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ بِحِكَايَةِ مَنْقُولَةٍ كَذَبَ نَاقِلُهَا أَوْ أَخْطَأَ قَائِلُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ كَانَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِأُصُولِ الْإِيمَانِ . فَعَلَى الْمُسْلِمِ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يَعْرِفَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَأَمَرَ بِهِ عِلْمًا يَقِينِيًّا ؛ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَدَعُ الْمُحْكَمَ الْمَعْلُومَ لِلْمُشْتَبِهِ الْمَجْهُولِ فَإِنَّ مِثَالَ ذَلِكَ مِثْلُ مَنْ كَانَ سَائِرًا إلَى مَكَّةَ فِي طَرِيقٍ مَعْرُوفَةٍ لَا شَكَّ أَنَّهَا تُوَصِّلُهُ إلَى مَكَّةَ إذَا سَلَكَهَا فَعَدَلَ عَنْهَا إلَى طَرِيقٍ مَجْهُولَةٍ لَا يَعْرِفُهَا وَلَا يَعْرِفُ مُنْتَهَاهَا وَهَذَا مِثَالُ مَنْ عَدَلَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَى كَلَامِ مَنْ لَا يَدْرِي هَلْ يُوَافِقُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَوْ يُخَالِفُ ذَلِكَ . وَأَمَّا مَنْ عَارَضَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ يَسِيرُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمَعْرُوفَةِ إلَى مَكَّةَ فَذَهَبَ إلَى طَرِيقِ قُبْرُصَ يَطْلُبُ الْوُصُولَ مِنْهَا إلَى مَكَّةَ فَإِنَّ هَذَا حَالُ مَنْ تَرَكَ الْمَعْلُومَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو كَائِنًا مَنْ كَانَ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَأَيْت فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ عَجَائِبِ الْأُمُورِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا الْعَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَأْثُورُ : { إنَّ مِنْ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَكْنُونِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ فَإِذَا ذَكَرُوهُ لَمْ يُنْكِرْهُ إلَّا أَهْلُ الْغِرَّةِ بِاَللَّهِ } فَهَذَا قَدْ رَوَاهُ أَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " الْفَارُوقُ بَيْنَ الْمُثْبِتَةِ وَالْمُعَطِّلَةِ " وَذَكَرَ فِيهِ أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ صَحِيحَهَا وَغَرِيبَهَا وَمُسْنَدَهَا وَمُرْسَلَهَا وَمَوْقُوفَهَا . وَذَكَرَهُ أَيْضًا أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كُتُبِهِ . ثُمَّ هَذَا يُفَسِّرُهُ بِمَا يُنَاسِبُ أَقْوَالَهُ الَّتِي يَمِيلُ فِيهَا إلَى مَا يُشْبِهُ أَقْوَالَ نفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ . وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ شَيْخِهِ يَحْيَى بْنِ عَمَّارٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَحَادِيثُ الصِّفَاتِ ؛ فَكَانَ يُفَسِّرُ ذَلِكَ بِمَا يُنَاقِضُ قَوْلَ أَبِي حَامِدٍ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ . وَالْحَدِيثُ لَيْسَ إسْنَادُهُ ثَابِتًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَلَمْ يُرْوَ فِي أُمَّهَاتِ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِهِ وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ فَهُوَ كَلَامٌ مُجْمَلٌ لَيْسَ فِيهِ تَعْيِينٌ لِقَوْلِ مُعَيَّنٍ فَحِينَئِذٍ فَمَا مِنْ مُدَّعٍ يَدَّعِي أَنَّ الْمُرَادَ قَوْلُهُ إلَّا كَانَ لِخَصْمِهِ أَنْ يَقُولَ نَظِيرَ ذَلِكَ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ يَحْيَى بْنِ عَمَّارٍ وَأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِ النفاة إنَّ هَذَا الْعِلْمَ هُوَ مِنْ عِلْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاتِّفَاقِ وَعِلْمِ الصَّحَابَةِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ قَوْلَ النفاة لَا يَنْقُلُهُ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَصْحَابِهِ لَا بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ بِخِلَافِ مَذْهَبِ الْمُثْبِتَةِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَالْآثَارَ عَنْ الصَّحَابَةِ مَمْلُوءَةٌ بِهِ فَكَيْفَ يُحْمَلُ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عِلْمٍ لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْهُ أَحَدٌ وَيُتْرَكُ حَمْلُهُ عَلَى الْعِلْمِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } قَدْ حَمَلَهُ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ الْفَيْلَسُوفُ وَأَمْثَالُهُ عَلَى عُلُومِ الْبَاطِنِيَّةِ الْفَلَاسِفَةِ نفاة الصِّفَاتِ وَهَذَا تَحْرِيفٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ قَوْلَ عَلِيٍّ : أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْوَالُ النفاة مِنْ الْفَلَاسِفَةِ والجهمية وَالْقَرَامِطَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ لَمْ يَنْقُلْ فِيهَا مُسْلِمٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لَا صَحِيحًا وَلَا ضَعِيفًا فَكَيْفَ يُكَذَّبُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي شَيْءٍ لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؟ بِخِلَافِ مَا رَوَاهُ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ مِنْ أَحَادِيثِ صِفَاتِ الرَّبِّ وَمَلَائِكَتِهِ وَجَنَّتِهِ وَنَارِهِ فَإِنَّ هَذَا كَثِيرٌ مَشْهُورٌ قَدْ لَا تَحْتَمِلُهُ عُقُولُ بَعْضِ النَّاسِ فَإِذَا حَدَّثَ بِهِ خِيفَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : " مَا مِنْ رَجُلٍ يُحَدِّثُ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ " وَابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا يَقُولُ ذَاكِرًا أَوْ آمِرًا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ إثْبَاتًا لِلصِّفَاتِ وَأَرْوَاهُمْ لِأَحَادِيثِهَا وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَجَلِّ التَّابِعِينَ وَأَبْلَغِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ أَعْلَمَ كَانَ إثْبَاتُهُ وَإِثْبَاتُ أَصْحَابِهِ أَبْلَغَ فَعُلِمَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يُبْطِنُونَ خِلَافَ مَا يُظْهِرُونَ وَلَا يُظْهِرُونَ الْإِثْبَاتَ وَيُبْطِنُونَ النَّفْيَ وَلَا يُظْهِرُونَ الْأَمْرَ وَيُبْطِنُونَ امْتِنَاعَهُ ؛ بَلْ هُمْ أَقْوَمُ النَّاسِ بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ دَخَلَ فِيهِ مِنْ الْأُمُورِ مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِتَفْصِيلِهِ وَلَكِنْ نَعْلَمُ جِمَاعَ الْأَمْرِ أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ فَظَاهِرُ الْقَوْلِ لَفْظُ اللِّسَانِ وَبَاطِنُهُ مَا يَقُومُ مِنْ حَقَائِقِهِ وَمَعَانِيهِ بِالْجَنَانِ وَظَاهِرُ الْعَمَلِ حَرَكَاتُ الْأَبْدَانِ وَبَاطِنُهُ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنْ حَقَائِقِهِ وَمَقَاصِدِ الْإِنْسَانِ . فَالْمُنَافِقُ لَمَّا أَتَى بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ دُونَ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْخُسْرَانِ ؛ بَلْ كَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } الْآيَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ تَعَالَى : { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } السُّورَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ } الْآيَةَ . وَالْمَلَاحِدَةُ يُظْهِرُونَ مُوَافَقَةَ الْمُسْلِمِينَ وَيُبْطِنُونَ خِلَافَ ذَلِكَ وَهُمْ شَرٌّ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيُبْطِنُ الْكُفْرَ وَلَا يَدَّعِي أَنَّ الْبَاطِنَ الَّذِي يُبْطِنُهُ مِنْ الْكُفْرِ هُوَ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ وَالْمَلَاحِدَةُ تَدَّعِي أَنَّ مَا تُبْطِنُهُ مِنْ الْكُفْرِ هُوَ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ هُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ يُبْطِنُونَ مَا يُبْطِنُونَهُ مِمَّا هُوَ كُفْرٌ وَتَعْطِيلٌ فَهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ إبْطَانِ الْكُفْرِ وَبَيْنَ دَعْوَاهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْبَاطِنَ هُوَ الْإِيمَانُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِرْفَانِ فَلَا يُظْهِرُونَ لِلْمُسْتَجِيبِ لَهُمْ أَنَّ بَاطِنَهُ طَعْنٌ فِي الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَتَكْذِيبٌ لَهُ ؛ بَلْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ الرَّسُولِ وَتَمَامِ حَالِهِ وَأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ هُوَ الْغَايَةُ فِي الْكَمَالِ وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا أَكْمَلُ الرِّجَالِ مِنْ سِيَاسَةِ النَّاسِ عَلَى السِّيرَةِ الْعَادِلَةِ وَعِمَارَةِ الْعَالَمِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْفَاضِلَةِ وَهَذَا قَدْ يَظُنُّهُ طَوَائِفُ حَقًّا بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَيَئُولُ أَمْرُهُمْ إلَى أَنْ يَكُونَ النِّفَاقُ عِنْدَهُمْ هُوَ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ وَقَدْ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ النِّفَاقَ ضِدُّ الْإِيمَانِ . وَلِهَذَا كَانَ أَعْظَمُ الْأَبْوَابِ الَّتِي يَدْخُلُونَ مِنْهَا بَابَ التَّشَيُّعِ وَالرَّفْضِ ؛ لِأَنَّ الرَّافِضَةَ هُمْ أَجْهَلُ الطَّوَائِفِ وَأَكْذَبُهَا وَأَبْعَدُهَا عَنْ مَعْرِفَةِ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ وَهُمْ يَجْعَلُونَ التَّقِيَّةَ مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ وَيَكْذِبُونَ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ كَذِبًا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ حَتَّى يَرْوُوا عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّهُ قَالَ التَّقِيَّةُ دِينِي وَدِينُ آبَائِي . و " التَّقِيَّةُ " هِيَ شِعَارُ النِّفَاقِ ؛ فَإِنَّ حَقِيقَتَهَا عِنْدَهُمْ أَنْ يَقُولُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَهَذَا حَقِيقَةُ النِّفَاقِ . ثُمَّ إذَا كَانَ هَذَا مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ صَارَ كُلُّ مَا يَنْقُلُهُ النَّاقِلُونَ عَنْ عَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ مِمَّا فِيهِ مُوَافَقَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَقُولُونَ : هَذَا قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ ثُمَّ فَتَحُوا بَابَ النِّفَاقِ لِلْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ الإسماعيلية والنصيرية وَنَحْوِهِمْ ؛ فَجَعَلُوا مَا يَقُولُهُ الرَّسُولُ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَظْهَرَ بِهِ خِلَافَ مَا أَبْطَنَ وَأَسَرَّ بِهِ خِلَافَ مَا أَعْلَنَ فَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ هُوَ إمَامُ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ الْمُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا نَزَلَ إلَيْهِمْ الْمُبَلِّغُ لِرِسَالَةِ رَبِّهِ الْمُخَاطِبُ لَهُمْ بِلِسَانِ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ . قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } { ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وَقَالَتْ الرُّسُلُ { رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } { وَمَا عَلَيْنَا إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وَقَالَ : { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } . فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُبَلِّغُوا الْبَلَاغَ الْمُبِينَ يُقَالُ : بَانَ الشَّيْءُ وَأَبَانَ وَاسْتَبَانَ وَتَبَيَّنَ وَبَيَّنَ كُلُّهَا أَفْعَالٌ لَازِمَةٌ . وَقَدْ يُقَالُ : أَبَانَ غَيْرُهُ وَبَيَّنَهُ وَتَبَيَّنَهُ وَاسْتَبَانَهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرُّسُلَ فَعَلُوا مَا عَلَيْهِمْ ؛ بَلْ قَدْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الْمِيثَاقَ بِأَنْ يُبَيِّنُوا الْعِلْمَ وَلَا يَكْتُمُوهُ وَذَمَّ كَاتِمِيهِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } فَقَدْ لَعَنَ كَاتِمَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ وَهُوَ قَدْ كَتَمَ الْحَقَّ وَأَخْفَاهُ وَأَظْهَرَ خِلَافَ مَا أَبْطَنَ ؟ فَلَوْ سَكَتَ عَنْ بَيَانِ الْحَقِّ كَانَ كَاتِمًا وَمَنْ نَسَبَ الْأَنْبِيَاءَ إلَى الْكَذِبِ وَالْكِتْمَانِ مَعَ كَوْنِهِ يَقُولُ إنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ فَهُوَ مِنْ أَشَرِّ الْمُنَافِقِينَ وَأَخْبَثِهِمْ وَأَبْيَنِهِمْ تَنَاقُضًا . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النُّسُكِ وَالْعِبَادَةِ وَالْعِلْمِ وَالنَّظَرِ مِمَّنْ سَلَكَ طَرِيقَ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ وَبَعْضِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ يَسْلُكُ مَسْلَكَ الْبَاطِنِيَّةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ لَا فِي جَمِيعِهَا حَتَّى يَرَى بَعْضُهُمْ سُقُوطَ الصَّلَاةِ عَنْ بَعْضِ الْخَوَاصِّ أَوْ حِلَّ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ لَهُمْ أَوْ أَنَّ لِبَعْضِهِمْ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرَ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ .

وَقَدْ يَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ بِقِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ وَيَظُنُّونَ أَنَّ الْخَضِرَ خَرَجَ عَنْ الشَّرِيعَةِ ؛ فَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ مَا يَجُوزُ لَهُ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ الشَّرِيعَةِ وَهُمْ فِي هَذَا ضَالُّونَ مِنْ وَجْهَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّ الْخَضِرَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الشَّرِيعَةِ ؛ بَلْ الَّذِي فَعَلَهُ كَانَ جَائِزًا فِي شَرِيعَةِ مُوسَى ؛ وَلِهَذَا لَمَّا بَيَّنَ لَهُ الْأَسْبَابَ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَمَا أَقَرَّهُ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مُوسَى يَعْلَمُ الْأَسْبَابَ الَّتِي بِهَا أُبِيحَتْ تِلْكَ [ فَظَنَّ أَنَّ الْخَضِرَ ] كَالْمَلِكِ الظَّالِمِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ الْخَضِرُ . و " الثَّانِي " أَنَّ الْخَضِرَ لَمْ يَكُنْ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى وَلَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ مُتَابَعَتُهُ ؛ بَلْ قَالَ لَهُ : إنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ . وَذَلِكَ أَنَّ دَعْوَةَ مُوسَى لَمْ تَكُنْ عَامَّةً فَإِنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ إلَى النَّاسِ كَافَّةً ؛ بَلْ بُعِثَ إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ؛ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ لَا فِي الْبَاطِنِ وَلَا فِي الظَّاهِرِ ؛ لَا مِنْ الْخَوَاصِّ وَلَا مِنْ الْعَوَامِّ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُفَضِّلُ بَعْضَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ يَجْعَلُونَ الْخَضِرَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَذَا خِلَافُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ مَشَايِخُ الطَّرِيقِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ دَعْ عَنْك سَائِرَ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ لَمَّا تَكَلَّمَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ " خَتْمِ الْأَوْلِيَاءِ " بِكَلَامِ ذَكَرَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَرُبَّمَا لَوَّحَ بِشَيْءِ مِنْ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ - قَامَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَأَنْكَرُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ وَنَفَوْهُ مِنْ الْبَلَدِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ بِكَلَامِ فَاسِدٍ بَاطِلٍ لَا رَيْبَ فِيهِ . وَمِنْ هُنَاكَ ضَلَّ مَنْ اتَّبَعَهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى صَارَ جَمَاعَاتٌ يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ كَابْنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ " الْفُصُوصِ " وَسَعْدِ الدِّينِ بْنِ حَمَوَيْهِ وَغَيْرِهِمَا وَصَارَ بَعْضُ النَّاسِ يَدَّعِي أَنَّ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ يَكُونُ أَفْضَلَ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي يَطُولُ وَصْفُهَا مِمَّا هُوَ بَاطِلٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ؛ بَلْ طَوَائِفُ كَثِيرُونَ آلَ الْأَمْرُ بِهِمْ إلَى مُشَاهَدَةِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ وَظَنُّوا أَنَّ مَنْ شَهِدَهَا سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَهَذَا هُوَ دِينُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } . وَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَيُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ يُشْبِهُونَ الْمَجُوسَ وَهَؤُلَاءِ يُشْبِهُونَ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالشَّرَائِعِ فَهُمْ مِنْ شَرِّ النَّاسِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ الظَّاهِرَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَاطِنٍ يُحَقِّقُهُ وَيُصَدِّقُهُ وَيُوَافِقُهُ فَمَنْ قَامَ بِظَاهِرِ الدِّينِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقٍ بِالْبَاطِنِ فَهُوَ مُنَافِقٌ وَمَنْ ادَّعَى بَاطِنًا يُخَالِفُ ظَاهِرًا فَهُوَ كَافِرٌ مُنَافِقٌ بَلْ بَاطِنُ الدِّينِ يُحَقِّقُ ظَاهِرَهُ وَيُصَدِّقُهُ وَيُوَافِقُهُ وَظَاهِرُهُ يُوَافِقُ بَاطِنَهُ وَيُصَدِّقُهُ وَيُحَقِّقُهُ فَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رُوحٍ وَبَدَنٍ وَهُمَا مُتَّفِقَانِ فَلَا بُدَّ لِدِينِ الْإِنْسَانِ مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ يَتَّفِقَانِ فَالْبَاطِنُ لِلْبَاطِنِ مِنْ الْإِنْسَانِ وَالظَّاهِرُ لِلظَّاهِرِ مِنْهُ . وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ ذِكْرِ أَحْكَامِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنُ أَصْلُ الظَّاهِرِ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : الْقَلْبُ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . وَقَالَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } وَقَالَ : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يُصْلِحَ بَوَاطِنَنَا وَظَوَاهِرَنَا وَيُوَفِّقَنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ جَمِيعِ أُمُورِنَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا . 

=========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب : القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد محمد بن علي بن محمد الشوكاني

كتاب : القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد محمد بن علي بن محمد الشوكاني    القول المفيد للشوكاني إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ون...