روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

Translate

الخميس، 19 مايو 2022

مجلد 36 و37. كتاب :البداية والنهاية الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

مجلد 36 و37. كتاب :البداية والنهاية الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي 
 
== حكما، واجعلوه لكم قائدا (1)، فإنه ناسخ لما قبله، ولن ينسخه كتاب بعده.
اعلموا عباد الله أن هذا القرآن يجلو كيد الشيطان وضغائنه كما يجلو ضوء الصبح إذا تنفس أدبار الليل إذا عسعس.
وقال يحيى بن معين عن حجاج بن محمد عن أبي معشر عن محمد بن قيس قال: سمعت سليمان بن عبد الملك يقول في خطبته: فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه.
وقال حماد بن زيد عن يزيد بن حازم.
قال: كان سليمان بن عبد الملك يخطبنا كل جمعة لا يدع أن يقول في خطبته: وإنما أهل الدنيا على رحيل، لم تمض لهم نية ولم تطمئن بهم حتى يأتي أمر الله ووعده وهم على ذلك، كذلك لا يدوم نعيمها، ولا تؤمن فجائعها ولا تبقي من شر أهلها ثم يتلو (أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) [ العشراء: 205 ] وروى الاصمعي أن نقش خاتم سليمان [ كان ]: آمنت بالله مخلصا، وقال أبو مسهر عن أبي مسلم سلمة بن العيار الفزاري.
قال: كان محمد بن سيرين يترحم على سليمان بن عبد الملك، ويقول: افتتح خلافته بخير وختمها بخير، افتتحها بإجابة الصلاة لمواقيتها، وختمها باستخلافه عمر بن
عبد العزيز.
قد أجمع علماء الناس والتواريخ أنه حج بالناس في سنة سبع وتسعين وهو خليفة، قال الهيثم ابن عدي قال الشعبي: حج سليمان بن عبد الملك فلما رأى الناس بالموسم قال لعمر بن عبد العزيز: ألا ترى هذا الخلق الذي لا يحصى عددهم إلا الله، ولا يسع رزقهم غيره، فقال: يا أمير المؤمنين هؤلاء رعيتك اليوم، وهم غدا خصماؤك عند الله، فبكى سليمان بكاء شديدا ثم قال: بالله أستعين.
وقال ابن أبي الدنيا: ثنا إسحاق بن إسماعيل، ثنا جرير، عن عطاء بن السائب.
قال: كان عمر بن عبد العزيز في سفر مع سليمان بن عبد الملك فأصابهم السماء برعد وبرق وظلمة وريح شديدة، حتى فزعوا لذلك، وجعل عمر بن عبد العزيز يضحك، فقال له سليمان: ما يضحكك يا عمر ؟ أما ترى ما نحن فيه ؟ فقال له: يا أمير المؤمنين هذه آثار رحمته فيها شدائد ما نرى، فكيف بآثار سخطه وغضبه ؟ ومن كلامه الحسن رحمه الله قوله: الصمت منام العقل والنطق يقظته، ولا يتم هذا إلا بهذا.
ودخل عليه رجل فكلمه فأعجبه منطقه ثم فتشه فلم يحمد عقله، فقال: فضل منطق الرجل على عقله خدعة، وفضل عقله على منطقه هجنة، وخير ذلك ما أشبه بعضه بعضا وقال: العاقل أحرص على إقامة لسانه منه على طلب معاشه، وقال أيضا: إن من تكلم فأحسن قادر على أن يسكت فيحسن، وليس كل من سكت فأحسن قادرا على أن يتكلم فيحسن.
ومن شعره يتسلى عن صديق له مات فقال:
__________
(1) في مروج الذهب: واجعلوا لكم هاديا ودليلا.
وهون وجدي في شراحيل أنني * متى شئت لاقيت امرءا مات صاحبه ومن شعره أيضا: ومن شيمي ألا أفارق صاحبي * وإن ملني إلا سألت له رشدا وإن دام لي بالود دمت ولم أكن * كآخر لا يرعى ذماما ولا عهدا
وسمع سليمان ليلة صوت غناء في معسكره فلم يزل يفحص حتى أتى بهم، فقال سليمان: إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة، وإن الجمل ليهدر فتضبع له الناقة، وإن التيس لينب فتستخذى له العنز وإن الرجل ليتغنى فتشتاق له المرأة، ثم أمر بهم فقال: اخصوهم، فيقال إن عمر بن عبد العزيز قال: يا أمير المؤمنين إنها مثلة، ولكن انفهم، فنفاهم.
وفي رواية أنه خصى أحدهم، ثم سأل عن أصل الغناء فقيل إنه بالمدينة، فكتب إلى عامله بها وهو أبو بكر بن محمد بن حزم يأمره أن يخصي من عنده من المغنين المخنثين.
وقال الشافعي: دخل أعرابي على سليمان فدعاه إلى أكل الفالوذج وقال له: إن أكلها يزيد في الدماغ فقال: لو كان هذا صحيحا لكان ينبغي أن يكون رأس أمير المؤمنين مثل [ رأس ] البغل.
وذكروا أن سليمان كان نهما في الاكل، وقد نقلوا عنه أشياء في ذلك غريبة، فمن ذلك أنه اصطبح في بعض الايام بأربعين دجاجة مشوية، وأربع وثمانين كلوة بشحمها، وثمانين جردقة، ثم أكل مع الناس على العادة في السماط العام.
ودخل ذات يوم بستانا له وكان قد أمر قيمه أن يجني ثماره، فدخله ومعه أصحابه فأكل القوم حتى ملوا، واستمر هو يأكل أكلا ذريعا من تلك الفواكه، ثم استدعى بشاة مشوية فأكلها ثم أقبل على أكل الفاكهة، ثم أتي بدجاجتين فأكلهما، ثم عاد إلى الفاكهة فآكل منها، ثم أتي بقعب يقعد فيه الرجل مملوءا سويقا وسمنا وسكرا فأكله ثم عاد إلى دار الخلافة، وأتي بالسماط فما فقدوا من أكله شيئا (1)، وقد روي أنه عرضت له حمى عقب هذا الاكل أدته إلى الموت، وقد قيل إن سبب مرضه كان من أكل أربعمائة بيضة وسلتين تينا فالله أعلم.
وذكر الفضل بن أبي المهلب أنه لبس في يوم جمعة حلة صفراء ثم نزعها ولبس بدلها حلة خضراء واعتم بعمامة خضراء وجلس على فراش أخضر وقد بسط ما حوله بالخضرة، ثم نظر في المرآة فأعجبه حسنه، وشمر عن ذراعيه وقال: أنا الخليفة الشاب، وقيل إنه كان ينظر في المرآة من فرقه إلى قدمه ويقول: أنا الملك الشاب، وفي رواية أنه كان ينظر فيها ويقول: كان محمد نبيا، وكان أبو بكر صديقا وكان عمر فاروقا، وكان عثمان حييا، وكان على شجاعا، وكان معاوية حليما، وكان يزيد
__________
(1) اتفقت الروايات على انه كان شرها نكاحا، وكان صاحب أكل كثير يجوز المقدار، انظر العقد الفريد 2 / 277
مروج الذهب 3 / 214 ابن خلكان 2 / 422 وقد بالغت الروايات في مقادير الطعام والشواء والحلوى التي كان يتناولها في اليوم بشكل لا يقبله منطق أو يقر به عاقل.
صبورا، وكان عبد الملك سائسا، وكان الوليد جبارا، وأنا الملك الشاب.
قالوا: فما حال عليه بعد ذلك شهر، وفي رواية جمعة، حتى مات.
قالوا: ولما حم شرع يتوضأ فدعا بجارية فصبت عليه ماء الوضوء ثم أنشدته: أنت نعم المتاع لو كنت تبقى * غير أن لا بقاء للانسان (1) أنت خلو من العيوب ومما * يكره الناس غير أنك فان (2) قالوا: صاح بها وقال: عزتني في نفسي، ثم أمر خاله الوليد بن العباس القعقاع العنسي (3) أن يصب عليه وقال: قرب وضوءك يا وليد فإنما * دنياك هذي بلغة ومتاع فاعمل لنفسك في حياتك صالحا * فالدهر فيه فرقة وجماع ويروى أن الجارية لما جاءته بالطست جعلت تضطرب من الحمى، فقال: أين فلانة ؟ فقالت: محمومة، قال: ففلانة ؟ قالت: محمومة، وكان بمرج دابق من أرض قنسرين، فأمر خاله فوضأه ثم خرج يصلي بالناس فأخذته بحة في الخطبة، ثم نزل وقد أصابته الحمى فمات في الجمعة المقبلة، ويقال: إنه أصابه ذات الجنب فمات بها رحمه الله.
وكان قد أقسم أنه لا يبرح بمرج دابق حتى يرجع إليه الخبر بفتح القسطنطينية، أو يموت قبل ذلك، فمات قبل ذلك رحمه الله وأكرم مثواه، قالوا: وجعل يلهج في مرضه ويقول: إن بني صغار * أفلح من كان له كبار فيقول له عمر بن عبد العزيز: قد أفلح المؤمنون يا أمير المؤمنين، ثم يقول: إن بني صبية صيفيون * قد أفلح من كان له ربعيون ويروى أن هذا آخر ما تكلم به، والصحيح أن آخر ما تكلم به أن قال: أسألك منقلبا كريما،
ثم قضى.
وروى ابن جرير عن رجاء بن حيوة - وكان وزير صدق لبني أمية - قال: استشارني
__________
(1) بعده في مروج الذهب 3 / 216.
أنت من لا يريبنا منك شي * علم الله غير أنك فان (2) البيت في ابن خلكان 2 / 421 ومروج الذهب.
ليس فيما بدا لنا منك عيب * عابه الناس غير أنك فان وفي مورج الذهب: يا سليمان غير أنك فان.
وفي الطبري 8 / 127 وفي ابن الاثر 5 / 37.
ليس فيما علمته فيك عيب * كان في الناس غير أنك فان (3) في نسخة: العبسي وهو أصوب، فأخواله بنو عبس.
سليمان بن عبد الملك وهو مريض أن يولي له ابنا صغيرا لم يبلغ الحلم، فقلت: إن مما يحفظ الخليفة في قبره أن يولي على المسلمين الرجل الصالح، ثم شاورني في ولاية ابنه داود، فقلت: إنه غائب عنك بالقسطنطينية ولا تدري أحي هو أو ميت، فقال: من ترى ؟ فقلت: رأيك يا أمير المؤمنين، قال: فكيف ترى في عمر بن عبد العزيز ؟ فقلت: أعلمه والله خيرا فاضلا مسلما يحب الخير وأهله، ولكن أتخوف عليه إخوتك أن لا يرضوا بذلك، فقال: هو والله على ذلك وأشار رجال (1) أن يجعل يزيد بن عبد الملك ولي العهد من بعد عمر بن عبد العزيز ليرضى بذلك بنو مروان، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان بن عبد الملك لعمر بن عبد العزيز، إني قد وليته الخلافة من بعدي ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا، وأتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم عدوكم.
وختم الكتاب وأرسل إلى كعب بن حامد العبسي صاحب الشرطة، فقال له: اجمع أهل بيتي فمرهم فليبايعوا على ما في هذا الكتاب مختوما، فمن أبى منهم ضرب عنقه.
فاجتمعوا ودخل رجال منهم فسلموا على أمير المؤمنين، فقال لهم: هذا الكتاب عهدي إليكم، فاسمعوا له وأطيعوا وبايعوا من وليت فيه، فبايعوا لذلك رجلا رجلا، قال رجاء: فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال: أنشدك الله وحرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان كتب لي ذلك حتى أستعفيه
الآن قبل أن يأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه الساعة، فقلت: والله لا أخبرك حرفا واحدا.
قال: ولقيه هشام بن عبد الملك فقال: يا رجاء إن لي بك حرمة ومودة قديمة، فأخبرني هذا الامر إن كان إلى علمت، وإن كان لغيري فما مثلي قصر به عن هذا.
فقلت: والله لا أخبرك حرفا واحدا مما أسره إلي أمير المؤمنين، قال رجاء: دخلت على سليمان فإذا هو يموت، فجعلت إذا أخذته السكرة من سكرات الموت أحرفه إلى القبلة، فإذا أفاق يقول: لم يأن لذلك بعد يا رجاء، فلما كانت الثالثة قال: من الآن يا رجاء إن كنت تريد شيئا، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، قال: فحرفته إلى القبلة فمات رحمه الله.
قال: فغطيته بقطيفة خضراء وأغلقت الباب عليه وأرسلت إلى كعب بن حامد فجمع الناس في مسجد دابق (2)، فقلت: بايعوا لمن في هذا الكتاب، فقالوا: قد بايعنا، فقلت: بايعوا ثانية، ففعلوا، ثم قلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات، وقرأت الكتاب عليهم، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز تغيرت وجوه بني مروان، فلما قرأت وإن هشام (3) بن عبد الملك بعده، تراجعوا بعض الشئ.
ونادى هشام لا نبايعه أبدا، فقلت: أضرب عنقك والله، قم فبايع، ونهض الناس إلى عمر بن عبد العزيز وهو في مؤخر المسجد، فلما تحقق
__________
(1) كذا بالاصل، وفي نسخة وأشار سليمان بن رجاء.
وما نراه: وأشار رجاء وهو ما يقتضيه سياق رواية ابن الطبري.
وانظر العقد الفريد 3 / 276 ومروج الذهب.
(2) في الامامة والسياسة: بمسجد دمشق 2 / 115 والمشهور أنه مات بمرج دابق.
(3) كذا بالاصل، والصواب يزيد ولعله سهو من الناسخ.
وانظر في كتاب سليمان حاشية رقم 1 ص 199
ذلك قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولم تحمله رجلاه حتى أخذوا بضبعيه فأصعدوه على المنبر، فسكت حينا، فقال رجاء بن حيوة: ألا تقوموا إلى أمير المؤمنين فتبايعوه، فنهض القوم فبايعوه، ثم أبى هشام فصعد المنبر ليبايع وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال عمر: نعم ! إنا لله وإنا إليه راجعون الذي صرت أنا وأنت نتنازع هذا الامر.
ثم قام فخطب الناس خطبة بليغة وبايعوه، فكان مما قال في خطبته: أيها الناس، إني لست بمبتدع ولكني متبع، وإن من حولكم من الامصار والمدن
إن أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم، وإن هم أبوا فلست لكم بوال (1)، ثم نزل، فأخذوا في جهاز سليمان، قال الاوزاعي: فلم يفرغوا منه حتى دخل وقت المغرب، فصلى عمر بالناس صلاة المغرب، ثم صلى على سليمان ودفن بعد المغرب، فلما انصرف عمر أتي بمراكب الخلافة [ فأبي أن يركبها ] وركب دابته وانصرف مع الناس حتى أتوا دمشق، فمالوا به نحو دار الخلافة فقال: لا أنزل إلا في منزلي (2) حتى تفرغ دار أبي أيوب، فاستحسنوا ذلك منه، ثم استدعى بالكاتب فجعل يملي عليه نسخة الكتاب الذي يبايع عليه الامصار (3)، قال رجاء: فما رأيت أفصح منه.
قال محمد بن إسحاق: وكانت وفاة سليمان بن عبد الملك بدابق من أرض قنسرين يوم الجمعة لعشر ليال خلت من صفر ستة تسع وتسعين، على رأس سنتين وتسعة أشهر وعشرين يوما من متوفى الوليد، وكذا قال الجمهور في تاريخ وفاته، ومنهم من يقول: لعشر بقين من صفر، وقالوا: كانت ولايته سنتين وثمانية أشهر، زاد بعضهم إلا خمسة أيام والله أعلم.
وقول الحاكم أبي أحمد: إنه توفي يوم الجمعة لثلاث عشر بقين من رمضان سنة تسع وتسعين، حكاه ابن عساكر، وهو غريب جدا، وقد خالفه الجمهور في كل ما قاله، وعندهم أنه جاوز الاربعين فقيل بثلاث وقيل بخمس والله أعلم.
قالوا: وكان طويلا جميلا أبيض نحيفا، حسن الوجه، مقرون الحاجبين، وكان فصيحا بليغا، يحسن العربية ويرجع إلى دين وخير ومحبة للحق وأهله، واتباع القرآن والسنة، وإظهار الشرائع الاسلامية رحمه الله، وقد كان رحمه الله إلى على نفسه حين خرج من دمشق إلى مرج دابق - ودابق قريبة من بلاد حلب - لما جهز الجيوش إلى مدينة الروم العظمى المسماة بالقسطنطينية، أن لا يرجع
__________
(1) قال في مروج الذهب 3 / 226: وخطب في بعض مقاماته فقال:...وذكر هذه الخطبة.
وذكر لعمر بن عبد العزيز خطبة أخرى قال: ولما أفضى الامر إليه كان أول خطبة خطب الناس بها أن قال: ج 3 / 225 - 226 وذكر صاحب العقد كلاما مختلفا انظر 3 / 143.
وانظر صفوة الصفوة 2 / 114.
(2) في هامش المطبوعة: كان منزله في موضع مدرسة السميساطية الآن مما يلي باب مسجد بني أمية الشمالي.
أما قصر الخلافة الذي يسمى (الدار الخضراء) فكان وراء الجدار القبلي من مسجد بني أمية.
ويسمى موضعه الآن
(المصبغة الخضراء).
(3) انظر نسخة الكتاب - وهي نسخة واحدة إلى عماله - في ابن الاثير 5 / 66.
إلى دمشق حتى تفتح أو يموت، فمات هنالك كما ذكرنا، فحصل له بهذه النية أجر الرباط في سبيل الله، فهو إن شاء الله ممن يجري له ثوابه إلى يوم القيامة رحمه الله.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة شراحيل بن عبيدة بن قيس العقيلي ما مضمونه: إن مسلمة بن عبد الملك لما ضيق بمحاصرته على أهل القسطنطينية، وتتبع المسالك واستحوذ على ما هنالك من الممالك، كتب إليون ملك الروم إلى ملك الرجان يستنصره على مسلمة، ويقول له: ليس لهم همة إلا في الدعوة إلى دينهم، الاقرب منهم فالاقرب، وإنهم متى فرغوا مني خلصوا إليك، فمهما كنت صانعا حينئذ فاصنعه الآن، فعند ذلك شرع لنعه الله في المكر والخديعة، فكتب إلى مسلمة يقول له: إن إليون كتب إلي يستنصرني عليك، وأنا معك فمرني لما شئت.
فكتب إليه مسلمة: إني لا أريد منك رجالا ولا عددا، ولكن أرسل إلينا بالميرة فقد قل ما عندنا من الازواد.
فكتب إليه: إني قد أرسلت إليك بسوق عظيمة إلى مكان كذا وكذا، فأرسل من يتسلمها ويشتري منها.
فأذن مسلمة لمن شاء من الجيش أن يذهب إلى هناك فيشتري له ما يحتاج إليه، فذهب خلق كثير فوجدوا هنالك سوقا هائلة، فيها من أنواع البضائع والامتعة والاطعمة، فأقبلوا يشترون، واشتغلوا بذلك، ولا يشعرون بما أرصد لهم الخبيث من الكمائن بين تلك الجبال التي هنالك، فخرجوا عليهم بغتة واحدة فقتلوا خلقا كثيرا من المسلمين وأسروا آخرين، وما رجع إلى مسلمة إلا القليل منهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فكتب مسلمة بذلك إلى أخيه سليمان يخبره بما وقع من ذلك، فأرسل جيشا كثيفا صحبة شراحيل بن عبيدة هذا، وأمرهم أن يعبروا خليج القسطنطينية أولا فيقاتلوا ملك البرجان، ثم يعودوا إلى مسلمة، فذهبوا إلى بلاد البرجان وقطعوا إليهم تلك الخلجان، فاقتتلوا معهم قتالا شديدا، فهزمهم المسلمون باذن الله، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وسبوا وأسروا خلقا كثيرا، وخلصوا أسرى المسلمين، ثم تحيزوا إلى مسلمة فكانوا عنده حتى استقدم الجميع عمر بن عبد العزيز
خوفا عليهم من غائلة الروم وبلادهم، ومن ضيق العيش، وقد كان لهم قبل ذلك مدة طويلة أثابهم الله.
خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قد تقدم أنه بويع له بالخلافة يوم الجمعة لعشر مضين، وقد قيل بقين من صفر من هذه السنة - أعني سنة تسع وتسعين - يوم مات سليمان بن عبد الملك، عن عهد منه إليه من غير علم من عمر كما قدمنا، وقد ظهرت عليه مخايل الورع والدين والتقشف والصيانة والنزاهة، من أول حركة بدت منه، حيث أعرض عن ركوب مراكب الخلافة، وهي الخيون الحسان الجياد المعدة لها، والاجتزاء بمركوبه الذي كان يركبه، وسكنى منزله رغبة عن منزل الخلافة، ويقال إنه خطب الناس فقال في خطبته: أيها الناس، إن لي نفسا تواقة لا تعطى شيئا إلا تاقت إلى ما هو أعلى منه، وإني لما أعطيت الخلافة تاقت نفسي إلى ما هو أعلى منها وهي الجنة، فأعينوني عليها يرحمكم الله.
وستأتي ترجمته عند وفاته
إن شاء الله، وكان مما بادر إليه عمر في هذه السنة أن بعث (1) إلى مسلمة بن عبد الملك ومن معه من المسلمين وهم بأرض الروم محاصرو القسطنطينية، وقد اشتد عليهم الحال وضاق عليهم المجال، لانهم عسكر كثير، فكتب إليهم يأمرهم بالرجوع إلى الشام إلى منازلهم.
وبعث إليهم بطعام كثير وخيول كثيرة عتاق، يقال خمسمائة فرس، ففرح الناس بذلك.
وفيها أغارت الترك على أذربيجان فقتلوا خلقا كثيرا من المسلمين، فوجه إليهم عمر حاتم بن النعمان الباهلي فقتل أولئك الاتراك، ولم يفلت منهم إلا اليسير، وبعث منهم أسارى (2) إلى عمر وهو بخناصرة.
وقد كان المؤذنون يذكرونه بعد أذانهم باقتراب الوقت وضيقه لئلا يؤخرها كما كان يؤخرها من قبله، لكثرة الاشتغال، وكان ذلك عن أمره لهم بذلك والله أعلم.
فروى ابن عساكر في ترجمة جرير بن عثمان الرحبي الحمصي قال: رأيت مؤذني عمر بن عبد العزيز يسلمون عليه في الصلاة: السلام عليك أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، حي على الصلاة حي على الفلاح، الصلاة قد قاربت.
وفي هذه السنة عزل عمر يزيد بن المهلب عن إمرة العراق وبعث عدي بن أرطاة الفزاري على إمرة البصرة، فاستقضى عليها الحسن البصري، ثم استعفاه فأعفاه، واستقضى مكانه إياس بن معاوية الذكي المشهور، وبعث على إمرة الكوفة وأرضها عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وضم إليه أبا الزناد كاتبا بين يديه، واستقضى عليها عامرا الشعبي.
قال الواقدي: فلم يزل قاضيا عليها مدة خلافة عمر بن عبد العزيز، وجعل على إمرة خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي، وكان نائب مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى إمرة المدينة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو الذي حج بالناس في هذه السنة، وعزل عن إمرة مصر عبد الملك بن أبي وداعة وولى عليها أيوب بن شرحبيل، وجعل الفتيا إلى جعفر بن ربيعة ويزيد بن أبي حبيب وعبيد الله بن أبي جعفر، فهؤلاء الذين كانوا يفتون الناس، واستعمل على إفريقية وبلاد المغرب إسماعيل بن عبد الله المخزومي، وكان حسن السيرة، وأسلم في ولايته على بلاد المغرب خلق كثير من البرير والله سبحانه وتعالى أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان: الحسن بن محمد بن الحنفية تابعي جليل، يقال إنه أول من تكلم في الارجاء، وقد تقدم أن أبا عبيد قال: توفي في سنة خمس وتسعين.
وذكر خليفة أنه توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، وذكر شيخنا الذهبي في الاعلام أنه توفي هذا العام، والله أعلم.
__________
(1) انظر كتاب عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة في فتوح ابن الاعثم 7 / 308.
(2) في الطبري 8 / 130 وابن الاثير 5 / 43: خمسين أسيرا.
عبد الله بن محيريز بن جنادة بن عبيد القرشي الجمحي المكي، نزيل بيت المقدس، تابعي جليل، روى عن زوج أم أبي محذورة المؤذن، وعبادة بن الصامت، وأبي سعيد، ومعاوية، وغيرهم، وعنه خالد بن معدان، ومكحول، وحسان بن عطية، والزهري، وآخرون.
وقد وثقه غير واحد، وأثنى عليه جماعة من
الائمة، حتى قال رجاء بن حيوة: إن يفخر علينا أهل المدينة بعبادهم ابن عمر، فإنا نفخر عليهم بعابدنا عبد الله بن محيريز.
وقال بعض ولده: كان يختم القرآن كل جمعة، وكان يفرش له الفراش فلا ينام عليه، قالوا: وكان صموتا معتزلا للفتن، وكان لا يترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يذكر شيئا من خصاله المحمودة، ورأى على بعض الامراء حلة من حرير فأنكر عليه، فقال: إنما البسها من أجل هؤلاء - وأشار إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين - فقال له ابن محيريز: لا تعدل بخوفك من الله خوف أحد من المخلوقين.
وقال الاوزاعي: من كان مقتديا فليقتد بمثله، فإن الله لا يضل أمة فيها مثله.
قال بعضهم: توفي أيام الوليد، وقال خليفة بن خياط: توفي أيام عمر بن عبد العزيز، وذكر الذهبي في الاعلام أنه توفي في هذا العام، والله سبحانه أعلم.
دخل ابن محيريز مرة حانوت بزاز ليشتري منه ثوبا فرفع في السوم، فقال له جاره: ويحك هذا ابن محيريز ضع له، فأخذ ابن محيريز بيد غلامه وقال: اذهب بنا، إنما جئت لنشتري بأموالنا لا بأدياننا، فذهب وتركه.
محمود بن لبيد بن عقبة أبو نعيم الانصاري الاشهلي ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أحاديث لكن حكمها حكم الارسال.
وقال البخاري: له صحبة.
وقال ابن عبد البر: هو أحسن من محمود بن الربيع.
قيل إنه توفي سنة ست وقيل سبع وتسعين، وذكر الذهبي في الاعلام أنه توفي في هذا العام والله أعلم باليقين.
نافع بن جبير بن مطعم ابن عدي بن نوفل القرشي النوفلي المدني، روى عن أبيه وعثمان وعلي والعباس وأبي هريرة وعائشة وغيرهم، وروى عنه جماعة من التابعين وغيرهم، وكان ثقة عابدا يحج ماشيا ومركوبه يقاد معه، قال غير واحد: توفي سنة تسع وتسعين بالمدينة.
كريب بن مسلم مولى ابن عباس، روى عن جماعة من الصحابة وغيرهم، وكان عنده حمل كتب، وكان من
الثقات المشهورين بالخير والديانة.
محمد بن جبير بن مطعم كان من علماء قريش وأشرافها، وله روايات كثيرة، وكان يعقل مجة مجها النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وعمره أربع سنين، توفي وعمره ثلاث وتسعون سنة بالمدينة.
مسلم بن يسار أبو عبد الله البصري، الفقيه الزاهد، له روايات كثيرة، كان لا يفضل عليه أحد في زمانه، وكان عابدا ورعا زاهدا كثير الصلاة كثير الخشوع، وقيل إنه وقع في داره حريق فأطفاؤه وهو في الصلاة لم يشعر به.
وله مناقب كثيرة رحمه الله.
قلت: وانهدمت مرة ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدتها، وإنه لفي المسجد في صلاته فما التفت.
وقال ابنه: رأيته ساجدا وهو يقول: متى ألقاك وأنت عني راض، ثم يذهب في الدعاء، ثم يقول: متى ألقاك وأنت عني راض، وكان إذا كان في غير صلاة كأنه في الصلاة، وقد تقدمت ترجمته.
حنش بن عمرو الصنعاني كان والي إفريقية وبلاد المغرب، وبافريقية توفي غازيا، وله روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة.
خارجة بن زيد ابن الضحاك الانصاري المدني الفقيه، كان يفتي بالمدينة، وكان من فقهائها المعدوين، كان عالما بالفرائض وتقسيم المواريث، وهو أحد الفقهاء السبعة الذين مدار الفتوى على قولهم.
سنة مائة من الهجرة النبوية قال الامام أحمد: حدثنا علي بن حفص، أنبأ ورقاء، عن منصور، عن المنهال بن عمرو، عن نعيم بن دجاجة قال: دخل ابن مسعود على علي فقال: أنت القائل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يأتي على الناس مائة عام وعلى الارض نفس منفوسة " ؟ إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يأتي على الناس
مائة عام وعلى الارض نفس منفوسة ممن هو حي، وإن رخاء هذه الامة بعد المائة ".
تفرد به أحمد.
وفي رواية لابنه عبد الله أن عليا قال له: يا فروخ أنت القائل لا يأتي على الناس مائة سنة وعلى الارض عين تطرف ممن هو حي اليوم، وإنما رخاء هذه الامة وفرحها بعد المائة ؟ إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يأتي على الناس مائة سنة وعلى الارض عين تطرف.
أخطأت أستك الحفرة، وإنما أراد ممن هو اليوم حي " تفرد به وهكذا جاء في الصحيحين عن ابن عمر.
فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك، وإنما أراد انخرام قرنه.
وفيها خرجت خارجة من الحرورية بالعراق فبعث أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إلى
عبد الحميد نائب الكوفة، يأمره بأن يدعوهم إلى الحق، ويتلطف بهم، ولا يقاتلهم حتى يفسدوا في الارض، فلما فعلوا ذلك بعث إليهم جيشا فكسرهم الحرورية، فبعث عمر إليه يلومه على جيشه، وأرسل عمر ابن عمه مسلمة بن عبد الملك من الجزيرة إلى حربهم، فأظفره الله بهم، وقد أرسل عمر إلى كبير الخوارج - وكان يقال له بسطام - (1) يقول له: ما أخرجك علي ؟ فإن كنت خرجت غضبا لله فأنا أحق بذلك منك، ولست أولى بذلك مني، وهلم أناظرك، فإن رأيت حقا اتبعته، وإن أبديت حقا نظرنا فيه.
فبعث طائفة من أصحابه إليه فاختار منهم عمر رجلين (2) فسألهما: ماذا تنقمون ؟ فقالا: جعلك يزيد بن عبد الملك من بعدك، فقال: إني لم أجعله أبدا وإنما جعله غيري.
قالا: فكيف ترضى به أمينا للامة من بعدك ؟ فقال: أنظراني ثلاثة، فيقال إن بني أمية دست إليه سما فقتلوه خشية أن يخرج الامر من أيديهم ويمنعهم الاموال والله أعلم (3).
وفيها غزا عمر بن الوليد بن هشام المعيطي، وعمرو بن قيس الكندي من أهل حمص، الصائفة وفيها ولى عمر بن عبد العزيز عمر بن هبيرة الجزيرة فسار إليها.
وفيها حمل يزيد بن المهلب إلى عمر بن عبد العزيز من العراق، فأرسله عدي بن أرطاة نائب البصرة مع موسى بن وجيه، وكان عمر يبغض يزيد بن المهلب وأهل بيته، ويقول: هؤلاء جبابرة ولا أحب مثلهم، فلما دخل على عمر طالبه بما قبله من الاموال التي كان قد كتب إلى سليمان أنها حاصلة عنده، فقال: إنما كتبت ذلك
لارهب الاعداء بذلك، ولم يكن بيني وبين سليمان شئ، وقد عرفت مكانتي عنده.
فقال له عمر: لا أسمع منك هذا، ولست أطلقك حتى تؤدي أموال المسلمين، وأمر بسجنه.
وكان عمر قد بعث على إمرة خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي عوضه، وقدم ولد يزيد بن المهلب، مخلد بن يزيد، فقال: يا أمير المؤمنين إن الله عزوجل قد من على هذه الامة ولايتك عليها، فلا نكونن نحن أشقى الناس بك فعلام تحبس هذا الشيخ وأنا أقوم له أتصالحني عنه ؟ فقال عمر: لا أصالحك عنه إلا أن تقوم بجميع ما يطلب منه، ولا آخذ منه إلا جميع ما عنده من مال المسلمين.
فقال: يا أمير المؤمنين إن كانت لك بينة عليه بما تقول وإلا فاقبل يمينه أو فصالحني عنه، فقال: لا آخذ منه إلا جميع ما عنده.
فخرج مخلد بن يزيد من عند عمر، فلم يلبث أن مات مخلد.
وكان عمر يقول: هو خير من أبيه.
ثم إن عمر أمر بأن يلبس يزيد بن المهلب جبة صوف ويركب على بعير إلى جزيرة دهلك التي كان ينفي إليها الفساق، فشفعوا فيه فرده إلى السجن، فلم يزل به حتى مرض عمر مرضه الذي
__________
(1) وهو شوذب الخارجي، من بني يشكر وخرج في جوخى في ثمانين رجلا.
(2) في الطبري 8 / 132 وابن الاثير 5 / 45 ومروج الذهب 3 / 233: ان بسطام بعث رجلين إلى عمر يدارسانه ويناظرنه.
في الطبري وهما: ممزوج مولى بني شيبان (وفي ابن الاثير: عاصم) والآخر من صليبة بني يشكر.
(3) كذا بالاصل والطبري 8 / 132 وانظر مناظرة طويلة بينه وبينهما في ابن الاثير 5 / 46 وما بعدها ومروج الذهب 3 / 233 وما بعدها.
والامامة والسياسة 2 / 118 - 120.
مات فيه، فهرب من السجن وهو مريض، وعلم أنه يموت في مرضه ذلك، وبذلك كتب إليه كما سيأتي، وأظنه كان عالما أن عمر قد سقي سما.
وفيها في رمضان منها عزل عمر بن عبد العزيز الجراح بن عبد الله الحكمي عن إمرة خراسان، بعد سنة وخمسة أشهر، وإنما عزله لانه كان يأخذ الجزية ممن أسلم من الكفار ويقول: أنتم إنما تسلمون فرارا منها (1).
فامتنعوا من الاسلام وثبتوا على دينهم وأدوا الجزية، فكتب إليه عمر: إن الله إنما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم داعيا، ولم يبعثه جابيا.
وعزله وولى بدله عبد الرحمن بن نعيم القشيري على
الحرب، وعبد الرحمن بن عبد الله على الخراج.
وفيها كتب عمر إلى عماله (2) يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر، ويبين لهم الحق ويوضحه لهم ويعظمهم فيما بينه وبينهم، ويخوفهم بأس الله وانتقامه، وكان فيما كتب إلى عبد الرحمن بن نعيم القشيري: أما بعد فكن عبد الله ناصحا لله في عباده، ولا تأخذك في الله لومة لائم، فإن الله أولى بك من الناس، وحقه عليك أعظم، ولا تولين شيئا من أمور المسلمين إلا المعروف بالنصيحة لهم، والتوفير عليهم.
وأدى الامانة فيما استرعي، وإياك أن يكون ميلك ميلا إلى غير الحق، فإن الله لا تخفى عليه خافية، ولا تذهبن عن الله مذهبا، فإنه لا ملجأ من الله إلا إليه.
وكتب مثل ذلك مواعظ كثيرة إلى العمال.
وقال البخاري في صحيحه: وكتب عمر إلى عدي بن عدي: إن للايمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا، من استكملها استكمل الايمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الايمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص.
وفيها كان بدو دعوة بني العباس وذلك أن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس - وكان مقيما بأرض الشراة (3) - بعث من جهته رجلا يقال له ميسرة، إلى العراق، وأرسل طائفة أخرى: وهم محمد بن خنيس وأبو عكرمة السراج، وهو أبو محمد الصادق، وحيان العطار - خال إبراهيم بن سلمة - إلى خراسان، وعليها يومئذ الجراح بن عبد الله الحكمي قبل أن يعزل في رمضان، وأمرهم بالدعاء إليه وإلى أهل بيته، فلقوا من لقوا ثم انصرفوا بكتب من استجاب منهم إلى ميسرة الذي بالعراق، فبعث بها إلى محمد بن
__________
(1) في الطبري 8 / 134 وابن الاثير 5 / 51: قيل للجراح إن الناس سارعوا إلى الاسلام نفورا من الجزية، فامتحنهم بالختان...فكتب إليه عمر: إن الله بعث محمدا داعيا ولم يبعثه خاتنا.
(2) انظر نسخ بعض هذه الكتب في ابن الاثير 5 / 60 - 61.
(3) الشراة: من أعمال البلقاء بالشام.
قاله ابن الاثير.
وفي معجم البلدان: صقع بالشام بين دمشق ومدينة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومن بعض نواحيه القرية المعروفة بالحميمة التي كان يسكنها ولد علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب في أيام بني مروان.
علي ففرح بها واستبشر وسره أن ذلك أول مبادئ أمر قد كتب الله إتمامه، وأول رأي قد أحكم الله إبرامه، أن دولة بني أمية قد بان عليها مخايل الوهن والضعف، ولا سيما بعد موت عمر بن عبد العزيز، كما سيأتي بيانه.
وقد اختار أبو محمد الصادق لمحمد بن علي اثني عشر نقيبا، وهم سليمان بن كثير الخزاعي، ولا هز بن قريظ التميمي، وقحطبة بن شبيب الطائي، وموسى بن كعب التميمي، وخالد بن إبراهيم أبو داود من بني عمرو بن شيبان بن ذهل، والقاسم بن مجاشع التميمي، وعمران بن إسماعيل أبو النجم - مولى لآل أبي معيط - ومالك بن الهيثم الخزاعي، وطلحة بن زريق الخزاعي، وعمرو بن أعين أبو حمزة - مولى لخزاعة -، وشبل بن طهمان أبو علي الهروي - مولى لبني حنيفة - وعيسى بن أعين مولى لخزاعة أيضا.
واختار سبعين رجلا أيضا.
وكتب إليهم محمد بن علي كتابا يكون مثالا وسيرة يقتدون بها ويسيرون بها.
وقد حج بالناس في هذه السنة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، نائب المدينة.
والنواب على الامصارهم المذكورون في التي قبلها، سوى من ذكرنا ممن عزل وتولى غيره والله أعلم.
ولم يحج عمر بن عبد العزيز في أيام خلافته لشغله بالامور، ولكنه كان يبرد البريد إلى المدينة فيقول له: سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عني، وسيأتي إن شاء الله.
وممن توفي فيها من الاعيان (سالم بن أبي الجعد الاشجعي) مولاهم الكوفي.
أخو زياد وعبد الله وعبيد الله وعمران ومسلم، وهو تابعي جليل، روى عن ثوبان (1) وجابر وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، والنعمان بن بشير وغيرهم.
وعنه قتادة والاعمش وآخرون، وكان ثقة نبيلا جليلا.
أبو أمامة [ أسعد بن ] سهل بن حنيف الانصاري الاوسي المدني، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ورآه وحدث عن أبيه وعمر وعثمان وزيد بن ثابت ومعاوية وابن عباس.
وعنه الزهري وأبو حازم وجماعة، قال الزهري: كان من علية الانصار وعلمائهم، ومن أبناء الذين شهدوا بدرا.
وقال يوسف بن الماجشون عن عتبة بن مسلم،
قال: آخر خرجة خرجها عثمان بن عفان إلى الجمعة حصبه الناس وحالوا بينه وبين الصلاة، فصلى بالناس يومئذ أبو أمامة [ أسعد بن ] (2) سهل بن حنيف.
قالوا: توفي سنة مائة والله أعلم.
أبو الزاهرية حدير بن كريب الحمصي تابعي جليل، سمع أبا أمامة صدي بن عجلان، وعبد الله بن بسر، ويقال إنه أدرك أبا
__________
(1) في هامش المطبوعة: في خلاصة تذهيب الكمال: " قال أحمد: لم يلق ثوبان.
وقال البخاري: لم يسمع منه ".
(2) من ابن سعد 5 / 82 وابن الاثير 5 / 55.
الدرداء والصحيح أن روايته عنه وعن حذيفة مرسلة، وقد حدث عنه جماعة من أهل بلده، وقد وثقه ابن معين وغيره.
ومن أغرب ما روي عنه قول قتيبة: ثنا شهاب بن خراش، عن حميد، عن أبي الزاهرية قال: أغفيت في صخرة بيت المقدس فجاءت السدنة فأغلقوا علي الباب، فما انتبهت إلا بتسبيح الملائكة فوثبت مذعورا فإذا الملائكة صفوف، فدخلت معهم في الصف.
قال أبو عبيدة وغيره: مات سنة مائة.
أبو الطفيل عامر بن واثلة ابن عبد الله بن عمرو الليثي الكناني، صحابي، وهو آخر من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وفاة بالاجماع قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الركن بمحجنه (1)، وذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود، وحدث عنه الزهري وقتادة وعمرو بن دينار وأبو الزبير وجماعة من التابعين، وكان من أنصار علي بن أبي طالب، شهد معه حروبه كلها، لكن نقم بعضهم عليه كونه كان مع المختار بن أبي عبيد، ويقال إنه كان حامل رايته، وقد روى أنه دخل على معاوية فقال: ما أبقى لك الدهر من ثكلك عليا ؟ فقال: ثكل العجوز المقلاة والشيخ الرقوب (2)، فقال: كيف حبك له ؟ قال حب أم موسى لموسى، وإلى الله أشكو التقصير.
قيل إنه أدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، ومات سنة مائة وقيل سنة سبع ومائة فالله أعلم.
قال مسلمة بن الحجاج: وهو آخر من مات من الصحابة مطلقا ومات سنة مائة.
أبو عثمان النهدي واسمه عبد الرحمن بن مل البصري، أدرك الجاهلية وحج في زمن الجاهلية مرتين، وأسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وأدى في زمانه الزكاة ثلاث سنين إلى عمال النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا يسميه أئمة الحديث مخضرما، وهاجر إلى المدينة في زمان عمر بن الخطاب، فسمع منه ومن علي وابن مسعود وخلق من الصحابة وصحب سلمان الفارسي ثنتي عشرة سنة حتى دفنه، وروى عنه جماعة من التابعين وغيرهم، منهم أيوب، وحميد الطويل، وسليمان بن طرخان التيمي، وقال عاصم الاحول: سمعته يقول: أدركت في الجاهلية يغوث صنما من رصاص يحمل على جمل أجرد، فإذا بلغ واديا برك فيه فيقولون: قد رضي ربكم لكم هذا الوادي فينزلون فيه، قال: وسمعته وقد قيل له أدركت النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: نعم ! أسلمت على عهده، وأديت إليه الزكاة ثلاث مرات، ولم ألقه، وشهدت اليرموك والقادسية وجلولاء ونهاوند.
كان أبو عثمان صواما قواما، يسرد الصوم ويقوم الليل لا يتركه، وكان يصلي حتى يغشى عليه، وحج ستين مرة ما بين حجة وعمرة، قال سليمان التيمي: إني
__________
(1) المحجن: العصا المنعطفة الرأس، وقيل: كل معطوف الرأس على الاطلاق.
(2) الرقوب: الذي لا يستطيع الكسب ولا كسب له.
لاحسبه لا يصيب ذنبا، لانه ليله قائما ونهاره صائما، وقال بعضهم: سمعت أبا عثمان النهدي يقول: أتت علي ثلاثون ومائة سنة وما مني شئ إلا وقد أنكرته خلا أملي فإني أجده كما هو.
وقال ثابت البناني عن أبي عثمان.
قال: إني لا علم حين يذكرني ربي عزوجل، قال فيقول: من أين تعلم ذلك ؟ فيقول قال الله تعالى (فاذكروني أذكركم) [ البقرة: 152 ] فإذا ذكرت الله ذكرني.
قال: وكنا إذا دعونا الله قال: والله لقد استجاب الله لنا، قال الله تعالى (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) [ المؤمن: 60 ] قالوا: وعاش مائة وثلاثين سنة، قاله هشيم وغيره.
قال المدائني وغيره: توفي سنة مائة، وقال الفلاس: توفي سنة خمس وتسعين، والصحيح سنة مائة والله أعلم.
وفيها توفي عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، وكان يفضل على والده في العبادة والانقطاع عن
الناس، وله كلمات حسان مع أبيه ووعظه إياه.
ثم دخلت سنة إحدى ومائة فيها كان هرب يزيد بن المهلب من السجن حين بلغه مرض عمر بن عبد العزيز، فواعد غلمانه يلقونه بالخيل في بعض الاماكن، وقيل بابل له، ثم نزل من محبسه ومعه جماعة وامرأته عاتكة بنت الفرات العامرية، فلما جاء غلمانه ركب رواحله وسار، وكتب إلى عمر بن عبد العزيز: إني والله ما خرجت من سجنك إلا حين بلغني مرضك، ولو رجوت حياتك ما خرجت، ولكني خشيت من يزيد بن عبد الملك فإنه يتوعدني بالقتل (1)، وكان يزيد يقول: لئن وليت لاقطعن من يزيد بن المهلب طائفة، وذلك أنه لما ولي العراق عاقب أصهاره آل أبي عقيل، وهم بيت الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان يزيد بن عبد الملك مزوجا ببنت محمد بن يوسف (2)، وله ابنه الوليد بن يزيد الفاسق المقتول كما سيأتي.
ولما بلغ عمر بن عبد العزيز أن يزيد بن المهلب هرب من السجن قال: اللهم إن كان يريد بهذه الامة سوءا فاكفهم شره واردد كيده في نحره، ثم لم يزل المرض يتزايد بعمر بن عبد العزيز حتى مات وهو بخناصرة، من دير سمعان بين حماه وحلب، في يوم الجمعة، وقيل في يوم الاربعاء لخمس بقين من رجب من هذه السنة - أعني سنة إحدى ومائة - عن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وقيل إنه جاوز الاربعين بأشهر فالله أعلم.
__________
(1) انظر نسخة كتابه في ابن الاعثم 7 / 322 والطبري 8 / 136 وابن الاثير 5 / 58.
(2) ذكر ابن الاعثم 7 / 321 سببا آخر قال: خرج يزيد يوما وعليه حلة يمانية - في أيام سليمان - وقد تضمخ بالغالية فقال يزيد - وعمر بن عبد العزيز إلى جانبه - قبح الله هذه الدنيا وما فيها لوددت أن مثقال غالية بألف دينار فلا ينالها إلا كل شريف فقال له يزيد بن المهلب: يا مؤنث ألي يقال هذا وأنا ابن المهلب إنما كان يجب عليك أن تقول: وددت أن الغالية لا توجد إلا في جبهة الاسد فلا ينالها إلا مثلي...فالتفت يزيد بن عبد الملك فقال: والله لئن وليت هذا الامر يوما - وكان وليا للعهد - لاقطعن خير طابق من يديك فقال له ابن المهلب: والله لئن وليت هذا الامر وأنا حي لاضربن وجهك بخمسين ألف سيف.
وكانت خلافته فيما ذكر غير واحد سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، وكان حكما مقسطا، وإماما عادلا وورعا دينا لا تأخذه في الله لومة لائم رحمه الله تعالى.
وهذه ترجمة عمر بن عبد العزيز الامام المشهور رحمه الله هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو حفص القرشي الاموي المعروف أمير المؤمنين، وأمه أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ويقال له أشج بني مروان، وكان يقال: الاشج والناقص أعدلا بني مروان.
فهذا هو الاشج وسيأتي ذكر الناقص.
كان عمر تابعيا جليلا، روى عن أنس بن مالك والسائب بن يزيد، ويوسف بن عبد الله بن سلام، ويوسف صحابي صغير.
وروى عن خلق من التابعين (1).
وعنه جماعة من التابعين وغيرهم.
قال الامام أحمد بن حنبل: لا أدري قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز.
بويع له بالخلافة بعد ابن عمه سليمان بن عبد الملك، عن عهد منه له بذلك كما تقدم، ويقال: كان مولده في سنة إحدى وستين (2)، وهي السنة التي قتل فيها الحسين بن علي بمصر، قاله غير واحد.
وقال محمد بن سعد: ولد سنة ثلاث وستين، وقيل سنة تسع وخمسين، فالله أعلم.
وكان له جماعة من الاخوة ولكن الذين هم من أبويه: أبو بكر وعاصم ومحمد، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة عن يحيى بن معين، عن يحيى بن بكير عن الليث.
قال: بلغني أن عمران بن عبد الرحمن ابن شرحبيل بن حسنة كان يحدث أن رجلا رأى في المنام ليلة ولد عمر بن عبد العزيز - أو ليلة ولي الخلافة شك أبو بكر - أن مناديا بين السماء والارض ينادي: أتاكم اللين والدين وإظهار العمل الصالح في المصلين، فقلت: ومن هو ؟ فنزل فكتب في الارض ع م ر.
وقال آدم بن إياس: ثنا أبو علي ثروان مولى عمر بن عبد العزيز.
قال: دخل عمر بن عبد العزيز إلى اصطبل أبيه فضربه فرس فشجه، فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك إذا لسعيد.
رواه الحافظ ابن عساكر من طريق هارون بن معروف عن ضمرة، وقال نعيم بن حماد: ثنا ضمام بن إسماعيل عن أبي قبيل أن عمر بن عبد العزيز بكى وهو غلام صغير، فبلغ أمه فأرسلت إليه فقالت: ما يبكيك ؟
قال: ذكرت الموت، فبكت أمه.
وكان قد جمع القرآن وهو صغير، وقال الضحاك بن عثمان الخزامي: كان أبوه قد جعله عند صالح بن كيسان يؤدبه، فلما حج أبوه اجتاز به في المدينة فسأله عنه فقال: ما خبرت أحدا الله أعظم في صدره من هذا الغلام.
وروى يعقوب بن سفيان أن عمر بن *
__________
(1) ذكر ابن الجوزي بعضهم: سعيد بن المسيب وعبد الله بن ابراهيم بن قارظ وسالم وأبي سلمة وعروة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وخارجة بن زيد وعامر بن سعد بن أبي وقاص وابي بردة بن أبي موسى والربيع بن سبرة وعراك بن مالك وابي حازم والزهري والقرظي.
صفة الصفوة 2 / 127 فوات الوفيات 3 / 133.
(2) في فوات الوفيات 3 / 133: سنة ستين.
عبد العزيز تأخر عن الصلاة مع الجماعة يوما فقال صالح بن كيسان: ما شغلك ؟ فقال: كانت مرجلي تسكن شعري، فقال له: قدمت ذلك على الصلاة ؟ وكتب إلى أبيه وهو على مصر يعلمه بذلك، فبعث أبوه رسولا فلم يكلمه حتى حلق رأسه.
وكان عمر بن عبد العزيز يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله يسمع منه، فبلغ عبيد الله أن عمر ينتقص عليا، فلما أتاه عمر أعرض عبيد الله عنه وقام يصلي، فجلس عمر ينتظره، فلما سلم أقبل على عمر مغضبا وقال له: متى بلغك أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم ؟ قال ففهمها عمر وقال: معذرة إلى الله ثم إليك، والله لا أعود، قال: فما سمع بعد ذلك يذكر عليا إلا بخير.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة، ثنا أبي، ثنا المفضل بن عبد الله، عن داود بن أبي هند.
قال: دخل علينا عمر بن عبد العزيز من هذا الباب - وأشار إلى باب من أبواب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم - فقال رجل من القوم: بعث الفاسق لنا بابنه هذا يتعلم الفرائض والسنن، ويزعم أنه لن يموت حتى يكون خليفة، ويسير سيرة عمر بن الخطاب.
قال داود: والله ما مات حتى رأينا ذلك فيه.
وقال الزبير بن بكار: حدثني العتبي قال: إن أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز حرصه على العلم ورغبته في الادب، إن أباه ولي مصر وهو حديث السن يشك في بلوغه، فأراد أبوه إخراجه معه إلى مصر من الشام، فقال: يا أبة أو غير ذلك لعله يكون أنفع لي ولك ؟ قال: وما
هو ؟ قال: ترحلني إلى المدينة فأقعد إلى فقهائها وأتأدب بآدابهم.
فعند ذلك أرسله أبوه إلى المدينة، وأرسل معه الخدام، فقعد مع مشايخ قريش، وتجنب شبابهم، وما زال دأبه حتى اشتهر ذكره، فلما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدمه على كثير منهم، وزوجه بابنته فاطمة، وهي التي يقول الشاعر فيها: بنت الخليفة والخليفة جدها * أخت الخلائف والخليفة زوجها قال: ولا نعرف امرأة بهذه الصفة إلى يومنا هذا سواها.
قال العتبي: ولم يكن حاسد عمر بن عبد العزيز ينقم عليه شيئا سوى متابعته في النعمة، والاختيال في المشية، وقد قال الاحنف بن قيس: الكامل من عدت هفواته ولا تعد إلا من قلة.
وقد ورث عمر من أبيه من الاموال والمتاع والدواب هو وإخوته ما لم يرثه غيره فيما نعلم، كما تقدم ذلك، ودخل يوما على عمه عبد الملك وهو يتجانف في مشيته فقال: يا عمر مالك تمشي غير مشيتك ؟ قال: إن في جرحا، فقال: وأين هو من جسدك ؟ قال: بين الرانقة والصفن - يعني بين طرف الالية وجلدة الخصية - فقال عبد الملك لروح بن زنباع: بالله لو رجل من قومك سئل عن هذا ما أجاب بمثل هذا الجواب.
قالوا: ولما مات عمه عبد الملك حزن عليه ولبس المسوح تحت ثيابه سبعين يوما، ولما ولي الوليد عامله بما كان أبوه يعامله به، وولاه المدينة ومكة والطائف من سنة ست وثمانين إلى سنة ثلاث وتسعين، وأقام للناس الحج سنة تسع وثمانين، وسنة تسعين، وحج الوليد بالناس سنة
إحدى وتسعين، ثم حج بالناس عمر سنة ثنتين أو ثلاث وتسعين.
وبنى في مدة ولايته هذه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ووسعه عن أمر الوليد له بذلك، فدخل فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان في هذه المدة من أحسن الناس معاشرة، وأعدلهم سيرة، كان إذا وقع له أمر مشكل جمع فقهاء المدينة عليه، وقد عين عشرة منهم، وكان لا يقطع أمرا بدونهم أو من حضر منهم، وهم عروة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد بن حزم، وسالم بن عبد الله،
وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت.
وكان لا يخرج عن قول سعيد بن المسيب، وقد كان سعيد بن المسيب لا يأتي أحدا من الخلفاء، وكان يأتي إلى عمر بن عبد العزيز وهو بالمدينة، وقال إبراهيم بن عبلة: قدمت المدينة وبها ابن المسيب وغيره، وقد ندبهم عمر يوما إلى رأي.
وقال ابن وهب: حدثني الليث، حدثني قادم البريري أنه ذاكر ربيعة بن أبي عبد الرحمن يوما شيئا من قضايا عمر بن عبد العزيز إذ كان بالمدينة، فقال له الربيع: كأنك تقول: أخطأ، والذي نفسي بيده ما أخطأ قط.
وثبت من غير وجه عن أنس بن مالك.
قال: ما صليت وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى - يعني عمر بن عبد العزيز - حين كان على المدينة.
قالوا: وكان يتم الركوع والسجود ويخفف القيام والقعود، وفي رواية صحيحة أنه كان يسبح في الركوع والسجود عشرا عشرا، وقال ابن وهب: حدثني الليث عن أبي النضر المديني، قال: رأيت سليمان بن يسار خارجا من عند عمر بن عبد العزيز فقلت له: من عند عمر خرجت ؟ قال: نعم ! قلت: تعلمونه ؟ قال: نعم، فقلت: هو والله أعلمكم.
وقال مجاهد: أتينا عمر نعلمه فما برحنا حتى تعلمنا منه.
وقال ميمون بن مهران: كانت العلماء عند عمر بن عبد العزيز تلامذة، وفي رواية قال ميمون: كان عمر بن عبد العزيز معلم العلماء.
وقال الليث: حدثني رجل كان قد صحب ابن عمر وابن عباس، مكان عمر بن عبد العزيز يستعمله على الجزيرة، قال: ما التمسنا علم شئ إلا وجدنا عمر بن عبد العزيز أعلم الناس بأصله وفرعه، وما كان العلماء عند عمر بن عبد العزيز إلا تلامذة.
وقال عبد الله بن طاووس: رأيت أبي تواقف هو وعمر بن عبد العزيز من بعد صلاة العشاء حتى أصبحنا، فلما افترقا قلت: يا أبة من هذا الرجل ؟ قال هذا عمر بن عبد العزيز، وهو من صالحي هذا البيت - يعني بني أمية - وقال عبد الله بن كثير قلت لعمر بن عبد العزيز ما كان بدء إنابتك ؟ قال: أردت ضرب غلام لي فقال لي: اذكر يوما صبيحتها يعني يوم القيامة (1).
وقال الامام مالك: لما عزل عمر بن عبد العزيز عن المدينة - يعني في سنة ثلاث وتسعين -
__________
(1) كذا بالاصل، والنص في سيرة عمر بن عبد العزيز لابن جوزي ص 149: اذكر ليلة صبيحتها يوم القيامة وهو أصوب.
وخرج منها التفت إليها وبكى وقال لمولاه: يا مزاحم، نخشى أن نكون ممن نفت المدينة - يعني أن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد - وينصع طيبها.
قلت: خرج من المدينة فنزل بمكان قريب منها يقال له السويداء حينا (1)، ثم قدم دمشق على بني عمه.
قال محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أبي حكيم.
قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: خرجت من المدينة وما من رجل أعلم مني، فلما قدمت الشام نسيت.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد بن زيد، عن معمر عن الزهري قال: سهرت مع عمر بن عبد العزيز ذات ليلة فحدثته، فقال: كل ما حدثت فقد سمعته ولكن حفظت ونسيت.
وقال ابن وهب عن الليث، عن عقيل، عن الزهري قال قال عمر بن عبد العزيز: بعث إلي الوليد ذات ساعة من الظهيرة، فدخلت عليه فإذا هو عابس، فأشار إلي أن اجلس، فجلست فقال: ما تقول فيمن يسب الخلفاء أيقتل ؟ فسكت، ثم عاد فسكت، ثم عاد فقلت: أقتل يا أمير المؤمنين ؟ قال: لا، ولكن سب، فقلت: ينكل به، فغضب وانصرف إلى أهله، وقال لي ابن الريان السياف: اذهب، قال: فخرجت من عنده وما تهب ريح إلا وأنا أظن أنه رسول يردني إليه.
وقال عثمان بن زبر: أقبل سليمان بن عبد الملك وهو أمير المؤمنين ومعه عمر بن عبد العزيز على معسكر سليمان، وفيه تلك الخيول والجمال والبغال والاثقال والرجال، فقال سليمان: ما تقول يا عمر في هذا ؟ فقال: أرى دنيا يأكل بعضها بعضا وأنت المسؤول عن ذلك كله، فلما اقتربوا من المعسكر إذا غراب قد أخذ لقمة في فيه من فسطاط سليمان وهو طائر بها، ونعب نعبة، فقال له سليمان: ما هذا يا عمر ؟ فقال: لا أدري، فقال: ما ظنك أنه يقول ؟ قلت: كأنه يقول: من أين جاءت وأين يذهب بها ؟ فقال له سليمان: ما أعجبك ؟ فقال عمر: اعجب ممن عرف الله فعصاه، ومن عرف الشيطان فأطاعه، ومن عرف الدنيا فركن إليها.
وتقدم أنه لما وقف سليمان وعمر بعرفة ورأى سليمان كثرة الناس فقال له عمر: هؤلاء رعيتك اليوم وأنت مسؤول عنهم غدا.
وفي رواية وهم خصماؤك يوم القيامة، فبكى سليمان وقال: بالله نستعين.
وتقدم أنهم لما أصابهم ذلك المطر والرعد فزع سليمان وضحك عمر فقال له: أتضحك ؟
فقال: نعم هذه آثار رحمته ونحن في هذه الحال، فكيف بآثار غضبه وعقابه ونحن في تلك الحال ؟ وذكر الامام مالك أن سليمان وعمر تقاولا مرة فقال له سليمان في جملة الكلام: كذبت، فقال: تقول كذبت ؟ والله ما كذبت منذ عرفت أن الكذب يضر أهله، ثم هجره عمر وعزم على الرحيل إلى مصر، فلم يمكنه سليمان، ثم بعث إليه فصالحه وقال له: ما عرض لي أمر يهمني إلا خطرت على
__________
(1) في هامش المطبوعة: السويداء أرض كان يملكها عمر بن عبد العزيز واستنبط فيها من عطائه عن ماء، وله فيها قصر مبني، ولما تنازل لبيت المال عن جميع ما ورثه عن آبائه أبقى السويداء وخيبر لانه اطمأن إلى انهما حلال خالص ليس في أية شبهة، وكان هو خليفة يأكل من غلتها وينفق ما يزيد عن الضرورة.
بالي.
وقد ذكرنا أنه لما حضرته الوفاة أوصى بالامر من بعده إلى عمر بن عبد العزيز فانتظم الامر على ذلك ولله الحمد.
فصل وقد كان منتظرا فيما يؤثر من الاخبار قال أبو داود الطيالسي: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، ثنا عبد الله بن دينار قال: قال ابن عمر: يا عجبا ! ! يزعم الناس أن الدنيا لا تنقضي حتى يلي رجل من آل عمر يعمل بمثل عمل عمر، قال: وكانوا يرونه بلال بن عبد الله بن عمر، قال: وكان بوجهه أثر، فلم يكن هو، وإذا هو عمر بن عبد العزيز، وأمه ابنة عاصم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
وقال البيهقي: أنبأ الحاكم، أنبأ أبو حامد بن علي المقري، ثنا أبو عيسى الترمذي، ثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا عفان، ثنا عثمان بن عبد الحميد بن لاحق، عن جويرية بن أسماء عن نافع.
قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب قال: إن من ولدي رجلا بوجهه شجان يلي فيملا الارض عدلا.
قال نافع من قبله: ولا أحسبه إلا عمر بن عبد العزيز.
ورواه مبارك بن فضالة عن عبيد الله عن نافع.
وقال: كان ابن عمر يقول: ليت شعري من هذا الذي من لد عمر في وجهه علامة يملا الارض عدلا ؟ قال وهيب بن الورد: بينما أنا نائم رأيت كأن رجلا دخل من باب بني شيبة وهو يقول: يا أيها
الناس ! ولي عليكم كتاب الله.
فقلت: من ؟ فأشار إلى ظفره، فإذا مكتوب عليه ع م ر، قال فجاءت بيعة عمر بن عبد العزيز.
وقال بقية عن عيسى بن أبي رزين، حدثني الخزاعي، عن عمر بن عبد العزيز أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في روضة خضراء فقال له: " إنك ستلي أمر أمتي فزع عن الدم فزع عن الدم، فإن اسمك في الناس عمر بن عبد العزيز، واسمك عند الله جابر ".
وقال أبو بكر بن المقري: ثنا أبو عروبة الحسين بن محمد بن مودود الحراني، ثنا أيوب بن محمد الوزان، ثنا ضمرة بن ربيعة، ثنا السري بن يحيى، عن رياح بن عبيدة.
قال: خرج عمر بن عبد العزيز إلى الصلاة وشيخ متوكئ على يده، فقلت في نفسي: إن هذا الشيخ جاف، فلما صلى ودخل لحقته فقلت: أصلح الله الامير، من هذا الشيخ الذي أتكأته يدك ؟ فقال: يا رياح رأيته ؟ قلت: نعم ! قال: ما أحسبك يا رياح إلا رجلا صالحا، ذاك أخي الخضر أتاني فأعلمني أني سألي أمر هذه الامة وأني سأعدل فيها.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو عمير، ثنا ضمره، عن علي بن خولة عن أبي عنبس.
قال: كنت جالسا مع خالد بن يزيد بن معاوية فجاء شاب عليه مقطعات فأخذ بيد خالد، فقال:
هل علينا من عين ؟ فقال أبو عنبس: فقلت عليكما من الله عين بصرة، وأذن سميعة، قال: فترقوقت عينا الفتى.
فأرسل يده من يد خالد وولى، فقلت: من هذا ؟ قال: هذا عمر بن عبد العزيز ابن أخي أمير المؤمنين، ولئن طالت بك حياة لترينه إمام هدى.
قلت: قد كان عند خالد بن يزيد بن معاوية شئ جيد من أخبار الاوائل وأقوالهم، وكان ينظر في النجوم والطب.
وقد ذكرنا في ترجمة سليمان بن عبد الملك أنه لما حضرته الوفاة أراد أن يعهد إلى بعض أولاده، فصرفه وزيره الصالح رجاء بن حيوة عن ذلك، وما زال به حتى عهد إلى عمر بن عبد العزيز من بعده وصوب ذلك رجاء فكتب سليمان العهد في صحيفة وختمها ولم يشعر بذلك عمر ولا أحد من بني مروان سوى سليمان ورجاء، ثم أمر صاحب الشرطة باحضار الامراء ورؤوس الناس من بني مروان وغيرهم، فبايعوا سليمان على ما في الصحيفة المختومة، ثم انصرفوا، ثم لما مات الخليفة استدعاهم
رجاء بن حيوة فبايعوا ثانية قبل أن يعلموا موت الخليفة، ثم فتحها فقرأها عليهم، فإذا فيها البيعة لعمر بن عبد العزيز، فأخذوه فأجلسوه على المنبر وبايعوه فانعقدت له البيعة.
وقد اختلف العلماء في مثل هذا الصنيع في الرجل يوصي الوصية في كتاب ويشهد على ما فيه من غير أن يقرأ على الشهود.
ثم يشهدون على ما فيه فينفذ، فسوغ ذلك جماعات من أهل العلم، قال القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري: أجاز ذلك وأمضاه وأنفذ الحكم به جمهور أهل الحجاز، وروى ذلك عن سالم بن عبد الله.
وهو مذهب مالك ومحمد بن مسلمة المخزومي ومكحول، ونمير بن أوس وزرعة بن إبراهيم، والاوزاعي وسعيد بن عبد العزيز، ومن وافقهم من فقهاء الشام.
وحكى نحو ذلك خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه وقضاة جنده، وهو قول الليث بن سعد فيمن وافقه من فقهاء أهل مصر والمغرب، وهو قول فقهاء أهل البصرة وقضاتهم.
وروى عن قتادة وعن سوار بن عبد الله وعبيد الله بن الحسن ومعاذ بن معاذ العنبري فيمن سلك سبيلهم، وأخذ بهذا عدد كثير من أصحاب الحديث، منهم أبو عبيد وإسحاق بن راهويه.
قلت: وقد اعتنى به البخاري في صحيحه.
قال المعافى: وأبى ذلك جماعة من فقهاء العراق، منهم إبراهيم وحماد والحسن، وهو مذهب الشافعي وأبي ثور، قال: وهو قول شيخنا أبي جعفر، وكان بعض أصحاب الشافعي بالعراق يذهب إلى القول الاول، قال الجريري: وإلى القول الاول نذهب.
وتقدم أن عمر بن عبد العزيز لما رجع من جنازة سليمان أتي بمراكب الخلافة ليركبها فامتنع من ذلك وأنشأ يقول: - فلو لا التقى ثم النهى خشية الردى (1) * لعاصيت في حب الصباكل زاجر قضى ما قضى فيما مضى ثم لا ترى * له صبوة أخرى الليالي الغوابر ثم قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
قدموا إلي بغلتي، ثم أمر ببيع تلك المراكب الخليفية
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 331: ولو لا التقى من خشية الموت والردى...
فيمن يزيد، وكانت من الخيول الجياد المثمنة، فباعها وجعل أثمانها في بيت المال.
قالوا: ولما رجع
من الجنازة وقد بايعه الناس واستقرت الخلافة باسمه، انقلب وهو مغتم مهموم، فقال له مولاه: مالك هكذا مغتما مهموما وليس هذا بوقت هذا ؟ فقال: ويحك ومالي لا أغتم وليس أحد من أهل المشارق والمغارب من هذه الامة إلا وهو يطالبني بحقه أن أؤديه إليه، كتب إلي في ذلك أو لم يكتب، طلبه مني أو لم يطلب.
قالوا: ثم إنه خير امرأته فاطمة بين أن تقيم معه على أنه لا فراغ له إليها، وبين أن تلحق بأهلها، فبكت وبكى جواريها لبكائها، فسمعت ضجة في داره، ثم اختارت مقامها معه على كل حال رحمها الله.
وقال له رجل: تفرغ لنا يا أمير المؤمنين، فأنشأ يقول: قد جاء شغل شاغل * وعدلت عن طرق السلامه ذهب الفراغ فلا فرا * غ لنا إلى يوم القيامة وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن سلام، عن سلام بن سليم قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز صعد المنبر وكان أول خطبة خطبها حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فليفارقنا.
يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما لا نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا أحدا، ولا يعرض فيما لا يعنيه.
فانقشع عنه الشعراء والخطباء وثبت معه الفقهاء والزهاد، وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف فعله قوله.
وقال سفيان بن عيينة: لما ولي عمر بن عبد العزيز بعث إلى محمد بن كعب ورجاء بن حيوة وسالم بن عبد الله فقال لهم: قد ترون ما ابتليت به وما قد نزل بي، فما عندكم ؟ فقال محمد بن كعب: اجعل الشيخ أبا، والشاب أخا، والصغير ولدا، وبر أباك وصل أخاك، وتعطف على ولدك.
وقال رجاء: ارض للناس ما ترضى لنفسك، وما كرهت أن يؤتى إليك فلا تأته إليهم، واعلم أنك أول خليفة تموت.
وقال سالم: اجعل الامر واحدا وصم فيه عن شهوات الدنيا، واجعل آخر فطرك فيه الموت.
فكأن قد.
فقال عمر: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال غيره: خطب عمر بن عبد العزيز يوما الناس فقال - وقد خنقته العبرة - أيها الناس أصلحوا آخرتكم يصلح الله دنياكم، وأصلحوا أسراركم (1) يصلح لكم علانيتكم، والله إن عبدا ليس بينه وبين آدم أب إلا قد مات، إنه لمعرق له في الموت.
وقال في بعض خطبه: كم من عامر
موثق عما قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن.
فأحسنوا رحمكم الله من الدنيا الرحلة بأحسن ما يحضر بكم من النقلة، بينما ابن آدم في الدنيا ينافس قرير العين فيها يانع، إذ دعاه الله بقدره، ورماه بسهم حتفه، فسلبه اثارة دنياه، وصبر إلى قوم آخرين مصانعه ومغناه، إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، تسر قليلا وتحزن طويلا.
وقال إسماعيل بن عياش عن عمرو بن مهاجر قال: لما
__________
(1) في العقد الفريد 2 / 143: سرائركم.
وانظر صفة الصفوة 2 / 114 في خطبة أطول.
استخلف عمر بن عبد العزيز قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس ! إنه لا كتاب بعد القرآن، ولا نبي بعد محمد عليه السلام، وإني لست بقاض ولكني منفذ، وإني لست بمبتدع ولكني متبع، إن الرجل الهارب من الامام الظالم ليس بظالم (1) إلا أن الامام الظالم هو العاصي، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عزوجل.
وفي رواية أنه قال فيها: وإني لست بخير من أحد منكم، ولكنني أثقلكم حملا، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا هل أسمعت ؟ وقال أحمد بن مروان: ثنا أحمد بن يحيى الحلواني، ثنا محمد بن عبيد، ثنا إسحاق بن سليمان، عن شعيب بن صفوان، حدثني ابن لسعيد بن العاص قال: كان آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنكم لم تخلقوا عبثا، ولم تتركوا سدى، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للحكم فيكم والفصل بينكم، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله تعالى (2)، وحرم جنة عرضها السموات والارض، ألم تعلموا أنه لا يأمن غدا إلا من حذر اليوم الآخر وخافه، وباع فانيا بباق، ونافدا بمالا نفاد له، وقليلا بكثير، وخوفا بأمان، ألا ترون أنكم في أسلاب (3) الهالكين، وسيكون من بعدكم للباقين، كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين، ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله لا يرجع، قد قضى نحبه حتى تغيبوه في صدع من الارض، في بطن صدع غير موسد ولا ممهد، قد فارق الاحباب، وواجه التراب والحساب، فهو مرتهن بعمله، غني عما ترك، فقير لما قدم، فاتقوا الله قبل القضاء، راقبوه قبل نزول الموت بكم، أما إني أقول هذا، ثم وضع طرف ردائه على وجهه فبكى وأبكى من حوله.
وفي رواية: وأيم الله إني لاقول قولي
هذا ولا أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما أعلم من نفسي، ولكنها سنن من الله عادلة، أمر فيها بطاعته، ونهى فيها عن معصيته، وأستغفر الله، ووضع كمه على وجهه فبكى حتى بل لحيته، فما عاد لمجلسه حتى مات رحمه الله.
وروى أبو بكر بن أبي الدنيا: عن عمر بن عبد العزيز أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقول: " ادن يا عمر، فدنوت حتى خشيت أن أصيبه، فقال: إذا وليت فاعمل نحوا من عمل هذين، فإذا كهلان قد اكتنفاه، فقلت: ومن هذان ؟ قال: هذا أبو بكر وهذا عمر ".
وروينا أنه قال: لسالم بن عبد الله بن عمر: اكتب لي سيرة عمر حتى أعمل بها، فقال له سالم: إنك لا تستطيع ذلك، قال: ولم ؟ إنك إن عملت بها كنت أفضل من عمر، لانه كان يجد على الخير أعوانا، وأنت لا تجد من يعينك على الخير.
وقد روى أنه كان نقش خاتمه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وفي رواية آمنت بالله، وفي رواية الوفاء عزيز.
وقد جمع يوما رؤوس الناس فخطبهم فقال: إن فدك كانت بيد
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 226: بعاص.
(2) زيد في العقد الفريد 2 / 144: التي وسعت كل شئ.
(3) في العقد: أصلاب.
وانظر الاغاني 9 / 266 - 267.
وصفة الصفوة 2 / 123 - 124.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث أراه الله، ثم وليها أبو بكر وعمر كذلك، قال الاصمعي: وما أدري ما قال في عثمان، قال: ثم إن مروان أقطعها فحصل لي منها نصيب، ووهبني الوليد وسليمان نصيبهما، ولم يكن من مالي شئ أرده أغلى منها، وقد رددتها في بيت المال على ما كانت عليه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فيئس الناس عند ذلك من المظالم، ثم أمر بأموال جماعة من بني أمية فردها إلى بيت المال وسماها أموال المظالم، فاستشفعوا إليه بالناس، وتوسلوا إليه بعمته فاطمة بنت مروان فلم ينجع فيه شئ، وقال لهم: لتدعني وإلا ذهبت إلى مكة فنزلت عن هذا الامر لاحق الناس به، وقال: والله لو أقمت فيكم خمسين عاما ما أقمت فيكم إلا ما أريد من العدل، وإني لاريد الامر فما أنفذه إلا من طمع من الدنيا حتى تسكن قلوبهم.
وقال الامام أحمد عن عبد الرزاق، عن أبيه، عن وهب بن منبه أنه قال: إن كان في هذه الامة مهدي فهو عمر بن عبد العزيز، ونحو هذا قال قتادة وسعيد بن المسيب وغير واحد.
وقال طاووس: هو مهدي وليس به، إنه لم يستكمل العدل كله، إذا كان المهدي ثبت على المسئ من إساءته، وزيد المحسن في إحسانه، سمح بالمال شديد على العمال رحيم بالمساكين.
وقال مالك عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب أنه قال: الخلفاء أبو بكر والعمران، فقيل له: أبو بكر وعمر قد عرفناهما فمن عمر الآخر ؟ قال: يوشك إن عشت أن تعرفه، يريد عمر بن عبد العزيز، وفي رواية أخرى عنه أنه قال: هو أشج بني مروان.
وقال عباد السماك وكان يجالس سفيان الثوري: سمعت الثوري يقول: الخلفاء خمسة، أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز.
وهكذا روي عن أبي بكر بن عياش والشافعي وغير واحد.
وأجمع العلماء قاطبة على أنه من أئمة العدل وأحد الخلفاء الراشدين والائمة المهديين.
وذكره غير واحد في الائمة الاثني عشر، الذين جاء فيهم الحديث الصحيح: " لا يزال أمر هذه الامة مستقيما حتى يكون فيهم اثني عشر خليفة كلهم من قريش " (1).
وقد اجتهد رحمه الله في مدة ولايته - مع قصرها - حتى رد المظالم، وصرف إلى كل ذي حق حقه، وكان مناديه في كل يوم ينادي: أين الغارمون ؟ أين الناكحون ؟ أين المساكين ؟ أين اليتامى ؟ حتى أغنى كلا من هؤلاء.
وقد اختلف العلماء أيهم أفضل هو أو معاوية بن أبي سفيان ؟ ففضل بعضهم عمر لسيرته ومعدلته وزهده وعبادته، وفضل آخرون معاوية لسابقته وصحبته، حتى قال بعضهم: ليوم شهده معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمر بن عبد العزيز وأيامه وأهل بيته.
وذكر ابن عساكر في تاريخه: أن عمر بن عبد العزيز كان يعجبه جارية من جواري زوجته فاطمة بنت عبد الملك، فكان سألها إياها إما بيعا أو هبة، فكانت تأبى عليه ذلك، فلما ولي الخلافة ألبستها
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه في أول كتاب المهدي.
والامام أحمد في مسنده (5 / 92).
والبخاري في (93) كتاب الاحكام.
(51) باب.
ومسلم في كتاب الامارة (1) باب.
ص (1452).
وطيبتها وأهدتها إليه ووهبتها منه، فلما أخلتها به أعرض عنها، فتعرضت له فصدف عنها، فقالت له: يا سيدي فأين ما كان يظهر لي من محبتك إياي ؟ فقال: والله إن محبتك لباقية كما هي، ولكن لا حاجة لي في النساء، فقد جاءني أمر شغلني عنك وعن غيرك، ثم سألها عن أصلها ومن أين جلبوها، فقالت: يا أمير المؤمنين إن أبي أصاب جناية ببلاد المغرب فصادره موسى بن نصير فأخذت في الجناية، وبعث بي إلى الوليد فوهبني الوليد إلى أخته فاطمة زوجتك، فأهدتني إليك.
فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون، كدنا والله نفتضح ونهلك، ثم أمر بردها مكرمة إلى بلادها وأهلها.
وقالت زوجته فاطمة: دخلت يوما عليه وهو جالس في مصلاه واضعا خده على يده ودموعه تسيل على خديه، فقلت: مالك ؟ فقال: ويحك يا فاطمة، قد وليت من أمر هذه الامة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والارملة الوحيدة والمظلوم المقهور.
والغريب والاسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الارض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي عزوجل سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت.
وقال ميمون بن مهران: ولاني عمر بن عبد العزيز عمالة ثم قال لي: إذا جاءك كتاب مني على غير الحق فاضرب به الارض.
وكتب إلى بعض عماله: إذا دعتك قدرتك على الناس إلى مظلمة، فاذكر قدرة الله عليك ونفاد ما تأتي إليهم، وبقاء ما يأتون إليك.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: عن جرير بن حازم عن عيسى بن عاصم قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي: إن للاسلام سننا وفرائض وشرائع، فمن استكملها استكمل الايمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الايمان، فإن أعش أبينها لكم لتعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص.
وذكره البخاري في صحيحه تعليقا مجزوما به.
وذكر الصولي: أن عمر كتب إلى بعض عماله: عليك بتقوى الله فإنها هي التي لا يقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثاب إلا عليها، وإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل.
وقال: من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وينفعه، ومن أكثر ذكر الموت اجتزأ من الدنيا
باليسير.
وقال: من لم يعد كلامه من عمله كثرت خطاياه، ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه.
وكلمه رجل يوما حتى أغضبه فهم به عمر ثم أمسك نفسه، ثم قال للرجل: أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان فأنال منك ما تناله مني غدا ؟ قم عافاك الله لا حاجة لنا في مقاولتك.
وكان يقول: إن أحب الامور إلى الله القصد في الجد، والعفو في المقدرة، والرفق في الولاية، وما رفق بعبد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة.
وخرج ابن له وهو صغير يلعب مع الغلمان فشجه صبي منهم، فاحتملوا الصبي الذي شج ابنه وجاؤوا به إلى عمر، فسمع الجلبة فخرج إليهم، فإذا مريئة تقول: إنه ابني وإنه يتيم، فقال لها عمر: هوني عليك، ثم قال لها عمر: أله عطاء في الديوان ؟
قالت: لا ! قال: فاكتبوه في الذرية.
فقالت زوجته فاطمة: أتفعل هذا به وقد شج ابنك ؟ فعل الله به وفعل، المرة الاخرى يشج ابنك ثانية.
فقال: ويحك، إنه يتيم وقد أفزعتموه.
وقال مالك بن دينار: يقولون مالك زاهد، أي زهد عندي ؟ إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز، أتته الدنيا فاغرة فاها فتركها جملة.
قالوا: ولم يكن له سوى قميص واحد فكان إذا غسلوه جلس في المنزل حتى ييبس، وقد وقف مرة على راهب فقال له: ويحك عظني، فقال له: عليك بقول الشاعر: - تجرد من الدنيا فإنك إنما * خرجت إلى الدنيا وأنت مجرد قال: وكان يعجبه ويكرره وعمل به حق العمل.
قالوا: ودخل على امرأته يوما فسألها أن تقرضه درهما أو فلوسا يشتري له بها عنبا، فلم يجد عندها شيئا، فقالت له: أنت أمير المؤمنين وليس في خزانتك ما تشتري به عنبا ؟ فقال: هذا أيسر من معالجة الاغلال والانكل غدا في نار جهنم.
قالوا: وكان سراج بيته على ثلاث قصبات في رأسهن طين، قالوا: وبعث يوما غلامه ليشوي له لحمة فجاءه بها سريعا مشوية، فقال: أين شويتها ؟ قال: في المطبخ، فقال: في مطبخ المسلمين ؟ قال: نعم.
فقال: كلها فإني لم أرزقها، هي رزقك.
وسخنوا له الماء في المطبخ العام فرد بدل ذلك بدرهم حطبا.
وقالت زوجته: ما جامع ولا احتلم وهو خليفة.
قالوا: وبلغ عمر بن عبد العزيز عن أبي سلام الاسود أنه يحدث عن ثوبان بحديث الحوض فبعث إليه فأحضره على البريد
وقال له، كالمتوجع له: يا أبا سلام ما أردنا المشقة عليه، ولكن أردت أن تشافهني بالحديث مشافهة، فقال: سمعت ثوبان يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حوضي ما بين عدن إلى عمان البلقاء ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وأكوابه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، وأول الناس ورودا عليه فقراء المهاجرين، الشعث رؤوسا، الدنس ثيابا، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم السدد ".
فقال عمر: لكني نكحت المتنعمات، فاطمة بنت عبد الملك، فلا جرم لا أغسل رأسي حتى يشعث، ولا ألقي ثوبي حتى يتسخ.
قالوا: وكان له سراج يكتب عليه حوائجه، وسراج لبيت المال يكتب عليه مصالح المسلمين، لا يكتب على ضوئه لنفسه حرفا.
وكان يقرأ في الصحف كل يوم أول النهار، ولا يطيل القراءة، وكان له ثلاثمائة شرطي، وثلاثمائة حرسي، وأهدى له رجل من أهل بيته تفاحا فاشتمه ثم رده مع الرسول، وقال له: قل له قد بلغت محلها، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، وهذا رجل من أهل بيتك، فقال: إن الهدية كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، فأما نحن فهي لنا رشوة.
قالوا: وكان يوسع على عماله في النفقة، يعطي الرجل منهم في الشهر مائة دينار، ومائتي دينار، وكان يتأول أنهم إذا كانوا في كفاية تفرغوا لاشغال المسلمين، فقالوا له: لو أنفقت على عيالك كما تنفق على عمالك ؟ فقال: لا أمنعهم حقا لهم، ولا أعطيهم حق غيرهم.
وكان أهله قد بقوا في جهد عظيم فاعتذر بأن معهم سلفا كثيرا من قبل ذلك، وقال يوما لرجل من ولد علي: إني
لاستحي من الله أن تقف ببابي ولا يؤذن لك، وقال لآخر منهم: إني لاستحي من الله وأرغب بك أن أدنسك بالدنيا لما أكرمك الله به.
وقال أيضا: كنا نحن وبنو عمنا بنو هاشم مرة لنا ومرة علينا، نلجأ إليهم ويلجئون إلينا، حتى طلعت شمس الرسالة فأكسدت كل نافق، وأخرست كل منافق، وأسكتت كل ناطق.
وقال أحمد بن مروان: ثنا أبو بكر ابن أخي خطاب، ثنا خالد بن خداش، ثنا حماد بن زيد عن موسي بن أيمن الراعي - وكان يرعى الغنم لمحمد بن عيينة - قال: كانت الاسد والغنم والوحش
ترعى في خلافة عمر بن عبد العزيز في موضع واحد، فعرض ذات يوم لشاة منها ذئب فقلت: إنا لله، ما أرى الرجل الصالح إلا قد هلك.
قال فحسبناه فوجدناه قد هلك في تلك الليلة.
ورواه غيره عن حماد فقال: كان يرعى الشاة بكرمان فذكر نحوه، وله شاهد من وجه آخر، ومن دعائه: اللهم إن رجالا أطاعوك فيما أمرتهم وانتهوا عما نهيتهم، اللهم وإن توفيقك إياهم كان قبل طاعتهم إياك، فوفقني.
ومنه: اللهم إن عمر ليس بأهل أن تناله رحمتك، ولكن رحمتك أهل أن تنال عمر.
وقال له رجل: أبقاك الله ما كان البقاء خيرا لك، فقال: هذا شئ قد فرغ منه، ولكن قل: أحياك الله حياة طيبة، وتوفاك مع الابرار.
وقال له رجل: كيف أصبحت يا أمير المؤمنين ؟ فقال: أصبحت بطيئا بطينا، متلوثا بالخطايا، أتمنى على الله عزوجل.
ودخل عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك كانت الخلافة لهم زين، وأنت زين الخلافة، وإنما مثلك يا أمير المؤمنين كما قال الشاعر: وإذا الدر زان حسن وجوه * كان للدر حسن وجهك زينا قال: فأعرض عنه عمر.
وقال رجاء بن حيوة: سمرت عند عمر بن عبد العزيز ذات ليلة فعشى السراج فقلت: يا أمير المؤمنين: ألا أنبه هذا الغلام يصلحه ؟ فقال: لا ! دعه ينام، لا أحب أن أجمع عليه عملين.
فقلت: أفلا أقوم أصلحه ؟ فقال: لا ! ليس من المروءة استخدام الضيف، ثم قام بنفسه فأصلحه وصب فيه زيتا ثم جاء وقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، وجلست وأنا عمر بن عبد العزيز، وقال: أكثروا ذكر النعم فإن ذكرها شكرها.
وقال: إنه ليمنعني من كثرة ذكرها مخافة المباهاة، وبلغه أن رجلا من أصحابه توفي، فجاء إلى أهله ليعزيهم فيه، فصرخوا في وجهه بالبكاء عليه، فقال: مه، إن صاحبكم لم يكن يرزقكم، وإن الذي يرزقكم حي لا يموت، وإن صاحبكم هذا، لم يسد شيئا من حفركم، وإنما سد حفرة نفسه، ألا وإن لكل امرئ منكم حفرة لا بد والله أن يسدها، إن الله عزوجل لما خلق الدنيا حكم عليها بالخراب، وعلى أهلها بالفناء وما امتلات دار خبرة إلا امتلات عبرة، ولا اجتمعوا إلا تفرقوا، حتى يكون الله هو الذي يرث الارض ومن عليها، فمن كان منكم باكيا فليبك على نفسه، فإن الذي صار إليه
صاحبكم كل الناس يصيرون إليه غدا.
وقال ميمون بن مهران: خرجت مع عمر إلى القبور فقال لي: يا أبا أيوب ! هذه قبور آبائي بني أمية، كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشهم، أما تراهم صرعى قد خلت بهم المثلاث، واستحكم فيهم البلاء ؟ ثم بكى حتى غشي عليه، ثم أفاق فقال: انطلقوا بنا فوالله لا أعلم أحدا انعم ممن صار إلى هذه القبور، وقد أمن من عذاب الله، ينتظر ثواب الله.
وقال غيره: خرج عمر بن عبد العزيز في جنازة فلما دفنت قال لاصحابه: قفوا حتى آتي قبور الاحبة: فأتاهم فجعل يبكي ويدعو، إذ هتف به التراب فقال: يا عمر ألا تسألني ما فعلت في الاحبة ؟ قال قلت: وما فعلت بهم ؟ قال: مزقت الاكفان، وأكلت اللحوم، وشدخت المقلتين، وأكلت الحدقتين، ونزعت الكفين من الساعدين، والساعدين من العضدين والعضدين من المنكبين، والمنكبين من الصلب، والقدمين من الساقين، والساقين من الفخذين، والفخذين من الورك، والورك من الصلب.
فلما أراد أن يذهب قال له: يا عمر أدلك على أكفان لا تبلى ؟ قال: وما هي ؟ قال: تقوى الله والعمل الصالح.
وقال مرة لرجل من جلسائه: لقد أرقت الليلة مفكرا، قال: وفيم يا أمير المؤمنين ؟ قال: في القبر وساكنه، إنك لو رأيت الميت بعد ثلاث في قبره، وما صار إليه، لاستوحشت من قربه بعد طول الانس منك بناحيته، ولرأيت بيتا تجول فيه الهوام، وتخترق فيه الديدان، ويجري فيه الصديد، مع تغير الريح، وبلى الاكفان بعد حسن الهيئة وطيب الريح، ونقاء الثوب، قال: ثم شهق شهقة خر مغشيا عليه.
وقال مقاتل بن حيان: صليت وراء عمر بن عبد العزيز فقرأ (وقفوهم إنهم مسؤلون) [ الصافات: 24 ] فجعل يكررها وما يستطيع أن يتجاوزها.
وقالت امرأته فاطمة: ما رأيت أحدا أكثر صلاة وصياما منه، ولا أحد أشد فرقا من ربه منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه، قالت: ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشئ من أمر الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور في الماء، ويجلس
يبكي، فأطرح عليه اللحاف رحمة له، وأنا أقول: يا ليت كان بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين، فوالله ما رأينا سرورا منذ دخلنا فيها.
وقال علي بن زيد: ما رأيت رجلين كأن النار لم تخلق إلا لهما مثل الحسن وعمر بن عبد العزيز.
وقال بعضهم: رأيته يبكي حتى بكى دما، قالوا: وكان إذا أوى إلى فراشه قرأ (إن ربكم الذي خلق السموات والارض في ستة أيام) الآية، ويقرأ (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون) [ الاعراف: 53 ] ونحو هذه الآيات، وكان يجتمع كل ليلة إليه أصحابه من الفقهاء فلا يذكرون إلا الموت والآخرة، ثم يبكون حتى كأن بينهم جنازة، وقال أبو بكر الصولي: كان عمر بن عبد العزيز يتمثل بقول الشاعر: فما تزود مما كان يجمعه * سوى حنوط غداة البين في خرق
وغير نفحة أعواد تشب له * وقل ذلك من زاد لمنطلق بأيما بلد كانت منيته * إن لا يسر طائعا في قصدها يسق ونظر عمر بن عبد العزيز وهو في جنازة إلى قوم قد تلثموا من الغبار والشمس وانحازوا إلى الظل فبكى وأنشد: من كان حين تصيب (1) الشمس جبهته * أو الغبار يخاف الشين والشعثا ويألف الظل كي تبقى بشاشته * فسوف يسكن يوما راغما جدثا في قعر مظلمة غبراء موحشة * يطيل في قعرها تحت الثرى اللبثا (2) تجهزي بجهاز تبلغين به * يا نفس قبل الردى (3) لم تخلقي عبثا هذه الابيات ذكرها الآجري في أدب النفوس بزيادة فيها فقال: أخبرنا أبو بكر، أنبأنا أبو حفص عمر بن سعد القراطيسي، حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي الدنيا، حدثني محمد بن صالح القرشي، أخبرني عمر بن الخطاب الازدي، حدثني ابن لعبد الصمد بن عبد الاعلى بن أبي عمرة قال: أراد عمر بن عبد العزيز أن يبعثه رسولا إلى إليون طاغية الروم يدعوه إلى الاسلام، فقال له
عبد الاعلى: يا أمير المؤمنين ! إئذن لي في بعض بني يخرج معي - وكان عبد الاعلى له عشرة من الذكور - فقال له: انظر من يخرج معك من ولدك.
فقال: عبد الله، فقال له عمر: إني رأيت ابنك عبد الله يمشي مشية كرهتها منه ومقته عليها، وبلغني أنه يقول الشعر.
فقال عبد الاعلى: أما مشيته تلك فغريزة فيه، وأما الشعر فإنما هو نواحة ينوح بها على نفسه، فقال له: مر عبد الله يأتيني وخذ معك غيره، فراح عبد الاعلى بابنه عبد الله إليه، فاستنشده فأنشده ذلك الشعر المتقدم: تجهزي بجهاز تبلغين به * يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا ولا تكدي لمن يبقى وتفتقري * إن الردى وارث الباقي وما ورثا واخشي حوادث صرف الدهر في مهل * واستيقظي لا تكوني كالذي بحثا عن مدية كان فيها قطع مدته * فوافت الحرث موفورا كما حرثا لا تأمني فجع دهر مترف ختل * قد استوى عنده من طاب أو خبثا يا رب ذي أمل فيه على وجل * أضحى به آمنا أمسى وقد حدثا من كان حين تصيب الشمس جبهته * أو الغبار يخاف الشين والشعثا
__________
(1) في الكامل للمبرد 1 / 375: تمس.
والاشعث والشعثاء: الخاليان من الدهن.
(2) في الكامل، ورد البيت: في بطن مظلمة غبراء مقفرة * كيما يطيل بها في بطنها اللبثا (3) في الكامل للمبرد: يا نفس واقتصدي...
ويألف الظل كي تبقى بشاشته * فكيف يسكن يوما راغما جدثا قفراء موحشة غبراء مظلمة * يطيل تحت الثرى من قعرها اللبثا وقد ذكرها ابن أبي الدنيا فعمر أنشدها عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكان عمر يتمثل بها كثيرا ويبكي.
وقال الفضل بن عباس الحلبي: كان عمر بن عبد العزيز لا يجف فوه من هذا البيت:
ولا خير في عيش امرئ لم يكن له * من الله في دار القرار نصيب وزاد غيره معه بيتا حسنا وهو قوله: فإن تعجب الدنيا أناسا فإنها * متاع قليل والزوال قريب ومن شعره الذي أنشده ابن الجوزي: أنا ميت وعز من لا يموت * قد تيقنت أنني سأموت ليس ملك يزيله الموت ملكا * إنما الملك ملك من لا يموت وقال عبد الله بن المبارك: كان عمر بن عبد العزيز يقول: تسر بما يفنى وتفرح بالمنى * كما اغتر باللذات في النوم حالم (1) نهارك يا مغرور سهو وغفلة * وليلك نوم والردى لك لازم وسعيك فيما سوف تكره غبه * كذلك في الدنيا تعيش البهائم وقال محمد بن كثير: قال عمر بن عبد العزيز يلوم نفسه: أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم * وكيف يطبق النوم حيران هائم فلو كنت يقظان الغداة لحرقت * محاجر (2) عينيك الدموع السواجم اصبحت في النوم الطويل وقد دنت * إليك أمور مفظعات عظائم وتكدح (3) فيما سوف تكره غبه * كذلك في الدنيا تعيش البهائم
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 331: نسر بما يبلى، ونشغل بالمنى * كما سر بالاحلام في النوم حالم وفي صفوة الصفوة.
يغرك ما يفني وتشغل بالمنى * كما غر باللذات في النوم حالم (2) في صفة الصفوة 2 / 124: مدامع.
(3) في الصفة: وتشعل.
وغبه: كذا بالاصل والصفوة ولعلها غيبه أو عينه.
وعين الشئ ذاته ونفسه.
والعين أيضا: العيب.
فلا أنت في النوام يوما بسالم * ولا أنت في الايقاظ يقظان حازم وروى ابن أبي الدنيا بسنده عن فاطمة بنت عبد الملك قالت: انتبه عمر ذات ليلة وهو يقول: لقد رأيت الليلة رؤيا عجيبة، فقلت: أخبرني بها، فقال: حتى نصبح، فلما صلى بالمسلمين دخل فسألته فقال: رأيت كأني دفعت إلى أرض خضراء واسعة كأنها بساط أخضر وإذا فيها قصر كأنه الفضة فخرج منه خارج فنادى أين محمد بن عبد الله، أين رسول الله ؟ إذ أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى دخل ذلك القصر، ثم خرج آخر فنادى: أين أبو بكر الصديق ؟ فأقبل فدخل، ثم خرج آخر فنادى أين عمر بن الخطاب ؟ فأقبل فدخل، ثم خرج آخر فنادى أين عثمان بن عفان ؟ فأقبل فدخل، ثم خرج آخر فنادى أين علي بن أبي طالب ؟ فأقبل فدخل، ثم خرج آخر فنادى أين عمر بن عبد العزيز ؟ فقمت فدخلت فجلست إلى جانب عمر بن الخطاب، وهو عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر عن يمينه، وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل، فقلت: لابي: من هذا ؟ قال: هذا عيسى بن مريم، ثم سمعت هاتفا يهتف بيني وبينه نور لا أراه، وهو يقول: يا عمر بن عبد العزيز تمسك بما أنت عليه، واثبت على ما أنت عليه، ثم كأنه أذن لي في الخروج فخرجت، فالتفت فإذا عثمان بن عفان وهو خارج من القصر وهو يقول: الحمد لله الذي نصرني ربي، وإذا علي في إثره وهو يقول: الحمد لله الذي غفر لي ربي.
فصل وقد ذكرنا في دلائل لنبوة الحديث الذي رواه أبو داود في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يبعث لهذه الامة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها ".
فقال جماعة من أهل العلم منهم أحمد بن حنبل فيما ذكره ابن الجوزي وغيره: إن عمر بن عبد العزيز كان على رأس المائة الاولى، وإن كان هو أولى من دخل في ذلك وأحق، لامامته وعموم ولايته، وقيامه واجتهاده في تنفيذ الحق، فقد كانت سيرته شبيهة بسيرة عمر بن الخطاب، وكان كثيرا ما تشبه به.
وقد جمع الشيخ أبو الفرج بن الجوزي سيرة لعمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، وقد أفادنا سيرة عمر بن الخطاب في مجلد على
حدة، ومسنده في مجلد ضخم، وأما سيرة عمر بن عبد العزيز فقد ذكرنا منها طرفا صالحا هنا، يستدل به على ما لم نذكره.
وقد كان عمر رحمه الله يعطي من انقطع إلى المسجد الجامع من بلده وغيرها، للفقه ونشر العلم وتلاوة القرآن، في كل عام من بيت المال مائة دينار، وكان يكتب إلى عماله أن يأخذوا بالسنة، ويقول: إن لم تصلحهم السنة فلا أصلحهم الله، وكتب إلى سائر البلاد أن لا يركب ذمي من اليهود والنصارى وغيرهم على سرج، ولا يلبس قباء ولا طيلسانا ولا السراويل، ولا يمشين أحد منهم إلا بزنار من جلد، وهو مقرون الناصية، ومن وجد منهم في منزله سلاح أخذ منه.
وكتب أيضا أن لا
يستعمل على الاعمال إلا أهل القرآن، فإن لم يكن عندهم خير فغيرهم أولى أن لا يكون عنده خير.
وكان يكتب إلى عماله: اجتنبوا الاشغال عند حضور الصلاة، فإن من أضاعها فهو لما سواها من شرائع الاسلام أشد تضييعا.
وقد كان يكتب الموعظة إلى العامل من عماله فينخلع منها، وربما عزل بعضهم نفسه عن العمالة وطوى البلاد من شدة ما تقع موعظته منه، وذلك أن الموعظة إذا خرجت من قلب الواعظ دخلت قلب الوعوظ.
وقد صرح كثير من الائمة بأن كل من استعمله عمر بن عبد العزيز ثقة، وقد كتب إليه الحسن البصري بمواعظ حسان ولو تقصينا ذلك لطال هذا الفصل.
ولكن قد ذكرنا ما فيه إشارة إلى ذلك، وكتب إلى بعض عماله: أذكر ليلة تمخض بالساعة فصباحها القيامة، فيالها من ليلة ويا له من صباح، وكان يوما على الكافرين عسيرا.
وكتب إلى آخر: أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الابد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد بك، وانقطاع الرجاء منك، قالوا: فخلع هذا العامل نفسه من العمالة وقدم على عمر فقال له: مالك ؟ فقال: خلعت قلبي بكتابك يا أمير المؤمنين، والله لا أعود إلى ولاية أبدا.
فصل وقد رد جميع المظالم كما قدمنا، حتى إنه رد فص خاتم كان في يده، قال: أعطانيه الوليد من غير حقه، وخرج من جميع ما كان فيه من النعيم في الملبس والمأكل والمتاع، حتى إنه ترك التمتع
بزوجته الحسناء، فاطمة بنت عبد الملك، يقال كانت من أحسن النساء، ويقال إنه رد جهازها إلى بيت المال، والله أعلم.
وقد كان دخله في كل سنة قبل أن يلي الخلافة أربعين ألف دينار، فترك ذلك كله حتى لم يبق له دخل سوى أربعمائة دينار في كل سنة، وكان حاصله في خلافته ثلاثمائة درهم، وكان له من الاولاد جماعة، وكان ابنه عبد الملك أجلهم، فمات في حياته في زمن خلافته، حتى يقال إنه كان خيرا من أبيه، فلما مات لم يظهر عليه حزن، وقال: أمر رضيه الله فلا أكرهه، وكان قبل الخلافة يؤتي بالقميص الرفيع اللين جدا فيقول: ما أحسنه لو لا خشونة فيه، فلما ولي الخلافة كان بعد ذلك يلبس القميص الغليظ المرقوع ولا يغسله حتى يتسخ جدا، ويقول: ما أحسنه لولا لينه.
وكان يلبس الفروة الغليظة، وكان سراجه على ثلاث قصبات في رأسهن طين، ولم يبن شيئا في أيام خلافته، وكان يخدم نفسه بنفسه، وقال: ما ترك شيئا من الدينا إلا عوضني الله ما هو خير منه، وكان يأكل الغليظ ولا يبالي بشئ من النعيم، ولا يتبعه نفسه ولا يوده.
حتى قال أبو سليمان الداراني: كان عمر بن عبد العزيز أزهد من أويس القرني، لان عمر ملك الدنيا بحذافيرها وزهد فيها، ولا ندري حال أويس لو ملك ما ملكه عمر كيف يكون ؟ ليس من جرب كمن لم يجرب.
وتقدم قول مالك بن دينار: إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز.
وقال عبد الله بن دينار: لم يكن عمر يرتزق من بيت المال شيئا، وذكروا أنه أمر جارية تروحه حتى ينام فروحته، فنامت هي، فأخذ
المروحة من يدها وجعل يروحها ويقول: أصابك من الحر ما أصابني.
وقال له رجل: جزاك الله عن الاسلام خيرا.
فقال: بل جزى الله الاسلام عني خيرا.
ويقال إنه كان يلبس تحت ثيابه مسحا غليظا من شعر، ويضع في رقبته غلا إذا قام يصلي من الليل، ثم إذا أصبح وضعه في مكان وختم عليه فلا يشعر به أحد، وكانوا يظنونه مالا أو جوهرا من حرصه عليه، فلما مات فتحوا ذلك المكان فإذا فيه غسل ومسخ.
وكان يبكي حتى يبكي الدم من الدموع، ويقال إنه بكى فوق سطح حتى سال دمعه من الميزاب، وكان يأكل من العدس ليرق قلبه وتغزر دمعته، وكان إذا ذكر الموت اضطربت أوصاله،
وقرأ رجل عنده (وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين) الآية [ الفرقان: 13 ]، فبكى بكاء شديدا ثم قام فدخل منزله وتفرق الناس عنه، وكان يكثر أن يقول: اللهم سلم سلم، وكان يقول: اللهم أصلح من كان في صلاحه صلاح لامة محمد صلى الله عليه وسلم، وأهلك من كان في هلاكه صلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقال: أفضل العبادة أداء الفرائض واجتناب المحارم.
وقال: لو أن المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهي عن المنكر حتى يحكم أمر نفسه لتواكل الناس الخير، ولذهب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة.
وقال: الدنيا عدوة أولياء الله، وولية أعداء الله، أما الاولياء فغمتهم وأحزنتهم، وأما الاعداء فغرتهم وشتتتهم وأبعدتهم عن الله.
وقال: قد أفلح من عصم من المراء والغضب والطمع.
وقال لرجل: من سيد قومك ؟ قال: أنا، قال: لو كنت كذلك لم تقله.
وقال: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب.
وقال: لقد بورك لعبد في حاجة أكثر فيها سؤال ربه، أعطي أو منع.
وقال: قيدوا العلم بالكتاب، وقال لرجل: علم ولدك الفقه الاكبر: القناعة وكف الاذى.
وتكلم رجل عنده فأحسن فقال: هذا هو السحر الحلال.
وقصته مع أبي حازم مطولة حين رآه خليفة وقد شحب وجهه من التقشف، وتغير حاله، فقال له: ألم يكن ثوبك نقيا ؟ ووجهك وضيا ؟ وطعامك شهيا ؟ ومركبك وطيا ؟ فقال له: ألم تخبرني عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من ورائكم عقبة كؤودا لا يجوزها إلا كل ضامر مهزول " ؟ ثم بكى حتى غشي عليه، ثم أفاق فذكر أنه لقي في غشيته تلك أن القيامة قد قامت، وقد استدعى بكل من الخلفاء الاربعة، فأمر بهم إلى الجنة، ثم ذكر من بينه وبينهم فلم يدر ما صنع بهم، ثم دعي هو فأمر به إلى الجنة، فلما انفصل لقيه سائل فسأله عما كان من أمره فأخبره، ثم قال للسائل، فمن أنت ؟ قال: أنا الحجاج بن يوسف، قتلني ربي كل قتلة قتلة، ثم ها أنا أنتظر ما ينتظره الموحدون.
وفضائله ومآثره كثيرة جدا، وفيما ذكرنا كفاية ولله الحمد والمنة، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة لنا إلا به.
ذكر سبب وفاته رحمه الله كان سببها السل، وقيل سببها أن مولى له سمه في طعام أو شراب، وأعطي على ذلك ألف
دينار، فحصل له بسبب ذلك مرض، فأخبر أنه مسموم (1)، فقال: لقد علمت يوم سقيت السم، ثم استدعى مولاه الذي سقاه، فقال له: ويحك ! ! ما حملك على ما صنعت ؟ فقال: ألف دينار أعطيتها.
فقال: هاتها، فأحضرها فوضعها في بيت المال، ثم قال له: اذهب حيث لا يراك أحد فتهلك.
ثم قيل لعمر: تدارك نفسك، فقال: والله لو أن شفائي أن أمس شحمة أذني أو أوتى بطيب فأشمه ما فعلت، فقيل له: هؤلاء بنوك - وكانوا اثني عشر - ألا توصي لهم بشئ فإنهم فقراء ؟ فقال: (إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) [ الاعراف: 195 ] والله لا أعطيتهم حق أحد وهم بين رجلين إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح فما كنت لاعينه على فسقه.
وفي رواية فلا أبالي في أي واد هلك.
وفي رواية أفأدع له ما يستعين به على معصية الله فأكون شريكه فيما يعمل بعد الموت ؟ ما كنت لافعل.
ثم استدعى بأولاده فودعهم وعزاهم بهذا، وأوصاهم بهذا الكلام ثم قال: انصرفوا عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم (2).
قال: فلقد رأينا بعض أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل على ثمانين فرس في سبيل الله، وكان بعض أولاد سليمان بن عبد الملك - مع كثرة ما ترك لهم من الاموال - يتعاطى ويسأل من أولاد عمر بن عبد العزيز، لان عمر وكل ولده إلى الله عزوجل، وسليمان وغيره إنما يكلون أولادهم إلى ما يدعون لهم، فيضيعون وتذهب أموالهم في شهوات أولادهم.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب قال قيل لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين لو أتيت المدينة، فإن قضى الله موتا دفنت في القبر الرابع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فقال: والله لان يعذبني الله بكل عذاب، إلا النار فإنه لا صبر لي عليها، أحب إلي من أن يعلم الله من قلبي أني لذلك الموضع أهل.
قالوا: وكان مرضه بدير سمعان من قرى حمص وكانت مدة مرضه عشرين يوما، ولما احتضر قال: أجلسوني فأجلسوه فقال: إلهي أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ثلاثا، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحد النظر، فقالوا: إنك لتنظر نظرا شديدا يا أمير المؤمنين، فقال: إني لارى حضرة ما هم بإنس ولا جان، ثم قبض من ساعته.
وفي رواية أنه قال لاهله: اخرجوا عني، فخرجوا وجلس على الباب
مسلمة بن عبد الملك وأخته فاطمة، فسمعوه يقول: مرحبا بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ولا جان ثم قرأ (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) [ القصص: 83 ] ثم هدأ الصوت فدخلوا عليه فوجدوه قد غمض وسوي إلى القبلة وقبض.
__________
(1) وهو قول ابن عبد ربه في العقد الفريد 2 / 280 وقال ان يزيد بن عبد الملك دس إليه السم مع خادم له.
وفوات الوفيات وفيه: سقاه بنو أمية السم لما شدد عليهم.
وفي الطبري 8 / 137 وابن الاثير 5 / 58 ان مرضا ألم به وكانت شكواه عشرين يوما.
ولم يذكرا أنه مات مسموما.
(2) انظر وصيته لابنه محمد لما حضرته الوفاة في ابن الاعثم 7 / 323.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا عبد الملك بن عبد العزيز، عن الدراوردي، عن عبد العزيز بن أبي سلمة أن عمر بن عبد العزيز لما وضع عند قبره هبت ريح شديدة فسقطت صحيفة بأحسن كتاب فقرأوها فإذا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم براءة من الله لعمر بن عبد العزيز من النار.
فأدخلوها بين أكفانه ودفنوها معه.
وروى نحو هذا من وجه آخر ابن عساكر في ترجمة عبد الصمد بن إسماعيل بسنده عن عمير بن حبيب السلمي، قال: أسرت أنا وثمانية في زمن بني أمية، فأمر ملك الروم بضرب رقابنا، فقتل أصحابي وشفع في بطريق من بطارقة الملك، فأطلقني له، فأخذني إلى منزله، وإذا له ابنة مثل الشمس، فعرضها علي على أن يقاسمني نعمته وأدخل معه في دينه فأبيت، وخلت بي ابنته فعرضت نفسها علي فامتنعت، فقالت: ما يمنعك من ذلك ؟ فقلت: يمنعني ديني، فلا أترك ديني لامرأة ولا لشئ.
فقالت: تريد الذهاب إلى بلادك ؟ قلت: نعم، فقالت: سر على هذا النجم بالليل واكمن بالنهار، فإنه يلقيك إلى بلادك، قال: فسرت كذلك، قال فبينا أنا في اليوم الرابع مكمن إذا بخيل مقبلة فخشيت أن تكون في طلبي، فإذا أنا بأصحابي الذين قتلوا ومعهم آخرون على دواب شهب، فقالوا: عمير ؟ فقلت: عمير.
فقلت: لهم أو ليس قد قتلتم ؟ قالوا: بلى، ولكن الله
عزوجل نشر الشهداء وأذن لهم أن يشهدوا جنازة عمر بن عبد العزيز، قال: ثم قال لي بعضهم: ناولني يدك يا عمير، فأردفني فسرنا يسيرا ثم قذف بي قذفة وقعت قرب منزلي بالجزيرة، من غير أن يكون لحقني شر.
وقال رجاء بن حيوة: كان عمر بن عبد العزيز قد أوصى إلي أن أغسله وأكفنه، فإذا حللت عقدة الكفن أن أنظر في وجهه فادلى، ففعلت فإذا وجهه مثل القراطيس بياضا، وكان قد أخبرني أنه كل من دفنه قبله من الخلفاء وكان يحل عن وجوههم فإذا هي مسودة.
وروى ابن عساكر في ترجمة يوسف بن ماهك قال: بينما نحن نسوي التراب على قبر عمر بن عبد العزيز إذ سقط علينا من السماء كتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم أمان من الله لعمر بن عبد العزيز من النار، ساقه من طريق إبراهيم بن بشار، عن عباد بن عمرو، عن محمد بن يزيد البصري، عن يوسف بن ماهك فذكره، وفيه غرابة شديدة والله أعلم.
وقد رئيت له منامات صالحة، وتأسف عليه الخاصة والعامة، لا سيما العلماء والزهاد والعباد، ورثاه الشعراء، فمن ذلك ما أنشده أبو عمرو الشيباني لكثير (1) عزة يرثي عمر: -
__________
(1) قال المبرد في الكامل 2 / 322: وقال رجل من خزاعة وينحله كثير يرثي عمر بن عبد العزيز بن مروان (قال أبو الحسن: الذي صح عندنا أن هذا الشعر لقطرب النحوي).
عمت صنائعه فعم هلاكه (1) * فالناس فيه كلهم مأجور والناس مأتمهم عليه واحد * في كل دار رنة وزفير يثني عليك لسان من لم توله * خيرا لانك بالثناء جدير ردت صنائعه عليه (2) حياته * فكأنه من نشرها منشور وقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله: - ينعي النعاة أمير المؤمنين لنا * يا خير من حج بيت الله واعتمرا حملت أمرا عظيما فاضطلعت به * وسرت فيه بأمر الله يا عمرا (1)
الشمس كاسفة ليست بطالعة (4) * تبكي عليك نجوم الليل والقمرا وقال محارب بن دثار رحمه الله يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: - لو أعظم الموت خلقا أن يواقعه * لعدله لم يصبك الموت يا عمر كم من شريعة عدل قد نعشت لهم * كادت تموت وأخرى منك تنتظر يا لهف نفسي ولهف الواجدين معى * على العدول التي تغتالها الحفر ثلاثة ما رأت عيني لهم شبها * تضم أعظمهم في المسجد الحفر وأنت تتبعهم لم تأل مجتهدا * سقيا لها سنن بالحق تفتقر لو كنت أملك والاقدار غالبة * تأتي رواحا وتبيانا وتبتكر صرفت عن عمر الخيرات مصرعه * بدير سمعان لكن يغلب القدر قالوا: وكانت وفاته بدير سمعان من أرض حمص، يوم الخميس، وقيل الجمعة لخمس مضين، وقيل بقين من رجب، وقيل لعشر بقين منه، سنة إحدى وقيل ثنتين ومائة، وصلى عليه ابن عمه مسلمة بن عبد الملك، وقيل صلى عليه يزيد بن عبد الملك، وقيل ابنه عبد العزيز بن عمر بن
__________
(1) في المبرد: جلت رزيئته فعم مصابه.
وقبله فيه: أما القبور فإنهن أوانس * بجوار قبرك والديار قبور (2) في المبرد: إليه.
(3) البيت في كامل المبرد 1 / 403.
حملت أمرا جسيما فاصطبرت له * وقمت فيه بحق الله يا عمرا وفي العقد الفريد 2 / 281.
حملت أمرا عظيما فاصطبرت له * وسرت فينا بحكم الله يا عمرا (4) في الكامل للمبرد والعقد: الشمس طالعة ليست بكاسفة...
عبد العزيز، وكان عمره يوم مات تسعا وثلاثين سنة وأشهرا، وقيل إنه جاوز الاربعين بأشهر، وقيل بستة.
وقيل بأكثر، وقيل إنه عاش ثلاثا وستين سنة، وقيل ستا وثلاثين، وقيل سبعا وثلاثين، وقيل ثمانيا وثلاثين سنة، وقيل ما بين الثلاثين إلى الاربعين ولم يبلغها.
وقال أحمد عن عبد الرزاق عن معمر: مات على رأس خمس وأربعين سنة.
قال ابن عساكر: وهذا وهم، والصحيح الاول تسعا وثلاثين سنة وأشهرا.
وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، وقيل أربعة عشر يوما، وقيل سنتان ونصف.
وكان رحمه الله أسمر دقيق الوجه حسنه نحيف الجسم حسن اللحية غائر العينين، بجبهته أثر شجة وكان قد شاب وخضب رحمه الله، والله سبحانه أعلم.
فصل لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة جاءه صاحب الشرطة ليسير بين يديه بالحربة على عادته مع الخلفاء قبله، فقال له عمر: ما لي ولك ؟ تنح عني، إنما أنا رجل من المسلمين.
ثم سار وساروا معه حتى دخل المسجد، فصعد المنبر واجتمع الناس إليه فقال: أيها الناس ! إني قد ابتليت بهذا الامر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لانفسكم ولامركم من تريدون.
فصاح المسلمون صيحة واحدة: قد اخترناك لانفسنا وأمرنا، ورضينا كلنا بك.
فلما هدأت أصواتهم حمد الله وأثنى عليه وقال: أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شئ، وليس من تقوى الله خلف (1)، وأكثروا من ذكر الموت فإنه هادم اللذات، وأحسنوا الاستعداد له قبل نزوله، وإن هذه الامة لم تختلف في ربها ولا في كتابها ولا في نبيها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحدا باطلا، ولا أمنع أحدا حقا، ثم رفع صوته فقال: أيها الناس ! من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.
ثم نزل فدخل فأمر بالستور فهتكت والثياب التي كانت تبسط للخلفاء أمر بها فبيعت، وأدخل أثمانها في بيت المال، ثم ذهب يتبوأ مقيلا، فأتاه ابنه عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين ماذا تريد أن تصنع ؟ قال: يا بني أقيل، قال: تقيل ولا ترد المظالم
إلى أهلها ؟ فقال: إني سهرت البارحة في أمر سليمان، فإذا صليت الظهر رددت المظالم.
فقال له ابنه: ومن لك أن تعيش إلى الظهر ؟ قال: ادن مني أي بني، فدنا منه فقبل بين عينيه وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني.
ثم قام وخرج وترك القائلة وأمر مناديه
__________
(1) زيد في صفة الصفوة 2 / 114: فاعملوا لآخرتكم فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم يصلح الله الكريم علانيتكم...
فنادى: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، فقام إليه رجل ذمي من أهل حمص (1) فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله، قال: ما ذاك ؟ قال: العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي.
والعباس جالس، فقال له عمر: يا عباس ما تقول ؟ قال: نعم ! أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد وكتب لي بها سجلا، فقال عمر: ما تقول يا ذمي ؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله تعالى.
فقال عمر: نعم كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد، قم فاردد عليه ضيعته، فردها عليه.
ثم تتابع الناس في رفع المظالم إليه.
فما رفعت إليه مظلمة إلا ردها، سواء كانت في يده أو في يد غيره حتى أخذ أموال بني مروان وغيرهم، مما كان في أيديهم بغير استحقاق، فاستغاث بنو مروان بكل واحد من أعيان الناس، فلم يفدهم ذلك شيئا، فأتوا عمتهم فاطمة بنت مروان - وكانت عمته - فشكوا إليها ما لقوا من عمر، وأنه قد أخذ أموالهم ويستنقصون عنده، وأنه لا يرفع بهم رأسا، وكانت هذه المرأة لا تحجب عن الخلفاء، ولا ترد لها حاجة، وكانوا يكرمونها ويعظمونها، وكذلك كان عمر يفعل معها قبل الخلافة، وقامت فركبت إليه، فلما دخلت عليه عظمها وأكرمها، لانها أخت أبيه، وألقى لها وسادة، وشرع يحادثها، فرآها غضبى وهي على غير العادة، فقال لها عمر: يا عمة مالك ؟ فقالت: بنو أخي عبد الملك وأولادهم يهانون في زمانك وولايتك ؟ وتأخذ أموالهم فتعطيها لغيرهم، ويسبون عندك فلا تنكر ؟ فضحك عمر وعلم أنها متحملة، وأن عقلها قد كبر، ثم شرع يحادثها والغضب لا يتحيز عنها، فلما رأى ذلك أخذ معها في الجد، فقال: يا عمه ! اعلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وترك الناس على نهر مورود، فولى ذلك النهر بعده رجل فلم يستنقص منه شيئا حتى
مات، ثم ولى ذلك النهر بعد ذلك الرجل رجل آخر فلم يستنقص منه شيئا حتى مات، ثم ولى ذلك النهر رجل آخر فكرى منه ساقية، ثم لم يزل الناس بعده يكرون السواقي حتى تركوه يابسا لا قطرة فيه، وأيم الله لئن أبقائي الله لاردنه إلى مجراه الاول، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، وإذا كان الظلم من الاقارب الذين هم بطانة الوالي، والوالي لا يزيل ذلك، فكيف يستطيع أن يزيل ما هو ناء عنه في غيرهم ؟ فقالت: فلا يسبوا عندك ؟ قال: ومن يسبهم ؟ إنما يرفع الرجل مظلمته فآخذ له بها.
ذكر ذلك ابن أبي الدنيا وأبو نعيم وغيرهما، وقد أشار إليه المؤلف إشارة خفية.
وقال مسلمة بن عبد الملك: دخلت على عمر في مرضه فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لفاطمة: ألا تغسلوا قميص أمير المؤمنين ؟ فقالت: والله ماله قميص غيره، وبكى فبكت فاطمة فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما انجلت عنهم العبرة قالت فاطمة: ما أبكاك
__________
(1) في هامش المطبوعة: " في الاصل من أهل خضر وصححناه من سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي " وانظر صفة الصفوة 2 / 115.
يا أمير المؤمنين ؟ فقال: إني ذكرت منصرف الخلائق من بين يدي الله، فريق في الجنة وفريق في السعير، ثم صرخ وغشي عليه.
وعرض عليه مرة مسك من بيت المال فسد أنفه حتى وضع، فقيل له في ذلك فقال: وهل ينتفع من المسك إلا بريحه ؟ ولما احتضر دعا بأولاده وكانوا بضعة عشر ذكرا، فنظر إليهم فذرفت عيناه ثم قال: بنفسي الفتية.
وكان عمر بن عبد العزيز يتمثل كثيرا بهذه الابيات: - يرى مستكينا وهو للقول ماقت * به عن حديث القوم ما هو شاغله وأزعجه علم عن الجهل كله * وما عالم شيئا كمن هو جاهله عبوس عن الجهال حين يراهم * فليس له منهم خدين يهازله تذكر ما يبقى من العيش فارعوى * فأشغله عن عاجل العيش آجله
وروى ابن أبي الدنيا عن ميمون بن مهران قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده سابق البربري وهو ينشده شعرا، فانتهى في شعره إلى هذه الابيات: - فكم من صحيح بات للموت آمنا * أتته المنايا بغتة بعد ما هجع فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة * فرارا ولا منه بقوته امتنع فأصبح تبكيه النساء مقنعا * ولا يسمع الداعي وإن صوته رفع وقرب من لحد فصار مقيله * وفارق ما قد كان بالامس قد جمع فلا يترك الموت الغني لماله * ولا معدما في المال ذا حاجة يدع وقال رجا بن حيوة: لما مات أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وقام يزيد بن عبد الملك بعده في الخلافة، أتاه عمر بن الوليد بن عبد الملك فقال ليزيد يا أمير المؤمنين ! إن هذا المرائي - يعني عمر بن عبد العزيز - قد خان من المسلمين كل ما قدر عليه من جوهر نفيس ودر ثمين، في بيتين في داره مملوءين، وهما مقفولان على ذلك الدر والجوهر.
فأرسل يزيد إلى أخته فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر: بلغني أن عمر خلف جوهرا ودرا في بيتين مقفولين.
فأرسلت إليه: يا أخي ما ترك عمر من سبد ولا لبد، إلا ما في هذا المنديل.
وأرسلت إليه به، فحله فوجد فيه قميصا غليظا مرقوعا، ورداء قشبا، وجبة محشوة غليظة واهية البطانة.
فقال يزيد للرسول: قل لها: ليس عن هذا أسأل، ولا هذا أريد، إنما أسأل عما في البيتين.
فأرسلت تقول له: والذي فجعني بأمير المؤمنين ما دخلت هذين البيتين منذ ولي الخلافة، لعلمي بكراهته لذلك، وهذه مفاتيحهما فتعال فحول ما فيهما لبيت مالك.
فركب يزيد ومعه عمر بن الوليد حتى دخل الدار ففتح أحد البيتين فإذا فيه كرسي من أدم وأربع آجرات مبسوطات عند الكرسي، وقمقم.
فقال عمر بن الوليد: أستغفر الله، ثم فتح البيت الثاني فوجد فيه مسجدا مفروشا بالحصا، وسلسلة معلقة بسقف البيت، فيها كهيئة الطوق
بقدر ما يدخل الانسان رأسه فيها إلى أن تبلغ العنق، كان إذا فتر عن العبادة أو ذكر بعض ذنوبه وضعها في رقبته، وربما كان يضعها إذا نعس لئلا ينام، ووجدوا صندوقا مقفلا ففتح فوجدوا فيه
سفطا ففتحه فإذا فيه دراعة وتبان، كل ذلك من مسوح غليظ، فبكى يزيد ومن معه وقال: يرحمك الله يا أخي، إن كنت لنقي السريرة، نقي العلانية.
وخرج عمر بن الوليد وهو مخذول وهو يقول: أستغفر الله، إنما قلت ما قيل لي.
وقال رجاء: لما احتضر جعل يقول: اللهم رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحب لما عجلت تأخيرا، ولا لما أخرت تعجيلا.
فلا زال يقول ذلك حتى مات.
وكان يقول: لقد أصبحت ومالي في الامور هوى إلا في مواضع قضاء الله فيها.
وقال شعيب بن صفوان: كتب سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة: أما بعد يا عمر فإنه قد ولي الخلافة والملك قبلك أقوام، فماتوا على ما قد رأيت، ولقوا الله فرادى بعد الجموع والحفدة والحشم، وعالجوا نزع الموت الذي كانوا منه يفرون، فأنفقأت عينهم التي كانت لاتفتأ تنظر لذاتها، واندفنت رقابهم غير موسدين بعد لين الوسائد، وتظاهر الفرش والمرافق والسرر والخدم، وانشقت بطونهم التي كانت لا تشبع من كل نوع ولون من الاموال والاطعمة، وصاروا جيفا بعد طيب الروائح العطرة، حتى لو كانوا إلى جانب مسكين ممن كانوا يحقرونه وهم أحياء لتأذى بهم، ولنفر منهم، بعد إنفاق الاموال على أغراضهم من الطيب والثياب الفاخرة اللينة، كانوا ينفقون الاموال إسرافا في أغراضهم وأهوائهم، ويقترون في حق الله وأمره، فإن استطعت أن تلقاهم يوم القيامة وهم محبوسون مرتهنون بما عليهم، وأنت غير محبوس ولا مرتهن بشئ فافعل، واستعن بالله ولا قوة إلا بالله سبحانه: وما ملك عما قليل بسالم * ولو كثرت أحراسه ومواكبه (1) ومن كان ذا باب شديد وحاجب (2) * فعما قليل يهجر الباب حاجبه وما كان غير الموت حتى تفرقت * إلى غيره أعوانه وحبائبه (3) فأصبح مسرورا به كل حاسد (4) * وأسلمه أصحابه وحبائبه (5)
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 222: وما سالم...وكتائبه.
(2) في مروج الذهب، ومن يك ذا بأس شديد ومنعة.
(3) في مروج الذهب: فما كان إلا الدفن حتى تفرقت * إلى غيره أحراسه ومواكبه (4) في مروج الذهب: كاشح...* واسلمه أحبابه وأقاربه وبعده: فنفسك أكسبها السعادة جاهدا * فكل امرئ هن بما هو كاسبه
وقيل إن هذه الابيات لغيره.
وقال ابن أبي الدنيا في كتاب الاخلاص: حدثنا عاصم بن عامر، حدثنا أبي، عن عبد ربه بن أبي هلال، عن ميمون بن مهران قال تكلم عمر بن عبد العزيز ذات يوم وعنده رهط من إخوانه ففتح له منطق وموعظة حسنة، فنظر إلى رجل من جلسائه وقد ذرفت عيناه بالدموع، فلما رأى ذلك عمر قطع منطقه، فقلت له: يا أمير المؤمنين امض في موعظتك فإني أرجو أن يمن الله به على من سمعه أو بلغه، فقال إليك عني يا أبا أيوب، فإن في القول على الناس فتنة لا يخلص من شرها متكلم عليهم، والفعال أولى بالمؤمن من المقال.
وروى ابن أبي الدنيا عنه أنه قال: استعملنا أقواما كنا نرى أنهم أبرار أخيار، فلما استعملناهم إذا هم يعملون أعمال الفجار، قاتلهم الله، أما كانوا يمشون على القبور ! وروى عبد الرزاق قال: سمعت معمرا يذكر قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة - وبلغه عنه بعض ما يكره -: أما بعد فإنه غرني بك مجالستك الفراء، وعمامتك السوداء، وإرسالك إياها من وراء ظهرك، وإنك أحسنت العلانية فأحسنا بك الظن، وقد أطلعنا الله على كثير مما تعملون.
وروى الطبراني والدار قطني وغير واحد من أهل العلم بأسانيدهم إلى عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عامل له: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله واتباع سنة رسوله، والاقتصاد في أمره، وترك ما
أحدث المحدثون بعده، ممن قد حارب سنته، وكفوا مؤنته، ثم اعلم أنه لم تكن بدعة إلا وقد مضى قبلها ما هو دليل على بطلانها - أو قال دليل عليها - فعليك لزوم السنة، فإنه إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزيغ والزلل، والحمق والخطأ والتعمق، ولهم كانوا على كشف الامور أقوى، وعلى العمل الشديد أشد، وإنما كان عملهم على الاسد، ولو كان فيما تحملون أنفسكم فضل لكانوا فيه أحرى، وإليه أجرى، لانهم السابقون إلى كل خير، فإن قلت: قد حدث بعدهم خير، فاعلم أنه إنما أحدثه من قد اتبع غير سبيل المؤمنين، وحاد عن طريقهم، ورغبت نفسه عنهم، ولقد تكلموا منه ما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فأين لا أين، فمن دونهم مقصر، ومن فوقهم غير محسن، ولقد قصر أقوام دينهم فحفوا، وطمح عنهم آخرون فغلوا، فرحم الله ابن عبد العزيز.
ما أحسن هذا القول الذي ما يخرج إلا من قلب قد امتلا بالمتابعة ومحبة ما كان عليه الصحابة، فمن الذي يستطيع أن يقول مثل هذا من الفقهاء وغيرهم ؟ فرحمه الله وعفا عنه.
وروى الخطيب البغدادي من طريق يعقوب بن سفيان الحافظ عن سعيد بن أبي مريم، عن رشيد بن سعيد قال: حدثني عقيل، عن شهاب، عن عمر بن عبد العزيز.
قال: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه بعده سننا، الاخذ بها تصديق لكتاب الله، واستعمال لطاعة الله، ليس على أحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في رأى من خالفها، فمن اقتدى بما سبق هدي، ومن استبصر
بها أبصر، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.
وأمر عمر بن عبد العزيز مناديه ذات يوم فنادى في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخطبهم فقال في خطبته: إني لم أجمعكم إلا أن المصدق منكم بما بين يديه من لقاء الله والدار الآخرة ولم يعمل لذلك ويستعد له أحمق، والمكذب له كافر.
ثم تلا قوله تعالى (ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم) [ فصلت: 54 ] وقوله تعالى (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) [ يوسف: 106 ].
وروى ابن أبي الدنيا عنه أنه أرسل أولاده مع مؤدب لهم إلى الطائف يعلمهم هناك، فكتب
إليه عمر: بئس ما علمت، إذ قدمت إمام المسلمين صبيا لم يعرف النية - أو لم تدخله النية - ذكره في كتاب النية له.
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الرقة والبكاء، عن مولى لعمر بن عبد العزيز أنه قال له: يا بني ليس الخير أن يسمع لك وتطاع، وإنما الخير أن تكون قد غفلت عن ربك عزوجل ثم أطعته، يا بني لا تأذن اليوم لاحد علي حتى أصبح ويرتفع النهار، فإني أخاف أن لا أعقل عن الناس ولا يفهمون عني، فقال له مولاه: رأيتك البارحة بكيت بكاء ما رأيتك بكيت مثله، قال فبكى ثم قال: يا بني إني والله ذكرت الوقوف بين يدي الله عزوجل.
قال: ثم غشي عليه فلم يفق حتى علا النهار، قال: فما رأيته بعد ذلك متبسما حتى مات.
وقرأ ذات يوم (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا) [ يونس: 61 ] الآية، فبكى بكاءا شديدا حتى سمعه أهل الدار، فجاءت فاطمة فجلست تبكي لبكائه وبكى أهل الدار لبكائهما، فجاء ابنه عبد الملك فدخل عليهم وهم على تلك الحال، فقال له: يا أبة ما يبكيك ؟ فقال: يا بني خير، ود أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه، والله يا بني لقد خشيت أن أهلك وأن أكون من أهل النار.
وروى ابن أبي الدنيا عن عبد الاعلى بن أبي عبد الله العنبري.
قال: رأيت عمر بن عبد العزيز خرج يوم الجمعة في ثياب دسمة، وراءه حبشي يمشي فلما انتهى إلى الناس رجع الحبشي، فكان عمر إذا انتهى إلى الرجلين قال: هكذا رحمكما الله، حتى صعد المنبر فخطب فقرأ (إذا الشمس كورت) [ التكوير: 1 ] فقال: وما شأن الشمس (وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت) [ التكوير: 12 - 13 ] فبكى وبكى أهل المسجد، وارتج المسجد بالبكاء حتى رأيت حيطان المسجد تبكي معه، ودخل عليه أعرابي فقال: يا أمير المؤمنين جاءت بى إليك الحاجة، وانتهيت إلى الغاية، والله سائلك عني.
فبكى عمر وقال له: كم أنتم ؟ فقال: أنا وثلاث بنات.
ففرض له على ثلاثمائة، وفرض لبناته مائة مائة، وأعطاه مائة درهم من ماله، وقال له: اذهب فاستنفقها حتى تخرج أعطيات المسلمين فتأخذ معهم.
وجاءه رجل من أهل اذربيجان فقام بين يديه وقال: يا أمير المؤمنين اذكر بمقامي هذا بين يديك مقامك غدا بين يدي الله، حيث لا يشغل الله عنك فيه كثرة من يخاصم من الخلائق، من يوم تلقاه بلائقة من العمل، ولا براءة من الذنب، قال: فبكى عمر بكاءا شديدا ثم قال له: ما حاجتك ؟ فقال: إن عاملك بأذربيجان عدا علي فأخذ مني اثني عشر ألف درهم فجعلها في بيت المال.
فقال عمر: اكتبوا له الساعة إلى عاملها، فليرد عليه، ثم أرسله مع البريد.
وعن زياد مولى ابن عياش قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز في ليلة باردة شاتية، فجعلت أصطلي على كانون هناك، فجاء عمرو هو أمير المؤمنين فجعل يصطلي معي على ذلك الكانون، فقال لي: يا زياد ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: قص علي، قلت ما أنا بقاص، فقال: تكلم، فقلت زياد، فقال: ما له ؟ فقلت: لا ينفعه من دخل الجنة إذا دخل النار، ولا يضره من دخل النار إذا دخل الجنة، فقال: صدقت، ثم بكى حتى أطفأ الجمر الذي في الكانون.
وقال له زياد العبدي: يا أمير المؤمنين لا تعمل نفسك في الوصف واعملها في المخرج مما وقعت فيه، فلو أن كل شعرة فيك نطقت بحمد الله وشكره والثناء عليه ما بلغت كنه ما أنت فيه، ثم قال له زياد: يا أمير المؤمنين أخبرني عن رجل له خصم ألد ما حاله ؟ قال: سئ الحال، قال: فإن كانا خصمين الدين ؟ قال: فهو أسوأ حالا، قال: فإن كانوا ثلاثة ؟ قال: ذاك حيث لا يهنئه عيش.
قال: فوالله يا أمير المؤمنين ما أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا وهو خصمك، قال: فبكى عمر حتى تمنيت أني لم أكن حدثته ذلك.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة وأهل البصرة: أما بعد فإن من الناس من شاب في هذا الشراب، ويغشون عنده أمورا انتهكوها عند ذهاب عقولهم، وسفه أحلامهم، فسفكوا له الدم الحرام، وارتكبوا فيه الفروج الحرام، والمال الحرام، وقد جعل الله عن ذلك مندوحة من أشربة حلال، فمن انتبذ فلا ينتبذ إلا من أسقية الادم، واستغنوا بما أحل الله عما حرم، فإنا من وجدناه شرب شيئا مما حرم الله بعد ما تقدمنا إليه، جعلنا له عقوبة شديدة، ومن استخف بما حرم الله عليه فالله أشد عقوبة له وأشد تنكيلا.
خلافة يزيد بن عبد الملك
بويع له بعهد من أخيه سليمان بن عبد الملك أن يكون ولي الامر من بعد عمر بن عبد العزيز، فلما توفي عمر في رجب من هذه السنة - أعني سنة إحدى ومائة - بايعه الناس البيعة العامة، وعمره إذ ذاك تسع وعشرون سنة، فعزل في رمضان منها عن إمرة المدينة أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وولى عليها عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس، فجرت بينه وبين أبي بكر بن حزم منافسات وضغائن، حتى آل الامر إلى أن استدرك عليه حكومة فحده حدين فيها (1).
__________
(1) حده في خلاف سابق بينه وبين عثمان بن حيان دون أن يسأله عبد الرحمن شيئا.
(انظر الطبري 8 / 142 وابن الاثير 5 / 67).
وفيها كانت وقعة بين الخوارج، وهم أصحاب بسطام الخارجي، وبين جند الكوفة، وكانت الخوارج جماعة قليلة، وكان جيش الكوفة نحوا من عشرة آلاف فارس، وكادت الخوارج أن تكسرهم، فتذامروا بينهم فطحنوا الخوارج طحنا عظيما، وقتلوهم عن آخرهم، فلم يبقوا منهم ثائرة.
وفيها خرج يزيد بن المهلب فخلع يزيد بن عبد الملك واستحوذ على البصرة، وذلك بعد محاصرة طويلة، وقتال طويل، فلما ظهر عليها بسط العدل في أهلها، وبذل الاموال، وحبس عاملها عدي بن أرطاة، لانه كان قد حبس آل المهلب الذين كانوا بالبصرة (1)، حين هرب يزيد بن المهلب من محبس عمر بن عبد العزيز، كما ذكرنا، ولما ظهر على قصر الامارة أتي بعدي بن أرطاة فدخل عليه وهو يضحك، فقال يزيد بن المهلب: إني لاعجب من ضحكك، لانك هربت من القتال كما تهرب النساء، إنك جئتني وأنت تتل كما يتل العبد.
فقال عدي: إني لاضحك لان بقائي بقاء لك وأن من ورائي طالبا لا يتركني، قال: ومن هو ؟ قال: جنود بني أمية بالشام، ولا يتركونك، فدارك نفسك (2) قبل أن يرمي إليك البحر بأمواجه، فتطلب الاقالة فلا تقال (3).
فرد عليه يزيد جواب ما قال، ثم سجنه كما سجن أهله، واستقر أمر يزيد بن المهلب على البصرة، وبعث نوابه في النواحي والجهات، واستناب في الاهواز، وأرسل أخاه مدرك بن المهلب على نيابة خراسان، ومعه جماعة من المقاتلة، فلما بلغ خبره الخليفة يزيد بن عبد الملك جهز ابن أخيه
العباس بن الوليد بن عبد الملك في أربعة آلاف (4)، مقدمة بين يدي عمه مسلمة بن عبد الملك، وهو في جنود الشام، قاصدين البصرة لقتاله، ولما بلغ يزيد بن المهلب مخرج الجيوش إليه خرج من البصرة واستناب عليها أخاه مروان بن المهلب، وجاء حتى نزل واسط، واستشار من معه من الامراء فيما ذا يعتمده ؟ فاختلفوا عليه في الرأي، فأشار عليه بعضهم بأن يسير إلى الاهواز ليتحصن في رؤوس الجبال، فقال: إنما تريدون أن تجعلوني طائرا في رأس جبل ؟ وأشار عليه رجل أهل العراق أن يسير إلى الجزيرة فينزلها بأحصن حصن فيها، ويجتمع عليه أهل الجزيرة فيقاتل بهم أهل الشام، وانسلخت هذه السنة وهو نازل بواسط وجيش الشام قاصده.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس أمير المدينة، وعلى مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن
__________
(1) ومنهم: المفضل وحبيب ومروان وعبد الملك بنو المهلب.
وفي الفتوح لابن الاعثم 8 / 1: بعث المفضل وحبيب ومروان وحماد وجميع اخوة يزيد بن المهلب فحبسهم وحبس مواليهم وشيعتهم.
(2) في الطبري 8 / 101: فتدارك فلتتك وزلتك بالتوبة واستقالة العثرة.
(3) زيد في الطبري: وإن أردت الصلح وقد أشخصت القوم إليك وجدتهم لك مباعدين وما لم يشخص القوم إليك لم يمنعوك شيئا طلبت فيه الامان على نفسك وأهلك ومالك.
(4) في ابن الاعثم 8 / 12: عشرين ألفا.
الخطاب، وعلى قضائها عامر الشعبي، وعلى البصرة يزيد بن المهلب.
قد استحوذ عليها وخلع أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك.
وفيها توفي عمر بن عبد العزيز، وربعي بن حراش، وأبو صالح السمان وكان عابدا صادقا ثبتا، وقد ترجمناه في كتابنا التكميل والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثنتين ومائة فيها كان اجتماع مسلمة بن عبد الملك مع يزيد بن المهلب، وذلك أن يزيد بن المهلب ركب من واسط واستخلف عليها ابنه معاوية، وسار هو في جيش، وبين يديه أخوه عبد الملك بن
المهلب، حتى بلغ مكانا يقال له العقر (1)، وانتهى إليه مسلمة بن عبد الملك في جنود لا قبل ليزيد بها، وقد التقت المقدمتان أولا فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزم أهل البصرة أهل الشام، ثم تذامر أهل الشام فحملوا على أهل البصرة فهزموهم وقتلوا منهم جماعة من الشجعان، منهم المنتوف، وكان شجاعا مشهورا، وكان من موالي بكر بن وائل، فقال في ذلك الفرزدق: تبكي على المنتوف بكر بن وائل * وتنهى عن ابني مسمع من بكاهما فأجابه الجعد بن درهم مولى الثوريين من همدان، وهذا الرجل هو أول الجهمية، وهو الذي ذبحه خالد بن عبد الله القسري يوم عيد الاضحى فقال الجعد: - نبكي على المنتوف في نصر قومه * وليتنا نبكي الشائدين أباهما أرادا فناء الحي بكر بن وائل * فعزتميم لو أصيب فناهما فلا لقيا روحا من الله ساعة * ولا رقأت عينا شجي بكاهما أفي الغش نبكي إن بكينا عليهما * ولقد لقيا بالغش فينا رداهما ولما اقترب مسلمة وابن أخيه العباس بن الوليد من جيش يزيد بن المهلب، خطب يزيد بن المهلب الناس وحرضهم على القتال - يعني قتال أهل الشام - وكان مع يزيد نحو من مائة ألف، وعشرين ألفا (2)، وقد بايعوه على السمع والطاعة، وعلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى أن لا يطأ الجنود بلادهم، وعلى أن لا تعاد عليهم سيرة الفاسق الحجاج، ومن بايعنا على ذلك قبلنا منه، ومن خالفنا قاتلناه.
وكان الحسن البصري في هذه الايام يحرض الناس على الكف وترك الدخول في الفتنة،
__________
(1) العقر: قال في معجم البلدان: العقر عدة مواضع، منها عقر بابل قرب كربلاء من الكوفة...قتل عنده يزيد بن المهلب في صفر سنة 102 وكان قد خلع طاعة بني مروان ودعا إلى نفسه.
(2) في ابن الاعثم 8 / 15: ويزيد في نيف من عشرين ألفا.
وينهاهم أشد النهي، وذلك لما وقع من القتال الطويل العريض في أيام ابن الاشعث، وما قتل بسبب
ذلك من النفوس العديدة، وجعل الحسن يخطب الناس ويعظهم في ذلك، ويأمرهم بالكف، فبلغ ذلك نائب البصرة عبد الملك (1) بن المهلب، فقام في الناس خطيبا فأمرهم بالجد والجهاد، والنفر إلى القتال، ثم قال: ولقد بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي - ولم يسمه - يثبط الناس، أما والله ليكفن عن ذلك أو لافعلن ولافعلن، وتوعد الحسن، فلما بلغ الحسن قوله قال: أما والله ما أكره أن يكرمني الله بهوانه، فسلمه الله منه حتى زالت دولتهم، وذلك أن الجيوش لما تواجهت تبارز الناس قليلا، ولم ينشب الحرب شديدا حتى فر أهل العراق سريعا، وبلغهم أن الجسر الذي جاؤوا عليه حرق فانهزموا، فقال يزيد بن المهلب: ما بال الناس ؟ ولم يكن من الامر ما يفر من مثله، فقيل له: إنه بلغهم أن الجسر الذي جاؤوا عليه قد حرق.
فقال: قبحهم الله، ثم رام أن يرد المنهزمين فلم يمكنه، فثبت في عصابة من أصحابه وجعل بعضهم يتسللون منه حتى بقي في شرذمة قليلة، وهو مع ذلك يسير قدما لا يمر بخيل إلا هزمهم، وأهل الشام يتجاورون عنه يمينا وشمالا، وقد قتل أخوه حبيب بن المهلب، فازداد حنقا وغيظا، وهو على فرس له أشهب (2)، ثم قصد نحو مسلمة بن عبد الملك لا يريد غيره، فلما واجهه حملت عليه خيول الشام فقتلوه، وقتلوا معه أخاه محمد بن المهلب، وقتلوا السميذع، وكان من الشجعان، وكان الذي قتل يزيد بن المهلب رجل يقال له القجل بن عياش (3)، فقتل إلى جانب يزيد بن المهلب، وجاؤوا برأس يزيد إلى مسلمة بن عبد الملك، فأرسله مع خالد بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى أخيه أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك، واستحوذ مسلمة على ما في معسكر يزيد بن المهلب، وأسر منهم نحوا من ثلاثمائة (4)، فبعث بهم إلى الكوفة، وبعث إلى أخيه فيهم، فجاء كتابه بقتلهم، فسار مسلمة فنزل الحيرة.
ولما انتهت هزيمة ابن المهلب إلى ابنه معاوية وهو بواسط، عمد إلى نحو من ثلاثين (5) أسيرا في يده فقتلهم، منهم نائب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، عدي بن أرطاة رحمه الله وابنه، ومالك وعبد الملك ابنا مسمع، وجماعة من الاشراف، ثم أقبل حتى أتى البصرة ومعه الخزائن من الاموال، وجاء معه عمه المفضل بن المهلب إليه، فاجتمع آل المهلب بالبصرة فأعدوا السفن وتجهزوا أتم الجهاز
__________
(1) في ابن الاثير 5 / 80 وابن الاعثم 8 / 12 والطبري 8 / 153: مروان بن المهلب.
(2) في مروج الذهب 3 / 244: أبلق.
(3) في ابن الاعثم 8 / 17: عياش الفحل من بني كلب.
وفي رواية في ابن الاثير 5 / 83: وقيل بل قتله الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي.
(4) في ابن الاعثم 8 / 20: نيف على أربعمائة رجل ضرب أعناقهم إلا ثلاثين من رؤسائهم ليحملهم إلى يزيد بن عبد الملك.
(5) في ابن الاثير 5 / 84 والطبري 8 / 157: اثنين وثلاثين.
واستعدوا للهرب، فساروا بعيالهم وأثقالهم حتى أتوا جبال كرمان فنزلوها، واجتمع عليهم جماعة ممن فل من الجيش الذي كان مع يزيد بن المهلب، وقد أمروا عليهم المفضل بن المهلب، فأرسل مسلمة جيشا عليهم هلال بن ماجور المحاربي في طلب آل المهلب، ويقال إنهم أمروا عليهم رجلا يقال له مدرك بن ضب الكلبي (1)، فلحقهم بجبال كرمان فاقتتلوا هنالك قتالا شديدا، فقتل جماعة من أصحاب المفضل وأسر جماعة من أشرافهم وانهزم بقيتهم، ثم لحقوا المفضل فقتلوه وحمل رأسه إلى مسلمة بن عبد الملك، وأقبل جماعة من أصحاب يزيد بن المهلب فأخذوا لهم أمانا من أمير الشام منهم مالك بن إبراهيم بن الاشتر النخعي، ثم أرسلوا بالاثقال والاموال والنساء والذرية فوردت على مسلمة بن عبد الملك ومعهم رأس المفضل ورأس عبد الملك بن المهلب، فبعث مسلمة بالرؤوس وتسعة من الصبيان الحسان إلى أخيه يزيد، فأمر بضرب أعناق أولئك، ونصبت رؤوسهم بدمشق ثم أرسلها إلى حلب فنصبت بها، وحلف مسلمة بن عبد الملك ليبيعن ذراري آل المهلب، فاشتراهم بعض الامراء إبرارا لقسمه بمائة ألف، فأعتقهم وخلى سبيلهم، ولم يأخذ مسلمة من ذلك الامير شيئا.
وقد رثا الشعراء يزيد بن المهلب بقصائد ذكرها ابن جرير.
ولاية مسلمة على بلاد العراق وخراسان وذلك أنه لما فرغ من حرب آل المهلب كتب إليه أخوه يزيد بن عبد الملك بولاية الكوفة والبصرة
وخراسان في هذه السنة.
فاستناب على الكوفة وعلى البصرة (2)، وبعث إلى خراسان ختنه - زوج ابنته - سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص، الملقب بخذينة، فسار إليها فحرض أهلها على الصبر والشجاعة، وعاقب عمالا ممن كان ينوب لآل المهلب، وأخذ منهم أموالا جزيلة، ومات بعضهم تحت العقوبة.
ذكر وقعة جرت بين الترك والمسلمين وذلك أن خاقان الملك الاعظم ملك الترك، بعث جيشا إلى الصفد لقتال المسلمين، عليهم رجل منهم يقال له كورصول، فأقبل حتى نزل على قصر الباهلي، فحصره وفيه خلق من المسلمين
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 244: هلال بن أحوز المازني.
وفي ابن الاعثم 8 / 23: فوجه في طلبهم قائدين وذكرهما مدرك...وهلال بن أحوز التميمي.
وفي الطبري 8 / 158: رد مدرك وسرح في أثرهم هلال بن أحوز التميمي.
وانظر ابن الاثير 5 / 86.
(2) ولى مسلمة الكوفة ذا الشامة محمد بن عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط وبعث مسلمة إلى البصرة عبد الرحمن بن سليم الكلبي (وفي ابن الاثير: سليمان: وفي ابن الاعثم الكلابي) الطبري 8 / 160 ابن الاثير 5 / 89 ابن الاعثم 8 / 25.
فصالحهم نائب سمرقند - وهو عثمان بن عبد الله بن مطرف - على أربعين ألفا، ودفع إليهم سبعة عشر دهقانا رهائن عندهم، ثم ندب عثمان الناس فانتدب رجل يقال له المسيب بن بشر الرياحي في أربعة آلاف، فساروا نحو الترك، فلما كان في بعض الطريق [ خطبهم ] فحثهم على القتال وأخبرهم أنه ذاهب إلى الاعداء لطلب الشهادة، فرجع عنه أكثر من ألف، ثم لم يزل في كل منزل يخطبهم ويرجع عنه بعضهم، حتى بقي في سبعمائة مقاتل، فسار بهم حتى غالق جيش الاتراك، وهم محاصرو ذلك القصر، وقد عزم المسلمون الذين هم فيه على قتل نسائهم وذبح أولادهم أمامهم، ثم ينزلون فيقاتلون حتى يقتلوا عن آخرهم، فبعث إليهم المسيب يثبتهم يومهم ذلك، فثبتوا ومكث المسيب حتى إذا كان وقت السحر فكبر وكبر أصحابه، وقد جعلوا شعارهم يا محمد، ثم حملوا على
الترك حملة صادقة، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وعقروا دواب كثيرة، ونهض إليهم الترك فقاتلوهم قتالا شديدا، حتي فر أكثر المسلمين، وضربت دابة المسيب في عجزها فترجل وترجل معه الشجعان، فقاتلوا وهم كذلك قتالا عظيما، والتف الجماعة بالمسيب وصبروا حتى فتح الله عليهم، وفر المشركون بين أيديهم هاربين لا يلوون على شئ، وقد كان الاتراك في غاية الكثرة، فنادى منادي المسيب: أن لا تتبعوا أحدا، وعليكم بالقصر وأهله، فاحتملوهم وحازوا ما في معسكر أولئك الاتراك من الاموال والاشياء النفيسة وانصرفوا راجعين سالمين بمن معهم من المسلمين الذين كانوا محصورين، وجاءت الترك من الغد فلم يجدوا به داعيا ولا مجيبا، فقالوا في أنفسهم: هؤلاء الذين لقونا بالامس لم يكونوا إنسا، إنما كانوا جنا.
وممن توفي فيها من الاعيان والسادة: الضحاك بن مزاحم الهلالي أبو القاسم، ويقال أبو محمد، الخراساني، كان يكون ببلخ وسمرقند ونيسابور، وهو تابعي جليل روى عن أنس وابن عمر وأبي هريرة، وجماعة من التابعين، وقيل إنه لم يصح له سماع من الصحابة حتى ولا من ابن عباس سماع، وإن كان قد روي أنه جاوره سبع سنين، وكان الضحاك إماما في التفسير، قال الثوري: خذوا التفسير عن أربعة، مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك، وقال الامام أحمد: هو ثقة، وأنكر شعبة سماعه من ابن عباس، وقال: إنما أخذ عن سعيد عنه، وقال ابن سعيد القطان: كان ضعيفا.
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: لم يشافه أحدا من الصحابة، ومن قال: إنه لقي ابن عباس فقدوهم، وحملت به أمه سنتين، ووضعته وله أسنان، وكان يعلم الصبيان حسبة، وقيل إنه مات سنة خمس وقيل سنة ست ومائة والله أعلم.
أبو المتوكل الناجي اسمه علي بن البصري، تابعي جليل، ثقة، رفيع القدر، مات وقد بلغ الثمانين رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثلاث ومائة
فيها عزل أمير العراق عمر بن هبيرة سعيد - الملقب خذينة عن نيابة خراسان (1)، وولى عليها سعيد بن عمرو الجريشي (2)، بإذن أمير المؤمنين، وكان سعيد هذا من الابطال المشهورين، انزعج له الترك وخافوه خوفا شديدا، وتقهقروا من بلاد الصفد إلى ما وراء ذلك، من بلاد الصين وغيرها، وفيها جمع يزيد بن عبد الملك لعبد الرحمن بن الضحاك بن قيس بين إمرة المدينة وإمرة مكة، وولى عبد الرحمن الواحد بن عبد الله النضري نيابة الطائف.
وحج بالناس فيها أمير الحرمين عبد الرحمن ابن الضحاك بن قيس والله سبحانه وتعالى أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان: يزيد بن أبي مسلم أبو العلاء المدني.
عطاء بن يسار الهلالي، أبو محمد القاص المدني، مولى ميمونة، وهو أخو سليمان، وعبد الله، وعبد الملك، وكلهم تابعي.
وروى هذا عن جماعة من الصحابة، ووثقه غير واحد من الائمة، وقيل إنه توفي سنة ثلاث أو أربع ومائة، وقيل توفي قبل المائة بالاسكندرية، وقد جاوز الثمانين والله سبحانه أعلم.
مجاهد بن جبير المكي أبو الحجاج القرشي المخزومي، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، أحد أئمة التابعين والمفسرين كان من أخصاء أصحاب ابن عباس، وكان أعلم أهل زمانه بالتفسير، حتى قيل إنه لم يكن أحد يريد بالعلم وجه الله إلا مجاهد وطاووس، وقال مجاهد: أخذ ابن عمر بركابي وقال: وددت أن ابني سالما وغلامي نافعا يحفظان حفظك.
وقيل إنه عرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، وقيل مرتين، أقفه عند كل آية وأسأله عنها (3)، مات مجاهد وهو ساجد سنة مائة، وقيل إحدى وقيل ثنتين وقيل ثلاث ومائة، وقيل أربع ومائة، وقد جاوز الثمانين والله أعلم.
فصل أسند مجاهد عن أعلام الصحابة وعلمائهم، عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وابن عمرو وأبي سعيد ورافع بن خديج.
وعنه خلق من التابعين (4) قال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم،
__________
(1) وسبب عزله أن المجشر بن مزاحم السلمي وعبد الله بن عمير الليثي قدما على عمر بن هبيرة فشكواه (الطبري -
ابن الاثير).
(2) في ابن الاثير 5 / 103: الحرشي من بني الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة (الطبري 8 / 168).
(3) في صفة الصفوة 2 / 209: ثلاث عرضات - وزاد - أسأله عن كل آية كيف أنزلت وكيف كانت.
(4) منهم: عطاء وطاووس وعكرمة وغيرهم.
ثنا عبد الرزاق، عن أبي بكر بن عياش قال: أخبرني أبويحيى أنه سمع مجاهدا يقول: قال لي ابن عباس: لا تنامن إلا على وضوء فإن الارواح تبعث على ما قبضت عليه.
وروى الطبراني عنه أنه قال في قوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن) [ المؤمنون: 96 ] قال: يسلم عليه إذا لقيه وقيل هي المصافحة.
وروى عمرو بن مرة عنه أنه قال: أوحى الله عز وجل إلى داود عليه السلام: اتق لا يأخذك الله على ذنب لا ينظر فيه إليك فتلقاه حين تلقاه وليست لك حاجة.
وروى ابن أبي شيبة، عن أبي أمامة، عن الاعمش عن مجاهد.
قال: كان بالمدينة أهل بيت ذوي حاجة، عندهم رأس شاة فأصابوا شيئا، فقالوا: لو بعثنا بهذا الرأس إلى من هو أحوج إليه منا، فبعثوا به فلم يزل يدور بالمدينة حتى رجع إلى أصحابه الذين خرج من عندهم أولا.
وروى ابن أبي شيبة عن أبي الاحوص عن منصور عن مجاهد قال: ما من مؤمن يموت إلا بكى عليه السماء والارض أربعين صباحا.
وقال: فلانفسهم يمهدون.
قال: في القبر.
وروى الاوزاعي عن عبدة بن أبي لبانة عن مجاهد قال: كان يحج من بني إسرائيل مائة ألف، فإذا بلغوا أرصاف الحرم خلعوا نعالهم ثم دخلوا الحرم حفاة.
وقال يحيى بن سعيد القطان قال مجاهد في قوله تعالى: (يا مريم اقنتي لربك) [ آل عمران: 43 ] قال: اطلبي الركود.
وفي قوله تعالى: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) [ الاسراء: 64 ] قال المزامير.
وقال في قوله تعالى (أنكالا وجحيما) [ المزمل: 12 ] قال: قيود.
وقال في قوله: (لاحجة بيننا وبينكم) [ الشورى: 15 ] قال لا خصومة.
وقال: (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) [ التكاثر: 8 ] قال: عن كل لذة في الدنيا.
وروى أبوالديبع عن جرير بن عبد الحسيب عن منصور عن مجاهد.
قال رن إبليس أربع رنات،
حين لعن، وحين أهبط، وحين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وحين أنزلت (الحمد لله رب العالمين) [ الفاتحة: 2 ] وأنزلت بالمدينة.
وكان يقال: الرنة والنخرة من الشيطان، فلعن من رن أو نخر.
وروى ابن أبي نجيح عنه في قوله تعالى (أتبنون بكل ريع آية تعبثون) [ الشعراء: 128 ] قال: بروج الحمام.
وقال في قوله تعالى (أنفقوا من طيبات ما كسبتم) [ البقرة: 267 ] قال: التجارة.
وروى ليث عن مجاهد قال (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) [ فصلت: 30 ] قال: استقاموا فلم يشركوا حتى ماتوا.
وروى يحيى بن سعيد بن سفيان عن ابن أبجر عن طلحة بن مصرف عن مجاهد (ولم يكن له كفوا أحد) [ اخلاص: 4 ] قال: صاحبة.
وقال ليث عن مجاهد قال: النملة التي كلمت سليمان كانت مثل الذئب العظيم.
وروى الطبراني عن أبي نجيح عن مجاهد.
قال: كان الغلام من قوم عاد لا يحتلم حتى يبلغ مائتي سنة.
وقال: (سأل سائل) [ المعارج: 1 ] دعا داع.
وفي قوله (ماء غدقا لنفتنهم فيه) [ الجن: 16 - 17 ] حتى يرجعوا إلى علمي فيه (لا يشركون بي شيئا) [ النور: 55 ] قال لا يحبون غيري.
(الذين يمكرون السيئات) [ غافر: 10 ] قال هم المراؤن.
وفي قوله تعالى: (قل
للذين آمنوا يغفرون للذين لا يرجون أيام الله) [ الجاثية: 13 ] قال هم الذين لا يدرون أنعم الله عليهم أم لم ينعم.
ثم قرأ (وذكرهم بأيام الله) [ ابراهيم: 5 ] قال: أيامه نعمه ونقمه.
(فردوه إلى الله والرسول) [ النساء: 58 ] فردوه إلى كتاب الله وإلى رسوله ما دام حيا، فإذا مات فإلى سنته.
(وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة) [ لقمان: 20 ] قال: أما الظاهرة فالاسلام والقرآن والرسول والرزق، وأما الباطنة فما ستر من العيوب والذنوب.
وروى الحكم عن مجاهد قال: لما قدمت مكة نساء على سليمان عليه السلام رأت حطبا جزلا فقالت لغلام سليمان: هل يعرف مولاك كم وزن دخان هذا الحطب ؟ فقال الغلام: دعي مولاي أنا أعرف كم وزن دخانه، فكيف مولاي ؟ قالت: فكم وزنه ؟ فقال الغلام: يوزن الحطب ثم يحرق الحطب ويوزن رماده فما نقص فهو دخانه.
وقال في قوله تعالى: (ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) [ الحجرات: 11 ] قال: من
لم يتب إذا أصبح وإذا أمسى فهو من الظالمين.
وقال ما من يوم ينقضي من الدنيا إلا قال ذلك اليوم: الحمد لله الذي أراحني من الدنيا وأهلها، ثم يطوى عليه فيختم إلى يوم القيامة، حتى يكون الله عز وجل هو الذي يفض خاتمه.
وقال في قوله تعالى: (يؤتى الحكمة من يشاء) [ البقرة: 269 ] قال: العلم والفقه، وقال إذا ولي الامر منكم الفقهاء.
وفي قوله تعالى: (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) [ الانعام: 153 ] قال: البدع والشبهات.
وقال: أفضل العبادة الرأي الحسن - يعني اتباع السنة - وقال: ما أدري أي النعمتين أفضل، أن هداني للاسلام، أو عافاني من الاهواء ؟.
وقال في رواية: أولو الامر منكم، أصحاب محمد، وربما قال: أولو العقل والفضل في دين الله عزوجل (بما صنعوا قارعة) [ الرعد: 31 ] قال السرية.
(ويخلق ما لا تعلمون) [ النحل: 8 ].
قال: السوس في الثياب.
(وهن العظم مني) [ مريم: 3 ] قال: الاضراس.
(حفيا) قال رحيما.
وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: وجدت في كتاب محمد بن أبي حاتم بخط يده: حدثنا بشر بن الحارث حدثنا يحيى بن يمان عن عثمان بن الاسود عن مجاهد.
قال: لو أن رجلا أنفق مثل أحد في طاعة الله عزوجل لم يكن من المسرفين.
وفي قوله تعالى (وهو شديد المحال) [ الرعد: 14 ] قال: العداوة (بينهما برزخ لا يبغيان) [ الرحمن: 20 ] قال: بينهما حاجز من الله فلا يبغي الحلو على المالح ولا المالح على الحلو.
وقال ابن منده: ذكر محمد بن حميد: حدثنا عبد الله بن عبد القدوس عن الاعمش قال: كان مجاهد لا يسمع بأعجوبة إلا ذهب فنظر إليها، قال: وذهب إلى حضر موت إلى بئر برهوت قال: وذهب إلى بابل، قال: وعليها وال صديق لمجاهد: فقال مجاهد: تعرض على هاروت وماروت، قال: فدعا رجلا من السحرة فقال: اذهب بهذا فاعرض عليه هاروت وماروت.
فقال اليهودي: بشرط أن لا تدعو الله عندهما، قال مجاهد: فذهب بي إلى قلعة فقطع منها حجرا ثم قال: خذ برجلي، فهوى بي حتى انتهى إلى حوبة، فإذا هما معلقين منكسين كالجبلين العظيمين، فلما رأيتهما
قلت: سبحان الله خالقكما، قال: فاضطربا فكأن جبال الدنيا قد تدكدت، قال: فغشي علي وعلى
اليهودي، ثم أفاق اليهودي قبلي، فقال: قم ! كدت أن تهلك نفسك وتهلكني.
وروى ابن فضيل عن ليث عن مجاهد قال: يؤتى يوم القيامة بثلاثة نفر، بالغني، والمريض، والعبد المملوك.
قال: فيقول الله عزوجل للغني: ما شغلك عن عبادتي التي إنما خلقتك لها ؟ فيقول يا رب أكثرت لي من المال فطغيت.
فيؤتى بسليمان عليه السلام في ملكه فيقول لذا: أنت كنت أكثر مالا وأشد شغلا أم هذا ؟ قال: فيقول: بل هذا يا رب، فيقول الله له: فإن هذا لم يمنعه ما أوتي من الملك والمال والشغل عن عبادتي.
قال: ويؤتى بالمريض فيقول: ما منعك عن عبادتي التي خلقتك لها ؟ فيقول: يا رب شغلني عن هذا مرض جسدي، فيؤتى بأيوب عليه السلام في ضره وبلائه، فيقول له: أأنت كنت أشد ضرا ومرضا أم هذا ؟ فيقول: بل هذا، فيقول: إن هذا لم يشغله ضره ومرضه عن عبادتي.
ثم يؤتى بالمملوك فيقول الله له: ما منعك من عبادتي التي خلقتك لها ؟ فيقول رب فضلت علي أربابا فملكوني وشغلوني عن عبادتك.
فيؤتى بيوسف عليه السلام في رقه وعبوديته فيقول الله له: أأنت كنت أشد في رقك وعبوديتك أم هذا ؟ فيقول: بل هذا يا رب، فيقول الله: فإن هذا لم يشغله ما كان فيه من الرق عن عبادتي.
وروى حميد عن الاعرج عن مجاهد.
قال: كنت أصحب ابن عمر في السفر فإذا أردت أن أركب مسك ركابي، فإذا ركبت سوى علي ثيابي فرآني مرة كأني كرهت ذلك في، فقال: يا مجاهد إنك لضيق الخلق، وفي رواية: صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه فكان يخدمني.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا الثوري، عن رجل عن مجاهد.
قال: جعلت الارض لملك الموت مثل الطست يتناول منها حيث شاء، وجعل له أعوان يتوفون الانفس ثم يقبضها منهم.
وقال: لما هبط آدم إلى الارض قال له: ابن للخراب ولد للفناء.
وروى قتيبة عن جرير عن منصور عن مجاهد.
(ويلعنهم اللاعنون) [ البقرة: 159 ] قال: تعلن عصاة بني آدم دواب الارض وما شاء الله حتى الحيات والعقارب،: يقولون منعنا القطر بذنوب بني آدم.
وقال غيره: تسلط الحشرات على العصاة في قبورهم، لما كان ينالهم من الشدة بسب ذنوبهم، فتلك الحشرات من العقارب والحيات هي السيئات التي كانوا يعملونها في الدنيا ويستلذونها، صارت عذابا
عليهم.
نسأل الله العافية.
وقال: (إن الانسان لربه لكنود) [ العاديات: 6 ] لكفور.
وقال الامام أحمد: حدثنا عمر بن سليمان، حدثني مسلم أبو عبد الله عن ليث عن مجاهد قال: من لم يستحي من الحلال خفت مؤنته وأراح نفسه.
وقال عمرو بن زروق حدثنا شعبة عن الحكم عن مجاهد.
قال (فظن أن لن نقدر عليه) [ الانبياء: 87 ] أن لن نعاقبه بذنبه.
وبهذا الاسناد قال: لم أكن أحسن ما الزخرف حتى سمعتها في قراءة عبد الله بيتا من ذهب.
وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا خلف بن خليفة عن ليث عن مجاهد: إن الله عزوجل ليصلح بصلاح العبد ولده.
قال:
وبلغني أن عيسى عليه السلام كان يقول: طوبي للمؤمن كيف يخلفه الله فيمن ترك بخير.
وقال الفضيل بن عياض عن عبيد المكتب عن مجاهد في قوله تعالى (وتقطعت بهم الاسباب) [ البقرة 166 ] الاوصال التي كانت بينهم في الدنيا.
وروى سفيان بن عيينة عن سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة) [ التوبة: 11 ] قال: الال الله عزوجل.
وقال في قوله تعالى (بقية الله خير لكم) [ هود: 85 ] طاعة الله عز وجل.
وفي قوله تعالى (ولمن خاف مقام ربه جنتان) [ الرحمن: 46 ] قال: هو الذي يذكر الله عند الهم بالمعاصي.
وقال الفضيل بن عياض عن منصور عن مجاهد: (سيماهم في وجوههم) [ الفتح: 29 ] الخشوع.
وفي قوله تعالى: (وقوموا لله قانتين) [ البقرة: 238 ] قال: القنوت الركود والخشوع وغض البصر، وخفض الجناح من رهبة الله.
وكان العلماء إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن أن يشد بصره أو يلتفت أو يقلب الحصا، أو يعبث بشئ أو يحدث نفسه بشئ من الدنيا.
إلا خاشعا ما دام في صلاته.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا أبو عمرو، حدثنا إبن إدريس، حدثني عقبة بن إسحاق - وأثنى عليه خيرا حدثنا ليث عن مجاهد.
قال: كنت إذا رأيت العرب استخفيتها وجدتها من وراء دينها، فإذا دخلوا في الصلاة فكأنما أجساد ليست فيها أرواح.
وروى الاعمش عنه قال: إنما القلب منزلة الكف، فإذا أذنب الرجل ذنبا قبض هكذا - وضم الخنصر حتى ضم أصابعه كلها
اصبعا اصبعا - قال: ثم يطبع، فكانوا يرون ذلك الران: قال الله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) [ المطففين: 14 ] وروى قبيصة عن سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) [ البقرة: 81 ] قال الذنوب تحيط بالقلوب كالحائط المبني على الشئ المحيط، كلما عمل ذنبا ارتفعت حتى تغشى القلب حتى تكون هكذا - ثم قبض يده - ثم قال: هو الران.
وفي قوله (بما قدم وأخر) [ القيامة: 13 ] قال: أول عمل العبد وآخره (وإلى ربك فارغب) [ الانشراح: 8 ] قال: إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى الصلاة فاجعل رغبتك إليه، ونيتك له.
وعن منصور عن مجاهد (النفس المطمئنة) [ الفجر: 27 ] قال: هي النفس التي قد أيقنت أن الله ربها وضربت حاشا لامره وطاعته.
وروى عبد الله بن المبارك عن ليث عن مجاهد: قال: ما من ميت يموت إلا عرض عليه أهل مجلسه، إن كان من أهل الذكر فمن أهل الذكر، وإن كان من أهل اللهو فمن أهل اللهو.
وقال أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا محمد بن طلحة، عن زبيد، عن مجاهد، قال: قال إبليس: إن يعجزني ابن آدم فلن يعجزني من ثلاث خصال: آخذ مال بغير حق، وإنفاقه في غير حقه (1).
__________
(1) كذا بالاصل...
وقال أحمد: حدثنا ابن نمير قال: قال الاعمش: كنت إذا رأيت مجاهدا ظننت أنه حر مندح (1) قد ضل حمارة فهو مهتم.
وعن ليث عن مجاهد قال: من أكرم نفسه وأعزها أذل دينه، ومن أذل نفسه أعز دينه.
وقال شعبة عن الحكم عن مجاهد قال: قال لي: يا أبا الغازي كم لبث نوح في الأرض قال: قلت ألف سنة إلا خمسين عاما، قال: فإن الناس لم يزدادوا في أعمارهم وأجسادهم وأخلاقهم إلا نقصا.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي علية عن ليث عن مجاهد قال: ذهبت العلماء فما بقي إلا المتعلمون، وما المجتهد فيكم إلا كاللاعب فيمن كان قبلكم.
وروى ابن أبي شيبة أيضا عن ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد قال: لو لم يصب المسلم من أخيه إلا أن حياء منه يمنعه من المعاصي
لكان في ذلك خير.
وقال: الفقيه من يخاف الله وإن قل علمه، والجاهل من عصى الله وإن كثر علمه.
وقال: إن العبد إذا أقبل على الله بقلبه أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه في قوله تعالى: (وثيابك فطهر) [ المدثر: 4 ] قال: عملك فأصلح.
(واسألوا الله من فضله) [ النساء: 31 ] قال: ليس من عرض الدنيا (والذي جاء بالصدق وصدق به) [ الزمر: 33 ] قال هم الذين يجيئون بالقرآن قد اتبعوه وعملوا بما فيه.
وقال: يقول القرآن للعبد إني معك ما اتبعتني، فإذا لم تعمل بي اتبعتك.
(ولا تنس نصيبك من الدنيا) [ القصص: 77 ] قال: خذ من دنياك لآخرتك، وذلك أن تعمل فيها بطاعة الله عزوجل.
وقال داود بن المحبر، عن عباد بن كثير، عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه مجاهد بن جبير قال: قلت لابن عمر: أي حجاج بيت الله أفضل وأعظم أجرا ؟ قال: من جمع ثلاث خصال، نية صادقة، وعقلا وافرا، ونفقة من حلال، فذكرت ذلك لابن عباس فقال: صدق فقلت: إذا صدقت نيته وكانت نفقته من حلال فماذا يضره قلة عقله ؟ فقال: يا أبا حجاج، سألتني عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " والذي نفسي بيده ما أطاع العبد الله بشئ أفضل من حسن العقل، ولا يقبل الله الصوم عبد ولا صلاته، ولا شيئا مما يكون من عمله من أنواع الخير إن لم يعمل بعقل.
ولو أن جاهلا فاق المجتهدين في العبادة، كان ما يفسد أكثر مما يصلح ".
قلت: ذكر العقل في هذا الحديث ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من المنكرات والموضوعات، والثلاث الخصال موقوفة على ابن عمر، من قوله من جمع ثلاث خصال، إلى قوله: قال ابن عباس صدق، والباقي لا يصح رفعه ولا وقفه، وداود بن المحبر كنيته أبو سليمان، قال الحاكم: حدث ببغداد عن جماعة من الثقات بأحاديث موضوعة، حدث بها عنه الحارث بن أبي أسامة، وله كتاب العقل، وأكثر ما أودع ذلك الكتاب موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر العقل مرفوعا في هذه الرواية لعله من جملتها، والله أعلم.
وقد كذبه أحمد بن حنبل.
__________
(1) في صفة الصفوة 2 / 208: خر بندج: كلمة فارسية لم توردها المعاجم العربية ولفظها (خربنده) ومعناها: مؤجر الحمار أو حارس الحمار.
مصعب بن سعد بن أبي وقاص تابعي جليل القدر.
موسى بن طلحة بن عبيد الله التميمي، كان يلقب بالمهدي لصلاحه، كان تابعيا جليل القدر من سادات المسلمين رحمه الله.
ثم دخلت سنة أربع ومائة فيها قاتل سعيد بن عمرو الحرشي نائب خراسان أهل الصغد وحاصر أهل خجندة وقتل خلقا كثيرا، وأخذ أموالا جزيلة، وأسر رقيقا كثيرا جدا، وكتب بذلك إلى يزيد بن عبد الملك (1)، لانه هو الذي ولاه.
وفي ربيع الاول منها عزل يزيد بن عبد الملك عن إمرة الحرمين عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس، وكان سببه أنه خطب فاطمة بنت الحسين فامتنعت من قبول ذلك، فألح عليها وتوعدها، فأرسلت إلى يزيد تشكوه إليه، فبعث إلى عبد الواحد بن عبد الله النضري نائب الطائف فولاه المدينة، وأن يضرب عبد الرحمن بن الضحاك حتى يسمع صوته أمير المومنين وهو متكئ على فراشه بدمشق، وأن يأخذ منه أربعين ألف دينار، فلما بلغ ذلك عبد الرحمن ركب إلى دمشق واستجار بمسلمة بن عبد الملك، فدخل على أخيه فقال: إن لي إليك حاجة، فقال: كل حاجة تقولها فهي لك إلا أن تكون ابن الضحاك، فقال: هو والله حاجتي، فقال: والله لا أقبلها ولا أعفو عنه، فرده إلى المدينة فتسلمه عبد الواحد فضربه وأخذ ماله حتى تركه في جبة صوف، فسأل الناس بالمدينة، وكان قد باشر نيابة المدينة ثلاث سنين وأشهرا، وكان الزهري قد أشار عليه برأي سديد، وهو أن يسأل العلماء إذا أشكل عليه أمر فلم يقبل، ولم يفعل، فأبغضه الناس وذمه الشعراء ثم كان هذا آخر أمره.
وفيها عزل عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي، وذلك أنه كان يستخف بأمر ابن هبيرة، فلما عزله أحضره بين يديه وعاقبه وأخذ منه أموالا كثيرة، وأمر بقتله ثم عفا عنه، وولى على خراسان مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي، فسار إليها فاستخلص أموالا كانت منكسرة في أيام سعيد بن عمرو الحرشي.
وفيه غزا الجراح بن عبد الله الحكمي نائب أرمينية وأذربيجان، أرض الترك، ففتح بلنجر (2) وهزم الترك وغرقهم وذراريهم في الماء، وسبى منهم خلقا كثيرا، وافتتح عامة
الحصون التي تلي بلنجر (3)، وأجلى عامة أهلها، والتقى هو والخاقان الملك فجرت بينهم وقعة هائلة
__________
(1) كتابه مباشرة إلى يزيد بن عبد الملك متجاوزا عمر بن هبيرة كان سببا في غضب عمر عليه ومما أوغر صدره عليه وكان ذلك أحد الاسباب التي حملت عمر على عزله عن خراسان كما سيأتي.
(2) بلنجر: مدينة ببلاد الخزر خلف باب الابواب (معجم البلدان).
وفي هذه الغزوة تفاصيل ذكرها ابن الاثير 5 / 111 - 112 وابن الاعثم 8 / 31 - 32.
(3) منها: الوبندر وشكى (في ابن الاثير: ملى)
آل الامر فيها إلى أن انهزم خاقان، وتبعهم المسلمون، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، قتل فيها خلق كثير لا يحصون.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الواحد بن عبد الله النضري أمير الحرمين والطائف، وعلى نيابة العراق وخراسان عمر، ونائبه على خراسان مسلم بن سعيد يومئذ.
وفي هذه السنة ولد السفاح وهو أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الملقب بالسفاح، أول خلفاء بني العباس وقد بايع أباه في الباطن جماعة من أهل العراق.
وفيها توفي من الاعيان: خالد بن سعدان الكلاعي له روايات عن جماعة من الصحابة، وكان تابعيا جليلا، وكان من العلماء وأئمة الدين المعدودين المشهورين، وكان يسبح كل يوم أربعين ألف تسبيحة وهو صائم، وكان إمام أهل حمص، وكان يصلي التراويح في شهر رمضان، فكان يقرأ فيها في كل ليلة ثلث القرآن، وروى الجوزجاني عنه أنه قال: من اجترأ على الملاوم في مراد الحق، قلب الله تلك المحامد عليه ذما.
وروى ابن أبي الدنيا عنه قال: ما من عبد إلا وله أربعة أعين.
عينان في وجهه يبصر بهما أمر دنياه، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر آخرته، فإذا أراد الله بالعبد خيرا فتح عينيه اللتين في قلبه فأبصر بهما أمر آخرته وهما غيب، فأمن الغيب بالغيب، وإذا أراد الله بالعبد خلاف ذلك ترك العبد القلب على ما هو عليه، فتراه ينظر فلا ينتفع، فإذا نظر بقلبه نفع، وقال: بصر القلب من الآخرة، وبصر العينين من الدنيا وله فضائل كثيرة رحمه الله تعالى.
عامر بن سعد بن أبي وقاص الليثي له روايات كثيرة عن أبيه وغيره، وهو تابعي جليل، ثقة مشهور.
عامر بن شراحيل الشعبي توفي فيها في قول: كان الشعبي من شعب همدان، كنيته أبو عمرو، وكان علامة أهل الكوفة، كان إماما حافظا، ذا فنون، وقد أدرك خلقا من الصحابة (1) وروى عنهم وعن جماعة من التابعين، وعنه أيضا روى جماعة من التابعين، قال أبو مجلز: ما رأيت أفقه من الشعبي.
وقال مكحول: ما رأيت أحدا أعلم بسنة ماضية منه.
وقال داود الاودي: قال لي الشعبي: قم معي ها هنا حتى أفيدك علما، بل هو رأس العلم.
قلت: أي شئ تفيدني ؟ قال: إذا سئلت عما لا تعلم فقل: الله أعلم، فإنه عالم حسن.
وقال: لو أن رجلا سافر من أقصى اليمن لحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبل من عمره ما رأيت سفره ضائعا، ولو سافر في طلب الدنيا أو الشهوات إلى خارج هذا المسجد، لرأيت سفره عقوبة وضياعا وقال: العلم أكثر من عدد الشعر، فخذ من كل شئ أحسنه.
__________
(1) عن منصور بن عبد الرحمن سمعت الشعبي يقول: أدركت خمسمائة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال ابراهيم الحربي: لقي الشعبي أربعة وثلاثين رجلا من الصحابة - صفوة الصفوة 3 / 76.
أبو بردة (1) بن أبي موسى الاشعري تولى قضاء الكوفة قبل الشعبي، فإن الشعبي تولى في خلافة عمر بن عبد العزيز، واستمر إلى أن مات، وأما أبو بردة فإنه كان قاضيا في زمن الحجاج، ثم عزله الحجاج وولى أخاه أبا بكر، وكان أبو بردة فقيها حافظا عالما، له روايات كثيرة.
أبو قلابة الجرمي عبد الله بن يزيد البصري، له روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة وغيرهم، وكان من كبار الائمة والفقهاء، وطلب للقضاء فهرب منه وتغرب، قدم الشام فنزل داريا وبها مات رحمه الله.
قال أبو قلابة: إذا أحدث الله لك علما فأحدث له عبادة، ولم يكن همك ما تحدث به الناس، فلعل غيرك
ينتفع ويستغني وأنت في الظلمة تتعثر، وإني لارى هذه المجالس إنما هي مناخ البطالين.
وقال: إذا بلغك عن أخيك شئ تكرهه فالتمس له عذرا جهدك، فإن لم تجد له عذرا فقل: لعل لاخي عذرا لا أعلمه.
ثم دخلت سنة خمس ومائة فيها غزا الجراح بن عبد الله الحكمي بلاد اللان، وفتح حصونا كثيرة، وبلادا متسعة الاكناف من وراء بلنجر، وأصاب غنائم جمة، وسبى خلقا من أولاد الاتراك.
وفيها غزا مسلم بن سعيد بلاد الترك وحاصر مدينة عظيمة من بلاد الصغد، فصالحه ملكها على مال كثير يحمله إليه.
وفيها غزا سعيد بن عبد الملك بن مروان بلاد الروم، فبعث بين يديه سرية ألف فارس، فأصيبوا جميعا.
وفيها لخمس بقين من شعبان منها توفي أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك بن مروان بأربد من أرض البلقاء، يوم الجمعة، وعمره ما بين الثلاثين والاربعين (2)، وهذه ترجمته: هو يزيد بن عبد الملك بن مروان أبو خالد القرشي الاموي، أمير المؤمنين، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية، قيل إنها دفنت بقبر عاتكة فنسبت المحلة إليها.
والله أعلم.
بويع له بالخلافة بعد عمر بن عبد العزيز في رجب من سنة إحدى ومائة بعهد من أخيه سليمان، أن يكون الخليفة بعد عمر ابن عبد العزيز، لخمس بقين من رجب، قال محمد بن يحيى الذهلي: حدثنا كثير بن هشام ثنا
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 247: اسمه عامر.
(2) تقدم أن عمره يوم بويع تسع وعشرون سنة فإن صح تصح رواية الطبري عن علي المديني والعقد الفريد: أنه توفي ابن أربع وثلاثين، وفي ابن الاثير: له اربعون سنة وفي مروج الذهب 3 / 239 سبع وثلاثون.
وقال الواقدي: ثمان وثلاثين.
وفي ابن الاعثم: أربعين سنة.
وفي الاخبار الطوال ثمان وثلاثين.
جعفر بن برقان حدثني الزهري قال: كان لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فلما ولي الخلافة معاوية ورث المسلم من الكافر.
ولم يورث الكافر من المسلم، وأخذ بذلك الخلفاء من بعده، فلما قام عمر بن عبد العزيز راجع السنة
الاولى، وتبعه في ذلك يزيد بن عبد الملك، فلما قام هشام أخذ بسنة الخلفاء - يعني أنه ورث المسلم من الكافر - وقال الوليد بن مسلم عن ابن جابر قال: بينما نحن عند مكحول إذ أقبل يزيد بن عبد الملك فهممنا أن نوسع له، فقال مكحول: دعوه يجلس حيث انتهى به المجلس، يتعلم التواضع.
وقد كان يزيد هذا يكثر من مجالسة العلماء قبل أن يلي الخلافة، فلما ولي عزم على أن يتأسى بعمر بن عبد العزيز، فما تركه قرناء السوء، وحسنوا له الظلم، قال حرملة عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: لما ولي يزيد بن عبد الملك قال سيروا بسيرة عمر، فمكث كذلك أربعين ليلة، فأتي بأربعين شيخا فهشدوا له أنه ما على الخلفاء من حساب ولا عذاب، وقد اتهمه بعضهم في الدين، وليس بصحيح، إنما ذاك ولده الوليد بن يزيد كما سيأتي، أما هذا فما كان به بأس، وقد كتب إليه عمر بن عبد العزيز: أما بعد فإني لا أراني إلا ملمابي، وما أرى الامر إلا سيفضي إليك، فالله الله في أمة محمد، فإنك عما قليل ميت فتدع الدنيا إلى من لا يعذرك، والسلام.
وكتب يزيد بن عبد الملك إلى أخيه هشام: أما بعد فإن أمير المؤمنين قد بلغه أنك استبطأت حياته وتمنيت وفاته ورمت الخلافة، وكتب في آخره: تمنى رجال أن أموت وإن أمت * فتلك سبيل لست فيها بأوحد وقد علموا لو ينفع العلم عندهم * متى مت ما الباغي علي بمخلد منيته تجري لوقت وحتفه * يصادفه يوما على غير موعد فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى * تهيأ لاخرى مثلها وكأن قد فكتب إليه هشام: جعل الله يومي قبل يومك، وولدي قبل ولدك، فلا خير في العيش بعدك (1).
وقد كان يزيد هذا يحب حظية من حظاياه يقال لها حبابة - بتشديد الباء الاولى - والصحيح تخفيفها - واسمها العالية، وكانت جميلة جدا، وكان قد اشتراها في زمن أخيه بأربعة آلاف دينار، من عثمان بن سهل بن حنيف، فقال له أخوه سليمان: لقد هممت أحجر على يديك، فباعها، فلما أفضت إليه الخلافة قالت له امرأته سعدة يوما: يا أمير المؤمنين، هل بقي في نفسك من أمر الدنيا
شئ ؟ قال: نعم، حبابة، فبعثت امرأته فاشترتها له ولبستها وصنعتها وأجلستها من وراء
__________
(1) انظر نسخة كتاب يزيد إلى هشام ورد هشام عليه في مروج الذهب 3 / 246.
والعقد الفريد 2 / 282.
الستارة، وقالت له أيضا: يا أمير المؤمنين هل بقي في نفسك من أمر الدنيا شئ ؟ قال: أو ما أخبرتك ؟ فقالت: هذه حبابة - وأبرزتها له وأخلته بها وتركته وإياها - فحظيت الجارية عنده، وكذلك زوجته أيضا، فقال يوما أشتهي أن أخلو بحبابة في قصر مدة من الدهر، لا يكون عندنا أحد، ففعل ذلك، وجمع إليه في قصره ذلك حبابة، وليس عنده فيه أحد، وقد فرش له بأنواع الفرش والبسط الهائلة، والنعمة الكثيرة السابغة فبينما هو معها في ذلك القصر على أسر حال وأنعم بال، وبين يديهما عنب يأكلان منه، إذ رماها بحبة عنب وهي تضحك فشرقت بها فماتت (1)، فمكث أياما يقبلها ويرشفها وهي ميتة حتى أنتنت وجيفت فأمر بدفنها، فلما دفنها أقام أيام عندها على قبرها هائما، ثم رجع إلى المنزل ثم عاد إلى قبرها فوقف عليه وهو يقول: فإن تسل عنك النفس أو تدع الصبا (2) * فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد وكل خليل زارني فهو قاتل * من أجلك هذا هامة (3) اليوم أو غد ثم رجع فما خرج من منزله حتى خرج بنعشه وكان مرضه بالسل (4).
وذلك بالسواد سواد الاردن يوم الجمعة لخمس بقين من شعبان من هذه السنة - أعني سنة خمس ومائة - وكانت خلافته أربع سنين وشهرا على المشهور، وقيل أقل من ذلك، وكان عمره ثلاثا وثلاثين سنة، وقيل خمسا وقيل ستا وقيل ثمانيا وقيل تسعا وثلاثين، وقيل إنه بلغ الاربعين فالله أعلم.
وكان طويلا جسيما أبيض مدور الوجه أفقم الفم لم يشب، وقيل إنه مات بالجولان، وقيل بحوران وصلى عليه ابنه الوليد بن يزيد، وعمره خمس عشرة سنة، وقيل بل صلى عليه أخوه هشام بن عبد الملك، وهو الخليفة بعده، وحمل على أعناق الرجال حتى دفن بين باب الجابية وباب الصغير بدمشق، وكان قد عهد بالامر من بعده لاخيه هشام، ومن بعده لولده الوليد بن يزيد، فبايع الناس من بعده هشاما.
__________
(1) في فوات الوفيات 4 / 323: تناولت حبة رمانة فشرقت بها فماتت.
وفي مروج الذهب 3 / 242: اعتلت حبابة فبقيت أياما ثم ماتت.
وفي الطبري 8 / 179: مرضت وثقلت وماتت.
(2) في مروج الذهب: أو تدع الهوى...* تسلو النفس...والبيت في الطبري 8 / 179: لئن تسل عنك النفس أو تذهل الهوى * فباليأس يسلو القلب لا بالتجلد وهو لكثير عزة في ديوانه ص 435.
(3) في العقد الفريد 2 / 283: ميت.
(4) في العقد: طعن ومات بعد خمسة عشر يوما، وفي مروج الذهب 3 / 242: أمام بعدها أياما قلائل ومات.
خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان بويع له بالخلافة يوم الجمعة بعد موت أخيه لخمس بقين من شعبان من هذه السنة - أعني سنة خمس ومائة - وله من العمر أربع وثلاثون سنة وأشهر، لانه ولد لما قتل أبوه عبد الملك مصعب بن الزبير في سنة ثنتين وسبعين، فسماه منصورا تفاؤلا، ثم قدم فوجد أمه قد أسمته باسم أبيها هشام، فأقره.
قال الواقدي: أتته الخلافة وهو بالديثونة (1) في منزل له، فجاءه البريد بالعصا والخاتم، فسلم عليه بالخلافة فركب من الرصافة حتى أتى دمشق، فقام بأمر الخلافة أتم القيام، فعزل في شوال منها عن إمرة العراق وخراسان عمر بن هبيرة، وولى عليها خالد بن عبد الله القسري، وقيل إنه استعمله على العراق في سنة ست ومائة، والمشهور الاول.
وحج بالناس فيها إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال أمير المؤمنين، أخو أمه عائشة بنت هشام بن إسماعيل، ولم تلد من عبد الملك سواه حتى طلقها، لانها كانت حمقاء.
وفيها قوي أمر دعوة بني العباس في السر بأرض العراق، وحصل لدعاتهم أموال جزيلة يستعينون بها على أمرهم، وما هم بصدده.
وفيها توفي من الاعيان:
أبان بن عثمان بن عفان تقدم ذكر وفاته سنة خمس وثمانين، كان من فقهاء التابعين وعلمائهم، قال عمرو بن شعيب ما رأيت أعلم منه بالحديث والفقه، وقال يحيى بن سعيد القطان: فقهاء المدينة عشرة، فذكر أبان بن عثمان أحدهم، وخارجة بن زيد، وسالم بن عبد الله، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعروة، والقاسم، وقبيصة بن ذؤيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن.
قال محمد بن سعد: كان به صمم ووضح.
وأصابه الفالج قبل أن يموت بسنة، وتوفي سنة خمس ومائة.
أبو رجاء العطاردي.
عامر الشعبي.
في قول وقد تقدم، وكثير عزة في قول.
وقيل في التي بعدها كما سيأتي: ثم دخلت سنة ست ومائة ففيها عزل هشام بن عبد الملك عن إمرة المدينة ومكة والطائف، عبد الواحد بن عبد الله النضري، وولى على ذلك كله ابن خاله إبراهيم (2) بن هشام بن إسماعيل المخزومي، وفيها غزا سعيد بن عبد الملك الصائفة، وفيها غزا مسلم بن سعيد مدينة فرغانة ومعاملتها، فلقيه عندها الترك، وكانت بينهم وقعة هائلة، قتل فيها الخاقان وطائفة كبيرة من الترك، وفيها أوغل الجراح
__________
(1) في الطبري 8 / 105، بالزيتونة.
وفي ابن الاثير 5 / 124 بالرصافة.
(2) في الطبري 8 / 182 وابن الاثير 5 / 133: خاله ابراهيم.
الحكمي في أرض الخزر، فصالحوه وأعطوه الجزية والخراج.
وفيها غزا الحجاج بن عبد الملك اللان، فقتل خلقا كثيرا وغنم وسلم.
وفيها عزل خالد بن عبد الله القسري عن إمرة خراسان مسلم بن سعيد، وولى عليها أخاه أسد بن عبد الله القسري.
وحج بالناس في هذه السنة أمير المؤمنين هشام بن الملك، وكتب إلى أبي الزناد قبل دخوله المدينة ليتلقاه ويكتب له مناسك الحج، ففعل، فتلقاه الناس من المدينة إلى أثناء الطريق، وفيهم أبو الزناد قد امتثل ما أمر به، وتلقاه فيمن تلقاه سعيد بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان، فقال له: يا أمير المؤمنين إن أهل بيتك في مثل
هذه المواطن الصالحة لم يزالوا يلعنون أبا تراب، فالعنه أنت أيضا، قال أبو الزناد: فشق ذلك على هشام واستثقله، وقال: ما قدمت لشتم أحد، ولا لعنة أحد، إنما قدمنا حجاجا.
ثم أعرض عنه وقطع كلامه وأقبل على أبي الزناد يحادثه ولما انتهى إلى مكة عرض له إبراهيم بن طلحة فتظلم إليه في أرض، فقال له: أين كنت عن عبد الملك ؟ قال: ظلمني، قال: فالوليد ؟ قال: ظلمني، قال: فسليمان ؟ قال: ظلمني، قال فعمر بن عبد العزيز ؟ قال ردها علي، قال: فيزيد ؟ قال: انتزعها من يدي، وهي الآن في يدك، فقال له هشام: أما لو كان فيك مضرب لضربتك، فقال: بل في مضرب بالسوط والسيف، فانصرف عنه هشام وهو يقول لمن معه: ما رأيت أفصح من هذا.
وفيها كان العامل على مكة والمدينة والطائف، إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، وعلى العراق وخراسان خالد القسري والله سبحانه أعلم.
وممن توفي فيها: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أبو عمرو الفقيه، أحد الفقهاء وأحد العلماء.
وله روايات عن أبيه وغيره، وكان من العباد الزهاد، ولما حج هشام بن عبد الملك دخل الكعبة فإذا هو بسالم بن عبد الله، فقال له: سالم ؟ (1) سلني حاجة، فقال: إني لاستحي من الله أن أسأل في بيته غيره، فلما خرج سالم خرج هشام في أثره فقال له: الآن قد خرجت من بيت الله فسلني حاجة، فقال سالم: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة ؟ قال: من حوائح الدنيا، فقال سالم: إني ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها ؟ وكان سالم خشن العيش، يلبس الصوف الخشن، وكان يعالج بيده أرضا له وغيرها من الاعمال، ولا يقبل من الخلفاء، وكان متواضعا وكان شديد الادمة وله من الزهد والورع شئ كثير.
وطاوس بن كيسان اليماني من أكبر أصحاب ابن عباس وقد ترجمناهم في كتابنا التكميل ولله الحمد انتهى وقد زدنا هنا في ترجمة سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب زيادة حسنة.
فأما طاوس فهو أبو عبد الرحمن طاوس بن كيسان اليماني (2)، فهو أول طبقة أهل اليمن من التابعين، وهو من أبناء الفرس الذين أرسلهم كسرى إلى اليمن.
__________
(1) في هامش المطبوعة: كذا بالاصل ولعل المراد يا سالم.
(2) في الالقاب لابن الجوزي: اسمه ذكوان وطاوس لقبه.
والمشهور أنه اسمه
أدرك طاوس جماعة من الصحابة وروى عنهم، وكان أحد الائمة الاعلام، قد جمع العبادة والزهادة، والعلم النافع، والعمل الصالح، وقد أدرك خمسين من الصحابة، وأكثر روايته عن ابن عباس، وروى عنه خلق من التابعين وأعلامهم، منهم مجاهد وعطاء وعمرو بن دينار، وإبراهيم ابن ميسرة، وأبو الزبير ومحمد بن المنكدر، والزهري وحبيب بن أبي ثابت، وليث بن أبي سليم، والضحاك بن مزاحم.
وعبد الملك بن ميسرة، وعبد الكريم بن المخارق ووهب بن منبه، والمغيرة ابن حكيم الصنعاني، وعبد الله بن طاوس، وغير هؤلاء.
توفى طاوس بمكة حاجا، وصلى عليه الخليفة هشام بن عبد الملك، ودفن بها رحمه الله تعالى.
قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق قال: قال أبي: مات طاوس بمكة فلم يصلوا عليه حتى بعث هشام ابنه بالحرس، قال فلقد رأيت عبد الله بن الحسن واضعا السرير على كاهله، قال: ولقد سقطت قلنسوة كانت عليه ومزق رداؤه من خلفه - يعني من كثرة الزحام - فكيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الايمان يمان " وقد خرج من اليمن خلق من هؤلاء المشار إليهم في هذا وغيره، منهم أبو مسلم، وأبو إدريس، ووهب وكعب وطاوس وغير هؤلاء كثير.
وروى ضمرة عن ابن شوذب قال: شهدت جنازة طاوس بمكة سنة خمس (1) ومائة، فجعلوا يقولون: رحم الله أبا عبد الرحمن، حج أربعين حجة.
وقال عبد الرزاق: حدثنا أبي قال: توفي طاوس بالمزدلفة - أو بمنى - حاجا، فلما حمل أخذ عبد الله بن الحسن بن علي بقائمة سريره.
فما زايله حتى بلغ القبر.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق قال: قدم طاوس بمكة، فقدم أمير المؤمنين، فقيل لطاوس: إن من فضله ومن، ومن، فلو أتيته قال: مالي إليه حاجة، فقالوا: إنا نخاف عليك، قال: فما هو إذا كما تقولون: وقال ابن جرير (1): قال لي عطاء: جاءني طاوس فقال لي: يا عطاء إياك أن ترفع حوائجك إلى من
أغلق دونك بابه، وجعل دونه حجابه.
وعليك بطلب من بابه لك مفتوح إلى يوم القيامة، طلب منك أن تدعوه ووعدك الاجابة.
وقال ابن جريج عن مجاهد عن طاوس (أولئك ينادون من مكان بعيد) [ فصلت: 44 ] قال: بعيد من قلوبهم، وروى الا حجري عن سفيان، عن ليث قال: قال لي طاوس: ما تعلمت من العلم فتعلمه لنفسك، فإن الامانة والصدق قد ذهبا من الناس.
وقال عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن زيد، عن الصلت بن راشد.
قال: كنا عند طاوس فجاءه مسلم (2) بن قتيبة بن مسلم، صاحب خراسان، فسأله عن شئ فانتهره طاوس، فقلت: هذا مسلم (3) بن قتيبة بن مسلم صاحب خراسان، قال: ذاك أهون له علي.
وقال لطاوس: إن منزلك قد استرم، فقال: أمسينا.
__________
(1) في رواية صفة الصفوة عن ضمرة 2 / 290: ست.
(2) في رواية صفة الصفوة 2 / 288: ابن جريج.
(3) في صفة الصفوة 2 / 287: سلم.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس في قوله تعالى (وخلق الانسان ضعيفا) [ النساء: 27 ] قال: في أمور النساء، ليس يكون في شئ أضعف منه في النساء.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن طاوس عن أبيه قال: لقي عيسى بن مريم عليه السلام إبليس فقال إبليس لعيسى: أما علمت أنه لن يصيبك إلا ما كتب الله لك ؟ قال: نعم، قال إبليس: فأوف بذروة هذا الجبل فترد منه.
فانظر أتعيش أم لا، قال عيسى: أما علمت أن الله تعالى قال: لا يجربني عبدي، فإني أفعل ما شئت.
وفي رواية عن الزهري عنه قال: قال عيسى: إن العبد لا يختبر ربه، ولكن الرب يختبر عبده، وفي رواية أخرى: إن العبد لا يبتلي ربه، ولكن الرب يبتلي عبده.
قال: فخصمه عيسى عليه السلام.
وقال فضيل بن عياض عن ليث عن طاوس قال: حج الابرار على الرحال، رواه عبد الله بن أحمد عنه.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو ثميلة عن ابن أبي داود: قال: رأيت طاوسا وأصحابا له إذا صلوا العصر استقبلوا القبلة ولم يكلموا أحدا، وابتهلوا إلى الله تعالى في الدعاء.
وقال: من لم يبخل
ولم يل مال يتيم لم ينله جهد البلاء.
روى عنه أبو داود الطيالسي، وقد رواه الطبراني: عن محمد بن يحيى بن المنذر، عن موسى بن إسماعيل، عن أبي داود فذكره.
وقال لابنه: يا بني صاحب العقلاء تنسب إليهم وإن لم تكن منهم، ولا تصاحب الجهال فتنسب إليهم وإن لم تكن منهم، واعلم أن لكل شئ غاية، وغاية المرء حسن عقله.
وسأله رجل عن مسألة فانتهره، فقال: - يا أبا عبد الرحمن إني أخوك، قال: أخي من دون الناس ؟.
وفي رواية أن رجلا من الخوارج سأله فانتهره، فقال: إني أخوك، قال: أمن بين المسلمين كلهم ؟.
وقال عفان عن حماد بن زيد، عن أيوب قال: سأل رجل طاوسا عن شئ فانتهره، ثم قال: تريد أن تجعل في عنقي حبلا ثم يطاف بي ؟ ورأى طاوس رجلا مسكينا في عينه عمش وفي ثوبه وسخ، فقال له: عد ! إن الفقر من الله، فأين أنت من الماء ؟ وروى الطبراني عنه قال: إقرار ببعض الظلم خير من القيام فيه، وعن عبد الرزاق عن داود ابن إبراهيم أن الاسد حبس الناس ليلة في طريق الحج، فدق الناس بعضهم بعضا، فلما كان السحر ذهب عنهم الاسد، فنزل الناس يمينا وشمالا فألقوا أنفسهم، وقام طاووس يصلي، فقال له رجل - وفي رواية فقال ابنه -: ألا تنام فإنك قد سهرت ونصبت هذه الليلة ؟ فقال: وهل ينام السحر أحد ؟ وفي رواية: ما كنت أظن أحدا ينام السحر.
وروى الطبراني من طريق عبد الرزاق عن أبي جريج وابن عيينة.
قالا: حدثنا ابن طاوس قال: قلت لابي: ما أفضل ما يقال على الميت ؟ قال الاستغفار.
وقال الطبراني: حدثنا عبد الرزاق، قال: سمعت النعمان بن الزبير الصنعاني يحدث أن محمد بن يوسف - أو أيوب بن يحيى - بعث إلى طاوس بسبعمائة (1) دينار وقال للرسول: إن أخذها
__________
(1) في رواية ابن الجوزي 2 / 286 الصفة وتذكرة الحفاظ 1 / 90 خمسمائة.
منك فإن الامير سيكسوك ويحسن إليك.
قال: فخرج بها حتى قدم على طاوس الجند، فقال: يا أبا عبد الرحمن نفقة بعث بها الامير إليك، فقال: ما لي بها من حاجة، فأراده على أخذها بكل طريق فأبى أن يقبلها، فغفل طاوس فرمى بها الرجل من كوة في البيت ثم ذهب راجعا إلى الامير، وقال:
قد أخذها، فمكثوا حينا ثم بلغهم عن طاوس ما يكرهون - أو شئ يكرهونه - فقالوا: ابعثوا إليه فليبعث إلينا بمالنا، فجاءه الرسول فقال: المال الذي بعثه إليك الامير رده إلينا، فقال: ما قبضت منه شيئا، فرجع الرسول إليهم فأخبرهم، فعرفوا أنه صادق، فقالوا: انظروا الذي ذهب بها إليه، فأرسلوه إليه، فجاءه فقال: المال الذي جئتك به يا أبا عبد الرحمن، قال: هل قبضت منك شيئا ؟ قال: لا ! قال: فقام إلى المكان الذي رمى به فيه فوجدها كما هي، وقد بنت عليها العنكبوت، فأخذها فذهب بها إليهم.
ولما حج سليمان بن عبد الملك قال: انظروا إلي فقيها أسأله عن بعض المناسك، قال: فخرج الحاجب يلتمس له، فمر طاوس فقالوا: هذا طاوس اليماني، فأخذه الحاجب فقال: أجب أمير المؤمنين، فقال: اعفني، فأبى، فأدخله عليه، قال طاوس: فلما وقفت بين يديه قلت: إن هذا المقام يسألني الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين إن صخرة كانت على شفير جهنم هوت فيها سبعين خريفا حتى استقرت في قرارها، أتدري لمن أعدها الله ؟ قال: لا ! ! ويلك لمن أعدها الله ؟ قال: لمن أشركه الله في حكمه فجار.
وفي رواية ذكرها الزهري أن سليمان رأى رجلا يطوف بالبيت، له جمال وكمال، فقال: من هذا يا زهري ؟ فقلت: هذا طاوس، وقد أدرك عدة من الصحابة، فأرسل إليه سليمان فأتاه فقال: لو ما حدثتنا ؟ فقال: حدثني أبو موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أهون الخلق على الله عز وجل من ولي من أمور المسلمين شيئا فلم يعدل فيهم ".
فتغير وجه سليمان فأطرق طويلا ثم رفع رأسه إليه فقال: لو ما حدثتنا ؟ فقال: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - قال ابن شهاب: ظننت أنه أراد عليا - قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام في مجلس من مجالس قريش، ثم قال: " إن لكم على قريش حقا، ولهم على الناس حق، ما إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا ائتمنوا أدوا، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ".
قال: فتغير وجه سليمان وأطرق طويلا ثم رفع رأسه إليه وقال: لو ما حدثتنا ؟ فقال: حدثني ابن عباس أن آخر آية نزلت من كتاب الله: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) [ البقرة: 281 ].
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني أبو معمر، عن ابن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة قال: قال عمر بن عبد العزيز لطاوس: ارفع حاجتك إلى أمير المؤمنين - يعني سليمان - فقال طاوس مالي إليه من حاجة، فكأنه عجب من ذلك، قال سفيان وحلف لنا إبراهيم وهو مستقبل الكعبة: ورب هذا البيت ما رأيت أحدا الشريف والوضيع عنده بمنزلة واحدة إلا طاوس.
قال: وجاء ابن
لسليمان بن عبد الملك فجلس إلى جنب طاوس فلم يلتفت إليه، فقيل له: جلس إليك [ ابن ] (1) أمير المؤمنين فلم تلتفت إليه ؟ قال: أردت أن يعلم هو وأبوه أن لله عبادا يزهدون فيهم وفيما في أيديهم.
وقد روى عبد الله بن أحمد عن ابن طاوس قال: خرجنا حجاجا فنزلنا في بعض القرى، وكنت أخاف أبي من الحكام لشدته وغلظه عليهم، قال: وكان في تلك القرية عامل لمحمد بن يوسف - أخي الحجاج بن يوسف - يقال له أيوب بن يحيى، وقيل يقال له ابن نجيح، وكان من أخبث عمالهم كبرا وتجبرا، قال: فشهدنا صلاة الصبح في المسجد، فإذا ابن نجيح قد أخبر بطاوس فجاء فقعد بين يدي طاوس، فسلم عليه فلم يجبه، ثم كلمه فأعرض عنه، ثم عدل إلى الشق الآخر فأعرض عنه، فلما رأيت ما به قمت إليه وأخذت بيده ثم قلت له: إن أبا عبد الرحمن لم يعرفك، فقال طاوس: بلى ! إني به لعارف، فقال الامير: إنه بي لعارف، ومعرفته بي فعلت بي ما رأيت.
ثم مضى وهو ساكت لا يقول شيئا، فلما دخلت المنزل قال لي أبي: يا لكع، بينما أنت تقول أريد أخرج عليهم بالسيف لم تستطع أن تحبس عنهم لسانك.
وقال أبو عبد الله الشامي: أتيت طاوسا فاستأذنت عليه فخرج إلي ابنه شيخ كبير، فقلت: أنت طاوس ؟ فقال: لا ! أنا ابنه، فقلت: إن كنت أنت ابنه فإن الشيخ قد خرف، فقال: إن العالم لا يخرف، فدخلت عليه فقال طاوس: سل فأوجز، فقلت: إن أوجزت أوجزت لك، فقال تريد أن أجمع لك في مجلسي هذا التوراة والانجيل والفرقان ؟ قال: قلت: نعم ! قال: خف الله مخافة لا يكون عندك شئ أخوف منه، وارجه رجاء هو أشد من خوفك إياه، وأحب للناس ما تحب لنفسك.
وقال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه.
قال: يجاء يوم القيامة بالمال وصاحبه فيتحاجان، فيقول صاحب المال للمال: جمعتك في يوم كذا في شهر كذا في سنة كذا، فيقول المال: ألم أقض لك الحوائج ؟ أنا الذي حلت بينك وبين أن تصنع فيما أمرك الله عزوجل من حبك إياي، فيقول صاحب المال إن هذا الذي نفد على حبال أوثق بها وأقيد، وقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن الضريس، عن أبي سنان، عن حبيب بن أبي ثابت قال: اجتمع عندي خمسة لا يجتمع عندي مثلهم قط، عطاء وطاووس، ومجاهد وسعيد بن جبير، وعكرمة.
وقال سفيان: قلت لعبيد الله بن أبي يزيد: مع من كنت تدخل على ابن عباس ؟ قال: مع عطاء والعامة، وكان طاوس يدخل مع الخاصة، وقال حبيب: قال لي طاوس إذا حدثتك حديثا قد أثبته فلا تسأل عنه أحدا - وفي رواية فلا تسأل عنه غيري.
وقال أبو أسامة، حدثنا الاعمش، عن عبد الملك بن ميسرة، عن طاوس قال: أدركت
__________
(1) من صفة الصفوة 2 / 287.
خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، أخبرني ابن طاوس قال: قلت لابي: أريد أن أتزوج فلانة، قال: اذهب فانظر إليها، قال: فذهبت فلبست من صالح ثيابي، وغسلت رأسي، وادهنت، فلما رآني في تلك الحال قال: اجلس فلا تذهب.
وقال عبد الله بن طاوس: كان أبي إذا سار إلى مكة سار شهرا، وإذا رجع رجع في شهر، فقلت له في ذلك، فقال: بلغني أن الرجل إذا خرج في طاعة لا يزال في سبيل الله حتى يرجع إلى أهله.
وقال حمزة عن هلال بن كعب.
قال: كان طاوس إذا خرج من اليمن لم يشرب إلا من تلك المياه القديمة الجاهلية، وقال له رجل: ادع الله لي، فقال: ادع لنفسك فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.
وقال الطبراني: حدثنا إسحاق بن ابراهيم حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه.
قال: كان رجل فيما خلا من الزمان، وكان عاقلا لبيبا، فكبر فقعد في البيت، فقال لابنه
يوما: إني قد اغتممت في البيت، فلو أدخلت علي رجالا يكلموني ؟ فذهب ابنه فجمع نفرا فقال: ادخلوا على أبي فحدثوه، فإن سمعتم منه منكرا فاعذروه فإنه قد كبر، وإن سمعتم منه خيرا فاقبلوه.
قال: فدخلوا عليه فكان أول ما تكلم به أن قال: إن أكيس الكيس التقى، وأعجز العجز الفجور، وإذا تزوج الرجل فليتزوج من معدن صالح، فإذا اطلعتم على فجرة رجل فاحذروه فإن لها أخوات.
وقال سلمة بن شبيب: حدثنا أحمد بن نصر بن مالك، حدثنا عبد الله بن عمر بن مسلم الجيري، عن أبيه قال: قال طاوس لابنه: إذا قبرتني فانظر في قبري، فإن لم تجدني فاحمد الله تعالى، وإن وجدتني فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال عبد الله: فأخبرني بعض ولده أنه نظر فلم يره ولم يجد في قبره شيئا، ورؤي في وجهه السرور، وقال قبيصة: حدثنا سفيان عن سعيد بن محمد قال: كان من دعاء طاوس يدعو: اللهم احرمني كثرة المال والولد، وارزقني الايمان والعمل.
وقال سفيان عنر معمر حدثنا الزهري قال: لو رأيت طاوس بن كيسان علمت أنه لا يكذب.
وقال عون بن سلام: حدثنا جابر بن منصور - أخو إسحاق بن منصور - السلولي عن عمران ابن خالد الخزاعي.
قال: كنت جالسا عند عطاء فجاء رجل فقال أبا محمد: إن طاوسا يزعم أن من صلى العشاء ثم صلى بعدها ركعتين يقرأ في الاولى: آلم تنزيل السجدة، وفي الثانية تبارك الذي بيده الملك كتب له مثل وقوف عرفة وليلة القدر.
فقال عطاء: صدق طاوس ما تركتهما.
وقال ابن أبي السري: حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه.
قال: كان رجل من بني إسرائيل، وكان ربما داوى المجانين، وكانت امرأة جميلة، فأخذها الجنون، فجئ بها إليه، فنزلت عنده فأعجبته، فوقع عليها فحملت، فجاءه الشيطان فقال: إن علم بها افتضحت، فأقتلها وادفنها في بيتك، فقتلها ودفنها، فجاء أهلها بعد ذلك بزمان يسألونه عنها، قال: ماتت، فلم يتهموه لصلاحه ومنزلته،
فجاءهم الشيطان فقال: إنها لم تمت، ولكن قد وقع عليها فحملت فقتلها ودفنها في بيته، في مكان كذا وكذا، فجاء أهلها فقالوا: ما نتهمك ولكن أخبرنا أين دفنتها، ومن كان معك ؟ فنبشوا بيته
فوجدوها حيث دفنها، فأخذوه فحبسوه وسجنوه، فجاءه الشيطان فقال: أنا صاحبك، فإن كنت تريد أن أخرجك مما أنت فيه فاكفر بالله فأطاع الشيطان فكفر بالله عزوجل، فقتل فتبرأ منه الشيطان حينئذ.
وقال طاوس: ولا أعلم أن هذه الآية نزلت إلا فيه وفي مثله (كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر، فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين) [ الحشر: 16 ].
وقال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن ابن طاوس عن أبيه.
قال: كان رجل من بني إسرائيل له أربعة بنين، فمرض، فقال أحدهم: إما أن تمرضوا أبانا وليس لكم من ميراثه شئ، وإما أن أمرضه وليس لي من ميراثه شئ، فمرضه حتى مات ودفنه ولم يأخذ من ميراثه شيئا، وكان فقيرا وله عيال، فأتي في النوم فيل له: إيت مكان كذا وكذا فاحفره تجد فيه مائة دينار فخذها، فقال للآتي في المنام: ببركة أو بلا بركة ؟ فقال: بلا بركة، فلما أصبح ذكر ذلك لامرأته فقالت: اذهب فخذها فإن من بركتها أن تكسوني منها ونعيش منها.
فأبى وقال: لا آخذ شيئا ليس فيه بركة.
فلما أمسى أتي في منامه فقيل له: إيت مكان كذا وكذا فخذ منه عشرة دنانير، فقال: ببركة أو بلا بركة ؟ قال: بلا بركة، فلما أصبح ذكر ذلك لامرأته فقالت له مثل ذلك فأبى أن يأخذها، ثم أتي في الليلة الثالثة فقيل له: إيت مكان كذا وكذا فخذ منه دينارا، فقال: ببركة أو بلا بركة ؟ قال: ببركة، قال، نعم إذا، فلما أصبح ذهب إلى ذلك المكان الذي أشير إليه في المنام فوجد الدينار فأخذه، فوجد صيادا يحمل حوتين فقال: بكم هما ؟ قال: بدينار، فأخذهما منه بذلك الدينار ثم انطلق بهما إلى امرأته فقامت تصلحهما، فشقت بطن أحدهما فوجدت فيه درة لا يقوم بها شئ، ولم ير الناس مثلها، ثم شقت بطن الآخر فإذا فيه درة مثلها، قال: فاحتاج ملك ذلك الزمان درة فبعث يطلبها حيث كانت ليشتريها، فلم توجد إلا عنده، فقال الملك: إيت بها، فأتاه بها، فلما رآها حلاها الله عزوجل في عينيه، فقال: بعنيها، فقال: لا أنقصها عن وقر ثلاثين بغلا ذهبا، فقال الملك ؟ ارضوه، فخرجوا به فوقروا له ثلاثين بغلا ذهبا، ثم نظر إليها الملك فأعجبته إعجابا عظيما، فقال: ما تصلح هذه إلا بأختها، اطلبوا لي أختها، قال: فأتوه فقالوا له: هل عندك أختها ونعطيك ضعف ما أعطيناك ؟ قال وتفعلون ؟ قالوا: نعم.
فأتى الملك بها، فلما رآها أخذت بقلبه فقال أرضوه، فأضعفوا له ضعف أختها، والله أعلم.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا وهيب بن الورد حدثنا عبد الجبار بن الورد قال: حدثني داود ابن سابور قال قلنا لطاوس: أدع بدعوات، فقال: لا أجد لذلك حسبة.
وقال ابن جرير عن ابن طاوس عن أبيه قال: البخل أن يبخل الانسان بما في يده، والشح أن يحب أن له ما في أيدي الناس بالحرام لا يقنع: وقيل الشح هو ترك القناعة، وقيل: هو أن يشح بما في يد غيره، وهو مرض من
أمراض القلب ينبغي للعبد أن يعزله عن نفسه وينفيه ما استطاع، وهو يأمرنا بالبخل كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم [ أمرهم ] بالبخل فبخلوا وبالقطيعة فقطعوا وهذا هو الحرص على الدنيا وحبها " وقال ابن أبي شيبة: حدثنا المحاربي عن ليث عن طاوس قال: ألا رجل يقوم بعشر آيات من الليل فيصبح قد كتب له مائة حسنة أو أكثر من ذلك، ومن زاد زيد في ثوبه، وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوس.
قال: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج.
وعن سفيان عن إبراهيم بن ميسرة قال: قال لي طاوس: لتنكحن أو لاقولن لك ما قال عمر بن الخطاب لابي الزوائد: ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور.
وقال طاوس: لا يحرز دين المؤمن إلا حفرته.
وقال عبد الرزاق، عن معمر بن طاوس وغيره أن رجلا كان يسير مع طاوس، فسمع الرجل غرابا ينعب، فقال: خير: فقال طاوس: أي خير عند هذا أو شر لا تصحبني ولا تمش معي.
وقال بشر بن موسى: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان عن ابن طاوس عن أبيه.
قال: إذا غدا الانسان اتبعه الشيطان، فإذا أتى المنزل فسلم نكص الشيطان وقال: لا مقيل، فإذا أتي بغدائه فذكر اسم الله قال: ولا غداء ولا مقيل، فإذا دخل ولم يسلم قال الشيطان: أدركنا المقيل، فإذا أتي بغدائه ولم يذكر اسم الله عليه قال الشيطان: مقيل وغداء، وفي العشاء مثل ذلك.
وقال: إن الملائكة ليكتبون صلاة بني آدم: فلان زاد فيها كذا وكذا، وفلان نقص فيها كذا وكذا وذلك في الركوع والخشوع والسجود.
وقال: لما خلقت النار طارت أفئدة الملائكة، فلما خلق آدم سكنت، وكان إذا سمع صوت
الرعد يقول: سبحان من سبحت له.
وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح قال: قال مجاهد لطاوس: يا أبا عبد الرحمن ! رأيتك تصلي في الكعبة والنبي صلى الله عليه وسلم على بابها يقول لك: اكشف قناعك، وبين قراءتك.
فقال له: اسكت لا يسمع هذا منك أحد.
ثم تخيل إلى أن انبسط في الحديث.
وقال أحمد أيضا بهذا الاسناد: إن طاوسا قال لابي نجيح: يا أبا نجيح ! ! من قال واتقى الله خير ممن صمت واتقى.
وقال مسعر عن رجل إن طاوسا أتى رجلا في السحر فقالوا: هو نائم، فقال: ما كنت أرى أن أحدا ينام في السحر.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا محمد بن يزيد، حدثنا ابن يمان عن مسعود، فذكره.
قال الثوري: كان طاوس يجلس في بيته، فقيل له في ذلك فقال: حيف الائمة وفساد الناس.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرني أبي قال: كان طاوس يصلي في غداة باردة معتمة، فمر به محمد بن يوسف صاحب اليمن وحاجبها - وهو أخو الحجاج بن يوسف - وطاوس ساجد، والامير راكب في مركبه، فأمر بساج أو طيلسان مرتفع القيمة فطرح على طاوس وهو ساجد، فلم يرفع رأسه حتى فرغ من حاجته، فلما سلم نظر فإذا الساج عليه فانتفض فألقاه عنه، ولم ينظر إليه ومضى إلى منزله وتركه ملقى على الارض.
وقال نعيم بن حماد: حدثنا حماد بن عيينة عن
ابن جريج عن عطاء عن طاوس عن ابن عباس: ما من شئ يتكلم به ابن آدم إلا كتب عليه حتى أنينه في مرضه، فلما مرض الامام أحمد أن فقيل له: إن طاوسا كان يكره أنين المرض فتركه.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا الفضل بن دكين حدثنا سفيان، عن أبيه، عن داود بن شابور.
قال: قال رجل لطاوس: ادع الله لنا، فقال: ما أجد بقلبي خشية فأدعو لك.
وقال ابن طالوت: حدثنا عبد السلام بن هاشم، عن الحسن بن أبي الحصين العنبري.
قال: مر طاوس برواس قد أخرج رؤوسا فغشي عليه.
وفي رواية كان إذا رأى الرؤوس المشوية لم يتعش تلك الليلة.
وقال الامام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا الاشجعي عن سفيان الثوري.
قال: قال طاوس: إن الموتى يفتنون في قبورهم (1) سغبا، وكانوا يستحيون أن يطعم عنهم تلك الايام.
وقال ابن إدريس: سمعت ليثا يذكر عن طاوس وذكر النساء فقال: فيهن كفر من مضى وكفر من بقي.
وقال أبو عاصم عن بقية عن سلمة بن وهرام، عن طاوس قال: كان يقال: اسجد للقرد في زمانه، أي أطعه في المعروف.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أسامة، حدثنا نافع بن عمر، عن بشر بن عاصم.
قال: قال طاوس: ما رأيت مثل (2) أحد آمن على نفسه، ولقد رأيت رجلا لو قيل لي: من أفضل من تعرف ؟ لقلت: فلان ذلك الرجل، فمكثت على ذلك حينا ثم أخذه وجع في بطنه، فأصاب منه شيئا استنضح بطنه عليه، فاشتهاه، فرأيته في نطع ما أدري أي طرفيه أسرع حتى مات عرقا.
وروى أحمد: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن طاوس: أنه رأى فتية من قريش يرفلون في مشيتهم، فقال: إنكم لتلبسون لبسة ما كانت آباؤكم تلبسها، وتمشون مشية ما يحسن الزفافون أن يمشوها.
وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، أن طاوسا قام على رفيق له مرض حتى فاته الحج - لعله هو الرجل المتقدم قبل هذا استنضح بطنه - وقال مسعر بن كدام عن عبد الكبير المعلم قال طاوس قال ابن عباس: سئل النبي صلى الله عليه وسلم من أحسن قراءة ؟ قال: " من إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله عزوجل ".
وقد روي هذا أيضا من طريق ابن لهيعة، من عمرو بن دينار، عن طاوس قال: قال ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أحسن الناس قراءة من قرأ القرآن يتحزن به ".
وعنه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ثوبان معصفران فقال: " أمك أمرتك بهذا ؟ قلت: أغسلهما ؟ قال: بل أحدهما " رواه مسلم في صحيحه عن داود بن راشد عن عمر بن أيوب، عن إبراهيم بن نافع عن سليمان الاحول عن طاوس به.
وروى محمد بن مسلمة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عمر وقال: قال
__________
(1) في صفة الصفوة 2 / 289: سبعا.
(2) كذا بالاصل، ولعلها: ما رأيت مثلي أحدا آمنا.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الجلاوذة والشرط وأعوان الظلمة كلاب النار ".
انفرد به محمد بن مسلم
الطالقي.
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن الحسن الانماطي البغدادي، حدثنا عبد المنعم بن إدريس، حدثنا أبي عن وهب بن منبه عن طاوس عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي بن أبي طالب: " يا علي استكثر من المعارف من المؤمنين فكم من معرفة في الدنيا بركة في الآخرة ".
فمضى علي فأقام حينا لا يلقى أحدا إلا اتخذه للآخرة، ثم جاء من بعد ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما فعلت فيما أمرتك به ؟ قال: قد فعلت يا رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إذهب فابل أخبارهم، فذهب ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو منكس رأسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب فابل أخبارهم، فذهب ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم تبسم [ فقال ]: ما أحسب يا علي ثبت معك إلا أبناء الآخرة ؟ فقال له علي: لا والذي بعثك بالحق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين يا عبادي لا خوف عليكم) [ الزخرف: 67 - 68 ] يا علي ! أقبل على شأنك واملك لسانك، وأغفل من تعاشر من أهل زمانك تكن سالما غانما " لم يرو إلا من هذا الوجه فيما نعلم والله أعلم.
ثم دخلت سنة سبع ومائة فيها خرج باليمن رجل يقال له عباد الرعيني فدعا إلى مذهب الخوارج واتبعه فرقة من الناس وحلموا فقاتلهم يوسف بن عمر فقتله وقتل أصحابه، وكانوا ثلاثمائة.
وفيها وقع بالشام طاعون شديد، وفيها غزا معاوية بن هشام الصائفة وعلى جيش أهل الشام ميمون بن مهران، فقطعوا البحر إلى قبرص وغزا مسلمة في البر في جيش آخر (1).
وفيها ظفر أسد بن عبد الله القسري بجماعة من دعاة بني العباس بخراسان فصلبهم وأشهرهم (2).
وفيها غزا أسد القسري جبال نمروذ (3)، ملك القرقيسيان، مما يلي جبال الطالقان، فصالحه نمروذ وأسلم على يديه.
وفيها غزا أسد الغور - وهي جبال هراة - فعمد أهلها إلى حواصلهم وأموالهم وأثقالهم فجعلوا ذلك كله في كهف منيع، لا سبيل لاحد عليه، وهو مستعل جدا، فأمر أسد بالرجال فحملوا في توابيت ودلاهم إليه، وأمر بوضع ما هنالك في التوابيت ورفعوهم فسلموا وغنموا، وهذا رأي سديد.
وفيها أمر أسد بجمع ما حول بلخ
إليها.
واستناب عليها برمك والد خالد بن برمك وبناها بناء جيدا جديدا محكما وحصنها وجعلها معقدا للمسلمين.
وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام أمير الحرمين.
وممن توفي فيها من الاعيان:
__________
(1) في ابن الاثير 5 / 141: أورد الخبرين في حوادث سنة 108 ه.
(2) في الطبري 8 / 188 ومنهم: أبو عكرمة ومحمد بن خنيس.
وانظر ابن الاثير 5 / 136 وفي الاخبار الطوال ص 334: أبو عكرمة وحيان العطار ضرب أعناقهما وصلبهما أسد بن عبد الله في أيام يزيد بن عبد الملك.
(3) في الطبري 8 / 188 وابن الاثير 5 / 137: جبال نمرون ملك الغرشستان.
سليمان بن يسار أحد التابعين وهو أخو عطاء بن يسار، له روايات كثيرة، وكان من المجتهدين في العبادة، وكان من أحسن الناس وجها، توفي بالمدينة وعمره ثلاث وسبعون سنة، دخلت عليه امرأة من أحسن الناس وجها فأرادته على نفسها فأبى وتركها في منزله وخرج هاربا منها، فرأى يوسف عليه السلام في المنام.
فقال له: أنت يوسف ؟ فقال: نعم أنا يوسف الذي هممت، وأنت سليمان الذي لم تهم.
وقيل إن هذه الحكاية إنما وقعت في بعض منازل الحجاج، وكان معه صاحب له، فبعثه إلى سوق الحجاج ليشتري شيئا فانحطت على سليمان امرأة من الجبل حسناء فقالت له: هيت لك، فبكى واشتد بكاؤه فلما رأت ذلك منه ارتفعت في الجبل، وجاء صديقه فوجده يبكي فقال له: مالك تبكي ؟ فقال خير، فقال: لعلك ذكرت بعض ولدك أو بعض أهلك ؟ فقال: لا ! فقال: والله لتخبرني ما أبكاك أنت.
قال: أبكاني حزني على نفسي، لو كنت مكانك لم أصبر عنها، ثم ذكر أنه نام فرأى يوسف في منامه كما تقدم والله أعلم.
عكرمة مولى ابن عباس أحد التابعين، والمفسرين المكثرين والعلماء الربانيين، والرحالين الجوالين.
وهو أبو عبد الله، وقد روى عن خلق كثير من الصحابة، وكان أحد أوعية العلم، وقد أفتى في حياة مولاه ابن عباس، قال عكرمة: طلبت العلم أربعين سنة، وقد طاف عكرمة البلاد، ودخل إفريقية
واليمن والشام والعراق وخراسان، وبث علمه هنالك، وأخذ الصلات وجوائز الامراء وقد روى ابن أبي شيبة عنه قال: كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل (1) يعلمني القرآن والسنن، وقال حبيب بن أبي ثابت: اجتمع عندي خمسة لا يجتمع عندي مثلهم أبدا، عطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد فأقبل سعيد ومجاهد يلقيان على عكرمة التفسير فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما، فلما نفد ما عندهما جعل يقول: أنزلت آية كذا في كذا، قال: ثم دخلوا الحمام ليلا.
قال جابر بن زيد: عكرمة أعلم الناس.
وقال الشعبي: ما بقى أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة.
وروى الامام أحمد عن عبد الصمد عن سلام بن مسكين، سمعت قتادة يقول: أعلمهم بالتفسير عكرمة.
وقال سعيد بن جبير نحوه، وقال عكرمة: لقد فسرت ما بين اللوحتين.
وقال ابن علية عن أيوب: سأل رجل عكرمة عن آية فقال: نزلت في سفح ذلك الجبل - وأشار إلى سلع - وقال عبد الرزاق عن أبيه: لما قدم عكرمة الجند حمله طاوس على نجيب فقال: ابتعت علم هذا الرجل (2)، وفي رواية أن طاوسا حمله على نجيب ثمنه ستون دينارا وقال: ألا نشتري علم هذا العبد بستين دينارا !.
__________
(1) الكبل: القيد.
(2) زيد في طبقات ابن سعد 5 / 289: بهذا الجمل.
ومات عكرمة وكثير عزة في يوم واحد فأخرجت جنازتهم فقال الناس: مات أفقه الناس وأشعر الناس، وقال عكرمة: قال لي ابن عباس: انطلق فأفت الناس فمن سألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح عني ثلثي مؤنة الناس.
وقال سفيان عن عمرو قال: كنت إذا سمعت عكرمة يحدث عن المغازي كأنه مشرف عليهم ينظر كيف يصنعون ويقتتلون.
وقال الامام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق قال: سمعت معمرا يقول: سمعت أيوب يقول: كنت أريد أن أرحل إلى عكرمة إلى أفق من الآفاق، فال فإني لفي سوق البصرة، فإذا رجل على حمار، فقيل: هذا عكرمة، قال: واجتمع الناس إليه فما قدرت أنا على شئ أسأله عنه، ذهبت مني المسائل،
وشردت عني فقمت إلى جنب حماره فجعل الناس يسألونه وأنا أحفظه (1).
وقال شعبة عن خالد الحذاء قال: قال عكرمة لرجل وهو يسأله: مالك أخبلت ؟ أي فتنت.
وقال زياد بن أبي أيوب: حدثنا أبو ثميلة، حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد قال: قلت لعكرمة بنيسابور: الرجل يريد الخلاء في إصبعه خاتم فيه اسم الله، قال: يجعل فصه في بطان يده ثم يقبض عليه.
وقال الامام أحمد: حدثنا أمية بن خالد قال: سمعت شعبة يقول: قال خالد الحذاء: كل شئ قال فيه محمد بن سيرين: ثبت عن ابن عباس، إنما سمعه من عكرمة، لقيه أيام المختار بالكوفة.
وقال سفيان الثوري: خذوا المناسك عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة.
وقال أيضا: خذوا التفسير عن أربعة: سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك.
وقال عكرمة: أدركت مئتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد.
وقال محمد بن يوسف الفريابي: حدثنا إسرائيل، عن سعيد بن مسروق، عن عكرمة: قال: كانت الخيل التي شغلت سليمان بن داود عليه السلام عشرين ألفا فعقرها، وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا معمر بن سليمان عن الحكم بن أبان عن عكرمة: (الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب) [ النساء: 17 ] قال: الدنيا كلها قريب وكلها جهالة.
وفي قوله (الذين لا يريدون علوا في الارض) [ القصص: 83 ] قال: عند سلاطينها وملوكها.
(ولا فسادا) لا يعلمون بمعاصي الله عز وجل.
(والعاقبة) هي الجنة.
وقال في قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به) [ الاعراف: 164 ] أي تركوا ما وعظوا (بعذاب بئيس) أي شديد (فلما عتوا عما نهوا عنه) أي تمادوا وأصروا.
(خاسئين) صاغرين.
(فجعلناها نكالا لما بين يديها) [ البقرة: 166 ] أي من الامم الماضية (وما خلفها) [ البقرة: 66 ] من الامم الآتية، من أهل زمانهم وغيرهم (وموعظة) تقي من اتعظ بها الشرك والمعاصي.
وقال ابن عباس: إذا كان يوم القيامة بعث الله الذين اعتدوا ويحاسب الذين تركوا الامر والنهي كان المسخ لهم عقوبة في الدنيا حين تركوا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقال
__________
(1) انظر ابن سعد 5 / 289.
عكرمة: قال ابن عباس: هلك والله القوم جميعا، قال ابن عباس فالذين أمروا ونهوا نجوا، والذين لم يأمروا ولم ينهوا هلكوا فيمن هلك من أهل المعاصي.
قال: وذلك أهل إيلة - وهي قرية على شاطئ البحر - وكان الله قد أمر بني إسرائيل إن يتفرغوا ليوم الجمعة فقالوا: بل نتفرغ ليوم السبت، لان الله فرغ من الخلق يوم السبت، فأصبحت الاشياء مسبوتة.
وذكروا قصة أصحاب السبت، وتحريم الصيد عليهم، وأن الحيتان كانت تأتيهم يوم السبت ولا تأتيهم في غيره من الايام، وذكروا احتيالهم على صيدها في يوم السبت فقال قوم: لا ندعكم تصيدون في يوم السبت ووعظوهم، فجاء قوم آخرون مداهنون فقالوا: (لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ؟) [ الاعراف: 163 ] قال الناهون (معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون) [ الاعراف: 163 ] أي ينتهون عن الصيد في يوم السبت.
وقد ذكر عكرمة أنه لما قال لابن عباس إن المداهنين هلكوا مع الغافلين، كساه ثوبين.
وقال حوثرة عن مغيرة عن عكرمة قال: كانت القضاة ثلاثة - يعني في بني إسرائيل - فمات واحد فجعل الآخر مكانه، فقضوا ما شاء الله أن يقضوا فبعث الله ملكا على فرس فمر على رجل يسقي بقرة معها عجل، فدعا الملك العجل فتبع العجل الفرس، فجاء صاحبه ليرده فقال: يا عبد الله ! عجلي وابن بقرتي، فقال الملك: بل هو عجلي وابن فرسي، فخاصمه حتى أعيا، فقال: القاضي بيني وبينك، قال: لقد رضيت، فارتفعا إلى أحد القضاة فتكلم صاحب العجل فقال له: مربي على فرس فدعا عجلي فتبعه فأبى أن يرده، قال: ومع الملك ثلاث درات لم ير الناس مثلها، فأعطى القاضي درة وقال: اقض لي، فقال: كيف يسوغ هذا ؟ فقال: نرسل العجل خلف الفرس والبقرة فأيهما تبعها فهو ابنها، ففعل ذلك فتبع الفرس فقضى له.
فقال صاحب العجل: لا أرضى، بيني وبينك القاضي الآخر، ففعلا مثل ذلك، ثم أتيا الثالث فقصا عليه قصتهما، وناوله الملك الدرة الثالثة فلم يأخذها، وقال لا أقضي بينكما اليوم، فقالا: ولم لا تقضي بيننا ؟ فقال: لاني حائض، فقال الملك: سبحان الله ! رجل يحيض ! ؟.
فقال القاضي: سبحان الله ! وهل تنتج الفرس عجلا ؟ فقضى
لصاحب البقرة.
فقال الملك: إنكم إنما ابتليتم، وقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك.
وقال أبو بكر بن عياش عن أبي حمزة الثمالي عن عكرمة أن ملكا من الملوك نادى في مملكته: إني إن وجدت أحدا يتصدق بصدقة قطعت يده، فجاء سائل إلى امرأة فقال: تصدقي علي بشئ فقالت: كيف أتصدق عليك والملك يقطع يد من يتصدق ؟ قال: أسألك بوجه الله إلا تصدقت علي بشئ، فتصدقت عليه برغيفين، فبلغ ذلك الملك فأرسل إليها فقطع يديها، ثم إن الملك قال لامه: دليني على امرأة جميلة لا تزوجها، فقالت: إن ههنا امرأة ما رأيت مثلها، لو لا عيب بها، قال: أي عيب هو ؟ قالت: مقطوعة اليدين، قال: فأرسلي إليها، فلما رآها أعجبته - وكان لها جمال - فقالت: إن الملك يريد أن يتزوجك: قالت: نعم إن شاء الله، فتزوجها
وأكرمها، فنهد إلى الملك عدو فخرج إليهم، ثم كتب إلى أمه: انظري فلانة فاستوصي بها خيرا وافعلي وافعلي معها، فجاء الرسول فنزل على بعض ضرائرها فحسدنها فأخذن الكتاب فغيرنه وكتبن إلى أمه: انظري فلانة فقد بلغني أن رجالا يأتونها فأخرجيها من البيت وافعلي وافعلي، فكتبت إليه الام إنك قد كذبت، وإنها لامرأة صدق، فذهب الرسول إليهن فنزل بهن فأخذن الكتاب فغيرنه فكتبن إليه: إنها فاجرة وقد ولدت غلاما من الزنا، فكتب إلى أمه: انظري فلانة فاجعلي ولدها على رقبتها واضربي على جيبها واخرجيها.
قال: فلما جاءها الكتاب قرأته عليها وقالت لها: اخرجي، فجعلت الصبي على رقبتها وذهبت، فمرت بنهر وهي عطشانة فنزلت لتشرب والصبي على رقبتها فوقع في الماء فغرق، فجلست تبكي على شاطئ النهز، فمر بها رجلان فقالا: ما يبكيك ؟ فقالت: ابني كان على رقبتي وليس لي يدان فسقط في الماء فغرق.
فقالا لها: أتحبين أن يرد الله عليك يديك كما كانتا ؟ قالت: نعم ! فدعوا الله ربهما لها فاستوت يداها، ثم قالا لها: أتدرين من نحن ؟ قالت: لا قالا: نحن الرغيفان اللذان تصدقت بهما.
وقال في قوله: (طيرا أبابيل) [ الفيل: 3 ] قال: طير خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع فلم تزل ترميهم حتى جدرت جلودهم، وما رؤي الجدري قبل يومئذ وما رؤي الطير قبل
يومئذ ولا بعد.
وفي قوله تعالى: (ويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة) [ فصلت: 6 - 7 ] قال: لا يقولون لا إله إلا الله، وفي قوله (قد أفلح من تزكى) [ الاعلى: 14 ] قال: من يقول لا إله إلا الله، وفي قوله: (هل لك إلى أن تزكى) [ النازعات: 18 ] إلى أن تقول لا إله إلا الله، وفي قوله: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) [ فصلت: 30 ] على شهادة أن لا إله إلا الله.
وفي قوله: (أليس منكم رجل رشيد) [ هود: 78 ] أليس منكم من يقول: لا إله إلا الله، وفي قوله: (وقال صوابا) [ النبأ: 38 ] قال: لا إله إلا الله.
وفي قوله: (إنك لا تخلف الميعاد) [ آل عمران: 194 ] لمن قال: لا إله إلا الله.
وفي قوله (لا عدوان إلا على الظالمين) [ البقرة: 193 ] على من لا يقول: لا إله إلا الله.
وفي قوله: (واذكر ربك إذا نسيت) [ الكهف: 24 ] قال: إذا غضبت (سيماهم في وجوههم) [ الفتح: 29 ] قال: السهو.
وقال: إن الشيطان ليزين للعبد الذنب، فإذا عمله تبرأ منه، فلا يزال يتضرع إلى ربه ويتمسكن له ويبكي حتى يغفر الله له ذلك وما قبله.
وقال: قال جبريل عليه السلام: إن ربي ليبعثني إلى الشئ لامضيه فأجد الكون قد سبقني إليه.
وسئل عن الماعون قال: العارية.
قلت: فإن منع الرجل غربالا أو قدرا أو قصعة أو شيئا من متاع البيت فله الويل ؟ قال: لا ! ولكن إذا نهي عن الصلاة ومنع الماعون فله الويل.
وقال: البضاعة المزجاة التي فيها تجوز.
وقال: السائحون، هم طلبة العلم وقال: (كما يئس الكفار من أصحاب القبور) [ الممتحنة: 13 ] قال: إذا دخل الكفار القبور وعاينوا ما أعد الله لهم من الخزي، يئسوا من نعمة الله.
وقال
غيره: [ يئس الكفار من أصحاب القبور) أي من حياتهم وبعثهم بعد موتهم.
وقال: كان إبراهيم عليه السلام يدعى أبا الضيفان، وكان لقصره أربعة أبواب لكيلا يفوته أحد، وقال: أنكالا، أي قيودا.
وقال في كاهن سبأ: إنه قال لقومه لما دنا منهم العذاب: من أراد سفرا بعيدا وحملا شديدا، فعليه بعمان، ومن أراد الخمر والخمير، وكذا وكذا والعصير، فعليه ببصرى
- يعني الشام - ومن أراد الراسخات في الوحل، والمقيمات في المحل فعليه بيثرب ذات النخل.
فخرج قوم إلى عمان وقوم إلى الشام، وهم غسان، وخرج الاوس والخزرج - وهم بنو كعب بن عمرو - وخزاعة حتى نزلوا يثرب، ذات النخل، فلما كانوا ببطن مر قالت خزاعة: هذا موضع صالح لا نريد به بدلا، فنزلوا، فمن ثم سميت خزاعة، لانهم تخزعوا من أصحابهم.
وتقدمت الاوس والخزرج حتى نزلوا بيثرب، فقال الله عزوجل ليوسف عليه السلام يا يوسف ! بعفوك عن إخوتك رفعت لك ذكرك مع الذاكرين.
وقال: قال لقمان لابنه: قد ذقت المرار فلم أذق شيئا أمر من الفقر.
وحملت كل حمل ثقيل فلم يحمل أثقل من جار السوء.
ولو أن الكلام من فضة لكان السكوت من ذهب.
رواه وكيع بن الجراح عن سفيان عن أبيه عن عكرمة: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) [ الانفال: 17 ] قال: ما وقع شئ منها إلا في عين رجل منهم.
وقال: في قوله تعالى (زنيم) [ القلم: 13 ] هو اللئيم الذي يعرف اللؤمة كما يعرف الشاة بذنمتها.
وقال في قوله تعالى (الذين يؤذون الله ورسوله) [ الاحزاب: 53 ] قال: هم أصحاب التصاوير، (وبلغت القلوب الحناجر) [ الاحزاب: 100 ] قال: لو أن القلوب تحركت أو زالت لخرجت نفسه، وإنما هو الخوف والفزع.
(فتنتم أنفسكم) [ الحديد: 14 ] أي بالشهوات (وتربصتم) [ الحديد: 14 ] بالتوبة (وغرتكم الاماني) [ الحديد: 14 ] أي التسويف (حتى جاء أمر الله) الموت (وغركم بالله الغرور) الشيطان.
وقال: من قرأ يس والقرآن الحكيم لم يزل ذلك اليوم في سرور حتى يمسي.
قال سلمة بن شعيب: حدثنا إبراهيم بن الحكم عن أبان عن أبيه.
قال: كنت جالسا مع عكرمة عند البحر فذكروا الذين يغرقون في البحر فقال عكرمة: الذين يغرقون في البحار تقتسم لحومهم الحيتان فلا يبقي منها شئ إلا العظام، حتى تصير حائلا نخرة فتمر بها الابل فتأكلها، ثم تسير الابل فتبعرها، ثم يجئ بعدهم قوم فينزلون ذلك المنزل فيأخذون ذلك البعر فيوقدونه ثم يصير رمادا فتجئ الريح فتأخذه فتذريه في كل مكان من الارض حيث يشاء الله من بره وبحره، فإذا جاءت النفخة - نفخة المبعث - فيخرج أولئك وأهل القبور المجموعين سواء.
وبهذا الاسناد
عنه قال: إن الله أخرج رجلين، رجلا من الجنة ورجلا من النار، فقال لصاحب الجنة: عبدي ! كيف وجدت مقيلك ؟ قال خير مقيل.
ثم قال لصاحب النار: عبدي كيف وجدت مقيلك ؟ فقال: شر مقيل قاله القائلون، ثم ذكر من عقاربها وحياتها وزنابيرها، ومن أنواع ما
فيها من العذاب وألوانه، فيقول الله تعالى لصاحب النار: عبدي ! ماذا تعطيني إن أنا أعفيتك من النار ؟ فيقول العبد: إلهي وماذا عندي ما أعطيك، فقال له الرب تعالى: لو كان لك جبل من ذهب أكنت تعطيني فأعفيك من النار ؟ فقال نعم، فقال له الرب: كذبت لقد سألتك في الدنيا ما هو أيسر من ذلك ! تدعوني فأستجيب لك، وتستغفرني فأغفر لك، وتسألني فأعطيك، فكتب تتولى ذاهبا.
وبهذا الاسناد قال: ما من عبد يقربه الله عزوجل يوم القيامة للحساب إلا قام من عند الله بعفوه، وبه عنه: لكل شئ أساس، وأساس الاسلام الخلق الحسن.
وبه عنه قال: شكا نبي من الانبياء إلى ربه عزوجل الجوع والعري، فأوحى الله إليه: أما ترضى أني سددت عنك باب الشر الناشئ عنها ؟.
وبه عنه قال: إن في السماء ملكا يقال له إسماعيل لو أذن الله له بفتح أذن من آذانه يسبح الرحمن عز وجل لمات من في السموات والارض.
وبه عنه قال: سعة الشمس سعة الارض وزيادة ثلاث مرات، وسعة القمر سعة الارض مرة، وإن الشمس إذا غربت دخلت بحرا تحت العرش تسبح الله حتى إذا أصبحت استعفت ربها تعالى من الطلوع فيقول لها: ولم ذاك - وهو أعلم - فتقول: لئلا أعبد من دونك، فيقول لها: اطلعي فليس عليك شئ من ذلك، حسبهم جهنم أبعثها إليهم مع ثلاث عشرة ألف ملك تقودها حتى يدخلوهم: وهذا خلاف ما ثبت في الحديث الصحيح " إن جهنم يؤتى بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك ".
وقال مندل عن أسد بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يقفن أحدكم على رجل يضرب ظلما فإن اللعنة تنزل من السماء على من يحضره إذا لم تدفعوا عنه.
ولا يقفن أحدكم على رجل يقتل ظلما فإن اللعنة تنزل من السماء على من يحضره إذا لم تدفعوا
عنه ".
لم يرفعه إلا مندل هذا.
وروى شعبة عن عمارة بن حفصة عن عكرمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عطس غطى وجهه بثوبه، ووضع يديه على حاجبيه "، هذا حديث عال من حديث شعبة.
وروى بقية عن إسحاق بن مالك الخضري عن عكرمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حلف على أحد يمينا، وهو يرى أن سيبره فلم يفعل، فإنما إثمه على الذي لم يبره ".
تفرد به الوليد مرفوعا.
وقال عبد الله بن أحمد في مسند أبيه: حدثنا عبيد بن عمر القواريري، حدثنا يزيد بن ربيع، حدثنا عمارة بن أبي حفصة، حدثنا عكرمة، حدثتنا عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عليه بردان قطريان خشنان غليظان، فقالت عائشة: يا رسول الله، إن ثوبيك هذين غليظان خشنان، ترشح فيهما فيثقلان عليك، فأرسل إلى فلان فقد أتاه برد من الشام فاشتر منه ثوبان إلى ميسرة.
فقال: قد علمت والله، ما يريد مني الله إلا أن يذهب بثوبي ويمطلني بثمنهما، فرجع الرسول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم: كذب ! قد علموا أني أتقاهم لله وآداهم للامانة ".
وفي هذا اليوم قال
النبي صلى الله عليه وسلم: " لان يلبس أحدكم من رقاع شتى خير له من أن يستدين مالي عنده " والله سبحانه أعلم.
القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق كان أحد الفقهاء المشهورين، له روايات كثيرة، عن الصحابة وغيرهم، وكان من أفضل أهل المدينة، وأعلم أهل زمانه، قتل أبوه بمصر وهو صغير، فأخذته خالته فنشأ عندها، وساد وله مناقب كثيرة.
أبو رجاء العطاردي.
وفيها توفي كثير عزة الشاعر المشهور وهو كثير بن عبد الرحمن بن الاسود بن عامر، أبو صخر الخزاعي الحجازي، المعروف بابن أبي جمعة، وعزة هذه المشهور بها المنسوب إليها، لتغزله فيها، هي أم عمرو عزة بالعين المهملة، بنت جميل بن حفص، من بني حاجب بن غفار، وإنما صغر اسمه فقيل كثير، لانه كان دميم الخلق
قصيرا، طوله ثلاثة أشبار.
قال ابن خلكان: كان يقال له رب الدبان (1)، وكان إذا مشى يظن أنه صغير من قصره، وكان إذا دخل على عبد الملك (2) بن مروان يقول له: طأطئ رأسك لا يؤذيك السقف، وكان يضحك إليه، وكان يفد على عبد الملك، ووفد على عبد الملك بن مروان مرات، ووفد على عمر بن عبد العزيز، وكان يقال إنه أشعر الاسلاميين، على أنه كان فيه تشيع، وربما نسبه بعضهم إلى مذهب التناسخية (3)، وكان يحتج على ذلك من جهله وقلة عقله إن صح النقل عنه، في قوله تعالى (في أي صورة ما شاء ركبك) [ الانفطار: 8 ] وقد استأذن يوما على عبد الملك فلما دخل عليه قال عبد الملك: لان تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال: حيهلا يا أمير المؤمنين إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، إن نطق نطق ببيان، وإن قاتل قاتل بجنان، وأنا الذي أقول: وجربت الامور وجربتني * وقد أبدت عريكتي الامور وما تخفى الرجال علي أني * بهم لاخو مثاقفة خبير
__________
(1) في ابن خلكان 3 / 113: زب الذباب (2) في ابن خلكان: عبد العزيز.
(3) التناسخية: قالوا بتناسخ الارواح في الاجساد والانتقال من شخص إلى شخص، وما يلقى الانسان من الراحة والتعب والدعة والنصب فمرتب على ما أسلفه من قبل وهو في بدن آخر جزاء على ذلك.
والانسان أبدا في أحد أمرين: إما في فعل وإما في جزاء.
(الملل والنحل ص 119) قال الاسفرايني في الفرق ص 203: القائلون بالتناسخ أصناف: صنف من الفلاسفة وصنف من السمنية (قالت بقدم العالم) وهذان كانا قبل دولة الاسلام.
وصنفان آخران ظهرا في دولة الاسلام.
ترى الرجل النحيف فتزدريه * وفي أثوابه أسد زئير ويعجبك الطرير فتختبره * فيخلف ظنك الرجل الطرير وما هام الرجال لها بزين * ولكن زينها دين وخير بغاث الطير أطولها جسوما * ولم تطل البزاة ولا الصقور
وقد عظم البعير بغير لب * فلم يستغن بالعظم البعير فيركب ثم يضرب بالهراوي * ولا عرف لديه ولا نكير وعود النبع ينبت مستمرا * وليس يطول والعضباء حور وقد تكلم أبو الفرج بن طرار على غريب هذه الحكاية وشعرها بكلام طويل، قالوا: ودخل كثير عزة يوما على عبد الملك بن مروان فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها: - على ابن أبي العاصي دروع حصينة * أجاد المسدى سردها وأدالها قال له عبد الملك: أفلا قلت كما قال الاعشى لقيس بن معد يكرب: - وإذا تجئ كتيبة ملمومة * شهبا يخشى الذائدون صيالها كنت المقدم غير لابس جبة * بالسيف يضرب معلما أبطالها فقال: يا أمير المؤمنين وصفه بالخرق ووصفتك بالحزم.
ودخل يوما على عبد الملك وهو يتجهز للخروج إلى مصعب بن الزبير فقال: ويحك يا كثير، ذكرتك الآن بشعرك فإن أصبته أعطيتك حكمك، فقال: يا أمير المؤمنين كأنك لما ودعت عاتكة بنت يزيد بكت لفراقك فبكى لبكائها حشمها فذكرت قولي: إذا ما أراد الغزو لم تثن عزمه * حصان عليها نظم (1) دريزينها نهته فلما لم تر النهي عافه * بكت فبكى مما عراها (2) قطينها قال: أصبت فاحتكم، قال: مائة ناقة من نوقك المختارة، قال: هي لك، فلما سار عبد الملك إلى العراق نظر يوما إلى كثير عزة وهو مفكر في أمره فقال: علي به، فلما جئ به قال له: أرأيت إن أخبرتك بما كنت تفكر به تعطيني حكمي ؟ قال: نعم، قال: والله ؟ قال: والله، قال له عبد الملك إنك تقول في نفسك: هذا رجل ليس هو على مذهبي، وهو ذاهب إلى قتال رجل ليس هو على مذهبي، فان أصابني سهم غرب من بينهما خسرت الدنيا والآخرة، فقال: أي والله يا أمير المؤمنين فاحتكم، قال أحتكم حكمي أن أردك إلى أهلك وأحسن جائزتك، فأعطاه مالا
__________
(1) في الاغاني 9 / 21: عقد.
(2) في الاغاني، وابن خلكان 4 / 108: شجاها.
والقطين: الخدم والاتباع والحشم
وأذن له بالانصراف وقال حماد الراوية عن كثير عزة: وفدت أنا والاحوص ونصيب إلى عمر بن عبد العزيز حين ولي الخلافة، ونحن نمت بصحبتنا إياه ومعاشرتنا له، لما كان بالمدينة، وكل منا يظن أنه سيشركه في الخلافة.
فنحن نسير ونختال في رحالنا، فلما انتهينا إلى خناصرة ولاحت لنا أعلامها، تلقانا مسلمة بن عبد الملك فقال: ما أقدمكم ؟ أو ما علمتم أن صاحبكم لا يحب الشعر ولا الشعراء ؟ قال: فوجمنا لذلك، فأنزلنا مسلمة عنده وأجرى علينا النفقات وعلف دوابنا، وأقمنا عنده أربعة أشهر لا يمكنه أن يستأذن لنا على عمر، فلما كان في بعض الجمع دنوت منه لاسمع خطبته فأسلم عليه بعد الصلاة، فسمعته يقول في خطبته: لكل سفر زاد، فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة بالتقوى، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من عذابه وثوابه فترغبوا وترهبوا، ولا يطولن عليكم الامد فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوكم.
فإنه والله ما بسط أمل من لا يدري لعله لا يمسي بعد إصباحه ولا يصبح بعد إمسائه، وربما كانت له كامنة بين ذلك خطرات الموت والمنايا، وإنما يطمئن من وثق بالنجاة من عذاب الله وأهوال يوم القيامة، فأما من لا يداوي من الدنيا كلما إلا أصابه جارح من ناحية أخرى فكيف يطمئن، أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي وتبدو مسكنتي في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق، ثم بكى حتى ظننا أنه قاض نحبه، وارتج المسجد وما حول بالبكاء والعويل: قال: فانصرفت إلى صاحبي فقلت: خد سرحا من الشعر غير ما كنا نقول لعمر وآبائه فإنه رجل أخرى ليس برجل دنيا.
قال: ثم استأذن لنا مسلمة عليه يوم الجمعة فلما دخلنا عليه سلمت عليه ثم قلت: يا أمير المؤمنين طال الثواء وقلت الفائدة، وتحدث بجفائك إيانا وفود العرب.
فقال: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) [ التوبة: 61 ] وقرأ الآية، فإن كنتم من هؤلاء أعطيتم وإلا فلا حق لكم فيها، فقلت: يا أمير المؤمنين إني مسكين وعابر سبيل ومنقطع به، فقال: ألستم عند أبي سعيد ؟ - يعني مسلمة بن عبد الملك - فقلنا: بلى ! فقال: إنه لا ثواب على من هو عند أبي سعيد، فقلت: ائذن لي يا أمير المؤمنين بالانشاد، قال: نعم ولا تقل إلا حقا،
فأنشدته قصيدة فيه: وليت فلم تشتم عليا ولم تخف * بريئا ولم تقبل إشارة مجرم وصدقت بالفعل المقال مع الذي * أتيت فأمسى راضيا كل مسلم ألا إنما يكفي الفتى بعد ريعه * من الاود النادي ثقاف المقوم وقد لبست تسعى إليك ثيابها * تراءى لك الدنيا بكف ومعصم وتومض أحيانا بعين مريضة * وتبسم عن مثل الجمان المنظم فأعرضت عنها مشمئزا كأنما * سقتك مذوقا من سمام وعلقم وقد كنت من أحبالها في ممنع * ومن بحرها في مزبد الموج مفعم وما زلت تواقا إلى كل غاية * بلغت بها أعلى البناء المقدم فلما أتاك الملك عفوا ولم تكن * لطالب دنيا بعده في تكلم
تركت الذي يفنى وإن كان مونقا * وآثرت ما يبقى برأى مصمم وأضررت بالفاني وشمرت للذي * أمامك في يوم من الشر مظلم ومالك إذ كنت الخليفة مانع * سوى الله من مال رعيت ولا دم سما لك هم في الفؤاد مؤرق * بلغت به أعلى المعالي بسلم فما بين شرق الارض والغرب كلها * مناد ينادي من فصيح وأعجم يقول أمير المؤمنين ظلمتني * بأخذك ديناري وأخذك درهمي ولا بسط كف لامرئ غير مجرم * ولا السفك منه ظالما ملء محجم ولو يستطيع المسلمون لقسموا * لك الشطر من أعمارهم غير ندم فعشت بها ما حج لله راكب * ملب مطيف بالمقام وزمزم فاربخ بها من صفقة لمبايع * وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم قال: فأقبل علي عمر بن عبد العزيز وقال: إنك تسأل عن هذا يوم القيامة، ثم استأذنه
الاحوص فأنشده قصيدة أخرى فقال: إنك تسأل عن هذا يوم القيامة.
ثم استأذنه نصيب فلم يأذن له وأمر لكل واحد منهم بمائة وخمسين درهما، وأغزى نصيبا إلى مرج دابق.
وقد وفد كثير عزة بعد ذلك على يزيد بن عبد الملك فامتدحه بقصائد فأعطاه سبعمائة دينار.
وقال الزبير بن بكار: كان كثير عزة شيعيا خبيثا يرى الرجعة، وكان يرى التناسخ ويحتج بقوله تعالى (في أي صورة ما شاء ركبك) [ الانفطار: 8 ] وقال موسى بن عقبة هول كثير عزة ليلة في منامه فأصبح يمتدح آل الزبير ويرثي عبد الله بن الزبير، وكان يسئ الرأي فيه: بمفتضح البطحا تأول أنه * أقام بها ما لم ترمها الاخاشب سرحنا سروبا آمنين ومن يخف * بوائق ما يخشى تنبه النوائب تبرأت من عيب ابن أسماء إنني * إلى الله من عيب ابن أسماء تائب هو المرء لا ترزى به أمهاته * وآباؤه فينا الكرام الاطايب وقال مصعب بن عبد الله الزبيري: قالت عائشة بنت طلحة لكثير عزة: ما الذي يدعوك إلى ما تقول من الشعر في عزة وليست على نصف من الحسن والجمال ؟ فلو قلت ذلك في وفي أمثالي فأنا أشرف وأفضل وأحسن منها - وكانت عائشة بنت طلحة قد فاقت النساء حسنا وجمالا وأصالة - وإنما قالت له ذلك لتختبره وتبلوه فقال: ضحى قلبه يا عز أو كاد يذهل * وأضحى يريد الصوم أو يتبدل وكيف يريد الصوم من هو وامق * لعزة لا قال ولا متبذل إذا واصلتنا خلة كي تزيلنا * أبينا وقلنا الحاجبية أول سنوليك عرفا إن أردت وصالنا * ونحن لتيك الحاجبية أوصل
وحدثها الواشون أني هجرتها * فحملها غيظا علي المحمل فقالت له عائشة: قد جعلتني خلة ولست لك بخلة، وهلا قلت كما قال جميل فهو والله أشعر منك حيث يقول:
يا رب عارضة علينا وصلها * بالجد تخلطه بقول الهازل فأجبتها بالقول بعد تستر * حبي بثينة عن وصالك شاغلي لو كان في قلبي بقدر قلامة * فضل وصلتك أو أتتك رسائلي فقال: والله ما أنكر فضل جميل، وما أنا إلا حسنة من حسناته، واستحيا.
ومما أنشده ابن الانباري لكثير عزة: بأبي وأمي أنت من معشوقة * طبن العدو لها فغير حالها ومشى إلي بعيب عزة نسوة * جعل الآله خدودهن نعالها الله يعلم لو جمعن ومثلت * لاخذت قبل تأمل تمثالها ولو ان عزة خاصمت شمس الضحى * في الحسن عند موفق لقضى لها وأنشد غيره لكثير عزة: فما أحدث النأي الذي كان بيننا * سلوا ولا طول اجتماع تقاليا وما زادني الواشون إلا صبابة * ولا كثرة الناهين إلا تماديا غيره له: فقلت لها يا عز كل مصيبة * إذا وطنت يوما لها النفس ذلت هنيئا مريئا غير داء مخامر * لعزة من أعراضنا ما استحلت وقال كثير عزة أيضا وفيه حكمة أيضا: ومن لا يغمض عينه عن صديقه * وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب ومن يتتبع جاهدا كل عثرة * يجدها ولا يبقى له الدهر صاحب وذكروا أن عزة بنت جميل بن حفص أحد بني حاجب بن عبد الله بن غفار أم عمرو الضمرية وفدت على عبد الملك بن مروان تشكو إليه ظلامة فقال: لا أقضيها لك حتى تنشديني شيئا من شعره، فقالت: لا أحفظ لكثير شعرا، لكني سمعتهم يحكون عنه أنه قال في هذه الابيات: قضى كل ذي دين علمت غريمه * وعزة ممطول معنى غريمها
فقال: ليس عن هذا أسألك ولكن أنشديني قوله: وقد زعمت أني تغيرت بعدها * ومن ذا الذي يا عز لا يتغير تغير جسمي والمحبة كالذي * عهدت ولم يخبر بذاك مخبر
قال فاستحيت وقالت: أما هذا فلا أحفظه ولكن سمعتهم يحكونه عنه، ولكن أحفظ له قوله: كأني أنادي صخرة حين أعرضت * من الظلم لو تمشي بها العصم زلت صفوح فما تلقاك إلا بخيلة * ومن مل منها ذلك الوصل ملت قال فقضى لها حاجتها وردها ورد عليها ظلامتها وقال: أدخلوها الحرم ليتعلموا من أدبها.
وروى عن بعض نساء العرب قالت: اجتازت بنا عزة فاجتمع نساء الحاضر إليها لينظرن حسنها، فإذا هي حميراء حلوة لطيفة، فلم تقع من النساء بذاك الموقع حتى تكلمت فإذا هي أبرع النساء وأحلاهن حديثا، فما بقي في أعيننا امرأة تفوقها حسنا وجمالا وحلاوة.
وذكر الاصمعي: عن سفيان بن عيينة قال: دخلت عزة على سكينة بنت الحسين فقالت لها: إني أسألك عن شئ فاصدقيني، ما الذي أراد كثير في قوله لك: قضى كل ذي دين فوفى غريمه * وعزة ممطول معنى غريمها فقالت: كنت وعدته قبلة فمطلته بها، فقالت: أنجزيها له وإثمها علي، وقد كانت سكينة بنت الحسين من أحسن النساء حتى كان يضرب بحسنها المثل.
وروى أن عبد الملك بن مروان أراد أن يزوج كثيرا من عزة فأبت عليه وقالت: يا أمير المؤمنين أبعد ما فضحني بين الناس وشهرني في العرب ؟ وامتنعت من ذلك كل الامتناع، ذكره ابن عساكر.
وروى أنها اجتازت مرة بكثير وهو لا يعرفها فتنكرت عليه وأرادت أن تختبر ما عنده، فتعرض لها فقالت: فأين حبك عزة ؟ فقال: أنا لك الفداء لو أن عزة أمة لي لوهبتها لك، فقالت، ويحك لا تفعل ألست القائل: إذا وصلتنا خلة كي تزيلنا * أبينا وقلنا الحاجبية أول ؟
فقال: بأبي أنت وأمي، أقصري عن ذكرها واسمعي ما أقول: هل وصل عزة إلا وصل غانية * في وصل غانية من وصلها بدل قالت: فهل لك في المجالسة ؟ قال: ومن لي بذلك ؟ قال: فكيف بما قلت في عزة ؟ قال: أقلبه فيتحول لك، قال فسفرت عن وجهها وقالت: أغدرا وتناكثا يا فاسق، وإنك لها هنا يا عدو الله، فبهت وأبلس ولم ينطق وتحير وخجل، ثم قالت: قاتل الله جميلا حيث يقول: - محا الله من لا ينفع الود عنده * ومن حبله إن صد غير متين ومن هو ذو وجهين ليس بدائم * على العهد حلافا بكل يمين ثم شرع كثير يعتذر ويتنصل مما وقع منه ويقول في ذلك الاشعار ذاكرا وآثرا.
وقد ماتت عزة بمصر في أيام عبد العزيز بن مروان، وزار كثير قبرها ورثاها وتغير شعره بعدها، فقال له قائل: ما بال شعرك تغير وقد قصرت فيه ؟ فقال: ماتت عزة ولا أطرب، وذهب الشباب فلا أعجب، ومات
عبد العزيز بن مروان فلا أرغب، وإنما ينشأ الشعر عن هذه الخلال.
وكانت وفاته وفاة عكرمة في يوم واحد، ولكن في سنة خمس ومائة على المشهور.
وإنما ذكره شيخنا الذهبي في هذه السنة - أعني سنة سبع ومائة - والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان ومائة ففيها افتتح مسلمة بن عبد الملك قيسارية من بلاد الروم، وفتح إبراهيم بن عبد الملك حصنا من حصون الروم أيضا، وفيها غزا أسيد بن عبد الله القسري أمير خراسان فكسر الاتراك كسرة فاضحة.
وفيها زحف خاقان إلى أذربيجان وحاصر مدينة ورثان (1) ورماها بالمناجيق، فسار إليه أمير تلك الناحية الحارث بن عمرو نائب مسلمة بن عبد الملك، فالتقى مع خاقان ملك الترك فهزمه وقتل من جيشه خلق كثير، وهرب الخاقان بعد أن كان قتل في جملة من قتل من جيشه، وقتل الحارث بن عمرو شهيدا، وذلك بعد أن قتلوا من الاتراك خلقا كثيرا.
وفيها غزا معاوية بن هشام بن عبد الملك أرض الروم، وبعث البطال على جيش كثيف فافتتح جنجرة وغنم منها شيئا كثيرا.
وفيها توفي من الاعيان بكر بن عبد الله المزني البصري.
كان عالما عابدا زاهدا متواضعا قليل الكلام، وله روايات كثيرة عن خلق من الصحابة والتابعين.
قال بكر بن عبد الله: إذا رأيت من هو أكبر منك من المسلمين فقل: سبقته إلى المعاصي فهو خير مني، وإذا رأيت إخوانك يكرمونك ويعظمونك فقل: هذا من فضل ربي، وإذا رأيت منهم تقصيرا فقل: هذا بذنب أحدثته.
وقال: من مثلك يابن آدم ؟ خلي بينك وبين الماء والمحراب متى شئت تطهرت ودخلت على ربك عزوجل ليس بينك وبينه ترجمان ولا حاجب.
وقال: لا يكون العبد تقيا حتى يكون تقي الطمع تقي الغضب.
وقل: إذا رأيتم الرجل موكلا بعيوب الناس ناسيا لعيبه فاعلموا أنه قد مكر به.
وقال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا بلغ المبلغ الصالح من العمل فمشى في الناس تظلله غمامة، قال: فمر رجل قد أظلته غمامة على رجل فأعظمه لما رآه مما آتاه الله، فاحتقره صاحب الغمامة فأمرها الله أن تتحول عن رأسه إلى رأس الذي احتقره، وهو الذي عظم أمر الله عزوجل.
وقال: ما سبقهم أبو بكر بكثير صلاة ولا صيام، ولكن بشئ قر في صدره.
وله كلام حسن كثير يطول ذكره.
راشد بن سعد المقراني الحمصي عمر دهرا، وروى عن جماعة من الصحابة، وقد كان عابدا صالحا زاهدا.
رحمه الله تعالى، وله ترجمة طويلة.
محمد بن كعب القرظي توفي فيها في قول وهو أبو حمزة، له روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة، وكان عالما بتفسير القرآن، صالحا عابدا، قال الاصمعي: حدثنا أبو المقدام - هشام بن زياد - عن محمد بن كعب
__________
(1) ورثان: بلد هو آخر حدود أذربيجان بينه وبين وادي الرس فرسخان.
وقال ابن الكلبي: ورثان هي اذربيجان.
(معجم البلدان.
ج 5).
القرظي أنه سئل: ما علامة الخذلان ؟ قل: أن يقبح الرجل ما كان يستحسن، ويستحسن، ما كان قبيحا.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا عبد الله بن عبد الله بن موهب قال: سمعت ابن كعب يقول: لان أقرأ في ليلة حتى أصبح إذا زلزلت والقارعة لا أزيد عليهما وأردد فيهما الفكر، أحب إلي
من أن أهد القرآن هدا - أو قال أنثره نثرا -.
وقال: لو رخص لاحد في ترك الذكر لرخص لزكريا عليه السلام، قال تعالى: (آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار) [ آل عمران: 41 ] فلو رخص لاحد في ترك الذكر لرخص له، ولرخص للذين يقاتلون في سبيل الله، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) [ الانفال: 46 ] وقال في قوله تعالى: (اصبروا وصابروا ورابطوا) [ آل عمران: 200 ] قال: اصبروا على دينكم وصابروا لوعدكم الذي وعدتم، ورابطوا عدوكم الظاهر والباطن، واتقوا الله فيما بيني وبينكم، لعلكم تفلحون إذا لقيتموني.
وقال في قوله تعالى: (لو لا أن رأى برهان ربه) [ يوسف: 24 ]: علم ما أحل القرآن مما حرم (منها قائم وحصيد) [ هود: 101 ] قال: القائم ما كان من بنائهم قائما، والحصيد ما حصد فهدم.
(إن عذابها كان غراما) [ الفرقان: 65 ] قال: غرموا ما نعموا به من النعم في الدنيا، وفي رواية سألهم ثمن نعمة فلم يقدروا عليها ولم يؤدوها، فأغرمهم ثمنها.
فأدخلهم النار.
وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموالي قال: سمعت محمد بن كعب في هذه الآية (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله) [ الروم: 39 ] قال: هو الرجل يعطي الآخر من ماله ليكافئه به أو يزداد، فهذا الذي لا يربو عند الله، والمضعفون هم الذين يعطون لوجه الله لا يبتغي مكافأة أحد.
وفي قوله تعالى: (أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) [ الاسراء: 80 ] قال: اجعل سريرتي وعلانيتي حسنة.
وقيل: أدخلني مدخل صدق في العمل الصالح، أي الاخلاص، وأخرجني مخرج صدق أي سالما.
(أو ألقى السمع وهو شهيد) [ ق: 37 ] أي يسمع القرآن وقلبه معه في مكان آخر.
(فاسعوا إلى ذكر الله) [ الجمعة: 9 ] قال: السعي العمل ليس بالشد.
وقال: الكبائر ثلاثة، أن تأمن مكر الله، وأن تقنط من رحمة الله، وأن تيأس من روح الله.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا موسى بن عبيدة بن محمد بن كعب قال: إذا أراد الله بعبد خيرا جعل فيه ثلاث خصال، فقها في الدين، وزهادة في الدنيا، وبصرا بعيوب نفسه.
وقال: الدنيا
دار قلق، رغب عنها السعداء، وانتزعت من أيدي الاشقياء، فأشقى الناس بها أرغب الناس فيها، وأزهد الناس فيها أسعد الناس بها، هي الغاوية لمن أضاعها، المهلكة لمن اتبعها، الخائنة لمن انقاد لها، علمها جهل، وغناؤها فقر، وزيادتها نقصان، وأيامها دول.
وروى ابن المبارك عن داود بن قيس قال: سمعت محمد بن كعب يقول: إن الارض لتبكي من رجل، وتبكي على
رجل، تبكي على من كان يعمل على ظهرها بطاعة الله، وتبكي ممن كان يعمل على ظهرها بمعصية الله، قد أثقلها.
ثم قرأ (فما بكت عليهم السماء والارض) [ الدخان: 29 ] وقال في قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) [ الزلزلة: 7 - 8 ] من يعمل مثقال ذرة خيرا من كافر يرى ثوابها في نفسه وأهله وماله حتى يخرج من الدنيا وليس له خير.
ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، من مؤمن يرى عقوبتها في نفسه وأهله وماله حتى يخرج من الدنيا وليس له شر.
وقال: ما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع علي في بعض (1) ما يكره فمقتني، وقال: اذهب لا أغفر لك، مع أن عجائب القرآن ترد بي على أمور حتى أنه لينقضي الليل ولم أفرغ من حاجتي.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى محمد بن كعب يسأله أن يبيعه غلامه سالما - وكان عابدا خيرا زاهدا - فكتب إليه: إني قد دبرته، قال: فازدد فيه، فأتاه سالم فقال له عمر: إني قد ابتليت بما ترى، وأنا والله أتخوف أن لا أنجو، فقال له سالم: إن كنت كما تقول فهذا نجاته، وإلا فهو الامر الذي يخاف.
قال: يا سالم عظني، قال: آدم عليه السلام أخطأ خطيئة واحدة خرج بها من الجنة، وأنتم مع عمل الخطايا ترجون دخول الجنة، ثم سكت.
قلت: والامر كما قيل في بعض كتب الله: تزرعون السيئات وترجون الحسنات، لا يجتنى من الشوك العنب.
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجى * درج الجنان وطيب عيش العابد ونسيت أن الله أخرج آدما * منها إلى الدنيا بذنب واحد وقال: من قرأ القرآن متع بعقله وإن بلغ من العمر مائتي سنة.
وقال له رجل: ما تقول في التوبة ؟ قال: لا أحسنها، قال: أفرأيت إن أعطيت الله عهدا أن لا تعصيه أبدا ؟ قال: فمن أعظم
جرما منك، تتألى على الله أن لا ينفذ فيك أمره.
وقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني: حدثنا ابن عبد العزيز، حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام حدثنا عباد بن عباد، عن هشام بن زياد أبي المقدام.
قالوا كلهم: حدثنا محمد بن كعب القرظي قال: حدثنا ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده، ألا أنبئكم بشراركم ؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: من نزل وحده، ومنع رفده، وجلد عبده، أفأنبئكم بشر من هذا ؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: من لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة، ولا يغفر ذنبا، ثم قال: ألا أنبئكم بشر من هذا ؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: من لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره، إن عيسى بن مريم قام في بني إسرائيل خطيبا فقال: يا بني إسرائيل لا تكلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموها - وقال مرة فتظلموهم - ولا تظلموا ظالما، ولا تطاولوا ظالما فيبطل فضلكم عند ربكم، يا بني إسرائيل
__________
(1) في صفة الصفوة 2 / 133: بعض ذنوبي فمقتني.
الامور ثلاثة، أمر تبين رشده فاتبعوه، وأمر تبين غيه فاجتنبوه، وأمر اختلف فيه فردوه إلى الله ".
وهذه الالفاظ لا تحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا السياق إلا من حديث محمد بن كعب عن ابن عباس، وقد روي أول الحديث إلى ذكر عيسى من طريقه، وسيأتي أن هذا الحديث تفرد به الطبراني بطوله والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفيها توفي أبو نضرة المنذر بن مالك بن قطعة العبدي، وقد ذكرنا تراجمهم في كتابنا التكميل.
ثم دخلت سنة تسع ومائة ففيها عزل هشام بن عبد الملك أسد بن عبد الله القسري عن إمرة خراسان (1) وأمره أن يقدم إلى الحج (2) فأقبل منها في رمضان، واستخلف على خراسان الحكم بن عوانة الكلبي، واستناب هشام على خراسان أشرس بن عبد الله السلمي، وأمره أن يكاتب خالد بن عبد الله القسري، وكان أشرس فاضلا خيرا، وكان سمي الكامل لذلك، وكان أول من اتخذ المرابطة بخراسان، واستعمل
المرابطة عبد الملك بن زياد (3) الباهلي، وتولى هو الامور بنفسه كبيرها وصغيرها، ففرح بها أهلها.
وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام أمير الحرمين.
سنة عشر ومائة من الهجرة النبوية فيها قاتل مسلمة بن عبد الملك ملك الترك الاعظم خاقان، فزحف إلى مسلمة في جموع عظيمة فتواقفوا نحوا من شهر، ثم هزم الله خاقان زمن الشتاء، ورجع مسلمة سالما غانما، فسلك على مسلك ذي القرنين في رجوعه إلى الشام، وتسمى هذه الغزاة غزاة الطين، وذلك أنهم سلكوا على مغارق ومواضع غرق فيها دواب كثيرة، وتوحل فيها خلق كثير، فما نجوا حتى قاسوا شدائد وأهوالا صعابا وشدائد عظاما، وفيها دعا أشرس بن عبد الله السلمي نائب خراسان أهل الذمة بسمرقند ومن وراء النهر إلى الدخول في الاسلام، ويضع عنهم الجزية فأجابوه إلى ذلك، وأسلم غالبهم، ثم طالبهم بالجزية فنصبوا له الحرب وقاتلوه، ثم كانت بينه وبين الترك حروب كثيرة، أطال ابن جرير بسطها وشرحها فوق الحاجة (4).
وفيها أرسل أمير المؤمنين هشام بن عبيدة إلى إفريقية متوليا عليها، فلما وصل جهز ابنه وأخاه في جيش فالتقوا مع المشركين فقتلوا منهم خلقا كثيرا وأسروا بطريقهم وانهزم باقيهم، وغنم المسلمون منهم شيئا كثيرا.
وفيها افتتح معاوية بن هشام حصنين من بلاد الروم،
__________
(1) في سبب عزله أن أسدا بالغ في العصبية فأفسد الناس بها، وضرب نصر بن سيار ونفرا معه بالسياط وحلقهم وسيرهم إلى أخيه خالد.
وخطب الناس في بلخ يوما فقال: قبح الله هذه الوجوه وجوه أهل الشقاق والنفاق والشغب والفساد.
(الطبري 8 / 193 - ابن الاثير 5 / 142 - 143).
(2) في الطبري: استأذن خالد لاخيه فأذن له.
(3) في الطبري 8 / 195: دثار (انظر بن الاثير 5 / 150).
(4) انظر الطبري 8 / 196 وما بعدها وابن الاثري 5 / 151.
وغنم غنائم جمة.
وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام، وعلى العراق خالد القسري، وعلى خراسان أشرس السلمي.
ذكر من توفي فيها من الاعيان: جرير الشاعر وهو جرير بن الخطفي (1) ويقال ابن عطية بن الخطفي واسم الخطفي حذيفة بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر (2) بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار، أبو حزرة الشاعر البصري، قدم دمشق مرارا، وامتدح يزيد بن معاوية والخلفاء من بعده ووفد على عمر بن عبد العزيز، وكان في عصره من الشعراء الذين يقارنونه الفرزدق الاخطل، وكان جرير أشعرهم وأخيرهم، قال غير واحد: هو أشعر الثلاثة، قال ابن دريد ثنا الاشنانداني ثنا الثوري عن أبي عبيدة عن عثمان البني قال: رأيت جريرا وما تضم شفتاه من التسبيح، فقلت: وما ينفعك هذا ؟ فقال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد إن الحسنات يذهبن السيئات، وعد من الله حق.
وقال هشام بن محمد الكلبي عن أبيه قال: دخل رجل من بني عذرة على عبد الملك بن مروان يمتدحه بقصيدة وعنده الشعراء الثلاثة، جرير والفرزدق والاخطل، فلم يعرفهم الاعرابي، فقال عبد الملك للاعرابي: هل تعرف اهجى بيت قالته العرب في الاسلام ؟ قال: نعم ! قول جرير: فغض الطرف إنك من نمير * فلا كعبا بلغت ولا كلابا (3) فقال: أحسنت، فهل تعرف أمدح بيت قيل في الاسلام ؟ قال نعم ! قول جرير: ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح فقال: أصبت واحسنت، فهل تعرف أرق بيت قيل في الاسلام ؟ قال: نعم ! قول جرير: إن العيون التي في طرفها مرض * قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
__________
(1) في ابن خلكان 1 / 321 والاغاني 8 / 3: الخطفي لقب، قال أبو الفرج لقب به لقوله: يرفعن لليل إذا ما اسدفا * اعناق جنان وهاما رجفا وعنقا بعد الكلال خيطفا (2) في عامود النسب في الاغاني: مر بن أد بن طابخة.
(3) قاله في ابن جندل شيخ مضر وشاعرها.
وهو عبيد بن حصين بن معاوية بن جندل، يلقب براعي الابل وكان يفضل الفرزدق على جرير مما أغضب جرير عليه وقال فيه ما قال.
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به * وهن أضعف خلق الله أركانا فقال: أحسنت، فهل تعرف جريرا ؟ قال: لا والله، وإني إلى رؤيته لمشتاق، قال: فهذا جرير وهذا الفرزدق وهذا الاخطل، فأنشأ الاعرابي يقول.
- فحيا إلاله أبا حرزة * وأرغم أنفك يا أخطل وجد الفرزدق أتعس به * ورق خياشيمه الجندل فأنشأ الفرزدق يقول: يا أرغم الله أنفا أنت حامله * يا ذا الخنا ومقال الزور والخطل ما أنت بالحكم الترضى حكومته * ولا الاصيل ولا ذي الرأي والجدل ثم أنشأ الاخطل يقول: - يا شر من حملت ساق على قدم * ما مثل قولك في الاقوام يحتمل إن الحكومة ليست في أبيك ولا * في معشر أنت منهم انهم سفل فقام جرير مغضبا وقال: - أتشتمان سفاها خيركم حسبا (1) * ففيكما - وإلهي - الزور والخطل شتمتاه على رفعي ووضعكما * لا زلتما في سفال أيها السفل ثم وثب جرير فقبل رأس الاعرابي وقال: يا أمير المؤمنين جائزتي له، وكانت خمسة آلاف (2)، فقال عبد الملك: وله مثلها من مالي، فقبض الاعرابي ذلك كله وخرج.
وحكى يعقوب بن السكيت أن جريرا دخل على عبد الملك مع وفد أهل العراق من جهة الحجاج فأنشده مديحه الذي يقول فيه: ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح
فأطلق له مائة ناقة وثمانية من الرعاء أربعة من النوبة وأربعة من السبي الذين قدم بهم من الصغد قال جرير: وبين يدي عبد الملك جامان من فضة قد أهديت له، وهو لا يعبأ بها شيئا، فهو يقرعها بقضيب في يده، فقلت: يا أمير المؤمنين المحلب، فألقى إلي واحدا من تلك الجامات، ولما رجع إلى الحجاج أعجبه إكرام أمير المؤمنين له فأطلق الحجاج له خمسين ناقة تحمل طعاما لاهله.
__________
(1) كان الاعرابي من بني عذرة، وهم أخوال عبد الملك.
(2) في الاغاني 8 / 42: أربعة آلاف درهم وتوابعها من الحملان والكسوة.
وحكى نفطويه أن جريرا دخل يوما على بشر بن مروان وعنده الاخطل، فقال بشر لجرير: أتعرف هذا ؟ قال: لا، ومن هذا أيها الامير ؟ فقال: هذا الاخطل، فقال الاخطل، أنا الذي قذفت عرضك، وأسهرت ليلك، وآذيت قومك، فقال جرير: أما قولك شتمت عرضك فما ضر البحر أن يشتمه من غرق فيه، وأما قولك وأسهرت ليلك، فلو تركتني أنام لكان خيرا لك، وأما قولك وآذيت قومك فكيف تؤذي قوما أنت تؤدي الجزية إليهم ؟ وكان الاخطل من نصارى العرب المتنصرة، قبحه الله وأبعد مثواه، وهو الذي أنشد بشر بن مروان قصيدته التي يقول فيها: قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق وهذا البيت تستدل به الجهمية على أن الاستواء على العرش بمعني الاستيلاء، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، وليس في بيت هذا النصراني حجة ولا دليل على ذلك، ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاءه عليه، تعالى الله عن قول الجهمية علوا كبيرا.
فإنه إنما يقال استوى على الشئ إذ كان ذلك الشئ عاصيا عليه قبل استيلائه عليه، كاستيلاء بشر على العراق، واستيلاء الملك على المدينة بعد عصيانها عليه، وعرش الرب لم يكن ممتنعا عليه نفسا واحدا، حتى يقال استوى عليه، أو معنى الاستواء الاستيلاء، ولا تجد أضعف من حجج الجهمية، حتى أداهم الافلاس من الحجج إلى بيت هذا النصراني المقبوح وليس فيه حجة والله أعلم.
وقال الهيثم بن عدي عن عوانة بن الحكم قال: لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد إليه
الشعراء فمكثوا ببابه أياما لا يؤذن لهم ولا يلتفت إليهم، فساءهم ذلك وهموا بالرجوع إلى بلادهم، فمر بهم رجاء بن حيوة فقال له جرير: - يا أيها الرجل المرخي عمامته * هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا فدخل ولم يذكر لعمر بن أمرهم شيئا، فمر بهم عدي بن أرطأة فقال له جرير منشدا: يا أيها الراكب المرخي مطيته * هذا زمانك إني قد مضى زمني أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه * أني لدى الباب كالمصفود في قرن لا تنس حاجتنا لا قيت مغفرة * قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني فدخل عدي على عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة، فقال: ويحك يا عدي، مالي وللشعراء، فقال: يا أمير المؤمنين إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد كان يسمع الشعر ويجزي عليه، وقد أنشده العباس بن مرداس مدحه فأعطاه حلة، فقال له عمر: أتروي منها شيئا ؟ قال: نعم فأنشده: - رأيتك يا خير البرية كلها * نشرت كتابا جاء بالحق معلما
شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا * عن الحق لما أصبح الحق مظلما ونورت بالبرهان أمرا مدلسا * وأطفأت بالقرآن نارا تضرما فمن مبلغ عني النبي محمدا * وكل امرئ يجزي بما كان قدما أقمت سبيل الحق بعد أعوجاجه * وكان قديما ركنه قد تهدما تعالى علوا فوق عرش إلهنا * وكان مكان الله أعلا وأعظما فقال عمر: من بالباب منهم ؟ فقال: عمر بن أبي ربيعة، فقال أليس هو الذي يقول: ثم نبهتها فهبت كعابا * طفلة ما تبين رجع الكلام ساعة ثم إنها بعد قالت * ويلنا قد عجلت يا بن الكرام أعلى غير موعد جئت تسري * تتخطى إلى رؤوس النيام
ما تجشمت ما تريد من الامر * ولا حيت طارقا لخصام فلو كان عدو الله إذ فجر كتم وستر على نفسه، لا يدخل والله أبدا، فمن بالباب سواه ؟ قال: همام بن غالب - يعني الفرزدق - فقال عمر: أو ليس هو الذي يقول في شعره: هما دلياني من ثمانين قامة * كما انقض باز أقتم الريش كاسره فلما استوت رجلاي بالارض قالتا * أحي يرجي أم قتيل نحاذره لا يطأ والله بساطي وهو كاذب، فمن سواه بالباب ؟ قال: الاخطل، قال: أو ليس هو الذي يقول: ولست بصائم رمضان طوعا * ولست بآكل لحم الاضاحي ولست بزاجر عيسا بكور * إلى بطحاء مكة للنجاح ولست بزائر بيتا بعيدا * بمكة أبتغي فيه صلاحي ولست بقائم كالعير أدعو * قبيل الصبح حي على الفلاح ولكني سأشربها شمولا * وأسجد عند منبلج الصباح والله لا يدخل علي وهو كافر أبدا، فهل بالباب سوى من ذكرت ؟ قال: نعم الاحوص، قال: أليس هو الذي يقول: الله بيني وبين سيدها * يفر مني بها وأتبعه فما هو دون من ذكرت، فمن ههنا غيره ؟ قال جميل بن معمر، قال: الذي يقول: - ألا ليتنا نحيا جميعا وإن نمت * يوافق في الموتى خريجي خريجها فما أنا في طول الحياة براغب * إذا قيل قد سوى عليها صفيحها
فلو كان عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا ليعمل بذلك صالحا ويتوب، والله لا يدخل علي أبدا، فهل بالباب أحد سوى ذلك ؟ قلت: جرير، قال أما إنه الذي يقول: طرقتك صائدة القلوب وليس ذا * حين الزيارة فارجعي بسلام
فإن كان لا بد فأذن لجرير، فأذن له فدخل على عمر وهو يقول: إن الذي بعث النبي محمدا * جعل الخلافة للامام العادل وسع الخلائق عدله ووفاؤه * حتى ارعوى وأقام ميل المائل إني لارجو منك خيرا عاجلا * والنفس مولعة بحب العاجل فقال له: ويحك يا جرير، اتق الله فيما تقول، ثم إن جريرا استأذن عمر في الانشاد فلم يأذن له ولم ينهه، فأنشده قصيدة طويلة يمحده بها، فقال له: ويحك يا جرير لا أرى لك فيما ههنا حقا، فقال: إني مسكين وابن سبيل، قال: إنا ولينا هذا الامر ونحن لا نملك إلا ثلاثمائة درهم، أخذت أم عبد الله مائة وابنها مائة وقد بقيت مائة، فأمر له بها، فخرج على الشعراء فقالوا: ما وراءك يا جرير ؟ فقال: ما يسؤوكم، خرجت من عند أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء ويمنع الشعراء وإني عنه لراض، ثم أنشأ يقول: رأيت رقى الشيطان لا تستفزه * وقد كان شيطاني من الجن راقيا وقال بعضهم فيما حكاه المعافى بن زكريا الجريري قالت جارية للحجاج بن يوسف: إنك تدخل هذا علينا، فقال: إنه ما علمت عفيفا، فقالت: أما إنك لو أخليتني وإياه سترى ما يصنع، فأمر باخلائها مع جرير في مكان يراهما الحجاج ولا يريانه، ولا يشعر جرير بشئ من ذلك، فقالت له: يا جرير، فأطرق رأسه، وقال، هأنذا، فقالت: أنشدني من قولك كذا وكذا - لشعر فيه رقة - فقال: لست أحفظه ولكن أحفظ كذا وكذا - ويعرض عن ذاك وينشدها شعرا في مدح الحجاج - فقالت: لست أريد هذا، إنما أريد كذا وكذا - فيعرض عن ذاك وينشدها في الحجاج - حتى انقضى المجلس فقال الحجاج: لله درك، أبيت إلا كرما وتكرما.
وقال عكرمة أنشدت أعرابيا بيتا لجرير الخطفي: أبدل الليل لا تجري كواكبه * أو طال حتى حسبت النجم حيرانا فقال الاعرابي: إن هذا حسن في معناه وأعوذ بالله من مثله، ولكني أنشدك في ضده من قولي:
وليل لم يقصره رقاد * وقصره لنا وصل الحبيب نعيم الحب أورق فيه * حتى تناولنا جناه من قريب
بمجلس لذة لم نقف فيه * على شكوى ولا عيب الذنوب فخشينا أن نقطعه بلفظ * فترجمت العيون عن القلوب قلت له: زدني، قال، أما من هذا فحسبك ولكن أنشدك غيره فأنشدني: وكنت إذا عقدت حبال قوم * صحبتهم وشيمتي الوفاء فأحسن حين يحسن محسنوهم * وأجتنب الاساءة إن أساؤوا أشاء سوى مشيئتهم فآتي * مشيئتهم وأترك ما أشاء قال ابن خلكان: كان جرير أشعر من الفرزدق عند الجمهور، وأفخر بيت قاله جرير: إذا غضبت عليك بنو تميم * حسبت الناس كلهم غضابا قال وقد سأله رجل: من أشعر الناس ؟ فأخذ بيده وأدخله على ابنه، وإذا هو يرتضع من ثدي عنز، فاستدعاه فنهض واللبن يسيل على لحيته، فقال جرير للذي سأله: أتبصر هذا ؟ قال: نعم، قال: أتعرفه ؟ قال: لا، قال: هذا أبي، وإنما يشرب من ضرع العنز لئلا يحلبها فيسمع جيرانه حس الحلب فيطلبوا منه لبنا، فأشعر الناس من فاخر بهذا ثمانين شاعرا فغلبهم، وقد كان بين جرير والفرزدق مقاولات ومهاجاة كثيرة جدا يطول ذكرها، وقد مات في سنة عشر ومائة، قاله خليفة بن خياط وغير واحد، قال خليفة: مات الفرزدق وجرير بعده بأشهر، وقال الصولي: ماتا في سنة إحدى عشرة ومائة، ومات الفرزدق قبل جرير بأربعين يوما، وقال الكريمي عن الاصمعي عن أبيه قال: رأى رجل جريرا في المنام بعد موته فقال له: ما فعل الله بك ؟ فقال: غفر لي، فقيل: بماذا ؟ قال بتكبيرة كبرتها بالبادية، قيل له: فما فعل الفرزدق ؟ قال أيهات أهلكه قذف المحصنات.
قال الاصمعي لم يدعه في الحياة ولا في الممات.
وأما الفرزدق
واسمه همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم (1) بن حنظلة بن زيد بن مناة بن مر بن أد بن طابخة أبو فراس بن أبي خطل التميمي البصري الشاعر المعروف بالفرزدق، وجده صعصعة بن ناجية صحابي، وفد إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكان يحيي الموؤودة في الجاهلية، حدث الفرزدق عن علي أنه ورد مع أبيه عليه، فقال من هذا ؟ قال ابني وهو شاعر، قال علمه القراءة فهو خير له من الشعر.
وسمع الفرزدق الحسين بن علي ورآه وهو ذاهب إلى العراق وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري وعرفجة بن أسعد، وزرارة بن كرب، والطرماح بن عدي الشاعر، وروى عنه خالد الحذاء ومروان الاصغر وحجاج بن حجاج الاحول، وجماعة، وقد وفد على معاوية يطلب ميراث عمه الحباب، وعلى الوليد بن عبد الملك وعلى أخيه، ولم يصح ذلك،
__________
(1) في الاغاني 21 / 276: ابن دارم بن مالك بن حنظلة.
وانظر ابن خلكان 6 / 86.
وقال أشعث بن عبد الله عن الفرزدق قال نظر أبو هريرة إلى قدمي فقال: يا فرزدق إني أرى قدميك صغيرين فاطلب لهما موضعا في الجنة، فقلت: إن ذنوبي كثيرة، فقال: لا بأس فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: " إن بالمغرب بابا مفتوحا للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها ".
وقال معاوية بن عبد الكريم عن أبيه قال: دخلت على الفرزدق فتحرك فإذا في رجله قيد، فقلت: ما هذا ؟ فقال: حلفت أن لا أنزعه حتى أحفظ القرآن.
وقال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت بدويا أقام بالحضر إلا فسد لسانه إلا رؤبة بن العجاج والفرزدق فإنهما زادا على طول الاقامة جدة وحدة، وقال راويته أبوشفقل طلق الفرزدق امرأته النوار ثلاثا ثم جاء فأشهد على ذلك الحسن البصري، ثم ندم على طلاقها وإشهاده الحسن على ذلك فأنشأ يقول: - فلو أني ملكت يدي وقلبي (1) * لكان علي للقدر الخيار ندمت ندامة الكسعي لما * غدت مني مطلقة نوار (2) وكانت جنتي فخرجت منها * كآدم حين أخرجه الضرار (3) وقال الاصمعي وغير واحد: لما ماتت النوار بنت أعين بن ضبيعة المجاشعي امرأة الفرزدق -
- وكانت قد أوصت أن يصلي عليها الحسن البصري - فشهدها أعيان أهل البصرة مع الحسن والحسن على بغلته، والفرزدق على بعيره، فسار فقال الحسن للفرزدق: ماذا يقول الناس ؟ قال: يقولون شهد هذه الجنازة اليوم خير الناس - يعنونك - وشر الناس - يعنوني - فقال له: يا أبا فراس لست أنا بخير الناس ولست أنت بشر الناس، ثم قال له الحسن: ما أعددت لهذا اليوم ؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة، فلما أن صلى عليها الحسن مالوا إلى قبرها فأنشأ الفرزدق يقول (4): أخاف وراء القبر إن لم يعافني * أشد من القبر التهابا وأضيقا إذا جاءني (5) يوم القيامة قائد * عنيف وسواق يسوق الفرزدقا لقد خاب من أولاد دارم (6) من مشى * إلى النار مغلول القلادة أزرقا (7) يساق إلى نار الجحيم مسربلا * سرابيل قطران لباسا مخرقا
__________
(1) في المبرد 1 / 72: نفسي.
(2) الكسعي: رجل يضرب المثل به في الندامة على كسره قوسه، وكان جربها في عدة ظباء، فظن انها لم تصبهن، ثم اتضح أنها أقصدتهن جميعا.
(3) بعده في الاغاني 21 / 290 والكامل للمبرد 1 / 72: وكنت كفاقئ عينيه عمدا * فأصبح ما يضئ له النهار (4) في الكامل للمبرد 1 / 71: وقال الفرزدق في أيام نسكه.
(5) في الكامل للمبرد: قادني.
(6) في الاغاني 21 / 391 والكامل للمبرد: آدم.
(7) في الكامل: موثقا.
ويراد بالقلادة الطوق.
والغل هنا: اطباق القلادة.
وأزرقا: يراد به ما ورد في التنزيل =
إذا شربوا فيها الصديد رأيتهم * يذوبون من حر الصديد (1) تمزقا قال: فبكى الحسن حتى بل الثرى ثم التزم الفرزدق، وقال: لقد كنت من أبغض الناس إلي، وإنك اليوم من أحب الناس إلي.
وقال له بعض الناس: ألا تخاف من الله في قذف
المحصنات، فقال: والله لله أحب إلي من عيني اللتين أبصر بهما، فكيف يعذبني ؟ وقد قدمنا أنه مات سنة عشر ومائة قبل جرير بأربعين يوما (8)، وقيل بأشهر فالله أعلم.
وأما الحسن وابن سيرين فقد ذكرنا ترجمة كل منهما في كتابنا التكميل مبسوطة وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فأما الحسن بن أبي الحسن فاسم أبيه يسار وأبرد هو أبو سعيد البصري مولى زيد بن ثابت، ويقال مولى جابر بن عبد الله وقيل غير ذلك، وأمه خيرة مولاة لام سلمة كانت تخدمها، وربما أرسلتها في الحاجة فتشتغل عن ولدها الحسن وهو رضيع، فتشاغله أم سلمة بثدييها فيدران عليه فيرتضع منهما، فكانوا يرون أن تلك الحكمة والعلوم التي أوتيها الحسن من بركة تلك الرضاعة من الثدي المنسوب إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم كان وهو صغير تخرجه أمه إلى الصحابة فيدعون له، وكان في جملة من يدعو له عمر بن الخطاب، قال: اللهم فقهه في الدين، وحببه إلى الناس.
وسئل مرة أنس بن مالك عن مسألة فقال: سلوا عنها مولانا الحسن، فإنه سمع وسمعنا، فحفظ ونسينا، وقال أنس مرة: إني لاغبط أهل البصرة بهذين الشيخين - الحسن وابن سيرين - وقال قتادة: ما جالست رجلا فقيها إلا رأيت فضل الحسن عليه، وقال أيضا: ما رأت عيناي أفقه من الحسن، وقال أيوب: كان الرجل يجالس الحسن ثلاث حجج ما يسأله عن مسألة هيبة له، وقال الشعبي لرجل يريد قدوم البصرة: إذا نظرت إلى رجل أجمل أهل البصرة وأهيبهم فهو الحسن، فأقرأه مني السلام.
وقال يونس بن عبيد: كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم ير عمله ولم يسمع كلامه، وقال الاعمش: ما زال الحسن
__________
= العزيز من أن المجرمين يحشرون إلى جهنم زرقا.
(1) في الكامل: الحميم بدل الصديد في الموضعين.
(2) قال البلاذري: أسن الفرزدق حتى قارب المئة ومات بالدبيلة (مرض يصيب الجوف).
وعن ابن عائشة ان الفرزدق مات قبل جرير بستة أشهر.
وقال جرير لما بلغه موته: قلما تصاول فحلان فمات أحدهما إلا أسرع لحاق الآخر به.
وقال:
فمات الفرذدق بعد ما جرعته * ليت الفرزدق كان عاش قليلا فقيل له أتهجوه وقد مات، فقال يرثيه: فلا وضعت بعد الفرزدق حامل * ولا ذات بعل من نفاس تعلت هو الوافد الميمون والراتق الثأى * إذا النعل يوما بالعشيرة زلت
يعي الحكمة حتى نطق بها، وكان أبو جعفر إذا ذكره يقول: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الانبياء.
وقال محمد بن سعد: قالوا كان الحسن جامعا للعلم والعمل، عالما رفيعا فقيها مأمونا عابدا زاهدا ناسكا كثير العلم والعمل فصيحا جميلا وسيما، وقدم مكة فأجلس على سرير، وجلس العلماء حوله، واجتمع الناس إليه فحدثهم.
قال أهل التاريخ: مات الحسن عن ثمان وثمانين سنة، عام عشر ومائة في رجب منها، بينه وبين محمد بن سيرين مائة يوم.
وأما ابن سيرين فهو محمد بن سيرين أبو بكر بن أبي عمرو الانصاري مولى أنس بن مالك النضري، كان أبو محمد من سبي عين التمر (1)، أسره خالد بن الوليد في جملة السبي، فاشتراه أنس ثم كاتبه، ثم ولد له من الاولاد الاخيار جماعة، محمد هذا، وأنس بن سيرين، ومعبد ويحيى وحفصة وكريمة، وكلهم تابعيون ثقات أجلاء رحمهم الله.
قال البخاري: ولد محمد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، وقال هشام بن حسان: هو أصدق من أدركت من البشر، وقال محمد بن سعد: كان ثقة مأمونا عالما رفيعا فقيها إماما كثير العلم ورعا.
وكان به صمم، وقال مؤرق العجلي: ما رأيت رجلا أفقه في ورعه، وأورع في فقهه منه، قال ابن عون: كان محمد بن سيرين أرجى الناس لهذه الامة، وأشد الناس إزارا على نفسه، وأشدهم خوفا عليها.
قال ابن عون: ما بكى في الدنيا مثل ثلاثة، محمد بن سيرين في العراق، والقاسم بن محمد في الحجاز، ورجاء بن حيوة بالشام.
وكانوا يأتون بالحديث على حروفه، وكان الشعبي يقول: عليكم بذاك الاصم - يعني محمد بن سيرين - وقال ابن شوذب: ما رأيت أحدا أجرأ على تعبير الرؤيا منه.
وقال عثمان البتي: لم يكن بالبصرة أعلم بالقضاء منه.
قالوا: ومات في تاسع شوال من هذه السنة بعد الحسن بمائة يوم.
فصل كان اللائق، بالمؤلف أن يذكر تراجم هؤلاء العلماء الاخيار قبل تراجم الشعراء المتقدم ذكرهم فيبدأ بهم ثم يأتي بتراجم الشعراء، وأيضا فإنه أطال القول في تراجم الشعراء واختصر تراجم العلماء، ولو كان فيها حسن وحكم جمة ينتفع بها من وقف عليها، ولعلها أفيد من مدحهم والثناء عليهم، ولا سيما كلام الحسن وابن سيرين ووهب بن منبه - كما ذكره بعد وكما سيأتي ذكر ترجمته في هذه الزيادة - فإنه قد اختصرها جدا وإن المؤلف أقدر وأوسع علما، فما ينبغي أن يخل ببعض كلامهم وحكمهم، فإن النفوس مستشرفة إلى معرفة ذلك والنظر فيه، فإن أقوال السلف لها موقع من
__________
(1) في صفة الصفوة 3 / 241 وتذكره الحفاظ 1 / 77: من أهل جرجرايا.
(وهي بلد من أعمال النهروان بين واسط وبغداد من الجانب الشرقي وقد خرج منها جماعة من العلماء والشعراء).
وقد جاء يعمل في عين التمر فسباه خالد بن الوليد.
القلوب، والمؤلف غالبا في التراجم يحيل على ما ذكره في التكميل الذي صنفه في أسماء الرجال، وهذا الكتاب لم نقف عليه نحن ولا من سألناه عنه من العلماء، فإنا قد سألنا عنه جماعة من أهل الفن فلم يذكر غير واحد أنه اطلع عليه.
فكيف حل غيرهم ؟ وقد ذكرت في غالب التراجم زيادات على ما ذكره المؤلف مما وصلت إليه معرفتي واطلعنا عليه، ولو كان عندي كتب لاشبعت القول في ذلك، إذ الحكمة هي ضالة المؤمن.
ولعل أن يقف على هذا راغب في الآخرة، طالب ما عند الله عزوجل فينتفع به أعظم مما ينتفع به من تراجم الخلف والملوك والامراء، وإن كانت تلك أيضا نافعة لمعتير ومزدجر، فإن ذكر أئمة العدل والجور بعد موتهم فيها فضل أولئك، وغم هؤلاء، ليعلم الظالم أنه وإن مات لم يمت ما كان متلبسا به من الفساد والظلم، بل هو مدون في الكتب عند العلماء.
وكذلك أهل العدل والصلاح والخير، فإن الله قد قص في القرآن أخبار الملوك والفراعنة والكفار والمفسدين، تحذيرا من أحوالهم وما كانوا يعملون، وقص أيضا أخبار الاتقياء والمحسنين والابرار والاخيار
والمؤمنين، للاقتداء والتأسي بهم والله سبحانه أعلم.
فنقول وبالله التوفيق: أما الحسن فهو أبو سعيد البصري الامام الفقيه المشهور، أحد التابعين الكبار الاجلاء علما وعملا وإخلاصا فروى ابن أبي الدنيا عنه قال: كان الرجل يتعبد عشرين سنة لا يشعر به جاره، وأحدهم يصلي ليلة أو بعض ليلة فيصبح وقد استطال على جاره، وإن كان القوم ليجتمعون فيتذاكرون فتجئ الرجل عبرته فيردها ما استطاع، فإن غلب قام عنهم.
وقال الحسن: تنفس رجل عند عمر بن عبد العزيز فلكزه عمر - أو قال: لكمه - وقال: إن في هذا لفتنة.
وقد ذكره ابن أبي الدنيا عن الحسن عن عمر بن الخطاب.
وروى الطبراني عنه أنه قال: إن قوما ألهتهم أماني المغفرة ورجاء الرحمة حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم أعمال صالحة، يقول أحدهم: إني لحسن الظن بالله، وأرجو رحمة الله، وكذب، لو أحسن الظن بالله لاحسن العمل لله، ولو رجا رحمة الله لطلبها بالاعمال الصالحة يوشك من دخل المفازة من غير زاد ولا ماء أن يهلك.
وروى ابن أبي الدنيا عنه قال: حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور، واقذعوا هذه الانفس فإنها تنزع إلى شر غاية.
وقال مالك بن دينار: قلت للحسن: ما عقوبة العالم إذا أحب الدنيا ؟ قال: موت القلب، فإذا أحب الدنيا طلبها بعمل الآخرة، فعند ذلك ترحل عنه بركات العلم ويبقى عليه رسمه.
وروى الفتني عن أبيه قال: عاد الحسن عليلا فوجده قد شفي من علته، فقال: أيها الرجل إن الله قد ذكرك فاذكره، وقد أقالك فاشكره، ثم قال الحسن: إنما المرض ضربة سوط من ملك كريم، فأما أن يكون العليل بعد المرض فرسا جوادا، وإما أن يكون عثورا معقورا.
وروى العتبي عن أبيه أيضا قال: كتب الحسن إلى فرقد: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله، والعمل بما علمك الله، والاستعداد لما وعد الله، مما لا
حيلة لاحد في دفعه، ولا ينفع الندم عند نزوله، فاحسر عن رأسك قناع الغافلين، وانتبه من رقدة الجاهلين، وشمر الساق، فإن الدنيا ميدان مسابقة، والغاية الجنة أو النار، فإن لي ولك من الله
مقاما يسألني وإياك فيه عن الحقير والدقيق، والجليل والخافي، ولا آمن أن يكون فيما يسألني وإياك عنه وساوس الصدور، ولحظ العيون، وإصغاء الاسماع.
وما أعجز عنه.
وروى ابن قتيبة عنه أنه مر على باب ابن هبيرة فرأى القراء - وكانوا هم الفقهاء - جلوسا على باب ابن هبيرة فقال: طفحتم نعالكم، وبيضتم ثيابكم.
ثم أتيتم إلى أبوابهم تسعون ؟ ثم قال لاصحابه: ما ظنكم بهؤلاء الحذاء ؟ ليست مجالسهم من مجالس الاتقياء، وإنما مجالسهم مجالس الشرط.
وروى الخرائطي عن الحسن أنه كان إذا اشترى شيئا وكان في ثمنه كسر جبره لصاحبه.
ومر الحسن بقوم يقولون: نقص دانق أي عن الدرهم الكامل والدينار الكامل - إما أن يكون درهما ينقص نصفا أو ربعا، والعشرة تسعة ونصف، وقس على هذا، فكان الحسن يستحب جبران هذه الاشياء، وإن كان اشترى السلعة بدرهم ينقص دانقا كمله درهما، أو بتسعة ونصف كملها عشرة، مروءة وكرما.
وقال عبد الاعلى السمسار، قال الحسن: يا عبد الاعلى ! أما يبيع أحدكم الثوب لاخيه فينقص درهمين أو ثلاثة ؟ قلت لا والله ولا دانق واحد، فقال الحسن: إن هذه الاخلاق فما بقي من المرؤة إذا ؟.
قال: وكان الحسن يقول: لا دين إلا بمروءة.
وباع بغلة له فقال له المشتري.
أما تحط لي شيئا يا أبا سعيد ؟ قال لك خمسون درهما، أزيدك ؟ قال: لا ! رضيت، قال: بارك الله لك.
وروى ابن أبي الدنيا عن حمزة الاعمى قال: ذهبت بي أمي إلى الحسن فقالت: يا أبا سعيد: ابني هذا قد أحببت أن يلزمك فلعل الله أن ينفعه بك، قال: فكنت أختلف إليه، فقال لي يوما: يا بني أدم الحزن على خير الآخرة لعله أن يوصلك إليه، وابك في ساعات الليل والنهار في الخلوة لعل مولاك أن يطلع عليك فيرحم عبرتك فتكون من الفائزين، قال: وكنت أدخل على الحسن منزلة وهو يبكي، وربما جئت إليه وهو يصلي فأسمع بكاءه ونحيبه، فقلت له يوما: إنك تكثر البكاء فقال يا بني ! ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبك ؟ يا بني إن البكاء داع إلى الرحمة، فإن استطعت أن تكون عمرك باكيا فافعل لعله تعالى أن يرحمك، فإذا أنت نجوت من النار، وقال: ما هو إلا حلول الدار إما الجنة وإما النار، ما هناك منزل ثالث.
وقال: بلغنا أن الباكي من خشية الله لا تقطر من دموعه قطرة حتى
تعتق رقبته من النار.
وقال: لو أن باكيا بكى في ملا من خشية الله لرحموا جميعا، وليس شئ من الاعمال إلا له وزن إلا البكاء من خشية الله فإنه لا يقوم الله بالدمعة منه شيئا.
وقال: ما بكى عبد إلا شهد عليه قلبه بالصدق أو الكذب.
وروى ابن أبي الدنيا عنه في كتاب اليقين قال: من علامات المسلم قوة دين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وحكم في علم، وحبس في رفق، وإعطاء في حق، وقصد في غنى، وتحمل في فاقة
وإحسان في قدرة، وطاعة معها نصيحة، وتورع في رغبة، وتعفف وصبر في شدة، لا ترديه رغبته، ولا يبدره لسانه، ولا يسبقه بصره، ولا يغلبه فرجه، ولا يميل به هواه، ولا يفضحه لسانه، ولا يستخفه حرصه، ولا تقصر به نيته.
كذا ذكر هذه الالفاظ عنه (1).
قال: حدثنا عبد الرحمن بن صالح عن الحكم بن ظهير عن يحيى بن المختار عن الحسن فذكره، وقال فيه أيضا عنه: يا بنى آدم إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يدي الله عزوجل.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا علي بن إبراهيم اليشكري، حدثنا موسى بن إسماعيل الجيلي، حدثنا حفص بن سليمان أبو مقاتل عن عون بن أبي شداد، عن الحسن قال: قال لقمان لانبه: يا بني ! ! العمل لا يستطاع إلا باليقين، ومن يضعف يقينه يضعف عمله.
وقال: يا بني إذا جاءك الشيطان من قبل الشك والريب فاغلبه باليقين والنصيحة، وإذا جاءك من قبل الكسل والسآمة فاغلبه بذكر القبر والقيامة، وإذا جاءك من قبل الرغبة والرهبة فاخبره أن الدنيا مفارقة متروكة.
وقال الحسن: ما أيقن عبد بالجنة والنار حق يقينهما إلا خشع وذبل واستقام واقتصد حتى يأتيه الموت.
وقال: باليقين طلبت الجنة، وباليقين هربت من النار، وباليقين أديت الفرائض على أكمل وجهها، وباليقين أصبر على الحق وفي معافاة الله خير كثير، قد والله رأيناهم يتعاونون في العافية، فإذا نزل البلاء تفارقوا.
وقال: الناس في العافية سواء، فإذا نزل البلاء تبين عنده الرجال.
وفي رواية: فإذا نزل البلاء تبين من يعبد الله وغيره، وفي رواية فإذا نزل البلاء سكن المؤمن إلى إيمانه، والمنافق إلى نفاقه.
وقال الفريابي في فضائل القرآن: حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا معمر عن يحيى بن المختار، عن الحسن قال: إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، لم يأتوا الامر من قبل أوله، قال الله عزوجل: (كتاب أنزلناه مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الالباب) [ ص: 29 ] وما تدبر آياته إلا أتباعه، أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى أن أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كله فما أسقط منه حرفا واحدا، وقد والله أسقطه كله، ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: والله إني لاقرأ السورة في نفس، لا والله ما هؤلاء بالقراء ولا بالعلماء ولا الحكماء ولا الورعة، ومتى كانت القراءة هكذا أو يقول مثل هذا، لا أكثر الله في الناس مثل هؤلاء.
ثم روى الحسن عن جندب قال: قال لنا حذيفة: هل تخافون من شئ ؟ قال: قلت والله إنك وأصحابك لاهون الناس عندنا، فقال: أما والذي نفسي بيده لا تؤتون إلا من قبلنا، ومع ذلك نشء آخر يقرأون القرآن يكونون في آخر هذه الامة ينثرونه نثر الدقل، لا يجاوز تراقيهم، تسبق قراءتهم إيمانهم.
__________
(1) كذا بالاصل ولم يعين اسم من ذكر عنه.
وروى ابن أبي الدنيا عنه في ذم الغيبة له قال: والله للغيبة أسرع في دين المؤمن من الاكلة في جسده.
وكان يقول.
ابن آدم إنك لن تصيب حقيقة الايمان حتى لا تصيب (1) الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب فتصلحه من نفسك، فإذا فعلت ذلك كان ذلك شغلك في طاعة نفسك، وأحب العباد إلى الله من كان هكذا.
وقال الحسن: ليس بينك وبين الفاسق حرمة.
وقال: ليس لمبتدع غيبة.
وقال أصلت بن طريف: قلت للحسن: الرجل الفاجر المعلن بفجوره، ذكرى له بما فيه غيبة ؟ قال: لا ولا كرامة.
وقال: إذا ظهر فجوره فلا غيبة له.
وقال: ثلاثة لا تحرم عليك غيبتهم: المجاهر بالفسق، والامام الجائر، والمبتدع.
وقال له رجل: إن قوما يجالسونك ليجدوا بذلك إلى الوقيعة فيك سبيلا، فقال: هون عليك يا هذا فإني أطمعت نفسي في الجنان فطمعت، وأطمعتها في النجاة من النار فطمعت، وأطمعتها في السلامة من الناس فلم أجد
إلى ذلك سبيلا، فإن الناس لم يرضوا عن خالقهم ورازقهم فكيف يرضون عن مخلوق مثلهم ؟ وقال: كانوا يقولون: من رمى أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يصيب ذلك الذنب.
وقال الحسن: قال لقمان لابنه: يا بني إياك والكذب فإنه شهي كلحم العصفور عما قليل يقلاه صاحبه.
وقال الحسن: اعتبروا الناس بأعمالهم ودعوا أقوالهم فإن الله عزوجل لم يدع قولا إلا جعل عليه دليلا من عمل يصدقه أو يكذبه، فإن سمعت قولا حسنا فرويدا بصاحبه، فإن وافق قول عملا فنعم ونعمت عين أخته وأخيه، وإذا خالف قول عملا فماذا يشبه عليك منه، أم ماذا يخفى عليك منه ؟ وإياك وإياه لا يخدعنك كما خدع ابن آدم، إن لك قولا وعملا، فعملك أحق بك من قولك، وإن لك سريرة وعلانية، فسريرتك أحق بك من علانيتك، وإن لك عاجلة وعاقبة، فعاقبتك أحق بك من عاجلتك.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا حمزة بن العباس، أنبأ عبدان بن عثمان، أنبأ معمر، عن يحيى بن المختار، عن الحسن قال: إذا شبت لقيت الرجل أبيض حديد اللسان، حديد النظر، ميت القلب والعمل، أنت أبصر به من نفسه، ترى أبدانا ولا قلوبا، وتسمع الصوت ولا أنيس، أخصب ألسنة وأجدب قلوبا، يأكل أحدهم من غير ماله ويبكي على عماله، فإذا كهضته البطنة قال: يا جارية أو يا غلام ايتني بهاضم، وهل هضمت يا مسكين إلا دينك ؟ وقال: من رق ثوبه رق دينه، ومن سمن جسده هزل دينه، ومن طاب طعامه أنتن كسبه.
وقال فيما رواه عنه الآجري: رأس مال المؤمن دين حيث ما زال زال معه، لا يخلفه في الرحال، ولا يأتمن عليه الرجال.
وقال في قوله تعالى: (فلا أقسم بالنفس اللوامة) [ القيامة: 2 ] قال: لا تلقى المؤمن إلا يلوم نفسه، ما أردت بكلمة كذا، ما أردت بأكله كذا، ما أردت بمجلس كذا، وأما الفاجر فيمضي قدما قدما لا يلوم نفسه.
وقال: تصبروا وتشددوا فإنما هي ليال تعد، وإنما أنتم ركب وقوف يوشك أن يدعى
__________
(1) في صفة الصفوة 3 / 234: لا تعيب.
أحدكم فيجيب ولا يلتفت، فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم، إن هذا الحق أجهد الناس وحال بينهم
وبين شهواتهم، وإنما يصبر على هذا الحق من عرف فضله وعاقبته.
وقال: لا يزال العبد بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته.
وقال ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس: حدثنا عبد الله، حدثنا إسماعيل بن زكريا، حدثنا عبد الله ابن المبارك، عن معمر، عن يحيى بن المختار عن الحسن قال: المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله عزوجل، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على أقوام أخذوا هذا الامر من غير محاسبة، إن المؤمن يفجأه الشئ ويعجبه فيقول: والله إنك لمن حاجتي وإني لاشتهيك، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشئ فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا أبدا إن شاء الله: إن المؤمنين قوم قد أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئا حتى يلقى الله عزوجل، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وبصره ولسانه، وفي جوارحه كلها.
وقال: الرضا صعب شديد، وإنما معول المؤمن الصبر.
وقال: ابن آدم عن نفسك فكايس، فإنك إن دخلت النار لم تجبر بعدها أبدا.
وقال ابن أبي الدنيا: أنبأ إسحاق بن إبراهيم قال: سمعت حماد بن زيد يذكر عن الحسن قال: المؤمن في الدنيا كالغريب لا ينافس في غيرها ولا يجزع من ذلها، للناس حال وله حال، الناس منه راحة، ونفسه منه في شغل.
وقال: لولا البلاء ما كان في أيام قلائل ما يهلك المرء نفسه.
وقال: أدركت صدر هذه الامة وخيارها وطال عمري فيهم، فوالله إنهم كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم، أدركتهم عاملين بكتاب ربهم، متبعين سنة نبيهم، ما طوى أحدهم ثوبا، ولا جعل بينه وبين الارض شيئا، ولا أمر أهله بصنع طعام، كان أحدهم يدخل منزله فإن قرب إليه شئ أكل وإلا سكت فلا يتكلم في ذلك.
وقال: إن المنافق إذا صلى صلى رياء أو حياء من الناس أو خوفا، وإذا صلى صلى فقرأهم الدنيا، وإن فاتته الصلاة لم يندم عليها ولم يحزنه فواتها.
وقال الحسن فيما رواه عنه صاحب كتاب النكت: من جعل الحمد لله على النعم حصنا وحابسا وجعل أداء الزكاة على المال سياجا وحارسا، وجعل العلم له دليلا وسائسا، أمن العطب، وبلغ
أعلى الرتب.
ومن كان للمال قانصا، وله عن الحقوق حابسا، وشغله وألهاه عن طاعة الله كان لنفسه ظالما ولقلبه بما جنت يداه كالما، وسلطه الله على ماله سالبا وخالسا، ولم يأمل العطب في سائر وجوه الطلب وقيل: إن هذا لغيره، والله أعلم.
وقال الحسن: أربع من كن فيه ألقى الله عليه محبته.
ونشر عليه رحمته: من رق لوالديه، ورق لمملوكه، وكفل اليتيم، وأعان الضعيف.
وسئل الحسن عن النفاق فقال: هو اختلاف السر والعلانية والمدخل والمخرج، وقال: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق - يعني النفاق - وحلف
الحسن: ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق، وفي رواية: إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن: كيف حبك الدينار والدرهم ؟ قال: لا أحبهما، فكتب إليه: تول فإنك تعدل.
وقال إبراهيم بن عيسى: ما رأيت أطول حزنا من الحسن، وما رأيته قط إلا حسبته حديث عهد بمصيبة، وقال مسمع: لو رأيت الحسن لقلت: قد بث عليه حزن الخلائق.
وقال يزيد بن حوشب: ما رأيت أحزن من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما.
وقال ابن أسباط: مكث الحسن ثلاثين سنة لم يضحك، وأربعين سنة لم يمزح.
وقال: ما سمع الخلائق بعورة بادية، وعين باكية مثل يوم القيامة.
وقال: ابن آدم ! إنك ناظر غدا إلى عملك يوزن خيره وشره (1)، فلا تحقرن شيئا من الشر أن تتقيه، فإنك إذا رأيته غدا في ميزانك سرك مكانه.
وقال: ذهبت الدنيا وبقيت أعمالكم قلائد في أعناقكم وقال: ابن آدم ! بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا، وهذا مأثور عن لقمان أنه قال لولده.
وقال الحسن: تجد الرجل قد لبس الاحمر والابيض وقال: هلموا فانظروا إلي، قال الحسن: قد رأيناك يا أفسق الفاسقين فلا أهلا بك ولا سهلا، فأما أهل الدنيا فقد اكتسبوا بنظرهم إليك مزيد حرص على دنياهم، وجرأة على شهوات الغنى في بطونهم وظهورهم.
وأما أهل الآخرة فقد كرهوك ومقتوك.
وقال: إنهم وإن هملجت بهم البراذين، وزفرت بهم البغال، وطئت أعقابهم الرجال،
إن ذل المعاصي لا يفارق رقابهم، يأبى الله إلا أن يذل من عصاه.
وقال فرقد: دخلنا على الحسن فقلنا: يا أبا سعيد: ألا يعجبك من محمد بن الاهتم ؟ فقال: ماله ؟ فقلنا: دخلنا عليه آنفا وهو يجود بنفسه فقال: انظروا إلى ذاك الصندوق - وأومأ إلى صندوق في جانب بيته - فقال: هذا الصندوق فيه ثمانون ألف دينار - أو قال: درهم - لم أؤد منها زكاة، ولم أصل منها رحما، ولم يأكل منها [ محتاج ].
فقلنا: يا أبا عبد الله، فلمن كنت تجمعها ؟ قال: لروعة الزمان، ومكاثرة الاقران، وجفوة السلطان.
فقال: انظروا من أين أتاه شيطانه فخوفه روعة زمانه، ومكاثرة أقرانه، وجفوة سلطانه ؟ ثم قال: أيها الوارث: لا تخدعن كما خدع صويحبك بالامس، جاءك هذا المال لم تتعب لك فيه يمين، ولم يعرق لك فيه جبين، جاءك ممن كان له جموعا منوعا، من باطل جمعه، من حق منعه، ثم قال الحسن: إن يوم القيامة لذو حسرات، الرجل يجمع المال ثم يموت ويدعه لغيره فيرزقه الله فيه الصلاح والانفاق في وجوه البر، فيجد ماله في ميزان غيره.
وكان الحسن يتمثل بهذا البيت في أول النهار يقول:
__________
(1) كذا بالاصل، والعبارة مشوشة وفيه نقص ظاهر.
والعبارة في صفة الصفوة 3 / 235: فلا تحقرن من الخير شيئا وإن هو صغر فإنك إذا رأيته سرك مكانه ولا تحقرن من الشر شيئا فإنك إذا رأيته ساءك مكانه.
وما الدنيا بباقية لحي * ولا حي على الدنيا بباق وبهذا البيت في آخر النهار: يسر الفتى ما كان قدم من تقى * إذا عرف الداء الذي هو قاتله ولد الحسن في خلافة عمر بن الخطاب وأتى به إليه فدعا له وحنكه.
ومات بالبصرة في سنة عشر ومائة والله سبحانه وتعالى أعلم.
محمد بن سيرين أبو بكر بن أبي عمرو الانصاري، مولى أنس بن مالك النضري، كان أبوه من سبي عين التمر أسره في جملة السبي خالد بن الوليد فاشتراه أنس ثم كاتبه.
وقد ولد له من الاخيار جماعة، محمد،
هذا، وأنس بن سيرين، ومعبد، ويحيى، وحفصة، وكريمة، وكلهم تابعيون ثقات أجلاء، رحمهم الله تعالى.
قال البخاري: ولد محمد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان.
وقال هشام بن حسان: هو أصدق من أدركت من البشر.
وقد تقدم هذا كله فيما ذكره المؤلف.
كان ابن سيرين إذا ذكر عنده رجل بسوء ذكره بأحسن ما يعلم.
وقال خلف بن هشام: كان محمد بن سيرين قد أعطى هديا وسمتا وخشوعا، وكان الناس إذا رأوه ذكروا الله.
ولما مات أنس بن مالك أوصى أن يغسله محمد بن سيرين - وكان محمد محبوسا - فقالوا له في ذلك، فقال: أنا محبوس فقالوا: قد استأذنا الامير في إخراجك، قال: إن الامير لم يحبسني، إنما حبسني من له الحق، فأذن له صاحب الحق فغسله.
وقال يونس: ما عرض لمحمد بن سيرين أمران إلا أخذ بأوثقهما في دينه، وقال: إني لاعلم الذنب الذي حملت بسببه، إني قلت يوما لرجل: يا مفلس، فذكر هذا لابي سليمان الداراني فقال: قلت ذنوبهم فعرفوا من أين أتوا.
ومثلنا قد كثرت ذنوبنا فلم ندر من أين نؤتي، ولا بأي ذنب نؤخذ.
وكان إذا دعي إلى وليمة يدخل منزله فيقول: ايتوني بشربة سويق فيشربها ويقول: إني أكره أن أحمل جوعي إلى موائدهم وطعامهم: وكان يدخل السوق نصف النهار فيكبر الله ويسبحه ويذكره ويقول: إنها ساعة غفلة الناس، وقال: إذا أراد الله بعبد خيرا جعل له واعظا من قلبه يأمره وينهاه.
وقال: ظلم لاخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم منه وتكتم خيره.
وقال: العزلة عبادة، وكان إذا ذكر الموت مات منه كل عضو على حدته.
وفي رواية كان يتغير لونه وينكر حاله، حتى كأنه ليس بالذي كان، وكان إذا سئل عن الرؤيا قال للسائل: اتق الله في اليقظة ولا يغرك ما رأيت في المنام.
وقال له رجل: رأيت كأني أصب الزيت في الزيتون، فقال: فتش على امرأتك فإنها أمك، ففتش فإذا هي أمه.
وذلك أن الرجل أخذ من بلاده صغيرا سبيا ثم
مكث في بلاد الاسلام إلى أن كبر، ثم سبيت أمه فاشتراها جاهلا أنها أمه، فلما رأى هذه الرؤيا وذكرها لابن سيرين فأمره أن يفتش على ذلك، ففتش فوجد الامر على ما ذكره.
وقال له آخر:
رأيت كأني دست - أو قال وطئت - تمرة فخرجت منها فأرة، فقال له: تتزوج امرأة - أو قال: تطأ امرأة - صالحة تلد بنتا فاسقة، فكان كما قال.
وقال له آخر: رأيت كأن على سطح بيتي حبات شعير فجاء ديك فلقطها، فقال له: إن سرق لك شئ في هذه الايام فأتني.
فوضعوا بساطا على سطحهم فسرق، فجاء إليه فأخبره، فقال: اذهب إلى مؤذن محلتك فخذه منه، فجاء إلى المؤذن فأخذ البساط منه.
وقال له رجل: رأيت الحمام تلقط الياسمين.
فقال: مات علماء البصرة.
وأتاه رجل فقال: رأيت رجلا عريانا واقفا على مزبلة وبيده طنبور يضرب به، فقال له ابن سيرين: لا تصلح هذه الرؤيا في زماننا هذا إلا للحسن البصري، فقال: الحسن هو والله الذي رأيت.
فقال: نعم، لان المزبلة الدنيا وقد جعلها تحت رجليه، وعريه تجرده عنها، والطنبور يضرب به هي المواعظ التي يقرع بها آذان الناس.
وقال له آخر: رأيت كأني أستاك والدم يسيل.
فقال له: أنت رجل تقع في أعراض الناس وتأكل لحومهم وتخرج في بابه وتأتيه (1).
وقال له آخر: رأيت كأني أرى اللؤلؤ في الحمأة، فقال له: أنت رجل تضع القرآن والعلم عند غير أهله ومن لا ينتفع به.
وجاءته امرأة فقالت: رأيت كأن سنورا أدخل رأسه في بطن زوجي فأخذ منه قطعة، فقال لها ابن سيرين: سرق لزوجك ثلاثمائة درهم، وستة عشر درهما، فقالت: صدقت من أين أخذته ؟ فقال: من هجاء حروفه وهي حساب الجمل، فالسين ستون، والنون خمسون، والواو ستة والراء مائتان، وذلك ثلاثمائة وستة عشر، وذكرت السنور أسود فقال: هو عبد في جواركم، فالزموا عبدا أسود كان في جوارهم وضرب فأقر بالمال المذكور.
وقال له رجل: رأيت لحيتي قد طالت وأنا أنظر إليها.
فقال له أمؤذن أنت ؟ قال: نعم ! قال له: اتق الله ولا تنظر إلى دور الجيران.
وقال له آخر: رأيت كأن لحيتي قد طالت حتى جززتها ونسجتها كساء وبعته في السوق.
فقال له: اتق الله فإنك شاهد زور.
وقال له آخر: رأيت كأني آكل أصابعي، فقال له تأكل من عمل يدك.
وقال لرجل انظر هل ترى في المسجد أحدا ؟ فذهب فنظر ثم رجع إليه فقال: ليس في المسجد أحد، فقال: أليس أمرتك أن تنظر هل ترى أحدا قد يكون في المسجد من الامراء (2) ؟.
وقال عن رجل ذكر له: ذلك الاسود ؟ ثم قال: أستغفر الله ! ما أراني إلا قد اغتبت الرجل - وكان
الرجل أسود.
وقال: اشترك سبعة في قتل امرأة فقتلهم عمر، فقال لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتلها لابدت خضراءهم.
__________
(1) كذا بالاصل، وفيه تحريف.
(2) كذا بالاصل وفيه تحريف.
وهيب بن منبه اليماني تابعي جليل، وله معرفة بكتب الاوائل، وهو يشبه كعب الاحبار، وله صلاح وعبادة، ويروى عنه أقوال حسنة وحكم ومواعظ، وقد بسطنا ترجمته في كتابنا التكميل ولله الحمد.
قال الواقدي: توفي بصنعاء سنة عشر ومائة، وقال غيره: بعدها بسنة، وقيل بأكثر، والله أعلم.
ويزعم بعض الناس أن قبره غربي بصرى بقرية يقال لها عصم (1)، ولم أجد لذلك أصلا، والله أعلم انتهى ما ذكره المؤلف.
فصل أدرك وهب بن منبه عدة من الصحابة، وأسند عن ابن عباس وجابر والنعمان بن بشير.
وروى عن معاذ بن جبل وأبي هريرة، وعن طاوس.
وعنه من التابعين عدة (2).
وقال وهب: مثل من تعلم علما لا يعمل به كمثل طبيب معه شفاء لا يتداوى به.
وعن منير مولى الفضل بن أبي عياش قال: كنت جالسا مع وهب بن منبه فأتاه رجل فقال له: إني مررت بفلان وهو يشتمك، فغضب وقال: ما وجد الشيطان رسولا غيرك ؟ فما برحت من عنده حتى جاءه ذلك الشاتم فسلم على وهب فرد عليه السلام، ومد يده إليه وصافحه وأجلسه إلى جنبه.
وقال ابن طاوس: سمعت وهبا يقول: ابن آدم احتل لدينك فإن رزقك سيأتيك.
وقال وهب: كسي أهل النار والعرى كان خيرا لهم، وطعموا والجوع كان خيرا لهم، وأعطوا الحياة والموت كان خيرا لهم.
وقال داود عليه السلام: اللهم أيما فقير سأل غنيا فتصام عنه، فأسألك إذا دعاك فلا تجبه، وإذا سألك فلا تعطه.
وقال: قرأت في بعض كتب الله: ابن آدم، لا خير لك في أن تعلم ما لم تعلم، ولم تعمل بما قد علمت،
فإن مثلك كمثل رجل احتطب حطبا فحزم حزمة فذهب يحملها فعجز عنها فضم إليها أخرى.
وقال: إن لله ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا منها عالم واحد، وما العمارة في الخراب إلا كفسطاط في الصحراء.
وروى الطبراني عنه أنه قال: إذا أردت أن تعمل بطاعة الله عزوجل فاجتهد في نصحك وعملك لله، فإن العمل لا يقبل ممن ليس بناصح، والنصح لله لا يكمل إلا بطاعة الله، كمثل الثمرة الطيبة ريحها وطعمها، كذلك مثل طاعة الله، النصح ريحها، والعمل طعمها، ثم زين طاعتك بالحلم والعقل، والفقه والعمل، ثم أكبر نفسك عن أخلاق السفهاء وعبيد الدنيا، وعبدها على أخلاق الانبياء والعلماء العاملين، وعودها فعل الحكماء، وامنعها عمل الاشقياء، وألزمها سيرة
__________
(1) في طبقات ابن سعد 5 / 543: مات بصنعاء.
وانظر صفة الصفوة 2 / 296.
وابن خلكان 6 / 36.
(2) منهم: عمرو بن دينار وأبان بن أبي عياش وموسى بن عقبة ووهب ابن اخيه عبد الصمد واسراءيل أبو موسى والسماك بن فضل وعوف الاعرابي.
(تذكرة الحفاظ 1 / 101.
صفة الصفوة 2 / 296).
=====================
مجلد 37. كتاب :البداية والنهاية الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي
الاتقياء واعزبها عن سبل الخبثاء، وما كان لك من فضل فأعن به من دونك، وما كان فيمن دونك من نقص فأعنه عليه حتى يبلغه، فإن الحكيم من جمع فواضله وعاد بها على من دونه، وينظر في نقائص من دونه فيقويها ويرجيها حتى يبلغه، إن كان فقيها حمل من لا فقه له إذا رأى أنه يريد صحابته ومعونته وإذا كان له مال أعطى منه من لا مال له، وإذا كان مصلحا استغفر للمذنب ورجا توبته، وإذا كان محسنا أحسن إلى من أساء إليه واستوجب بذلك أجره، ولا يعتر بالقول حتى يحسن منه الفعل، فإذا أحسن الفعل نظر إلى فضل الله وإحسانه إليه، ولا يتمنى الفعل حتى يفعله، فإذا بلغ من طاعة الله مبلغا حمد الله على ما بلغ منها ثم طلب ما لم يبلغ منها، وإذا ذكر خطيئة سترها عن الناس واستغفر الله الذي هو قادر على أن يغفرها، وإذا علم من الحكمة شيئا لم يشبعه بل يطلب ما لم يبلغ منها، ثم لا يستعين بشئ من الكذب، فإن الكذب كالاكلة في الجسد تكاد تأكله، أو كالاكلة في الخشب، يرى ظهرها حسنا وجوفها نخر تغر من يراها حتى تنكسر على ما فيها وتهلك من اغتر بها.
وكذلك الكذب في الحديث لا يزال صاحبه يغتر به، يظن أنه معينه على حاجته ورائد له في رغبته، حتى يعرف ذلك منه، ويتبين لذوي العقول غروره، فتستنبط الفقهاء ما كان يستخفي به عنه، فإذا اطلعوا على ذلك من أمره وتبين لهم، كذبوا خبره، وأباروا شهادته، واتهموا صدقه، وحقروا شأنه، وأبغضوا مجلسه، واستخفوا منه بسرائرهم، وكتموه حديثهم، وصرفوا عنه أماناتهم، وغيبوا عنه أمرهم، وحذروه على دينهم ومعيشتهم، ولم يحضروه شيئا من محاضرتهم، ولم يأمنوه على شئ من سرهم، ولم يحكموه فيما شجر بينهم.
وروى عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب قال: قال لقمان لابنه: إن مثل أهل الذكر والغفلة كمثل النور والظلمة.
وقال: قرأت في التوراة أربعة أسطر متواليات: من قرأ كتاب الله فظن أنه لا يغفر له فهو من المستهزئين بآيات الله، ومن شكا مصيبة نزلت به فإنما يشكو ربه عز وجل، ومن أسف على ما فاته من الدنيا سخط قضاء ربه عز وجل، ومن تضعضع لغني ذهب ثلث دينه.
وقال وهب: قرأت في التوراة: أيما دار بنيت بقوة الضعفاء جعلت عاقبتها إلى الخراب، وأيما مال جمع من غير حله أسرع الفقر إلى أهله.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا معمر، عن محمد بن عمرو قال: سمعت وهب بن منبه يقول: وجدت في بعض الكتب: يقول الله تعالى: إذا أطاعني عبدي استجبت له من قبل أن يدعوني، وأعطيته من قبل أن يسألني، وإن عبدي إذا أطاعني لو أن أهل السموات وأهل الارض أجلبوا عليه جعلت له المخرج من ذلك، وإن عبدي إذا عصاني قطعت يديه من أبواب السماء، وجعلته في الهواء فلا يمتنع من شئ أراده من خلقي.
وقال ابن المبارك أيضا: حدثنا بكار بن عبد الله قال: سمعت وهب بن منبه يقول: قال الله تعالى فيما يعيب به أحبار بنى إسرائيل: تفقهون لغير الدين، وتتعلمون لغير العمل، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة، وتلبسون جلود الضأن، وتحملون
نفس الذباب، وتتغذون الغداء من شرابكم، وتبتلعون أمثال الجبال من الحرام، وتثقلون الدين على الناس أمثال الجبال، ثم لا تعينوهم برفع الخناصر، وتبتلعون الصلاة وتبيضون الثياب،
تنتقصون بذلك مال اليتيم والارملة، فبعزتي حلفت لاضربنكم بفتنة يضل فيها رأي ذي الرأي وحكمة الحكيم.
وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد الصنعاني، حدثنا همام بن مسلمة، حدثنا غوث بن جابر، حدثنا عقيل بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن الله ليس يحمد أحدا على طاعة، ولا ينال أحد من الله خيرا إلا برحمته، وليس يرجو الله خير الناس ولا يخاف شرهم، ولا يعطف الله على الناس إلا برحمته إياهم، إن مكروا به أباد مكرهم، وإن خادعوه رد عليهم خداعهم، وإن كاذبوه كذب بهم، وإن أدبروا قطع دابرهم، وإن أقبلوا قبل منهم ولا يقبل منهم شيئا من حيلة، ولا مكر ولا خداع ولا سخط ولا مشادة، وإنما يأتي بالخير من الله تعالى رحمته، ومن لم يبتغ الخير من قبل رحمته لا يجد بابا غير ذلك يدخل منه، فإن الله تعالى لا ينال الخير منه إلا بطاعته، ولا يعطف الله على الناس شئ إلا تعبدهم له، وتضرعهم إليه حتى يرحمهم، فإذا رحمهم استخرجت رحمته منه حاجتهم، وليس ينال الخير من الله من وجه غير ذلك، وليس إلى رحمة الله سبيل تؤتى من قبله إلا تعبد العباد له وتضرعهم إليه، فإن رحمة الله عزوجل باب كل خير يبتغى من قبله، وإن مفتاح ذلك الباب التضرع إلى الله عزوجل والتعبد له، فمن ترك المفتاح لم يفتح له، ومن جاء بالمفتاح فتح له به، وكيف يفتح الباب بغير مفتاح، ولله خزائن الخير كله، وباب خزائن الله رحمته، ومفتاح رحمة الله التذلل والتضرع والافتقار إلى الله، فمن حفظ ذلك المفتاح فتحت له الخزائن ودخل، فله فيها ما تشتهي الانفس وتلذ الاعين وفيها ما تشاؤون وما تدعون في مقام أمين، لا يحولون عنه ولا يخافون ولا ينصبون ولا يهرمون ولا يفتقرون ولا يموتون، في نعيم مقيم، وأجر عظيم، وثواب كريم، نزلا من غفور رحيم.
وقال سفيان بن عيينة: قال وهب: أعون الاخلاق على الدين الزهادة في الدنيا، وأسرعها ردا اتباع الهوى وحب المال والشرف، ومن حب المال والشرف تنتهك المحارم، ومن انتهاك المحارم بغضب الرب، وغضب الله ليس له دواء.
وقال: يقول الله تعالى في بعض كتبه يعتب به بني إسرائيل: إني إذا أطمعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإذا عصيت غضبت
وإذا غضبت لعنت، وإن اللعنة متى تبلغ السابع من الولد.
وقال: كان في بني إسرائيل رجل عصى الله عزوجل مائتي سنة، ثم مات فأخذوا برجله فألقوه على مزبلة، فأوحى الله إلى موسى: ان صل عليه، فقال: يا رب إن بني إسرائيل شهدوا أنه قد عصاك مائتي سنة، قال الله له: نعم هكذا كان، إلا أنه كان كلما نشر التوراة ورأى اسم محمد (صلى الله عليه وسلم) قبله ووضعه على عيينه وصلى عليه فشكرت ذلك له فغفرت له ذنوبه وزوجته سبعين حوراء.
كذا روي وفيه علل، ولا يصح مثله
وفي إسناده غرابة وفي متنه نكارة شديدة.
وروى ابن ادريس عن أبيه عن وهب قال: قال موسى: يا رب احبس عني كلام الناس، فقال الله له: يا موسى ما فعلت هذا بنفس: وقال لما دعي يوسف إلى الملك وقف بالباب وقال: حسبي ديني من دنياي، حسبي ربي من خلقه، عز جارك وجل ثناؤك، ولا إله غيرك ثم دخل على الملك، فلما نظر إليه الملك نزل عن سريره وخر له ساجدا ثم أقعده الملك معه على السرير، وقال: (إنك اليوم لدينا مكين أمين) [ يوسف: 54 ] فقال: (اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم) [ يوسف: 55 ] حفيظ بهذه السنين وما استودعتني فيها، عليم بلغة من يأتيني.
وقال الامام أحمد: حدثنا منذر بن النعمان الافطس أنه سمع وهبا يقول: لما أمر الله الحوت أن لا يضره ولا يكلمه - يعني يونس - قال: (فلو لا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) [ الصافات: 143 - 145 ] قال: من العابدين قبل ذلك، فذكره الله بعبادته المتقدمة، فلما خرج من البحر نام فأنبت الله شجرة من يقطين - وهو الدباء - فلما رآها قد أظلته ورأى خضرتها فأعجبته، ثم نام فاستيقظ فإذا هي قد يبست، فجعل يتحزن عليها، فقيل له: أنت لم تخلق ولم تسق ولم تنبت وتحزن عليها، وأنا الذي خلقت مائة ألف من النار أو يزيدون ثم رحمتهم فشق ذلك عليك.
وقال الامام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد الغساني، حدثنا رباح، حدثني عبد الملك بن عبد المجيد بن خشك، عن وهب قال: لما أمر نوح أن يحمل من كل زوجين اثنين، قال: يا رب
كيف أصنع بالاسد والبقر ؟ وكيف أصنع بالعناق والذئب ؟ وكيف أصنع بالحمام والهر ؟ قال: من ألقى بينهم العداوة ؟ قال: أنت يا رب، قال: فإني أؤلف بينهم حتى لا يتضرون.
وقال وهب لعطاء الخراساني: ويحك يا عطاء، ألم أخبر أنك تحمل علمك إلى أبواب الملوك وأبناء الدنيا، وأبواب الامراء ؟ ويحك يا عطاء، أتأتي من يغلق عنك بابه، ويظهر لك فقره، ويواري عنك غناه، وتترك باب من يقول: (ادعوني أستجب لكم) ؟ [ غافر: 60 ] ويحك يا عطاء، إن كان يغنيك ما يكفيك فأوهى ما في الدنيا يكفيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس في الدنيا شئ يكفيك، ويحك يا عطاء، إنما بطنك بحر من البحور، وواد من الاودية، لا يملاه شئ إلا التراب.
وسئل وهب عن رجلين يصليان، أحدهما أطول قنوتا وصمتا، والآخر أطول سجودا، فأيهما أفضل ؟ فقال: أنصحهما لله عزوجل.
وقال: من خصال المنافق أن يحب الحمد ويكره الذم، أي يحب أن يحمد على ما لم يفعل، ويكره أن يذم بما فيه.
قال: وقال لقمان لابنه: يا بني اعقل عن الله فإن أعقل الناس من عقل عن الله، وإن الشيطان ليفر من العاقل ما يستطيع أن يكايده.
وقال لرجل من جلسائه: ألا أعلمك طبا لا يتعايا (1) فيه الاطباء، وفقها لا يتعايا فيه
__________
(1) يتعايا: من أعيا عليه الامر أي صعب.
الفقهاء، وحلما لا يتعايا فيه الحلماء، قال: بلى يا أبا عبد الله، قال: أما الطب فلا تأكل طعاما إلا سميت الله على أوله وحمدته على آخره، وأما الفقه فإن سئلت عن شئ عندك فيه علم فأخبر بما تعلم وإلا فقل: لا أدري، وأما الحلم فأكثر الصمت إلا أن تسأل عن شئ.
وقال: إذا كان الصبي خلقان، الحياء والرهبة، طمع في رشده.
وقال: لما بلغ ذو القرنين مطلع الشمس قال له ملك هناك: صف لي الناس، فقال محادثتك من لا يعقل كمن يغني الموتى، ومحادثتك من لا يعقل كمن يبل الصخر الاصم كي يلين، وكمن يطبخ الحديد يلتمس أدمه، ومحادثتك من لا يعقل كمن يضع المائدة لاهل القبور، ونقل الحجارة من رؤوس الجبال أيسر من محادثة من لا يعقل.
وقال: قرأت في بعض الكتب أن مناديا ينادي من السماء
الرابعة كل صباح: أبناء الاربعين زرع قد دنا حصاده، أبناء الخمسين ماذا قدمتم ؟ أبناء الستين لا عذر لكم، ليت الخلق لم يخلقوا، وليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا، قد أتتكم الساعة فخذوا حذركم.
وقال: قال دانيال: يا لهفي على زمن يلتمس فيه الصالحون فلا يوجد منهم أحد، إلا كالسنبلة في أثر الحاصد، أو كالخصلة في أثر القاطف، يوشك نوائح أولئك وبواكيهم أن تبكيهم.
وروى عبد الرزاق عن عبد الصمد بن معقل.
قال: سمعت وهبا يقول في قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) [ الانبياء: 47 ] قال: إنما يوزن من الاعمال خواتيمها، وإذا أراد الله بعبد خيرا ختم له بخير عمله.
وإذا أراد الله بعبد شرا ختم له بشر عمله.
وقال وهب: إن الله تعالى لما فرغ من الخلق نظر إليهم حين مشوا على وجه الارض فقال: أنا الله لا إله إلا أنا الذي خلقتكم وأفنيكم بحكمي حق قضائي ونافذ أمري، أنا أعيدكم كما خلقتكم، وأفنيكم حتى أبقى وحدي، فإن الملك والخلود لا يحق إلا لي، أدعو خلقي وأجمعهم بقضائي، يوم أحشر أعدائي، وتجل القلوب من هيبتي.
وتتبرأ الآلهة ممن عبدها دوني.
قال: وذكر وهب أن الله لما فرغ من خلقه يوم الجمعة أقبل يوم السبت فمدح نفسه بما هو أهله وذكر عصمته وجبروته وكبرياءه وسلطانه وقدرته وملكه وربوبيته، فأنصت كل شئ وأطرق له، فقال: أنا الملك لا إله إلا أنا ذو الرحمة الواسعة والاسماء الحسنى، أنا الله لا إله إلا أنا ذو العرش المجيد والامثال العلا، أنا الله لا إله إلا أنا ذو الطول والمن والآلاء والكبرياء، أنا الله لا إله إلا أنا بديع السموات والارض، ملات كل شئ عظمتي، وقهر كل شئ ملكي، وأحاطت بكل شئ قدرتي، وأحصى كل شئ علمي، ووسعت كل شئ رحمتي، وبلغ كل شئ لطفي، فأنا الله يا معشر الخلائق فاعرفوا مكاني، فليس شئ في السموات والارضين إلا أنا، وخلقي كلهم لا يقوم ولا يدوم إلا بي، ويتقلب في قبضتي، ويعيش برزقي، وحياته وموته وبقاؤه وفناؤه بيدي، فليس له محيص ولا ملجأ غيري، لو تخليت عنه طرفة عين لدمر كله، وكنت أنا على حالي لا ينقصني ذلك شيئا، ولا ينقص ذلك ملكي شيئا، وأنا مستغن بالعز كله في جبروتي وملكي، وبرهان نوري،
وشديد بطشي، وعلو مكاني وعظمة شأني، فلا شئ مثلي، ولا إله غيري، وليس ينبغي لشئ خلقته أن يعدل بي ولا ينكرني، وكيف ينكرني من خلقته يوم خلقته على معرفتي ؟ أم كيف يكابرني من قهر قهره ملكي ؟ أم كيف يعجزني من ناصيته بيدي ؟ أم كيف يعدل بي من أعمره وأسقم جسمه وأنقص عقله وأتو في نفسه وأخلقه وأهرمه فلا يمتنع مني ؟ أم كيف يستنكف عن عبادتي عبدي وابن عبدي وابن أمتي، ومن لا ينسب إلى خالق ولا وارث غيري ؟ أم كيف يعبد دوني من تخلقه الايام، ويفني أجله اختلاف الليل والنهار ؟ وهما شعبة يسيرة من سلطاني ؟ فإلي إلي يا أهل الموت والفناء، لا إلى غيري، فإني كتبت الرحمة علي نفسي وقضيت العفو والمغفرة لمن استغفرني، أغفر الذنوب جميعا، صغيرها وكبيرها لمن استغفرني، ولا يكبر ذلك علي ولا يتعاظمني، فلا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ولا تقنطوا من رحمتي، فإن رحمتي سبقت غضبي، وخزائن الخير كلها بيدي، ولم أخلق شيئا مما خلقت لحاجة كانت مني إليه، ولكن لابين به قدرتي، ولينظر الناظرون في ملكي، ويتدبروا حكمتي، وليسبحوا بحمدي ويعبدوني لا يشركوا بي شيئا، ولتعنو (1) الوجوه كلها إلي.
وقال أشرس عن وهب قال: قال داود: إلهي أين أجدك ؟ قال عند المنكسرة قلوبهم من مخافتي.
وقال كان رجل من بني إسرائيل صام سبعين أسبوعا يفطر في كل يوما وهو يسأل الله أن يريه كيف يغوي الشيطان الناس، فلما أن طال ذلك عليه ولم يجب، قال في نفسه: لو أقبلت على خطيئتي وعلى ذنوبي وما بيني وبين ربي لكان خيرا من هذا الامر الذي أطلب، ثم أقبل على نفسه فقال: يا نفس من قبلك أتيت، لو علم الله فيك خيرا لقضى حاجتك.
فأرسل الله ملكا إلى نبيهم: أن قل لفلان العابد: إزراؤك على نفسك وكلامك الذي تكلمت به، أعجب إلي مما مضى من عبادتك، وقد أجاب الله سؤالك، وفتح بصرك فانظر الآن، فنظر فإذا أحبولة لابا قد أحاطت بالارض، وإذا ليس أحد من بني آدم إلا وحوله شياطين مثل الذباب، فقال: إي رب.
ومن ينجو من هؤلاء ؟ قال صاحب القلب الوادع اللين.
وقال وهب: كان رجل من السائحين فأتى على أرض فيها قثاء فدعته نفسه إلى أخذ شئ منه، فعاقبها فقام مكانه يصلي ثلاثة أيام، فمر به رجل وقد لوحته الشمس والريح، فلما نظر إليه قال:
سبحان الله ! ! لكأنما أحرق هذا الانسان بالنار، فقال السائح: هكذا بلغ مني ما ترى خوف النار، فكيف بي لو قد دخلتها ؟ ! وقال: كان رجل من الاولين أصاب ذنبا فقال: لله علي أن لا يظلني سقف بيت أبدا حتى تأتيني براءة من النار، فكان بالصحراء في الحر والقر، فمر به رجل فرأى شدة حاله فقال: يا عبد الله ما بلغ بك ما أرى ؟ فقال: بلغ ما ترى ذكر جهنم، فكيف بي إذا أنا وقعت فيها ! ؟.
وقال: لا
__________
(1) ولتعنو: أي لتخضع.
يكون البطال من الحكماء أبدا، ولا يرث الزناة من ملكوت السماء.
وقال وهب في موعظته: اليوم يعظ السعيد، ويستكثر من منافعه اللبيب، يابن آدم إنما جمعت من منافع هذا اليوم لدفع ضرر الجهالة عنك، وإنما أوقدت فيه مصابيح الهدى لتنبه لحزبك، فلم أر كاليوم ضل مع نوره متحير داع لمداواة سليم، يابن آدم ! إنه لا أقوى من خالق، ولا أضعف من مخلوق، ولا أقدر ممن طلبته في يده، ولا أضعف ممن هو في يد طالبه، يا بن آدم إنه قد ذهب منك ما لا يرجع إليك، وأقام عندك (1) ما سيذهب، فما الجزع مما لا بد منه ؟ وما الطمع فيما لا يرتجى ؟ وما الحيلة في بقاء ما سيذهب ؟ يا بن آدم أقصر عن طلب ما لا تدرك، وعن تناول ما لا تناله، وعن ابتغاء ما لا يوجد.
واقطع الرجاء عنك كما قعدت به (2) عنك الاشياء، واعلم أنه رب مطلوب هو شر لطالبه، يا بن آدم إنما الصبر عند المصيبة، وأعظم من المصيبة سوء الخلق منها، يا بن آدم أي أيام الدهر ترتحبى ؟ يوم يجئ في عتم (3) أو يوم تستأخر عاقبته عن أوان مجيئه ؟ فانظر إلى الدهر تجده ثلاثة أيام: يوم مضى لا ترجوه، ويوم لا بد منه، ويوم يجئ لا تأمنه، فأمس شاهد عليك مقبول، وأمين مؤد، وحكيم مؤدب، قد فجعك بنفسه، وخلف فيك حكمته.
واليوم صديق مودع، كان طويل الغيبة عنك، وهو سريع الظعن إياك (4) ولم يأته، وقد مضى قبله شاهد عدل، فإن كان ما فيه لك فاشفعه بمثله أوثق لك باجتماع شهادتهما عليك.
يا بن آدم إنما أهل الدينا سفر لا يحلون عقد رحالهم إلا في غيرها، وإنما يتبلغون بالعواري فما أحسنه - يعني الشكر - للمنعم والتسليم للمعاد، يا بن آدم إنما الشئ من مثله
وقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها، فما بقاء الفرع بعد ذهاب أصله ؟ ! إنما يقر الفرع بعد الاصل، يا بن آدم إنه لا أعظم رزية في عقله ممن ضيع اليقين وأخطأ العمل.
أيها الناس ! إنما البقاء بعد الفناء، وقد خلقنا ولم نكن، وسنبلى ثم نعود، ألا وإنما العواري اليوم والهنات غدا، ألا وإنه قد تقارب منا سلب فاحش، أو عطاء جزيل، فأصلحوا ما تقدمون عليه بما تظعنون عنه.
أيها الناس ! ! إنما أنتم في هذه الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا، وإن ما أنتم فيه من دنياكم نهب للمصائب، لا تنالون فيها نعمة إلا بفراق الاخرى، ولا يستقبل منكم معمر يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله، ولا يتخذ له زيادة في ماله إلا بنفاد ما قبله من رزقه، ولا يحيى له أثر إلا مات له أثر.
نسأل الله أن يبارك لنا ولكم فيما مضى من هذه العظة.
وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا كثير بن هشام، حدثنا جعفر بن مروان، عن وهب بن منبه.
__________
(1) في صفة الصفوة 2 / 291: معك.
(2) في صفة الصفوة: عما فقدت من الاشياء.
(3) في صفة الصفوة: أيوما يجئ في غرة.
(4) أتاك ولم تأته (صفة الصفوة 2 / 292).
عن الطريق ولم تستقم (1) لسائقها، وإن فتر سائقها حزنت، ولم تتبع قائدها: فإذا اجتمعا استفامت طوعا أو كرها، ولا تستطيع الدين إلا بالطوع والكره، وإن كان كلما كره الانسان شيئا من دينه تركه، أوشك أن لا يبقى معه من دينه شئ.
وقال وهب: إن من حكمة الله عزوجل أنه خلق الخلق مختلفا خلقه ومقاديره، فمنه خلق يدوم ما دامت الدنيا، لا تنقصه الايام ولا تهرمه وتبليه ويموت، ومنه خلق لا يطعم ولا يرزق، ومنه خلق يطعم ويرزق، خلقه الله وخلق معه رزقه، ثم خلق الله من ذلك خلقا في البر وخلقا في البحر، ثم جعل رزق ما خلق في البحر وفي البر، ولا ينفع رزق دواب البر دواب البحر، ولا رزق دواب البحر داب البر، لو خرج ما في البحر إلا البر هلك، ولو دخل ما في البر إلى البحر هلك، ففي ذلك ممن خلق الله في البر والبحر عبرة لمن أهمته قسمة
الارزاق والمعيشة فليعتبر ابن آدم فيما قسم الله من الارزاق، فإنه لا يكون فيها شئ إلا كما قسمه سبحانه بين خلقه، لا يستطيع أحد أن يغيرها ولا أن يخلطها، كما لا تستطيع دواب البر أن تعيش بأرزاق دواب البحر، ولا دواب البحر بأرزاق دواب البر، ولو اضطرت إليه هلكت كلها، فإذا استقرت كل دابة منها فيما رزقت أصلحها ذلك وأحياها، وكذلك ابن آدم إذا استقر وقنع بما قسم الله له من رزقه أحياه ذلك وأصلحه، فإذا تعاطى رزق غيره نقصه ذلك وضره وفضحه.
وقال لعطاء الخراساني: كان العلماء قبلكم قد استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم، فكانوا لا يلتفتون إلى أهل الدنيا، ولا إلى ما في أيديهم، فكان أهل الدنيا يبذلون إليهم دنياهم رغبة في علمهم، فأصبح أهل العلم فينا اليوم يبذلون لاهل الدنيا علمهم رغبة في الدنيا، فأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم لما رأوا من سوء موضعه عندهم، فإياك يا عطاء وأبواب السلطان فإن عند أبوابهم فتنا كمبارك الابل، لا تصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينك مثله.
وقال إبراهيم الجنيد: حدثنا عبد الله بن أبي بكر المقدمي، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الصنعاني قال: سمعت وهب بن منبه يقول: لقي عالم عالما هو فوقه في العلم، فقال: كيف صلاتك ؟ فقال: ما أحسب أحدا سمع بذكر الجنة والنار يأتي عليه ساعة لا يصلي فيها، قال: فكيف ذكرك للموت ؟ قال: ما أرفع قدما ولا أضع أخرى إلا رأيت أني ميت.
فقال: فكيف صلاتك أنت أيها الرجل ؟ فقال: إني لاصلي وأبكي حتى ينبت العشب من دموعي، فقال العالم: أما أنك إن تضحك وأنت معترف بخطيئتك خير لك من أن تبكي وأنت مدل بعلمك، فإن المدل لا يرفع له عمل فقال: أوصني فإني أراك حكيما، فقال أزهد في الدنيا ولا تنازع أهلها فيها، وكن فيها كالنخلة، إن أكلت أكلت طيبا، وإن وضعت وضعت طيبا، وإن وقعت على عدو لم تكسره، وانصح لله نصح الكلب لاهله، فإنهم يجيعونه ويطردونه ويضربونه وهو يأبى إلا أن يحوطهم ويحفظهم، وينصح لهم.
فكان وهب إذا ذكر هذا الحديث قال: واسوأتاه إذا كان الكلب أنصح
__________
(1) كذا بالاصل وفيه تحريف ونقص ظاهر.
لاهله منك يا بن آدم لله عزوجل.
وفي رواية أنه قال: إني لاصلي حتى ترم قدماي، فقال له: إنك إن تبت تائبا، وتصبح نادما، خير لك من أن تبيت قائما وتسبح معجبا، إلى آخره.
وروى سفيان عن رجل من أهل صنعاء عن وهب فذكر الحديث كما تقدم.
وقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى حدثنا الصلت بن عاصم المرادي، عن أبيه عن وهب قال: لما أهبط آدم من الجنة استوحش لفقد أصوات الملائكة، فهبط عليه جبريل فقال: يا آدم ألا أعلمك شيئا تنتفع به في الدنيا والآخرة ؟ قال: بلى.
قال قل: اللهم تمم لي النعمة حتى تهنيني المعيشة، اللهم اختم لي بخير حتى لا تضرني ذنوبي، اللهم اكفني مؤنة الدنيا وكل هول في القيامة حتى تدخلني الجنة في عافية.
وقال عبد الرزاق: حدثني بكار بن عبد الله عن وهب قال: قرأت في بعض الكتب فوجدت الله تعالى يقول: يا بن آدم ما أنصفتني، تذكر بي وتنساني، وتدعو إلي وتفر مني، خيري إليك نازل، وشرك إلي صاعد، ولا يزال ملك كريم قد نزل اليك من أجلك، يا بن آدم إن أحب ما تكون إلي وأقرب ما تكون مني إذا رضيت بما قسمت لك.
وأبغض ما تكون إلي، وأبعد ما تكون مني إذا سخطت بما قسمت لك.
يا بن آدم أطعني فيما أمرتك، ولا تعلمني بما يصلحك، إني عالم بخلقي، وأنا أعلم بحاجتك التي ترفعك من نفسك، إني إنما أكرم من أكرمني، وأهين من هان عليه أمري، لست بناظر في حق عبدي حتى ينظر العبد في حقي.
وقال وهب: قرأت نيفا (1) وتسعين كتابا من كتب الله تعالى فوجدت في جميعها: أن من وكل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر.
وقال: لا يسكن ابن آدم، إن الله هو قسم الارزاق متفاضلة ومختلفة، فإن تقلل ابن آدم شيئا من رزقه فليزدد إلى الله رغبة، ولا يقولن: لو اطلع الله على هذا من حالي، أو شعر به غيره ؟ فكيف لا يطلع على شئ الذي خلقه وقدره ؟ أو يعتبر ابن آدم في غير ذلك مما يتفاضل فيه الناس، كأن الله فاضل بينهم في الاجسام والاموال والالوان والعقول والاحلام، فلا يكبر على ابن آدم أن يفضل عليه في الرزق والمعيشة، ولا يكبر عليه أن يفضل عليه في الحلم والعلم والعقل والدين، أو لا يعلم ابن آدم أن الذي رزقه في ثلاثة أزمان من عمره لم يكن له في واحد منها كسب ولا حيلة، أنه سوف يرزقه في
الزمن الرابع.
أول زمان من أزمانه حين كان في بطن أمه، يخلق فيه ويرزق من غير مال كسبه، وهو في قرار مكين، لا يؤذيه فيه حر ولا برد، ولا شئ ولا هم ولا حزن، وليس له هناك يد تبطش، ولا رجل تسعى، ولا لسان ينطق.
فساق الله عزوجل إليه رزقه هناك على أتم الوجوه وأهناها وأمراها، ثم إن الله عزوجل أراد أن يحوله من تلك المنزلة إلى غيرها.
ويحدث له في الزمن الثاني رزقا من أمه يكفيه ويغنيه، من غير حول منه ولا قوة، ولا بطش ولا سعي، بل تفضلا من الله وجودا، ورزقا
__________
(1) في طبقات ابن سعد 5 / 543: اثنين وتسعين.
أجراه وساقه إليه، ثم أراد الله سبحانه أن ينقله من الزمن الثاني إلى الزمن الثالث من ذلك اللبن إلى رزق يحدثه له من كسب أبويه، بأن يجعل له الرحمة في قلوبهما حتى يؤثراه على نفسهما بكسبهما، ويغنياه ويغذياه بأطيب ما يقدران عليه من الاغذية، وهو لا يعينهما على شئ من ذلك بكسب ولا حيلة، حتى إذا عقل حدث نفسه بأنه إنما يرزق بحيلته ومكسبه وسعيه، ثم يدخل عليه في الزمن الرابع إساءة الظن بربه عزوجل، فيضيع أوامر الله في طلب المعاش وزيادة المال وكثرته، وينظر إلى أبناء الجنس وما عليه من التنافس في طلب الدنيا، فيكسب بذلك ضعف اليقين والايمان، ويمتلئ قلبه فقرا وخوفا منه مع المتاع، ويبتلي بموت القلب وعدم العقل، ولو نظر ابن آدم نظر معرفة وعقل لعلم أنه لن يغنيه في الزمن الرابع إلا من أغناه ورزقه في الازمان الثلاثة قبل، فلا مقال له ولا معذرة مما سلط عليه في الزمان الرابع إلا برحمة الله، فإن ابن آدم كثير الشك يقصر به حكمه وعلمه عن علم الله والتفكر في أمره، ولو تفكر حتى يفهم، وتفهم حتى يعلم، علم أن علامة الله التي بها يعرف، خلقه ثم رزقه لما خلق، وقدره لما قدر.
وقال عطاء الخراساني: لقيت وهبا في الطريق فقلت: حدثني حديثا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز.
فقال: أوحى الله عزوجل إلى داود عليه السلام: يا داود، أما وعزتي وعظمتي لا ينتصر بي عبد من عبادي دون خلقي أعلم ذلك من نيته، فتكيده السموات السبع ومن فيهن، والارضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له منهن فرجا ومخرجا، أما وعزتي وجلالي لا يعتصم عبد
من عبادي بمخلوق دوني أعلم ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السموات من يده، وأسخت الارض من تحته ولا أبالي في أي واد هلك.
وقال أبو بلال الاشعري عن أبي هشام الصنعاني قال: حدثني عبد الصمد بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يقول: وجدت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول: كفاني للعبد مآلا، إذا كان عبدي في طاعتي أعطيته قبل أن يسألني، وأستجيب له من قبل أن يدعوني، فإني أعلم بحاجته التي ترفق به من نفسه.
وقال: قرأت في بعض الكتب أن الشيطان لم يكابد شيئا أشد عليه من مؤمن عاقل لانه إذا كان مؤمنا عاقلا ذا بصيرة فهو أثقل على الشيطان من الجبال الصم، إنه ليزالل المؤمن العاقل فلا يستطيعه، فيتحول عنه إلى الجاهل فيستأمره ويتمكن من قياده.
وقال: قام موسى عليه السلام فلما رأته بنو إسرائيل قاموا، فقال: على مكانكم، ثم ذهب إلى الطور فإذا هو بنهر أبيض فيه مثل رؤوس الكثبان كافور محفوف بالرياحين، فلما رآه أعجبه فدخل عليه فاغتسل وغسل ثوبه، ثم خرج وجفف ثوبه، ثم رجع إلى الماء فاستنضح فيه إلى أن جف ثوبه، فلبسه ثم أخذ نحو الكثيب الآخر الذي فوق الطور، فإذا هو برجلين يحفران قبرا، فقام عليهما فقال: ألا أعينكما ؟ قالا: بلى فنزل فحفر، فقال لهما: لتحدثاني مثل من الرجل ؟ فقالا: على طولك وهيئتك، فاضطجع فيه لينظروا فالتأمت عليه الارض، فلم ينظر إلى قبر موسى عليه السلام إلا الرخم،
فأصمها الله وأبكمها.
وقال: يقول الله عزوجل: لو لا أني كتبت النتن على الميت لحبسه الناس في بيوتهم، ولو لا أني كتبت الفساد على اللحم لحرمه الاغنياء على الفقراء.
وقال: مر عابد براهب فقال له: منذكم أنت في هذه الصومعة ؟ قال: منذ ستين سنة، قال: وكيف صبرت فيها ستين سنة ؟ قال: مر فإن الزمان يمر، وإن الدنيا تمر، ثم قال له: يا راهب كيف ذكرك للموت ؟ قال: ما أحسب عبدا يعرف الله تأتي عليه ساعة إلا يذكر الموت فيها، وما أرفع قدما إلا وأنا أظن أن لا أضعها حتى أموت، وما أضع قدما إلا وأنا أظن أن لا أرفعها حتى أموت، فجعل العابد يبكي، فقال له الراهب: هذا بكاؤك إذا خلوت ؟ - أو قال: كيف أنت إذا
خلوت ؟ - فقال العابد: إني لابكي عند إفطاري فأشرب شرابي بدموعي، ويصرعني النوم فأبل متاعي بدموعي، فقال له الراهب: إنك إن تضحك وأنت معترف بذنبك خير لك من أن تبكي وأنت مدل على الله بعلمك.
فقال: أوصني بوصية، قال: كن في الدنيا بمنزلة النخلة، إن أكلت أكلت طيبا، وإن وضعت وضعت طيبا، وإن سقطت على شئ لم تضره، ولا تكن في الدنيا بمنزلة الحمار إنما همته أن يشبع ثم يرمي بنفسه في التراب، وانصح لله نصح الكلب لاهله، فانهم يجيعونه ويطردونه، وهو يأبى إلا أن يحرسهم ويحفظهم.
قال أبو عبد الرحمن أشرس: وكان طاوس إذا ذكر هذا الحديث بكى وقال: عز علينا أن تكون الكلاب أنصح لاهلها منا لمولانا عزوجل.
وقد تقدم نحو هذا المتن.
وقال وهب: تخلى راهب في صومعته في زمن المسيح: فأراد إبليس أن يكيده فلم يقدر عليه، فأتاه بكل مراد فلم يقدر عليه، فأتاه متشبها بالمسيح فناداه: أيها الراهب اشرف علي أكلمك فأنا المسيح، فقال: إن كنت المسيح فما لي إليك من حاجة، أليس قد أمرتنا بالعبادة ؟ ووعدتنا القيامة ؟ انطلق لشأنك فلا حاجة لي فيك.
قال: فذهب عنه الشيطان خاسئا وهو حسير، فلم يعد إليه.
ومن طريق أخرى عنه قال: أتى إبليس راهبا في صومعته فاستفتح عليه، فقال له: من أنت ؟ قال: أنا المسيح، فقال الراهب: والله لئن كنت إبليس لاخلون بك، ولئن كنت المسيح فما عسى أن أصنع بك اليوم شيئا، لقد بلغتنا رسالة ربك عزوجل فقبلناها عنك، وشرعت لنا الدين فنحن عليه، فاذهب فلست بفاتح لك فقال: صدقت، أنا إبليس ولا أريد إضلالك بعد اليوم أبدا فسلني عما بدا لك أخبرك به.
قال: وأنت صادق ؟ قال لا تسألني عن شئ إلا صدقتك فيه.
قال: فأخبرني أي أخلاق بني آدم أوثق في أنفسكم أن تضلوهم به ؟ قالا ثلاثة أشياء: الجدة، والشح، والشكر.
وقال وهب: قال موسى: يا رب أي عبادك ؟ قال: من لا تنفعه موعظة، ولا يذكرني إذا خلا، قال: إلهي فما جزاء من ذكرك بلسانه وقلبه ؟ قال: يا موسى أظله يوم القيامة بظل عرشي، وأجعله في كنفي.
وقال وهب: لقي عالم عالما هو فوقه في العلم فقال له: رحمك الله ما هذا البناء الذي لا إسراف فيه ؟ قال: ما سترك من الشمس، وأكنك من الغيث.
قال: فما هذا الطعام الذي
لا إسراف فيه ؟ قال: فوق الجوع ودون الشبع من غير تكلف.
قال: فما هذا اللباس الذي لا إسراف فيه ؟ قال: هو ما ستر العورة ومنع الحر والبرد من غير تنوع ولا تلون.
قال: فما هذا الضحك الذي لا إسراف فيه ؟ قال: هو ما أسفر وجهك ولا يسمع صوتك.
قال: فما هذا البكاء الذي لا إسراف فيه ؟ قال: لا تمل من البكاء من خشية الله عزوجل، ولا تبك على شئ من الدنيا.
قال: كم أخفي من عملي ؟ قال: ما أظن بك أنك لم تعمل حسنة.
قال: ما أعلن من عملي ؟ قال: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يأتم بك الحريص، واحذر النظر إلى الناس.
وقال لكل شئ طرفان ووسط، فإذا أمسكت بأحد الطرفين مال الآخر، وإذا أمسكت بالوسط اعتدلا، فعليكم بالوسط من الاشياء.
وقال: أربعة أحرف في التوراة: من لم يشاور يندم، ومن استغنى استأثر، والفقر الموت الاحمر، وكما تدين تدان، ومن تجر فجر.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا بكار بن عبد الله أنه سمع وهب بن منبه يقول: كان رجل من أفضل أهل زمانه، وكان يزار فيعظهم، فاجتمعوا إليه ذات يوم فقال: إنا قد خرجنا عن الدنيا وفارقنا الاهل والاموال مخافة الطغيان، وقد خفنا أن يكون قد دخل علينا في حالنا هذه من الطغيان أعظم وأكثر مما يدخل على أهل الاموال في أموالهم، وعلى الملوك في ملكهم، أرانا يحب أحدنا أن تقضى له الحاجة، وإذا اشترى شيئا أن يحابي لمكان دينه، وأن يعظم إذا لقي الناس لمكان دينه، وجعل يعدد آفات العلماء والعباد الذين يدخل عليهم في دينهم من حب الشرف والتعظيم.
قال: فشاع ذلك الكلام عنه حتى بلغ ملك تلك البلاد، فعجب منه الملك وقال لرؤوس دولته: ينبغي لهذا أن يزار، ثم اتعدوا لزيارته يوما، فركب إليه الملك ليسلم عليه، فأشرف العابد - وكان عالما جيد العلم بآفات العلوم والاعمال ودسائس النفوس - فرأى الارض التي تحت مكانه قد سدت بالخيل والفرسان، فقال ما هذا ؟ فقيل له: هذا الملك قاصد إليك يسلم عليك لما بلغه من حسن كلامك فقال: إنا لله، وما أصنع به ؟ هلكنا والله إن لم نلقن الحجة من عند الله مع هذا الرجل، وينصرف عنا وهو ماقت لنا، ثم سأل خادمه: هل عندك طعام ؟ قال: نعم.
قال: فأت به فضعه بين
أيدينا، قال: هو شئ من ثمر الشجر، وهو شئ من بقل وزيتون، قال: فأت به، فأتى به، ثم أمر بجماعته فاجتمعوا حول ذلك الطعام، فقال: إذا دخل عليكم هذا الرجل فلا يلتفت أحد منكم إليه، ولا يقم له أحد، وأقبلوا على الاكل العنيف، ولا يرفع أحد منكم رأسه، لعل الله يصرفه عنا وهو كاره لنا فإني أخاف الفتنة والشهرة وامتلاء القلب منهما، فلا نخلص إلا بنار جهنم.
قال: فبكى القوم وبكى ذلك الرجل العالم، فلما قترب الملك من جبلهم الذي هم فيه، ترجل الملك ومن معه من أعيان دولته وصعد في الجبل، فلما وصل إلى قرب مكانهم أخذوا في الاكل العنيف، فدخل عليهم الملك وهم يأكلون فلم يرفعوا رؤوسهم إليه، وجعل ذلك العالم الفاضل يلف البقل مع الزيتون مع الكسرة الكبيرة من الخبز ويدخلها في فمه، فسلم عليهم الملك وقال: أيكم العابد ؟
فأشاروا إليه، فقال له الملك: كيف أنت أيها الرجل ؟ فقال له: كالناس - وهو يأكل ذلك الاكل العنيف - فقال الملك: ليس عند هذا خير، ثم أدبر الملك خارجا عنه، وقال: ما عند هذا من علم.
فلما نزل الملك من الجبل نظر إليه العابد من كوة وقال: أيها الملك ! الحمد لله الذي صرفك عني وأنت لي كاره - أو قال: الحمد لله الذي صرفك عني بما صرفك به - وفي رواية ذكر ابن المبارك أنه قال: الحمد لله الذي صرفه عني وهو لي لائم.
وفي رواية أن هذا العابد كان ملكا، وكان قد زهد في الدنيا وتركها، لانه كان قد دخل عليه رجل من بقايا أهل الجنة والعمل الصالح فوعظه، فاتعد معه أن يصحبه، وأنه يخرج عن الملك طلبا لما عنده في الدار الآخرة، وأنه وافقه جماعة من بنيه وأهله ورؤوس دولته، فخرجوا برمتهم، لا يدري أحد أين ذهبوا، وكان هذا الملك من أهل العدل والخير والخوف من الله عزوجل، وكان متسع الملك والمملكة، كثير الاموال والرجال، فساروا حتى أتوا جبلا في أطراف مملكته، كثير الشجر والمياه، فأقاموا به حينا، فقال الملك: إن نحن طال أمرنا ومقامنا في هذا الجبل، سمع بنا الناس من أهل مملكتنا فلا يدعونا، وأني أرى أن نذهب إلى غير مملكتنا فننزل مكانا بعيدا عن الناس، لعل أن نسلم منهم ويسلموا منا، فساروا من ذلك الجبل طالبين بلادا لا يعرفون، فوجدوا بها جبلا
نائيا عن الناس، كثير الاشجار والمياه، قليل الطوارق، وإذا في ذروته عين ماء جارية وأرض متسعة، تزرع لمن أراد الزرع بها، فنزلوا به وبنوا به أماكن للعبادة والسكنى، وزرعوا لهم على ماء تلك العين بعض بقول يأتدمون بها، وأشجار زيتون، وجعلوا يزرعون بأيديهم ويأكلون ثم شاع أمرهم في بعض تلك البلاد القريبة من جبلهم، فجعلوا يأتونهم ويزورونهم، إلى أن شاع ذلك الكلام المتقدم عن ذلك العالم، فبلغ ملك تلك البلاد فقصدهم للزيارة، فذكر القصة كما تقدم، والله أعلم.
وقال وهب: أزهد الناس في الدنيا - وإن كان عليها حريصا - من لم يرض منها إلا بالكسب الحلال الطيب، مع حفظ الامانات، وأرغب الناس فيها وإن كان عنها معرضا، من لم يبال من أين كسبه منها حلالا أو حراما، وإن أجود الناس في الدنيا من جاد بحقوق الله عزوجل، وإن رآه الناس بخيلا فيما سوى ذلك، وإن أبخل الناس في الدنيا من بخل بحقوق الله عزوجل وإن رآه الناس جوادا فيما سوى ذلك.
وقال الطبراني: حدثنا معاذ بن المثنى حدثنا علي بن المديني حدثنا محمد بن عمرو بن مقسم قال: سمعت عطاء بن مسلم يقول: سمعت وهب بن منبه يقول: إن الله تعالى كلم موسى عليه السلام في ألف مقام، وكان إذا كلمه رؤي النور على وجه موسى ثلاثة أيام، ولم يمس موسى امرأة منذ كلمه ربه عزوجل.
وقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا عبد الله بن عامر بن زرارة حدثنا عبد الله بن الاجلح عن محمد بن إسحاق قال: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: سمعت ابن
منبه اليماني يقول: إن للنبوة أثقالا ومؤنة لا يحملها إلا القوي، وإن يونس بن متى كان عبدا صالحا، وكان في خلقه ضيق، فلما حملت عليه النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل، فرفضها من يده وخرج هاربا، فقال الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وسلم): (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) [ الاحقاف: 35 ] وقال: (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم) الآية [ القلم: 48 ] وقال يونس بن بكير، عن أبي إسحاق بن وهب بن منبه عن أبيه قال: أمر الله
الريح أن لا يتكلم أحد من الخلائق بشئ في الارض إلا ألقته في أذن سليمان، فلذلك سمع كلام النملة.
وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن وهب قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا ساح أربعين سنة أري شيئا، كأن يرى علامة القبول، قال: فساح رجل من ولد ربيعة أربعين سنة فلم ير شيئا، فقال: يا رب إذا أحسنت وأساء والداي فما ذنبي ؟ قال: فأري ما كان يرى غيره.
وفي رواية أنه قال: يا رب إذا كان والداي قد أكلا أضرس أنا ؟ وفي رواية عنه أنه قال: يا رب إذا كان والداي قد أساءا أحرم أنا إحسانك وبرك ؟ فأظلته غمامة.
وروى عبد الله بن المبارك عن رباح بن زيد، عن عبد العزيز بن مروان.
قال: سمعت وهب ابن منبه يقول: مثل الدنيا والآخرة مثل ضرتين، إن أرضيت إحداهما أسخطت الاخرى، وقال: إن أعظم الذنوب عند الله بعد الشرك بالله السحر.
وروى عبد الرزاق قال: أخبرني أبي عن وهب قال: إذا صام الانسان زاغ بصره، فإذا أفطر على حلاوة عاد بصره.
وقال ابن المبارك عن بكر بن عبد الله قال سمعت وهبا يقول: مر رجل عابد على رجل عابد فرآه مفكرا، فقال له: مالك ؟ فقال له: أعجب من فلان، إنه كان قد بلغ من عبادته ما بلغ، ثم مالت به الدنيا.
فقال: لا تعجب ممن مال كيف مال، ولكن اعجب ممن استقام كيف استقام.
وقال عبد الله بن الامام أحمد بن حنبل: حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا بكار بن عبد الله قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن بني إسرائيل أصابتهم عقوبة وشدة، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): وددنا أن نعلم ما الذي يرضى ربنا فنتبعه، فأوحى الله عزوجل إليه: إن قومك يقولون: إذا أرضوهم رضيت، وإذا أسخطوهم أسخطت.
وقال عبد الله بن أحمد أيضا: حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن خالد حدثني عمر بن عبد الرحمن قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن عيسى عليه السلام كان واقفا على قبر ومعه الحواريون - أو نفر من أصحابه - قال: وصاحب القبر يدلى فيه، قال: فذكروا من ظلمة القبر وضيقه، فقال عيسى: قد كنتم فيما هو أضيق من ذلك، في أرحام أمهاتكم، فإذا أحب الله أن يوسع وسع، أو كما قال.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا بكار بن عبد الله قال: سمعت وهب بن منبه يقول: كان رجل عابد من السياح أراده الشيطان من قبل الشهوة والرغبة والغضب، فلم يستطع منه شيئا من
ذلك، فتمثل له حية وهو يصلي، فمضى ولم يلتفت إليه، فالتوى على قدميه فلم يلتفت إليه، فدخل ثيابه وأخرج رأسه من عند رأسه فلم يلتفت ولم يستأخر، فلما أراد أن يسجد التوى في موضع سجوده، فلما وضع رأسه ليسجد فتح فاه ليلتقم رأسه، فوضع رأسه فجعل يعركه حتى استمكن من السجود على الارض.
ثم جاءه على صورة رجل فقال له: أنا صاحبك الذي أخوفك، أتيتك من قبل الشهوة والغضب والرغبة، وأنا الذي كنت أتمثل لك بالسباع والحيات فلم أستطع منك شيئا، وقد بدا لي أن أصادقك ولا آتيك في صلاتك بعد اليوم.
فقال له العابد: لا يوم خوفتني خفتك، ولا اليوم بي حاجة في مصادقتك.
قال: سلني عما شئت أخبرك.
قال فما عسيت أن أسألك ؟ قال: ألا تسألني عن مالك ما فعل به بعدك ؟ قال: لو أردت ذلك ما فارقته.
قال: أفلا تسألني عن أهلك من مات منهم ومن بقي ؟ قال: أنا مت قبلهم.
قال: أفلا تسألني عما أضل به الناس ؟ قال: أنت أضلهم.
فأخبرني عن أوثق ما في نفسك تضل به بني آدم.
قال: ثلاثة أخلاق، الشح، والحدة، والسكر.
فإن الرجل إذا كان شحيحا قللنا ماله في عينه ورغبناه في أموال الناس، وإذا كان حديدا تداولناه بيننا كما يتداول الصبيان الكرة، ولو كان يحيي الموتى بدعوته لم نيأس منه، وكل ما يبنيه نهدمه، لنا كلمة واحدة.
وإذا سكر قدناه إلى كل شر وفضيحة وخزي وهوان كما تقاد القط إذا أخذ بأذنها كيف شئنا.
وقال وهب: أصاب أيوب البلاء سبع سنين، وترك يوسف في السجن سبع سنين، ومسخ بختنصر في السباع سبع سنين.
وسئل وهب عن الدنانير والدراهم فقال: هي خواتيم رب العالمين، فالارض لمعايش بني آدم لا تؤكل ولا تشرب، فأينما ذهبت بخاتم رب العالمين قضيت حاجتك، وهي أزمة المنافقين بها يقادون إلى الشهوات.
وروى داود بن عمر الضبي، عن ابن المبارك، عن معمر، عن سماك بن المفضل عن وهب قال: مثل الذي يدعو بغير عمل مثل الذي
يرمي بغير وتر.
وقال ابن المبارك: أخبرني عمر بن عبد الرحمن بن مهرب قال: سمعت وهبا يقول: قال حكيم من الحكماء: إني لاستحي من الله عزوجل أن أعبده رجاء ثواب الجنة فقط، فأكون كالاجير السوء، إن أعطي عمل وإن لم يعط لم يعمل، وإني لاستحي من الله أن أعبده مخافة النار فقط، فأكون كالعبد السوء إن رهب عمل وإن ترك لم يعمل، وإني ليستخرج مني حب الله ما لا يستخرج مني غيره.
وقال السري بن يحيى: كتب وهب إلى مكحول: إنك قد أصبت بما ظهر من علم الاسلام عند الناس محبة وشرفا، فاطلب بما بطن من علم الانسان عند الله محبة وزلفى، واعلم أن إحدى المحبتين تمنع الاخرى - أو قال: سوف تمنعك الاخرى - وقال زافر بن سليمان عن أبي سنان الشيباني قال: بلغنا أن وهب بن منبه قال: قال لقمان لابنه: يا بني: اتخذ طاعة الله تجارة تريد بها ربح الدنيا والآخرة والايمان سفينتك التي تحمل عليها، والتوكل على الله شراعها، والدنيا بحرك، والايام
موجك، والاعمال الصالحة تجارتك التي ترجو ربحها، والنافلة هي هديتك التي ترجو بها كرامتك، والحرص عليها يسيرها ويزجيها، ورد النفس عن هواها مراسيها، والموت ساحلها، والله ملكها وإليه مصيرها.
وأحب التجار إلى الله وأفضلهم وأقربهم منه أكثرهم بضاعة وأصفاهم نية، وأخلصهم هدية.
وأبغضهم إليه أقلهم بضاعة، وأردأهم هدية، وأخبثهم طوية، فكلما حسنت تجارتك ازداد ربحك، وكلما خلصت هديتك، تكرم.
وفي رواية عنه أنه قال: قال لقمان لابنه: يا بني اتخذ طاعة الله بضاعة تأتك الارباح من كل مكان، واجعل سفينتك تقوى الله، وحشوها التوكل على الله، وشراعها الايمان بالله، وبحرك العلم النافع والعمل الصالح لعلك أن تنجو، وما أراك بناج.
وقال عبد الله بن المبارك عن رباح بن زيد عن رجل قال: إن للعلم طغيانا كطغيان المال.
وقال الطبراني: حدثنا عبيد بن محمد الصنعاني، حدثنا أبو قدامة همام بن مسلمة بن عقبة، حدثنا غوث بن جابر، حدثنا عقيل بن منبه قال: سمعت عمي وهب بن منبه يقول: الاجر من الله عزوجل معروض، ولكن لا يستوجبه من لا يعمل، ولا يجده من لا يبتغيه، ولا يبصره من لا ينظر
إليه، وطاعة الله قريبة ممن يرغب فيها، بعيدة ممن زهد فيها، ومن يحرص عليها يصل إليها، ومن لا يحبها لا يجدها، لا تسبق من سعى إليها، ولا يدركها من أبطأ عنها، وطاعة الله تشرف من أكرمها، وتهين من أضاعها، وكتاب الله يدل عليها، والايمان بالله يحض عليها.
وقال الامام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا عمر بن عبد الرحمن، سمعت وهب بن منبه يقول قال داود عليه السلام: يا رب أي عبادك أحب إليك ؟ قال: مؤمن حسن الصورة حسن العمل.
قال: يا رب أي عبادك أبغض إليك ؟ قال: كافر حسن الصورة كفر أو شكر، هذان.
وفي رواية ذكرها أحمد بن حنبل: أي عبادك أبغض إليك ؟ قال: عبد استخارني في أمر فخرت له فلم يرض به.
وقال إبراهيم بن الجنيد: حدثني إبراهيم بن سعيد، عن عبد المنعم بن إدريس، حدثنا عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه قال: كان سائح يعبد الله تعالى، فجاءه إبليس أو شيطان فتمثل بانسان فجعل يريه أنه يعبد الله تعالى، وجعل يزيد عليه في العبادة، فأحبه ذلك السائح لما رأى من اجتهاده وعبادته، فقال له الشيطان - والسائح في مصلاه -: لو دخلنا إلى المدينة فخالطنا الناس وصبرنا على أذاهم وأمرنا ونهينا، كان أعظم لاجرنا، فأجابه السائح إلى ذلك، فلما أخرج السائح إحدى رجليه من باب مكانه لينطلق معه، هتف به هاتف فقال: إن هذا شيطان أراد أن يفتنك.
فقال السائح.
رجل خرجت في معصية الله وطاعة الشيطان لا تدخل معي، فما حولها من موضعها ذلك حتى فارق الدنيا، فأنزل الله تعالى ذكره في بعض كتبه فقال: وذو الرجل.
وقال وهب: أتى رجل من أفضل أهل زمانه إلى ملك كان يفتن الناس على أكل لحم الخنزير،
فأعظم الناس مكانه، وهالهم أمره، فقال له صاحب شرطة الملك - سرا بينه وبينه -: أيها العالم، أذبح جديا مما يحل لك أكله ثم ادفعه إلي حتى أصنعه لك على حدته، فإذا دعا الملك بلحم الخنزير أمرت به فوضع بين يديك، فتأكل منه حلالا ويرى الملك والناس أنك إنما أكلت لحم الخنزير، فذبح ذلك العالم جديا، ثم دفعه إلى صاحب الشرطة فصنعه له، وأمر الطباخين إذا أمر الملك بأن يقدم إلى
هذا العالم لحم الخنزير، أن يضعوا بين يديه لحم هذا الجدي واجتمع الناس، لينظروا أمر هذا العالم فيه أيأكل أم لا، وقالوا إن أكل أكلنا وإن امتنع امتنعنا.
فجاء الملك فدعا لهم بلحوم الخنازير فوضعت بين أيديهم، ووضع بين يدي ذلك العالم لحم ذلك الجدي الحلال المذكي، فألهم الله ذلك العالم فألقى في روعه وفكره، فقال: هب أني أكلت لحم الجدي الذي أعلم حله أنا، فماذا أصنع بمن لا يعلم ؟ والناس إنما ينتظرون أكلي ليقتدوا بي، وهم لا يعلمون إلا أني إنما أكلت لحم الخنزير فيأكلون اقتداء بي، فأكون ممن يحمل أوزارهم يوم القيامة، لا أفعل والله وإن قتلت وحرقت بالنار، وأبى أن يأكل، فجعل صاحب الشرطة يغمز إليه ويومي إليه ويأمره بأكله، أي إنما هو لحم الجدي، فأبى أن يأكل، ثم أمره الملك أن يأكل فأبى، فألحوا عليه فأبى، فأمر الملك صاحب الشرطة بقتله، فلما ذهبوا به ليقتلوه.
قال له صاحب الشرطة: ما منعك أن تأكل من اللحم الذي ذكيته أنت ودفعته ألي ؟ أظننت أني أتيتك بغيره وخنتك فيما أئتمنتني عليه ؟ ما كنت لافعل والله.
فقال له العالم قد علمت أنه هو، ولكن خفت أن يتأسى الناس بي، وهم إنما ينتظرون أكلي منه، ولا يعلمون إلا أني إنما أكلت لحم الخنزير، وكذلك كل من أريد على أكله فيما يأتي من الزمان يقول: قد أكله فلان، فأكون فتنة لهم.
فقتل رحمه الله.
فينبغي للعالم أن يحذر المعايب، ويجتنب المحذورات، فإن زلته وناقصته منظورة يقتدي بها الجاهل.
وقال معاذ بن جبل: اتقوا زيغة الحكيم، وقال غيره: اتقوا زلة العالم، فإنه إذا زل زل بزلته عالم كبير.
ولا ينبغي له أن يستهين بالزلة وإن صغرت، ولا يفعل الرخص التي اختلف فيها العلماء، فإن العالم هو عصاة كل أعمى من العوام، بها يصول على الحق ليدحضه، ويقول: رأيت فلانا العالم، وفلانا وفلانا يفعلون ويفعلون.
وليجتنب العوائد النفسية، فإنه قد يفعل أشياء على حكم العادة فيظنها الجاهل جائزة أو سنة أو واجبة، كما قيل: سل العالم يصدقك ولا تقتد بفعله الغريب، ولكن سله عنه يصدقك إن كان ذا دين، وكم أفسد النظر إلى غالب علماء زمانك هذا من خلق، فما الظن بمخالطتهم ومجالستهم ولكن (من يهدي الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) [ الكهف: 17 ].
وقال محمد بن عبد الملك بن زنجويه: حدثنا عبد الرزاق عن أبيه قال: قلت لوهب بن
منيه: كنت ترى الرؤيا فتخبرنا بها، فلا نلبث أن نراها كما رأيتها، قال: ذهب ذلك عني منذ وليت القضاء.
قال عبد الرزاق: فحدثت به معمرا فقال: والحسن بعد ما ولي القضاء لم يحمدوا فهمه، فمن يأمن القراء بعدك يا شهر ؟ فكيف حال من قد غرق في قاذورات الدنيا من علماء زمانك هذا،
ولا سيما من بعد فتنة تمرلنك ؟ فإن القلوب قد امتلات بحب الدنيا، فلا يجد العلم فيها موضعا، فجالس من شئت منهم لتنظر مبادئ مجالستهم وغاياتها، ولا تستخفك البدوات، فإنما الامور بعواقبها وخواتيمها ونتائجها، وغاياتها.
(ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) [ الطلاق: 2 - 3 ] وقال وهب: البلاء للمؤمن كالشكال للدابة.
وقال أبو بلال الاشعري: عن أبي شهاب الصنعاني، عند عبد الصمد، عن وهب قال: من أصيب بشئ من البلاء فقد سلك به طريق الانبياء.
وقال عبد الله بن الامام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق قال: أنبأنا منذر قال: سمعت وهبا يقول: قرأت في كتاب رجل من الحواريين: إذا سلك بك طريق - أو قال سبيل - أهل البلاء فطب نفسا، فقد سلك بك طريق الانبياء والصالحين.
وقال الامام أحمد: حدثنا أحمد بن جعفر، حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثني أمية بن شبل، عن عثمان بن بزدويه قال: كنت مع وهب وسعيد بن جبير يوم عرفة تحت نخيل ابن عامر، فقال وهب لسعيد: يا أبا عبد الله ! كم لك منذ خفت من الحجاج ؟ قال: خرجت عن امرأتي وهي حامل فجاءني الذي في بطنها وقد خرج [ شعر ] وجهه، فقال له وهب: إن من كان قبلكم كان إذا أصابه بلاء عده رجاء، وإذا أصابه رجاء عده بلاء.
وروى عبد الله بن أحمد بسنده عن وهب قال: قرأت في بعض الكتب: ليس من عبادي من سحر أو سحر له، أو تكهن أو تكهن له، أو تطير أو تطير له، فمن كان كذلك فليدع غيري، فإنما هو أنا وخلقي كلهم لي.
وقال الامام احمد: حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا رباح، عن جعفر بن محمد، عن التيمي، عن وهب أنه قال: دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول الاغنياء الجنة.
قلت: هذا إنما هو لشدة الحساب وطول وقوف الاغنياء في الكرب، كما قد ضربت الامثال للشدائد.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق: حدثنا بكار قال سمعت وهبا يقول: ترك المكافأة من التطفيف.
وقال الامام أحمد: حدثنا الحجاج وأبو النصر: قالا: حدثنا محمد بن طلحة، عن محمد بن جحادة عن وهب قال: من يتعبد يزدد قوة، ومن يتكسل يزدد فترة.
وقد قال غيره: إن حوراء جاءته في المنام في ليلة باردة فقالت له: قم إلى صلاتك فهي خير لك من نومة توهن بدنك.
ورأيت في ذلك حديثا لم يحضرني الآن.
وهذا أمر مجرب أن العبادة تنشط البدن وتلينه، وأن النوم يكسل البدن فيقسيه، وقد قال بعض السلف لما تبع ضلة ابن أشيم حين دخل تلك الغيضة، وأنه قام ليلته إلى أن أصبح، قال فأصبح كأنه بات على الحشايا، وأصبحت ولي من الكسل والفتور ما لا يعلمه إلا الله عزوجل.
وقد قيل للحسن: ما بال المتعبدين أحسن الناس وجوها ؟ قال: لانهم خلوا بالجليل فألبسهم نورا من نوره وقال يحيى بن أبي كثير: والله ما رجل يخلو بأهله عروسا أقر ما كانت نفسه وآنس، بأشد سرورا منهم بمناجاة ربهم تعالى إذا خلوا به.
وقال عطاء الخراساني: قيام الليل محياة للبدن،
ونور في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البصر والاعضاء كلها، وإن الرجل إذا قام بالليل أصبح فرحا مسرورا، وإذا نام عن حزبه أصبح حزينا مكسور القلب كأنه قد فقد شيئا، وقد فقد أعظم الامور له نفعا.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو جعفر: أحمد بن منيع، حدثنا هاشم بن القاسم أبو النصر، حدثنا بكر بن حبيش عن محمد القرشي، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن بلال قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الاثم، وتكفير عن السيئات، ومطردة للشيطان عن الجسد " وقد رواه غيره من طرق: " عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم) ويكفي في هذا الباب ما رواه أهل الصحيح والمسانيد عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب مكان كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد.
فإذا استيقظ وذكر الله
انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان " وهذا باب واسع.
وقد قال هود فيما أخبر الله عنه: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) [ المؤمنون: 32 ] ثم قال: (ويزدكم قوة إلى قوتكم) [ هود: 52 ] وهذه القوة تشمل جميع القوى، فيزيد الله عابديه قوة في إيمانهم ويقينهم ودينهم وتوكلهم، وغير ذلك مما هو من جنس ذلك، ويزدهم قوة في أسماعهم وأبصارهم وأجسادهم وأموالهم وأولادهم وغير ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثني عبد الصمد أنه سمع وهبا يقول: تصدق صدقة رجل يعلم أنه إنما قدم بين يديه ماله وما خلف ومال غيره.
قلت: وهذا كما في الحديث " أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ فقالوا: كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه، فقال: إن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر ".
قال: وسمعت وهبا على المنبر يقول: احفظوا عني ثلاثا، إياكم وهوى متبعا، وقرين سوء، وإعجاب المرء بنفسه.
وقد رويت هذه الالفاظ في حديث.
وقال الامام أحمد: حدثنا يونس بن عبد الصمد بن معقل، حدثنا إبراهيم بن الحجاج، قال: سمعت وهبا يقول: أحب بني آدم إلى الشيطان النؤوم الاكول.
وقال الامام أحمد: حدثنا غوث بن جابر، حدثنا عمران بن عبد الرحمن أبو الهذيل أنه سمع وهبا يقول: إن الله عزوجل يحفظ بالعبد الصالح القيل من الناس.
وقال أحمد أيضا: حدثنا إبراهيم بن عقيل، حدثنا عمران أبو الهذيل من الانباء عن وهب بن منبه قال: ليس من الآدميين أحد إلا ومعه شيطان موكل به، فأما الكافر فيأكل معه ويشرب معه، وينام معه على فراشه.
وأما المؤمن فهو مجانب له ينتظر متى يصيب منه غفلة أو غرة.
وأحب الآدميين إلى الشيطان الاكول النؤوم.
وقال محمد بن غالب: حدثنا أبو المعتمر ابن أخي بشر بن منصور، عن داود بن أبي هند
عن وهب.
قال: قرأت في بعص الكتب الذي أنزلت من السماء على بعض الانبياء: أن الله تعالى قال لابراهيم عليه الصلاة والسلام: أتدري لم اتخذتك خليلا ؟ قال: لا يا رب، قال: لذل
مقامك بين يدي في الصلاة.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا محمد بن أيوب، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن إدريس بن وهب بن منبه قال: حدثني أبي قال: كان لسليمان بن داود ألف بيت أعلاه قوارير وأسلفه حديد فركب الريح يوما فمر بحراث فنظر إليه الحراث فاستعظم ما أوتي سليمان من الملك، فقال: لقد أوتي آل داود ملكا عظيما، فحملت الريح كلام الحراث فألقته في أذن سليمان، قال: فأمر الريح فوقفت، ثم نزل يمشي حتى أتى الحراث فقال له: إني قد سمعت قولك، وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى مالا تقدر عليه مما أقدرني الله عليه تفضلا وإحسانا منه علي، لانه هو الذي أقامني لهذا وأعانني.
ثم قال: والله لتسبيحة واحدة يقبلها الله عزوجل منك أو من مؤمن خير مما أوتي آل داود من الملك، لان ما أوتي آل داود من ملك الدنيا يفنى، والتسبيحة تبقى، وما يبقى خير مما يفنى.
فقال الحراث: أذهب الله همك كما أذهبت همي.
وقال الامام أحمد: حدثنا إبراهيم بن عقيل بن معقل، حدثني أبي، عن وهب بن منبه.
قال: إن الله عزوجل أعطى موسى عليه السلام نورا، فقال له هارون: هبه لي يا أخي، فوهبه له، فأعطاه هارون ابنه، وكان في بيت المقدس آنية تعظمها الانبياء والملوك، فكان ابنا هارون يسقيان في تلك الآنية الخمر، فنزلت نار من السماء فاختطفت ابني هارون فصعدت بهما، ففزع هارون لذلك فقام مستغيثا متوجها بوجهه إلى السماء بالدعاء والتضرع، فأوحى الله إليه: يا هارون هكذا أفعل بمن عصاني من أهل طاعتي، فكيف فعلي بمن عصاني من أهل معصيتي ؟.
وقال الحكم بن أبان: نزل بي ضيف من أهل صنعاء فقال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن الله عزوجل في السماء السابعة دارا يقال لها البيضاء يجمع فيها أرواح المؤمنين، فإذا مات الميت من أهل الدنيا تلقته الارواح فيسألونه عن أخبار الدنيا كما يسأل الغائب أهله إذا قدم عليهم.
وقال: من جعل شهوته تحت قدمه فزع الشيطان من ظلمه، فمن غلب علمه هواه فذلك العالم الغلاب.
وقال فضيل بن عياض: أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي، وما يكابدون في طلب مرضاتي، فكيف بهم إذا صاروا إلى داري، وتبحبحوا في رياض نعمتي ؟ هنالك فليبشر
المضعفون لله أعمالهم بالنظر العجيب من الحبيب القريب، أتراني أنسى لهم عملا ؟ وكيف وأنا ذو الفضل العظيم أجود على المولين المعرضين عني، فكيف بالمقبلين علي ؟ وما غضبت على شئ كغضبي على من أخطأ خطيئة فاستعظمها في جنب عفوي، ولو تعاجلت بالعقوبة أحدا، أو كانت العجلة من شأني، لعاجلت القانطين من رحمتي.
ولو رآني عبادي المؤمنون كيف استوهبهم ممن
اعتدوا عليه، ثم أحكم لمن وهبهم بالخلد المقيم، اتهموا فضلي وكرمي، أنا الديان الذي لا تحل معصيتي، والذي أطاعني أطاعني برحمتي، ولا حاجة لي بهوان من خاف مقامي.
ولو رآني عبادي يوم القيامة كيف أرفع قصورا تحار فيها الابصار فيسألوني: لمن ذا ؟ فأقول: لمن وهب لي ذنبا ما لم يوجب على نفسه معصيتي والقنوط من رحمتي، وإني مكافئ على المدح فامدحوني.
وقال سلمة بن شبيب: حدثنا سلمة بن عاصم، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقبة، حدثنا عبد الرحمن أبو طالوت حدثني مهاجر الاسدي عن وهب.
قال: مر عيسى بن مريم ومعه الحواريون بقرية قد مات أهلها، إنسها وجنها، وهو امها وأنعامها وطيورها، فقام عليها ينظر إليها ساعة ثم أقبل على أصحابه فقال: إنما مات هؤلاء بعذاب من عند الله، ولو لا ذلك لماتوا متفرقين.
ثم ناداهم عيسى: يا أهل القرية، فأجابه مجيب: لبيك يا روح الله، فقال: ما كانت جنايتكم وسبب هلاككم ؟ قال عبادة الطاغوت وحب الدنيا، قال: وما كانت عبادتكم للطاغوت ؟ قال: طاعة أهل المعاصي هي عبادة الطاغوت.
قال: وما كان حبكم للدنيا ؟ قال: كحب الصبي لامه، كنا إذا أقبلت فرحنا، وإذا أدبرت حزنا، مع أمل بعيد، وإدبار عن طاعة الله، وإقبال على مساخطه.
قال: فكيف كان هلاككم ؟ قال: بتنا ليلة في عافية وأصبحنا في هاوية، قال: وما الهاوية ؟ قال: سجين، قال: وما السجين ؟ قال: جمرة من نار مثل أطباق الدنيا كلها دفنت أرواحنا فيها، قال: فما بال أصحابك لا يتكلمون ؟ قال: لا يستطيعون أن يتكلموا.
قال: وكيف ذلك ؟ قال: هم ملجمون بلجم من نار.
قال: وكيف كلمتني أنت من بينهم ؟ قال: كنت فيهم لما أصابهم العذاب ولم أكن منهم ولا على أعمالهم، فلما جاء البلاء عمني معهم، وأنا معلق بشعرة في الهاوية لا أدري
أكردس (1) فيها أم أنجو.
فقال عيسى عليه السلام عند ذلك لاصحابه: بحق أقول لكم: لخبز الشعير وشرب الماء القراح والنوم على المزابل كثير مع عافية الدنيا والآخرة.
وروى الطبراني عنه أنه قال: لا يكون المرء حكيما حتى يطيع الله عز وجل، وما عصى الله حكيم، ولا يعصى الله إلا أحمق، وكما لا يكمل النهار إلا بالشمس، ولا يعرف الليل إلا بالظلام، كذلك لا تكمل الحكمة إلا بطاعة الله عز وجل، ولا يعصى الله حكيم، كما لا يطير الطير إلا بجناحين، ولا يستطيع من لا جناح له أن يطير، كذلك لا يطيع الله من لا يعمل له، ولا يطيق عمل الله من لا يطيعه.
وكما لا مكث للنار في الماء حتى تطفأ، كذلك لا مكث لعمل الرياء حتى يبور.
وكما يبدي سر الزانية وفضيحتها فعلها، كذلك يفتضح بالفعل السئ من كان يقرأ لجليسه بالقول الحسن ولم يعمل به.
وكما تكذب معذرة السارق بالسرقة إذا ظهر عليها عنده، كذلك تكذب معصية القارئ لله قراءته إذا كان يقرأها لغير الله تعالى.
__________
(1) أكردس فيها: أمشي وأنا مقارب الخطو كالمقيد.
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن النضر، حدثنا علي بن بحر بن بري، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثنا عبد الصمد بن معقل.
قال سمعت وهبا يقول: في مزامير آل داود: طوبى لمن يسلك سبيل الحطابين ولا يجالس البطالين، وطوبى لمن يسك طريق الائمة ويستقيم على عبادة ربه، فمثله كمثل شجرة نابتة على ساقية لا تزال فيها الحياة، ولا تزال خضراء.
وروى الطبراني أيضا عنه قال: إذا قامت الساعة صرخت الحجارة صراخ النساء، وقطرت العضاه دما.
وروي عنه أنه قال: ما من شئ إلا يبدو صغيرا ثم يكبر، إلا المصيبة فإنها تبدو كبيرة ثم تصغر وروي عنه أيضا أنه قال: وقف سائل على باب داود عليه السلام، فقال: يا أهل بيت النبوة تصدقوا علينا بشئ رزقكم الله رزق التاجر المقيم في أهله.
فقال داود: أعطوه، فوالذي نفسي بيده إنها لفي الزبور.
وقال: من عرف بالكذب لم يجز صدقه، ومن عرف بالصدق ائتمن على حديثه، ومن أكثر الغيبة والبغضاء لم يوثق منه بالنصيحة، ومن عرف بالفجور والخديعة لم يؤمن إليه في المحنة، ومن انتحل فوق قدره
جحد قدره، ولا تستحسن فيك ما تستقبح في غيرك.
هذه الآثار رواها الطبراني عنه من طرق.
وروى داود بن عمرو عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عثمان بن خيثم.
قال: قدم علينا وهب مكة فطفق لا يشرب ولا يتوضأ إلا من زمزم، فقيل له: مالك في الماء العذب ؟ فقال: ما أنا بالذي أشرب وأتوضأ إلا من زمزم حتى أخرج منها، إنكم لا تدرون ما ماء زمزم، والذي نفسي بيده إنها لفي كتاب الله طعام طعم، وشفاء سقم، ولا يعمد أحد إليها يتضلع منها ريا، ابتغاء بركتها، إلا نزعت منه داء وأحدثت له شفاء.
وقال: النظر في زمزم عبادة.
وقال: النظر فيها يحط الخطايا حطا.
وقال وهب: مسخ بختنصر أسدا فكان ملك السباع، ثم مسخ نسرا فكان ملك الطيور، ثم مسخ ثورا فكان ملك الدواب، وهو في كل ذلك يعقل عقل الانسان، وكان ملكه قائما يدبر، ثم رد الله عليه روحه إلى حالة الانسان، فدعا إلى توحيد الله وقال: كل إله باطل إلا إله السماء.
فقيل له: أمات مؤمنا ؟ فقال: وجدت أهل الكتاب قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: آمن قبل أن يموت، وقال بعضهم: قتل الانبياء، وحرق الكتب، وحرق بيت المقدس، فلم يقبل منه التوبة.
هكذا رواه الطبراني عن محمد بن أحمد بن الفرج، عن عباس بن يزيد، عن عبد الرزاق، عن بكار بن عبد الله، قال: سمعت وهب بن منبه يقول، فذكره.
وقال وهب: كان رجل بمصر فسألهم ثلاثة أيام أن يطعموه فلم يطعموه، فمات في اليوم الرابع فكفنوه ودفنوه، فأصبحوا فوجدوا الكفن في محرابهم مكتوب عليه: قتلتموه حيا وبررتموه ميتا ؟ قال يحيى: فأنا رأيت القرية التي مات فيها ذلك الرجل، وما بها أحد إلا وله بيت ضيافة، لا غني ولا فقير هكذا رواه يحيى بن عبد الباقي عن علي بن الحسن، عن عبد الله بن أخي وهب، قال: حدثني عمي وهب بن منبه فذكره.
قال: وأهل القرية يعترفون بذلك.
فمن ثم اتخذوا بيوتا للضيفان والفقراء خوفا من ذلك.
وقال عبد الرزاق عن بكار عن وهب.
قال: إذا دخلت الهدية من الباب
خرج الحق من الكوة.
وقال إبراهيم بن الجنيد: حدثنا إبراهيم بن سعيد، عن عبد المنعم بن إدريس، عن عبد الصمد، عن وهب بن منبه قال: مر نبي من الانبياء على عابد في كهف جبل،
فمال إليه فسلم عليه وقال له: يا عبد الله منذكم أنت هاهنا ؟ قال: منذ ثلثمائة سنة.
قال: من أين معيشتك ؟ قال: من ووق الشجر، قال: فمن أين شرابك ؟ قال: من ماء العيون، قال: فأين تكون في الشتاء ؟ قال: تحت هذا الجبل، قال: فكيف صبرك على العبادة ؟ قال: وكيف لا أصبر وإنما هو يومي إلى الليل، وأما أمس فقد مضى بما فيه، وأما غد فلم يأت بعد.
قال فعجب النبي من قوله: إنما هو يومي إلى الليل.
وبهذا الاسناد أن رجلا من العباد قال لمعلمه: قطعت الهوى فلست أهوى من الدنيا شيئا.
فقال له معلمه: أتفرق بين النساء والدواب إذا رأيتهن معا ؟ قال: نعم، قال أتفرق بين الدنانير والدراهم والحصا ؟ قال: نعم، قال: يا بني إنك لم تقطع الهوى عنك ولكنك قد أوثقته فاحذر انفلاته وانقلابه.
وقال غوث بن جابر بن غيلان بن منبه: حدثني عقيل بن معقل، عن وهب قال: اعمل في نواحي الدين الثلاث، فإن للدين نواحي ثلاثا، هن جماع الاعمال الصالحة لمن أراد جمع الصالحات " أولاهن " تعمل شكر الله على الانعم الكثيرات الغاديات الرائحات (1)، الظاهرات الباطنات، الحادثات القديمات، يعمل المؤمن شكرا لهن ورجاء تمامهن " والناحية الثانية من الدين " رغبة في الجنة التي ليس لها ثمن وليس لها مثل، ولا يزهد فيها وفي العمل لها إلا سفيه فاجر، أو منافق كافر " والناحية الثالثة من الدين " أن يعمل المؤمن فرارا من النار التي ليس لاحد عليها صبر، ولا لاحد بها طاقة ولا يدان، وليست مصيبتها كالمصيبات، ولا حزن أهلها كالاحزان، نبأها عظيم، وشأنها شديد، والآخرة وحزنها فظيع، ولا يغفل عن الفرار والتعوذ بالله منها إلا سفيه أحمق خاسر، (قد خسر الدنيا ذلك هو الخسران المبين) [ الحج: 11 ].
وقال إسحاق بن راهويه: حدثنا عبد الملك بن محمد الدمادي، قال: أخبرني محمد بن سعيد بن رمانة قال: أخبرني أبي قال: قيل لوهب: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله ؟ قال: بلى، ولكن ليس من مفتاح إلا وله أسنان، فمن أتى الباب بمفتاح بأسنانه فتح له، ومن لم يأت الباب بمفتاح بأسنانه لم يفتح له.
وقال محمد: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول: ركب ابن ملك في جند من قومه وهو شاب، فصرع عن فرسه فدق عنقه فمات في
أرض قريبة من القرى، فغضب أبوه وحلف أن يقتل أهل تلك القرية عن آخرهم، وأن يطأهم بالافيال، فما أبقت الافيال وطئته الخيل، فما أبقت الخيل وطئته الرجال، فتوجه إليهم بعد أن سقى
__________
(1) الغاديات: مفردها الغادية وهي السحابة تنشأ غدوة.
والرائحات: الامطار أو السحب التي تجئ رواحا أي عند العشي.
الافيال والخيل الخمر وقال: طأوهم بالافيال، وإلا فما أبقت الافيال فلتطأه الخيل، فما أخطأنه الخيل فلتطأه الرجال فلما سمع بذلك أهل تلك القرية وعرفوا أنه قد قصدهم لذلك، خرجوا بأجمعهم فجأروا إلى الله سبحانه وعجوا إليه وابتهلوا يدعونه تعالى ليكشف عنهم شر هذا الملك الظالم، وما قصده هلاكهم.
فبينما الملك وجيشه سائرون على ذلك، وأهل القرية في الابتهال والدعاء والتضرع إلى الله تعالى، إذ نزل فارس من السماء فوقع بينهم، فنفرت الافيال فطغت على الخيل وطغت الخيل على الرجال، فقتل الملك ومن معه وطأ بالافيال والخيل، ونجى الله أهل تلك القرية من بأسهم وشرهم.
وروى عبد الرزاق عن المنذر بن النعمان أنه سمع وهبا يقول: قال الله تعالى لصخرة بيت المقدس: لاضعن عليك عرشي، ولاحشرن عليك خلقي، وليأتينك داود يومئذ راكبا.
وروى سماك بن المفضل عن وهب قال: إني لا تفقد أخلاقي وما فيها شئ يعجبني.
وروى عبد الرزاق عن أبيه قال قال وهب: ربما صليت الصبح بوضوء العتمة.
وقال بقية بن الوليد: حدثنا زيد بن خالد عن خالد بن معدان عن وهب قال: كان نوح عليه السلام من أجمل أهل زمانه، وكان يلبس البرقع فأصابهم مجاعة في السفينة، فكان نوح إذا تجلى لهم شبعوا.
وقال: قال عيسى: الحق أقول لكم: إن أشدكم جزعا على المصيبة أشدكم حبا للدنيا.
وقال جعفر بن برقان: بلغنا أن وهبا كان يقول: طوبى لمن نظر في عيبه عن عيب غيره، وطوبى لمن تواضع لله من غير مسكنة، ورحم أهل الذل والمسكنة، وتصدق من مال جمعه من غير معصية، وجالس أهل العلم والحلم والحكمة، ووسعته السنة ولم يتعدها إلى البدعة.
وروى سيار عن جعفر، عن عبد الصمد بن معقل عن وهب قال:
وجدت في زبور داود: يا داود هل تدري من أسرع الناس مرا على الصراط ؟ الذين يرضون بحكمي، وألسنتهم رطبة بذكري.
وقيل إن عابدا عبد الله تعالى خمسين سنة فأوحى الله إلى نبيهم: إني قد غفرت له، فأخبره ذلك النبي، فقال: أي رب، وأي ذنب تغفر لي ؟ فأمر عرقا في عنقه فضرب عليه، فلم ينم ولم يهدأ ولم يصل ليلته، ثم سكن العرق، فشكا ذلك إلى النبي، فقال: ما لاقيت من عرق ضرب علي في عنقي ثم سكن.
فقال له النبي: إن الله يقول: إن عبادتك خمسين سنة ما تعدل سكون هذا العرق.
وقال وهب: رؤوس النعم ثلاثة " إحداها " نعمة الاسلام التي لا تتم نعمة إلا بها.
" والثانية " نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها.
" والثالثة " نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها.
ومر وهب بمبتلى أعمى مجذوم مقعد عريان به وضح وهو يقول: الحمد لله على نعمه، فقال له رجل كان مع وهب: أي شئ بقي عليك من النعمة تحمد الله عليه ؟ فقال المبتلى: أدم بصرك إلى أهل المدينة وانظر إلى كثرة أهلها، أولا أحمد الله أنه ليس فيها أحد يعرفه غيري ؟.
وقال وهب: المؤمن يخالط ليعلم، ويسكت ليسلم، ويتكلم ليفقههم، ويخلو ليقيم.
وقال: المؤمن مفكر مذكر مدخر، تذكر فغلبته السكينة، سكن فتواضع فلم يتهم، رفض الشهوات فصار حرا، ألقى عنه الحسد فظهرت له المحبة، زهد في كل فإن فاستكمل العقل، رغب في كل باق
فعقل المعرفة، قلبه متعلق بهمه، وهمه موكل بمعاده، لا يفرح إذا فرح أهل الدنيا، بل حزنه عليه سرمد، وفرحه إذا نامت العيون يتلو كتاب الله ويردده على قلبه، فمرة يفزع قلبه ومرة تدمع عينه، يقطع عنه الليل بالتلاوة، ويقطع عنه النهار بالخلوة والعزلة، مفكرا في ذنوبه، مستصغرا لاعماله.
وقال وهب: فهذا ينادي يوم القيامة في ذلك الجمع العظيم على رؤوس الخلائق: قم أيها الكريم فادخل الجنة.
وقال إبراهيم بن سعيد، عن عبد الرحمن بن مسعود، عن ثور بن يزيد.
قال: قال وهب بن منبه: الويل لكم إذا سماكم الناس صالحين، وأكرموكم على ذلك.
وقال الطبراني: حدثنا عبيد بن محمد الكشوري، حدثنا همام بن سلمة بن عقبة، حدثنا غوث بن جابر، حدثنا عقيل بن
معقل بن منبه قال: سمعت عمي وهب بن منبه يقول: يا بني ! اخلص طاعة الله بسريرة ناصحة يصدق بها فعلك في العلانية، فإن من فعل خيرا ثم أسره إلى الله فقد أصاب مواضعه، وأبلغه قراره، ووضعه عند حافظه وإن من أسر عملا صالحا لم يطلع عليه إلا الله، فقد أطلع عليه من هو حسبه، واستحفظه واستودعه حفيظا لا يضيع أجره، فلا تخافن يا بني على من عمل صالحا أسره إلى الله عزوجل ضياعا، ولا تخافن ظلمة ولا هضمة، ولا تظنن أن العلانية هي أنجح من السريرة، فإن مثل العلانية مع السريرة كمثل ورق الشجرة مع عرقها، العلانية ورقها والسريرة أصلها، إن يحرق العرق هلكت الشجرة كلها، وإن صلح الاصل صلحت الشجرة، ثمرها وورقها، والورق يأتي عليه حين يجف ويصير هباء تذروه الرياح، بخلاف العرق، فإنه لا يزال ما ظهر من الشجرة في خير وعافية ما كان عرقها مستخفيا لا يرى منه شئ، كذلك الدين والعلم والعمل، لا يزال صالحا ما كان له سريرة صالحة يصدق الله بها علانية العبد، فإن العلانية تنفع مع السريرة الصالحة، ولا تنفع العلانية مع السريرة الفاسدة، كما ينفع عرق الشجرة صلاح فرعها، وإن كان حياته من قبل عرقها، فإن فرعها زينتها وجمالها، وإن كانت السريرة هي ملاك الدين، فإن العلانية معها تزين الدين وتجمله إذا عملها مؤمن لا يريد بها إلا رضاء ربه عزوجل.
وقال الهيثم بن جميل: حدثنا صالح المري عن أبان عن وهب قال: قرأت في الحكمة: الكفر أربعة أركان، ركن منه الغضبة، وركن منه الشهوة، وركن منه الطمع، وركن منه الخوف.
وقال: أوحى الله تعالى إلى موسى: إذا دعوتني فكن خائفا مشفقا وجلا، وعفر خدك بالتراب، واسجد لي بمكارم وجهك ويديك، وسلني حين تسألني بخشية من قلبك ووجل، واخشني أيام الحياة، وعلم الجهال آلائي، وقل لعبادي لا يتمادوا في غي ما هم فيه فإن أخذي أليم شديد.
وقال وهب: إذا هم الوالي بالجور أو عمل به دخل النقص على أهل مملكته، وقلت البركات في التجارات والزراعات والضروع والمواشي، ودخل المحق في ذلك، وأدخل الله عليه الذل في ذاته وفي ملكه.
وإذا هم بالعدل والخير كان عكس ذلك، من كثرة الخير ونمو البركات.
وقال وهب: كان في مصحف
إبراهيم عليه السلام أيها الملك المبتلى، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولا لتبني البنيان، وإنما بعثتك لترفع لي دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر.
وروى ابن أبي الدنيا عن محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه: أن ذا القرنين قال لبعض الملوك: ما بال ملتكم واحدة، وطريقتكم مستقيمة ؟ قال: من قبل أنا لا نخادع ولا يغتاب بعضنا بعضا.
وروى ابن أبي الدنيا عنه أنه قال: ثلاث من كن فيه أصاب البر، سخاوة النفس، والصبر على الاذى، وطيب الكلام.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني سلمة بن شبيب حدثنا سهل بن عاصم عن سلمة بن ميمون عن المعافى بن عمران عن إدريس قال: سمعت وهبا يقول: كان في بني اسرائيل رجلان بلغت بهما عبادتهما أنهما مشيا على الماء، فبينما هم يمشيان على البحر إذا هما برجل يمشي في الهواء، فقالا له: يا عبد الله بأي شئ أدركت هذه المنزلة ؟ قال: بيسير من البر فعلته، ويسير من الشر تركته، فطمت نفسي عن الشهوات، وكففت لساني عما لا يعنيني، ورغبت فيما دعاني إليه خالقي، ولزمت الصمت فإن أقسمت على الله عزوجل أبر قسمي، وإن سألته أعطاني.
وقال: حدثني أبو العباس البصري الازدي عن شيخ من الازد.
قال: جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال: علمني شيئا ينفعني الله به، قال: أكثر من ذكر الموت، واقصر أملك، وخصلة ثالثة إن أنت أصبتها بلغت الغاية القصوى، وظفرت بالعبادة الكبرى قال: وما هي ؟ قال: التوكل.
وممن توفي فيها من الاعيان: سليمان بن سعد كان جميلا فصيحا عالما بالعربية، وكان يعلمها الناس هو وصالح بن عبد الرحمن الكاتب، وتوفي صالح بعده بقليل، وكان صالح فصيحا جميلا عارفا بكتابة الديوان، وبه يخرج أهل العراق من كتابة الديوان وقد ولاه سليمان بن عبد الملك خراج العراق.
أم الهذيل لها روايات كثيرة، وقد قرأت القرآن وعمرها اثنتي عشرة سنة، وكانت فقيه عالمة، من خيار النساء، عاشت سبعين سنة.
عائشة بنت طلحة بن عبد الله التميمي أمها أم كلثوم بنت أبي بكر، تزوجت بابن خالها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، ثم تزوجت بعده بمصعب بن الزبير، وأصدقها مائة ألف دينار، وكانت بارعة الجمال، عظيمة الحسن لم يكن في زمانها أجمل منها.
توفيت بالمدينة.
عبد الله بن سعيد بن جبير له روايات كثيرة، وكان من أفضل أهل زمانه.
عبد الرحمن بن أبان ابن عثمان بن عفان.
له روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة.
ثم دخلت سنة احدى عشرة ومائة ففيها غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى، وغزا سعيد بن هشام الصائفة اليمنى (1)، حتى بلغ قيسارية من بلاد الروم.
وفيها عزل هشام بن عبد الملك أشرس بن عبد الله السلمي عن إمرة خراسان وولى عليها الجنيد بن عبد الرحمن، فلما قدم خراسان تلقته خيول الاتراك منهزمين من المسلمين، وهو في سبعة آلاف فتصافوا واقتتلوا قتالا شديدا، وطمعوا فيه وفيمن معه لقلتهم بالنسبة إليهم، ومعهم ملكهم خاقان، وكاد الجنيد أن يهلك، ثم أظفره الله بهم فهزمهم هزيمة منكرة، وأسر ابن أخي ملكهم، وبعث به إلى الخليفة.
وحج بالناس فيها إبراهيم بن هشام المخزومي، وهو أمير الحرمين والطائف، وأمير العراق خالد القسري، وأمير خراسان الجنيد بن عبد الرحمن المري (2).
ثم دخلت سنة ثنتي عشرة ومائة فيها غزا معاوية بن هشام الصائفة فافتتح حصونا (3) من ناحية ملاطية.
وفيها سارت الترك من اللان فلقيهم الجراح بن عبد الله الحكمي فيمن معه من أهل الشام وأذربيجان، فاقتتلوا قبل أن يتكامل إليه جيشه، فاستشهد الجراح رحمه الله وجماعة معه بمرج أردبيل (4)، وأخذ العدو أردبيل.
فلما
بلغ ذلك هشام بن عبد الملك بعث سعيد بن عمرو الحرشي بجيش وأمره بالاسراع إليهم، فلحق الترك وهم يسيرون بأسارى المسلمين نحو ملكهم خاقان، فاستنقذ منهم الاسارى ومن كان معهم من
__________
(1) الصائفة اليسرى: أي البلاد الواقعة في ساحل بلاد الاناضول.
والصائفة اليمنى أي بر الاناضول من جهة البلاد الداخلية.
(2) في الطبري 8 / 204: المزني.
وفي ابن الاثير 5 / 156: الجنيد بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة المري.
(3) افتتح حصن خرشنة كما في ابن الاثير 5 / 171 والطبري 8 / 205 وحرق فرندية (4) في فتوح ابن الاعثم 8 / 39 في سفح جبل سبلان (وسبلان جبل عظيم مشرف على مدينة أردبيل من أرض أذربيجان - معجم البلدان).
نساء المسلمين، ومن أهل الذمة أيضا، وقتل من الترك مقتلة عظيمة جدا، وأسر منهم خلقا كثيرا فقتلهم صبرا، وشفى ما كان تغلث من القلوب، ولم يكتف الخليفة بذلك حتى أرسل أخاه مسلمة بن عبد الملك في أثر الترك، فسار إليهم في برد شديد وشتاء عظيم، فوصل إلى باب الابواب واستخلف عنه أميرا وسار هو بمن معه في طلب الاتراك وملكهم خاقان، وكان من أمره معهم ما سنذكره.
ونهض أمير خراسان في طلب الاتراك أيضا في جيش كثيف، فوصل إلى نهر بلخ ووجه إليهم سرية ثمانية عشر ألفا، وأخرى عشرة آلاف يمنة ويسرة، وجاشت الترك وجيشت، فأتوا سمرقند فكتب أميرها (1) إليه يعلمه بهم، وأنه لا يقدر على صون سمرقند منهم، ومعهم ملكهم الاعظم خاقان، فالغوث الغوث.
فسار الجنيد مسرعا في جيش كثيف هو نحو سمرقند حتى وصل إلى شعب سمرقند وبقي بينه وبينها أربعة فراسخ، فصحبه خاقان في جمع عظيم، فحمل خاقان على مقدمة الجنيد فانحازوا إلى العسكر والترك تتبعهم من كل جانب، فتراءى الجمعان والمسلمون يتغدون ولا يشعرون بانهزام مقدمتهم وانحيازها إليهم، فنهضوا إلى السلاح واصطفوا على منازلهم، وذلك في مجال واسع، ومكان بارز، فالتقوا وحملت الترك على ميمنة المسلمين وفيها بنو تميم والازد، فقتل
منهم ومن غيرهم خلق كثير، ممن أراد الله كرامته بالشهادة، وقد برز بعض شجعان المسلمين لجماعة من شجعان الترك فقتلهم، فناداه منادي خاقان: إن صرت إلينا جعلناك ممن يرقص الصنم الاعظم فنعبدك، فقال: ويحكم، إنما أقاتلكم على أن تعبدوا الله وحده لا شريك له، ثم قاتلهم حتى قتل رحمه الله.
ثم تناخى المسلمون وتداعت الابطال والشجعان من كل مكان، وصبروا وصابروا، وحملوا على الترك حملة رجل واحد، فهزمهم الله عزوجل، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، ثم عطفت الترك عليهم فقتلوا من المسلمين خلقا حتى لم يبق سوى ألفين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقتل يومئذ سودة بن الحر (1) واستأسروا من المسلمين جماعة كثيرة فحملوهم إلى الملك خاقان فأمر بقتلهم عن آخرهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون وهذه الوقعة يقال لها وقعة الشعب.
وقد بسطها ابن جرير جدا.
وممن توفي فيها من الاعيان: رجاء بن حيوة الكندي أبو المقدام، ويقال أبو نصر، وهو تابعي جليل، كبير القدر، ثقة فاضل عادل، وزير صدق لخلفاء بني أمية، وكان مكحول إذا سئل يقول: سلوا شيخنا وسيدنا رجاء بن حيوة، وقد أثنى عليه غير واحد من الائمة ووثقوه في الرواية، وله روايات وكلام حسن رحمه الله.
__________
(1) في الطبري 8 / 206 وابن الاثير 5 / 162: أميرها سورة بن الحر.
(2) من الطبري وابن الاثير، وفي الاصل: أبجر
شهر بن حوشب الاشعري الحمصي ويقال إنه دمشقي، تابعي جليل، روى عن مولاته أسماء بنت يزيد بن السكن وغيرها، وحدث عنه جماعة من التابعين وغيرهم، وكان عالما عابدا ناسكا، لكن تكلم فيه جماعة بسبب أخذه خريطة من بيت المال بغير إذن ولي الامر، فعابوه وتركوه عرضة، وتركوا حديثه وأنشدوا فيه الشعر، منهم شعبة وغيره، ويقال إنه سرق غيرها فالله أعلم.
وقد وثقه جماعات آخرون وقبلوا روايته وأثنوا عليه وعلى عبادته ودينه واجتهاده، وقالوا: لا يقدح في روايته ما أخذه من بيت المال إن صح عنه،
وقد كان واليا عليه متصرفا فيه فالله أعلم.
قال الواقدي: توفي شهر في هذه السنة - أعني سنة اثنتي عشرة ومائة وقيل قبلها بسنة وقيل سنة مائة فالله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائة ففيها غزا معاوية بن هشام أرض الروم من ناحية مرعش، وفيها صار جماعة من دعاة بني العباس إلى خراسان وانتشروا فيها، وقد أخذ أميرهم رجلا منهم فقتله وتوعد غيره بمثل ذلك.
وفيها وغل مسلمة بن عبد الملك في بلاد الترك فقتل منهم خلقا كثيرا، ودانت له تلك الممالك من ناحية بلنجر وأعمالها.
وفيها حج بالناس إبراهيم بن هاشم المخزومي، فالله أعلم.
ونواب البلادهم المذكورون في التي قبلها.
وممن توفي فيها من الاعيان قال ابن جرير: فيها كان مهلك.
الامير عبد الوهاب بن بخت وهو مع البطال عبد الله بأرض الروم قتل شهيدا وهذه ترجمته: هو عبد الوهاب بن بخت أبو عبيدة ويقال أبو بكر، مولى آل مروان مكي، سكن الشام ثم تحول إلى المدينة، روى عن ابن عمر وأنس وأبي هريرة وجماعة من التابعين.
وعنه خلق منهم أيوب ومالك بن أنس ويحيى بن سعيد الانصاري وعبيد الله العمري، حديثه عن أنس مرفوعا " نضر الله امرأ سمع مقالتي هذه فوعاها ثم بلغها غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن صدر مؤمن، إخلاص العمل لله، ومناصحة أولي الامر، ولزوم جماعة المسلمين، كأن دعوتهم تحيط من ورائهم ".
وروى عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
" إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة ثم لقيه فليسلم عليه ".
وقد وثق عبد الوهاب هذا جماعات من أئمة العلماء.
وقال مالك: كان كثير الحج والعمرة والغزو، حتى استشهد ولم يكن أحق بما في رحله من رفقائه، وكان سمحا جوادا، استشهد ببلاد الروم مع الامير أبي محمد عبد الله البطال، ودفن هناك رحمه الله.
توفي في هذه السنة قاله خليفة وغيره، وذلك أنه لقي العدو ففر بعض المسلمين، فجعل ينادي ويركض فرسه نحو العدو: أن هلموا إلى الجنة ويحكم
أفرارا من الجنة ؟ أتفرون من الجنة ؟ إلى أين ويحكم لا مقام لكم في الدنيا ولا بقاء ؟ ثم قاتل حتى قتل رحمه الله.
مكحول الشامي (1) تابعي جليل القدر، إمام أهل الشام في زمانه، وكان مولى لامرأة من هذيل، وقيل مولى امرأة من آل سعيد بن العاص، وكان نوبيا وقيل من سبي كابل، وقيل كان من الابناء من سلالة الاكاسرة وقد ذكرنا نسبه في كتابنا التكميل.
وقال محمد بن إسحاق: سمعته يقول: طفت الارض كلها في طلب العلم: وقال الزهري: العلماء أربعة (2)، سعيد بن المسيب بالحجاز، والحسن البصري بالبصرة، والشعبي بالكوفة، ومكحول بالشام.
وقال بعضهم: كان لا يستطيع أن يقول: قل، وإنما يقول: كل وكان له وجاهة عند الناس، مهما أمر به من شئ يفعل.
وقال سعيد بن عبد العزيز: كان أفقه أهل الشام، وكان أفقه من الزهري.
وقال غير واحد: توفي في هذه السنة، وقيل بعدها فالله أعلم: مكحول الشامي هو ابن أبي مسلم، واسم أبي مسلم شهزاب بن شاذل (3).
كذا نقلته من خط عبد الهادي، وروى ابن أبي الدنيا عنه أنه قال: من نظف ثوبه قل همه، ومن طاب ريحه زيد في عقله.
وقال مكحول في قوله تعالى (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) [ التكاثر: 8 ] قال: بارد الشراب، وضلال المساكن وشبع البطون، واعتدال الخلق، ولذاذة النوم، وقال: إذا وضع المجاهدون أثقالهم عن دوابهم أتتها الملائكة، فمسحت ظهورها ودعت لها بالبركة، إلا دابة في عنقها جرس.
ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائة فيها غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى وعلى اليمنى سليمان بن هشام بن عبد الملك، وهما ابنا أمير المؤمنين هشام: وفيها التقى عبد الله البطال وملك الروم المسمى فيهم قسطنطين، وهو ابن
__________
(1) ترجمته في تذكرة الحفاظ 1 / 101 تهذيب التهذيب 10 / 289 حلية الاولياء 5 / 177 تاريخ الاسلام للذهبي 5 / 3 - 6 وفيات الاعيان 2 / 122 ميزان الاعتدال 3 / 198.
(2) في تذكرة الحفاظ 1 / 108 عن الزهري: العلماء ثلاثة وذكر منهم مكحولا.
(3) في وفيات الاعيان 5 / 281: (قال الخطيب كان شاذل من أهل هراة فتزوج ابنة ملك من ملوك كابل ثم هلك عنها وهي حامل، فانصرفت إلى أهلها، فولدت شهراب فلم يزل في أخواله بكابل حتى ولد له مكحول، فلما ترعرع سبي، ثم وقع إلى سعيد بن العاص فوهبه لامرأة من هذيل فأعتقته ".
(انظر ابن ماكولا وهامش صفحة 5 / 1).
هرقل الاول الذي كتب إليه النبي (صلى الله عليه وسلم) فأسره البطال، فأرسله إلى سليمان بن هشام، فسار به إلى أبيه.
وفيها عزل هشام عن إمرة مكة والمدينة والطائف إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، وولى عليها أخاه محمد بن هشام (1) فحج بالناس في هذه السنة في قول، وقال الواقدي وأبو معشر: إنما حج بالناس خالد بن عبد الملك بن مروان والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان: عطاء بن أبي رباح (2) الفهري مولاهم أبو محمد المكي، أحد كبار التابعين الثقات الرفعاء، يقال إنه أدرك مائتي صحابي وقال ابن سعد: سمعت بعض أهل العلم يقول: كان عطاء أسود أعور أفطس (3) أشل أعرج، ثم عمي بعد ذلك، وكان ثقة فقيها عالما كثير الحديث، وقال أبو جعفر الباقر وغير واحد: ما بقي أحد في زمانه أعلم بالمناسك منه، وزاد بعضهم، وكان قد حج سبعين حجة، وعمر مائة سنة، وكان في آخر عمره يفطر في رمضان من الكبر والضعف ويفدي عن إفطاره، ويتأول الآية (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) [ البقرة: 184 ] وكان ينادي منادي بني أمية في أيام منى: لا يفتي الناس في الحج إلا عطاء بن أبي رباح، وقال أبو جعفر الباقر: ما رأيت فيمن لقيت أفقه منه، وقال الاوزاعي: مات عطاء يوم مات وهو أرضى أهل الارض عندهم.
وقال ابن جريج: كان في المسجد فراش عطاء عشرين سنة، وكان من أحسن الناس به صلاة.
وقال قتادة: كان سعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم وعطاء هؤلاء أئمة الامصار.
وقال عطاء: إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أكن سمعته، وقد سمعته قبل أن يولد، فأريه أني إنما سمعته
الآن منه.
وفي رواية: أنا أحفظ منه له فأريه أني لم أسمعه.
الجمهور على أنه مات في هذه السنة رحمه الله تعالى والله أعلم.
فصل أسند أبو محمد عطاء بن أبي رباح - واسم أبي رباح أسلم - عن عدد كثير من الصحابة، منهم ابن عمر وابن عمرو، وعبد الله بن الزبير، وأبو هريرة، وزيد بن خالد الجهني، وأبو سعيد.
وسمع من ابن عباس التفسير وغيره.
وروى عنه من التابعين عدة، منهم الزهري، وعمرو بن دينار، وأبو الزبير، وقتادة، ويحيى بن كثير، ومالك بن دينار، وحبيب بن أبي ثابت، والاعمش، وأيوب السختياني، وغيرهم من الائمة والاعلام كثير.
قال أبو هزان: سمعت
__________
(1) في الطبري 8 / 217 وابن الاثير 5 / 179: ولى محمد بن هشام على مكة.
وعلى المدينة خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم.
(2) ترجمته في طبقات ابن سعد 5 / 467 صفة الصفوة 2 / 211 وفيات الاعيان.
(3) في صفة الصفوة 2 / 212 عن ابراهيم بن اسحاق الحربي قال: كان أنفه كأنه باقلاة.
عطاء بن أبي رباح يقول: من جلس مجلس ذكر كفر الله عنه بذلك المجلس عشر مجالس من مجالس الباطل.
قال أبو هزان قلت لعطاء: ما مجلس الذكر ؟ قال: مجالس الحلال والحرام، كيف تصلي، كيف تصوم، كيف تنكح وتطلق وتبيع وتشتري.
وقال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الرزاق، عن يحيى بن ربيعة الصنعاني.
قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول في قوله تعالى: (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون) [ النمل: 48 ] قال: كانوا يقرضون الدراهم، قيل كانوا يقصون منها ويقطعونها.
وقال الثوري عن عبد الله بن الوليد - يعني الوصافي - قال: قلت لعطاء: ما ترى في صاحب قلم إن هو كتب به عاش هو وعياله في سعة، وإن هو تركه افتقر ؟ قال: من الرأس ؟ قلت القسري لخالد.
قال عطاء: قال العبد الصالح: (رب بما أنعمت علي فلن أكون
ظهيرا للمجرمين) [ القصص: 17 ].
وقال: أفضل ما أوتي العباد العقل عن الله وهو الدين.
وقال عطاء: ما قال العبد: يا رب، ثلاث مرات إلا نظر الله إليه، قال: فذكرت ذلك للحسن فقال: أما تقرأون القرآن (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للايمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا) [ آل عمران: 193 ] إلى قوله: (فاستجاب لهم ربهم) الآيات [ آل عمران: 195 ].
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا أبو عبد الله السلمي، حدثنا ضمرة، عن عمر بن الورد قال: قال عطاء: إن استطعت أن تخلو بنفسك عشية عرفة فافعل.
وقال سعيد بن سلام البصري: سمعت أبا حنيفة النعمان يقول: لقيت عطاء بمكة فسألته عن شئ فقال: من أين أنت ؟ فقلت: من أهل الكوفة.
قال: أنت من أهل القرية الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا ؟ قلت: نعم ! قال: فمن أي الاصناف أنت ؟ قلت: ممن لا يسب السلف ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحدا من أهل القبلة بذنب: فقال عطاء: عرفت فالزم.
وقال عطاء: ما اجتمعت عليه الامة أقوى عندنا من الاسناد.
وقيل لعطاء: إن هاهنا قوما يقولون: الايمان لا يزيد ولا ينقص، فقال: (والذين اهتدوا زادهم هدى) [ محمد: 17 ] فما هذا الهدى الذي زادهم ؟ قلت: ويزعمون أن الصلاة والزكاة ليستا من دين الله، فقال: قال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) [ البينة: 5 ] فجعل ذلك دينا.
وقال يعلى بن عبيد: دخلنا على محمد بن سوقة فقال: ألا أحدثكم بحديث لعله أن ينفعكم، فإنه نفعني، قال لي عطاء بن أبي رباح: يابن أخي إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضول الكلام إثما، ما عدا كتاب الله أن يقرأ، وأمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو ينطلق العبد بحاجته في معيشته التي لا بد له منها، أتنكرون: (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين) [ الانفطار: 11 ] و: (عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) [ ق:
17 - 18 ] أما يستحي أحدكم لو نشرت عليه صيحفته التي أملاها صدر نهاره فرأى أكثر ما فيها ليس
من أمر دينه ولا دنياه ؟.
وقال: إذا أنت خفت الحر من الليل فاقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وروى الطبراني وغيره أن الحلقة في المسجد الحرام كانت لابن عباس، فلما مات ابن عباس كانت لعطاء بن أبي رباح.
وروى عثمان بن أبي شيبة، عن أبيه، عن الفضل بن دكين، عن سفيان، أن سلمة بن كهيل قال: ما رأيت أحدا يطلب بعمله ما عند الله تعالى إلا ثلاثة، عطاء، وطاوس، ومجاهد.
وقال الامام أحمد: حدثنا ابن نمير، حدثنا عمر بن ذر قال: ما رأيت مثل عطاء قط، وما رأيت على عطاء قميصا قط، ولا رأيت عليه ثوبا يساوي خمسة دراهم.
وقال أبو بلال الاشعري: حدثنا قيس، عن عبد الملك بن جريج عن عطاء: أن يعلى بن أمية كانت له صحبة، وكان يقعد في المسجد ساعة ينوي فيها الاعتكاف.
وروى الاوزاعي عن عطاء قال: إن كانت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لتعجن، وأن كانت قصتها لتضرب بالجفنة.
وعن الاوزاعي عنه قال: (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) [ النور: 2 ] قال: ذلك في إقامة الحد عليهما.
وقال الاوزاعي: كنت باليمامة وعليها رجل وال يمتحن الناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إنه منافق وما هو بمؤمن، ويأخذ عليهم بالطلاق والعتاق أن يسمي المسئ منافقا وما يسميه مؤمنا، فأطاعوه على ذلك وجعلوه له، قال: فلقيت عطاء فيما بعد فسألته عن ذلك فقال: ما أرى بذلك بأسا يقول الله تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) [ ال عمران: 28 ].
وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا إسماعيل بن أمية قال: كان عطاء يطيل الصمت فإذا تكلم تخيل إلينا أنه يؤيد.
وقال في قوله تعالى: (لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) [ آل عمران: 28 ] قال: لا يلهيهم بيع ولا شراء عن مواضع حقوق الله تعالى التي افترضها عليهم أن يؤدوها في أوقاتها وأوائلها.
وقال ابن جرير: رأيت عطاء يطوف بالبيت فقال لقائده: امسكوا احفظوا عني خمسا: القدر خيره وشره، حلوه ومره من الله عزوجل، وليس للعباد فيه مشيئة ولا تفويض.
وأهل قبلتنا مؤمنون حرام دماؤهم وأموالهم إلا بحقها.
وقتال الفئة الباغية بالايدي والنعال والسلاح، والشهادة على الخوارج بالضلالة.
وقال ابن عمر: تجمعون لي المسائل وفيكم عطاء بن
أبي رباح.
وقال معاذ بن سعيد (1): كنت جالسا عند عطاء فحدث بحديث، فعرض رجل له في حديثه فغضب عطاء وقال: ما هذه الاخلاق ؟ وما هذه الطبائع ؟ والله إني لاسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه فأريه أني لا أحسن شيئا منه (2).
وكان عطاء يقول: لان أرى في بيتي شيطانا خير من أن أرى فيه
__________
(1) من ابن سعد 5 / 469 وصفة الصفوة 2 / 214.
وفي الاصل سعد وهو تحريف.
(2) في ابن سعد: كأني لم أسمعه قبل ذلك.
(5 / 469).
وسادة، لانها تدعو إلى النوم.
وروى عثمان بن أبي شيبة عن علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج (1) قال: كان عطاء بعد ما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة فيقرأ مائتي آية من سورة البقرة وهو قائم لا يزول منه شئ ولا يتحرك.
وقال ابن عيينة: قلت لابن جريج (1): ما رأيت مصليا مثلك.
فقال: لو رأيت عطاء ؟.
وقال عطاء: إن الله لا يحب الفتى يلبس الثوب المشهور، فيعرض الله عنه حتى يضع ذلك الثوب.
وكان يقال: ينبغي للعبد أن يكون كالمريض لا بد له من قوت، وليس كل الطعام يوافقه.
وكان يقال: الدعوة تعمي عين الحكيم فكيف بالجاهل ؟ ولا تغبطن ذا نعمة بما هو فيه فإنك لا تدري إلى ماذا يصير بعد الموت.
ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائة ففيها وقع طاعون بالشام، وحج بالناس فيها محمد بن هشام بن إسماعيل وهو نائب الحرمين والطائف.
والنواب في سائر البلادهم المذكورون في التي قبلها والله أعلم.
وممن توفي فيها من الاعيان: أبو جعفر الباقر وهو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبو جعفر الباقر، وأمه ام عبد الله بنت الحسن بن علي، هو تابعي جليل، كبير القدر كثيرا، أحد أعلام هذه الامة علما وعملا وسيادة وشرفا، وهو احد من تدعي فيه طائفة الشيعة أنه أحد الائمة الاثني عشر، ولم يكن الرجل
على طريقهم ولا على منوالهم، ولا يدين بما وقع في أذهانهم وأوهامهم وخيالهم، بل كان ممن يقدم أبا بكر وعمر، وذلك عنده صحيح في الاثر، وقال أيضا: ما أدركت أحدا من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما رضي الله عنهما.
وقد روى عن غير واحد من الصحابة (2)، وحدث عنه جماعة من كبار التابعين وغيرهم.
فمن روى عنه ابنه جعفر الصادق، والحكم بن عتيبة، وربيعة، والاعمش، وأبو إسحاق السبيعي، والاوزاعي والاعرج، وهو أسن منه، وابن جريج وعطاء وعمرو بن دينار والزهري.
وقال سفيان بن عيينة عن جعفر الصادق قال: حدثني أبي وكان خير محمدي يومئذ على وجه الارض، وقال العجلي: هو مدني تابعي ثقة، وقال محمد بن سعد: كان ثقة كثير (3) الحديث، وكانت وفاته في هذه السنة في قول وقيل في التي قبلها، وقيل في التي بعدها أو في التي هي بعدها وبعد بعدها والله أعلم.
وقد جاوز السبعين وقيل لم يجاوز الستين فالله أعلم.
__________
(1) من صفة الصفوة 2 / 212 وفي الاصل ابن جرير وهو تحريف.
(2) ومنهم جابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وابن عباس وأنس.
(3) في ابن سعد 5 / 324: كثير العلم والحديث.
فصل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، كان أبوه علي زين العابدين، وجده الحسين قتلا شهيدين بالعراق.
وسمي الباقر لبقره العلوم واستنباطه الحكم، كان ذاكرا خاشعا صابرا وكان من سلالة النبوة، رفيع النسب عالي الحسب، وكان عارفا بالخطرات، كثير البكاء والعبرات معرضا عن الجدال والخصومات.
قال أبو بلال الاشعري: حدثنا محمد بن مروان، عن ثابت، عن محمد بن علي بن الحسين في قوله تعالى: (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا) [ الفرقان: 75 ] قال: الغرفة الجنة بما صبروا على الفقر في الدنيا.
وقال عبد السلام بن حرب، عن زيد بن خيثمة عن أبي جعف قال: الصواعق تصيب المؤمن وغير المؤمن، ولا تصيب الذاكر.
قلت: وقد روي نحو هذا عن ابن عباس قال: لو
نزل من السماء صواعق عدد النجوم لم تصب الذاكر.
وقال جابر الجعفي: قال لي محمد بن علي: يا جابر إني لمحزون، وإني لمشتغل القلب.
قلت: وما حزنك وشغل قلبك ؟ قال: يا جابر إنه من دخل قلبه صافي دين الله عزوجل شغله عما سواه، يا جابر ما الدنيا ؟ وما عسى أن تكون ؟ هل هي إلا مركبا ركبته ؟ أو ثوبا لبسته ؟ أو امرأة أصبتها ؟ يا جابر ! إن المؤمنين لم يطمئنوا إلى الدنيا لبقاء فيها، ولم يأمنوا قدوم الآخرة عليهم، ولم يصمهم عن ذكر الله ما سمعوا بآذانهم من الفتنة، ولم يعمهم عن نور الله ما رأوا بأعينهم من الزينة ففازوا بثواب الابرار.
إن أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤنة، وأكثرهم لك معونة، إن نسيت ذكروك، وإن ذكرت أعانوك، قوالين بحق الله، قوامين بأمر الله، قطعوا لمحبة ربهم عزوجل، ونظروا إلى الله وإلى محبته بقلوبهم، وتوحشوا من الدنيا لطاعة محبوبهم، وعلموا أن ذلك من أمر خالقهم، فأنزلوا الدنيا حيث أنزلها مليكهم كمنزل نزلوه ثم ارتحلوا عنه وتركوه، وكماء (1) أصبته في منامك فلما استيقظت إذا ليس في يدك منه شئ، فاحفظ الله فيما استرعاك من دينه وحكمته.
وقال خالد بن يزيد: سمعت محمد بن علي يقول: قال عمر بن الخطاب: إذا رأيتم القارئ يحب الاغنياء فهو صاحب الدنيا، وإذا رأيتموه يلزم السلطان فهو لص، وكان أبو جعفر يصلي كل يوم وليلة بالمكتوبة.
وروى ابن أبي الدنيا عنه قال: سلاح اللئام قبيح الكلام.
وروى أبو الأحوص عن منصور عنه قال: لكل شئ آفة، وآفة العلم النسيان.
وقال لابنه: إياك والكسل والضجر فإنهما مفتاح كل خبيثة، إنك إذا كسلت لم تؤد حقا، وإن ضجرت لم تصبر على حق.
وقال: أشد الاعمال ثلاثة ذكر الله على كل حال، وإنصافك من نفسك، ومواساة الاخ في المال.
وقال خلف بن
__________
(1) في صفة الصفوة 2 / 109: وكمال.
حوشب: قال أبو جعفر: الايمان ثابت في القلب، واليقين خطرات، فيمر اليقين بالقلب فيصير كأنه زبر الحديد، ويخرج منه فيصير كأنه خرقة بالية، وما دخل قلب عبد شئ من الكبر إلا نقص من عقله بقدره أو أكثر منه.
وقال لجابر الجعفي: ما يقول فقهاء العراق في قوله تعالى: (لو لا أن رأى برهان ربه) [ يوسف: 24 ] ؟ قال: رأى يعقوب عاضا على إبهامه.
فقال: لا ! حدثني أبي عن جدي علي بن أبي طالب أن البرهان الذي رآه أنها حين همت به وهم بها أي طمع فيها، قامت إلى صنم لها مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض خشية أن يراها، أو استحياء منه.
فقال لها يوسف: ما هذا ؟ فقالت إلهي أستحي منه أن يراني على هذه الصورة.
فقال يوسف: تستحين من صنم لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر، أفلا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت ؟ ثم قال: والله لا تنالين مني أبدا.
فهو البرهان.
وقال بشر بن الحارث الحافي: سمعت سفيان الثوري يقول: سمعت منصورا يقول: سمعت محمد بن علي يقول: الغنى والعز يجولان في قلب المؤمن، فإذا وصلا إلى مكان فيه التوكل أوطناه.
وقال: إن الله يلقي في قلوب شيعتنا الرعب، فإذا قام قائمنا، وظهر مديننا كان الرجل منهم أجرأ من ليث وأمضى من سيف.
وقال: شيعتنا من أطاع الله عزوجل واتقاه.
وقال: إياكم والخصومة فإنها تفسد القلب، وتورث النفاق، وقال: (الذين يخوضون في آيات الله) [ الانعام: 68 ] هو أصحاب الخصومات.
وقال عروة بن عبد الله: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن حلية السيف فقال: لا بأس به، قد حلى أبو بكر الصديق سيفه.
قال: قلت: وتقول الصديق ؟ قال: فوثب وثبة واستقبل القبلة ثم قال: نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل الصديق فلا صدق الله له قولا في الدنيا والآخرة.
وقال جابر الجعفي: قال لي محمد بن علي: يا جابر ! بلغني أن قوما بالعراق يزعمون أنهم يحبونا ويتناولون أبا بكر وعمر ويزعمون أني أمرتهم بذلك، فأبلغهم عني أني إلى الله منهم برئ، والذي نفس محمد بيده - يعني نفسه - لو وليت لتقربت إلى الله بدمائهم، لا نالتني شفاعة محمد (صلى الله عليه وسلم) إن لم أكن أستغفر لهما، وأترحم عليهما، إن أعداء الله لغافلون عن فضلهما وسابقتهما، فأبلغهم أني برئ منهم وممن تبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقال: من لم يعرف فضل أبي بكر وعمر فقد جهل السنة.
وقال في قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) الآية [ المائدة: 55 ]، قال: هم أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم)، قال: قلت يقولون: هو علي قال: علي من أصحاب محمد
(صلى الله عليه وسلم).
وقال عبد الله بن عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي، قال: رأيت الحكم عنده كأنه متعلم، وقال: كان لي أخ في عيني عظيم، وكان الذي عظمه في عيني صغر الدينا في عينه، وقال جعفر بن محمد: ذهبت بغلة أبي فقال: لئن ردها الله علي لاحمدنه بمحامد
يرضاها، فما كان بأسرع من أن أتي بها بسرجها لم يفقد منها شئ، فقام فركبها، فلما استوى عليها وجمع إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء وقال: الحمد لله، لم يزد على ذلك، فقيل له في ذلك، فقال: فهل تركت أو أبقيت شيئا ؟ جعلت الحمد كله لله عزوجل.
وقال عبد الله بن المبارك: قال محمد بن علي: من أعطي الخلق والرفق فقد أعطي الخير والراحة، وحسن حاله في دنياه وآخرته، ومن حرمهما كان ذلك سبيلا إلى كل شر وبلية، إلا من عصمه الله.
وقال: أيدخل أحدكم يده في كم صاحبه فيأخذ ما يريد تاما إلا قال: فلستم إخوانا كما تزعمون، وقال: اعرف مودة أخيك لك بما له في قلبك من المودة فإن القلوب تتكافأ.
وسمع عصافير يصحن فقال: أتدري ماذا يقلن ؟ قلت: لا ! ! قال: يسبحن الله ويسألنه رزقهن يوما بيوم.
وقال: تدعو الله بما تحب، وإذا وقع الذي تكره لم تخالف الله عزوجل فيما أحب.
وقال: ما من عبادة أفضل من عفة بطن أو فرج، وما من شئ أحب إلى الله عزوجل من أن يسأل.
وما يدفع القضاء إلا الدعاء.
وإن أسرع الخير ثوابا البر، وأسرع الشر عقوبة البغي، وكفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه، وأن يأمر الناس بما لا يستطيع أن يفعله، وينهى الناس بما لا يستطيع أن يتحول عنه.
وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه.
هذا كلمات جوامع موانع لا ينبغي لعاقل أن يفعلها.
وقال القرآن كلام الله عزوجل غير مخلوق.
وقال أبو جعفر: صحب عمر بن الخطاب رجل إلى مكة فمات في الطريق، فاحتبس عليه عمر حتى صلى عليه ودفنه، فقل يوم إلا كان عمر يتمثل بهذا البيت: وبالغ أمر كان يأمل دونه * ومختلج من دون ما كان يأمل
وقال أبو جعفر: والله لموت عالم أحب إبليس من موت ألف عابد.
وقال: ما اغرو رقت عين عبد بمائها إلا حرم الله وجه صاحبها على النار، فإن سالت على الخدين لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة، وما من شئ إلا وله جزاء إلا الدمعة فإن الله يكفر بها بحور الخطايا، ولو أن باكيا بكى من خشية الله في أمة رحم الله تلك الامة.
وقال: بئس الاخ أخ يرعاك غنيا ويقطعك فقيرا.
قلت: البيت الذي كان يتمثل به قبله بيتان وهو ثالثهما، وهذه الابيات تتضمن حكما وزهدا في الدنيا قال: لقد غرت الدنيا رجالا فأصبحوا * بمنزلة ما بعدها متحول فساخط أمر لا يبدل غيره * وراض بأمر غيره سيبدل وبالغ أمر كان يأمل دونه * ومختلج من دون ما كان يأمل ثم دخلت سنة ست عشرة ومائة ففيها غزا معاوية بن هشام الصائفة، وفيها وقع طاعون عظيم بالشام والعراق، وكان معظم ذلك في واسط.
وفي المحرم منها توفي الجنيد بن عبد الرحمن المري أمير خراسان من مرض أصابه في
بطنه، وكان قد تزوج الفاضلة بنت يزيد بن المهلب فتغضب عليه أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك فعزله وولى مكانه عاصم بن عبد الله على خراسان، وقال له: إن أدركته قبل أن يموت فأزهق روحه.
فما قدم عاصم بن عبد الله خراسان حتى مات الجنيد في المحرم منها بمرو، وقال فيه أبو الجويرية (1) عيسى بن عصمة يرثيه: هلك الجود والجنيد جميعا * فعلى الجود والجنيد السلام أصبحا ثاويين في بطن (2) مرو * ما تغنى على الغصون الحمام كنتما نزهة الكرام فلما * مت مات الندى ومات الكرام ولما قدم عاصم خراسان أخذ نواب الجنيد بالضرب البليغ وأنواع العقوبات، وعسفهم في المصادرات والجنايات، فخرج عن طاعته الحارث بن سريح (3) فبارزه بالحرب، وجرت بينهما أمور يطول ذكرها، ثم آل الامر إلى أن انكسر الحارث بن سريج (3) وظهر عاصم عليه.
قال الواقدي:
وفيها حج بالناس الوليد بن يزيد وهو ولي الامر من بعد عمه هشام بن عبد الملك أمير المؤمنين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائة فيها غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى، وسليمان بن هشام الصائفة اليمنى، وهما ابنا أمير المؤمنين هشام.
وفيها بعث مروان بن محمد - وهو مروان الحمار - وهو على أرمينية بعثين ففتح حصونا من بلاد اللان، ونزل كثير منهم على الايمان: وفيها عزل هشام عاصم بن عبد الله الهلالي الذي ولاه في السنة قبلها خراسان مكان الجنيد، فعزله عنها وضمها إلى عبد الله بن خالد القسري مع العراق معادة إليه جريا على ما سبق له من العادة، وكان ذلك عن كتاب عاصم بن عبد الله الهلالي المعزول عنها، وذلك أنه كتب إلى أمير المؤمنين هشام: إن ولاية خراسان لا تصلح إلا مع ولاية العراق، رجاء أن يضيفها إليه، فانعكس الامر عليه فأجابه هشام إلى ذلك قبولا إلى نصيحته، وأضافها إلى خالد القسري.
وفيها توفي:
__________
(1) من الطبري 8 / 319 وفي الاصل أبو الجرير وهو تحريف.
(2) في الطبري.
أرض.
(3) من الطبري 8 / 221 وابن الاثير 5 / 183 وفي الاصل شريح وهو تحريف.
قتادة بن دعامة السدوسي (1) أبو الخطاب البصري الاعمى، أحد علماء التابعين، والائمة العاملين، روى عن أنس بن مالك وجماعة من التابعين، منهم سعيد بن المسيب، والبصري، وأبو العالية، وزرارة بن أوفي، وعطاء ومجاهد، ومحمد بن سيرين، ومسروق، وأبو مجلز وغيرهم، وحدث عنه جماعات من الكبار كأيوب وحماد بن مسلمة، وحميد الطويل، وسعيد بن أبي عروبة، والاعمش، وشعبة، والاوزاعي، ومسعر، ومعمر، وهمام.
قال ابن المسيب: ما جاءني عراقي أفضل (2) منه.
وقال بكر المزني: ما رأيت أحفظ منه.
وقال محمد بن سيرين: هو من أحفظ الناس، وقال مطر: كان
قتادة إذا سمع الحديث يأخذه العويل والزويل حتى يحفظه، وقال الزهري: هو أعلم من مكحول.
وقال معمر: ما رأيت أفقه من الزهري وحماد وقتادة.
وقال قتادة: ما سمعت شيئا إلا وعاه قلبي.
وقال أحمد بن حنبل: هو أحفظ أهل البصرة، لا يسمع شيئا إلا حفظه.
وقرئ عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها.
وذكر يوما فأثنى على علمه وفقهه ومعرفته بالاختلاف والتفسير وغير ذلك، وقال أبو حاتم: كانت وفاته بواسط في الطاعون - يعني في هذه السنة - وعمره ست أو سبع وخمسون سنة.
قال قتادة: من وثق (3) بالله كان الله معه، ومن يكن الله معه تكن معه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل، والعالم الذي لا ينسى.
وقال: في الجنة كوة إلى النار، فيقولون (4): ما بال الاشقياء دخلوا النار، وإنما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم، فقالوا: إنا كنا نأمركم ولا نأتمر، وننهاكم ولا ننتهي.
وقال: باب من العلم يحفظه الرجل يطلب به صلاح نفسه وصلاح دينه وصلاح الناس، أفضل من عبادة حول كامل.
وقال قتادة: لو كان يكتفي من العلم بشئ لاكتفى موسى عليه السلام بما عنده، ولكنه طلب الزيادة.
وفيها توفي: أبو الحباب سعيد بن يسار والاعرج، وابن أبي مليكة، وعبد الله بن أبي زكريا الخزاعي، وميمون بن مهران بن موسى بن وردان.
فصل فأما سعيد بن يسار فكان من العباد الزهاد، روى عن جماعة من الصحابة، وكذلك الاعرج وابن أبي مليكة وأما ميمون بن مهران فهو من أجلاء علماء التابعين وزهادهم وعبادهم وأئمتهم.
كان
__________
(1) ترجمته في تذكرة الحفاظ 1 / 122 وفيات الاعيان 4 / 85 طبقات ابن سعد 7 / 229 شذرات الذهب 1 / 153 تهذيب التهذيب 8 / 351 ميزان الاعتدال 3 / 385 صفة الصفوة 3 / 259.
(2) في تذكرة الحفاظ 1 / 123: أحفظ من قتادة.
(3) في صفة الصفوة 3 / 259: من يتق الله...(4) في صفة الصفوة: فيطلع أهل الجنة من تلك الكوى إلى النار فيقولون:
ميمون إمام أهل الجزيرة.
روى الطبراني عنه أنه قيل له: مالك لا يفارقك أخ لك عن قلى ؟ قال: لاني لا أماريه ولا أشايه.
قال عمر بن ميمون: ما كان أبي يكثر الصلاة ولا الصيام، ولكن كان يكره أن يعصى الله عزوجل.
وروى ابن أبي عدي عن يونس عنه قال: لا تمارين عالما ولا جاهلا، فإنك إن ماريت عالما حزن عنك علمه، وإن ماريت جاهلا خشن بصدرك.
وقال عمر بن ميمون: خرجت بأبي أقوده في بعض سكك البصرة، فمررنا بجدول فلم يستطع الشيخ أن يتخطاه، فاضطجعت له فمر على ظهري، ثم قمت فأخذت بيده.
ثم دفعنا إلى منزل الحسن فطرقت الباب فخرجت إلينا جارية سداسية، فقالت: من هذا ؟ فقلت: هذا ميمون بن مهران أراد لقاء الحسن، فقالت: كاتب عمر بن عبد العزيز ؟ قلت لها: نعم ! قالت: يا شقي ما بقاؤك إلى هذا الزمان السوء ؟: قال: فبكى الشيخ فسمع الحسن بكاءه فخرج إليه فاعتنقا ثم دخلا، فقال ميمون: يا أبا سعيد ! إني قد أنست من قلبي غلظة فاستكن لي منه، فقرأ الحسن: (أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون.
ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) [ الشعراء: (205 - 207) ] فسقط الشيخ مغشيا عليه، فرأيته يفحص برجليه كما تفحص الشاة إذا ذبحت، فأقام طويلا ثم جاءت الجارية فقالت: قد أتعبتم الشيخ، قوموا تفرقوا، فأخذت بيد أبي فخرجت فقلت: يا أبت أهذا هو الحسن ؟ قال: نعم.
قلت: قد كنت أحسب في نفسي أنه أكبر من هذا، قال: فوكز في صدري وكزة ثم قال: يا بني لقد قرأ علينا آية لو فهمتها بقلبك لالفيت لها فيه كلوما.
وروى الطبراني عنه أنه قال: ما أحب أني أعطيت درهما في لهو وأن لي مكانه مائة ألف، أخشى أن تصيبني هذه الآية: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله) الآية: [ لقمان: 6 ] وقال جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز فلما قمت قال عمر: إذا ذهب هذا وأضرابه لم يبق من الناس إلا مجاجة (1).
وروى الامام أحمد عن معمر بن سليمان الرقي، عن فرات بن سليمان، عن ميمون بن مهران قال: ثلاث لا تبلون نفسك بهن: لا تدخل على سلطان وإن قلت آمره بطاعة الله، ولا تدخل على امرأة وإن قلت أعلمها كتاب الله، ولا تصغين بسمعك إلى ذي هوى فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك
من هواه.
وروى عبد الله بن أحمد عنه في قوله تعالى: (إن جهنم كانت مرصادا) [ النبأ: 21 ] و (إن ربك لبالمرصاد) [ الفجر: 14 ] فقال: التمسوا هذين المرصادين جوازا.
وفي قوله تعالى: (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) [ ابراهيم: 42 ] فيها وعيد شديد للظالم، وتعزية للمظلوم.
وقال: لو أن أهل القرآن صلحوا لصلح الناس.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا عيسى بن سالم الشاشي، حدثنا أبو المليح قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: لا خير في
__________
(1) في رواية تذكرة الحفاظ عن جعفر 1 / 99: صار الناس رجراجة.
الدينا إلا رجلين، رجل تائب - أو قال: يتوب - من الخطيئات، ورجل يعمل في الدرجات، فلا خير في العيش والبقاء في الدنيا إلا لهذين الرجلين، رجل يعمل في الكفارات ورجل يعمل في الدرجات، وبقاء ما سواهما وبال عليه.
وقال جعفر بن برقان: سمعت ميمون بن مهران يقول: إن هذا القرآن قد خلق في صدور كثير من الناس فالتمسوا ما سواه من الاحاديث، وإن فيمن يتبع هذا العلم قوما يتخذونه بضاعة يلتمس بها الدنيا، ومنهم من يريد أن يمارى به، وخيرهم من يتعلمه ويطيع الله عزوجل به.
وقال: من اتبع القرآن قاده القرآن حتى يحل به الجنة، ومن ترك القرآن لم يدعه القرآن يتبعه حتى يقذفه في النار.
وقال الامام أحمد: حدثنا خالد بن حيان، حدثنا جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران قال: لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال.
وقال ميمون: من كان يريد أن يعلم ما منزلته عند الله فلينظر في عمله فإنه قادم عليه كائنا ما كان.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا يحيى بن عثمان الحربي، حدثنا أبو المليح، عن ميمون بن مهران.
قال: نظر رجل من المهاجرين إلى رجل يصلي فأخفى الصلاة فعاتبه، فقال: إني ذكرت ضيعة لي.
فقال: أكبر الضيعة أضعته.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا جعفر بن محمد الدسعني، حثنا أبو جعفر النفيلي، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن طلحة بن زيد قال: قال ميمون: لا تعرف الامير ولا تعرف من يعرفه.
وروى عبد الله بن أحمد عنه أيضا قال: لان أوتمن على بيت مال أحب إلي من أن
أؤتمن على امرأة.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا هاشم بن الحارث، حدثنا أبو المليح الرقي، عن حبيب بن أبي مرزوق، قال قال ميمون: وددت أن إحدى عيني (1) ذهبت وبقيت الاخرى أتمتع بها، وإني لم أل عملا قط.
قلت: ولا لعمر بن عبد العزيز ؟ قال: ولا لعمر بن عبد العزيز، لا خير في العمل لا لعمر ولا لغيره.
وقال أحمد: حدثنا زيد بن الحباب حدثنا سفيان حدثنا جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال: ما عرضت قولي على عملي إلا وجدت من نفسي اعتراضا.
وقال الطبراني: حدثنا المقدام بن داود، حدثنا علي بن معبد، حدثنا خالد بن حيان، حدثنا جعفر عن ميمون قال: قال لي ميمون: قال لي في وجهي ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره.
وروى عبد الله ابن أحمد عنه في قوله تعالى: (خافضة رافعة) [ الواقعة: 3 ] قال: تخفض أقواما وترفع
__________
(1) في ابن سعد 7 / 478: حدقتي سقطت وفي رواية صفة الصفوة 4 / 192 وتذكرة الحفاظ 1 / 99: قال: " وددت أن أصبعي قطعت من ها هنا وأني لم أل لا لعمر بن عبد العزيز ولا لغيرة " والمشهور أن عمرا قد ولاه خراج الجزيرة وقضائها.
وكان ابنه عمر بن ميمون على الديوان.
آخرين.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني عيسى بن سالم، حدثنا أبو المليح، حدثنا بعض أصحابي قال: كنت أمشي مع ميمون فنظر فرأى علي ثوب كتان فقال: أما بلغك أنه لا يلبس الكتان إلا غني أو غاو ؟ وبهذا الاسناد سمعت ميمون بن مهران يقول: أول من مشت الرجال معه وهو راكب الاشعث بن قيس الكندي، ولقد أدركت السلف وهم إذا نظروا إلى رجل راكب ورجل يحضر معه، قالوا: قاتله جبار.
وقال عبد الله بن أحمد: بلغني عن عبد الله بن كريم بن حبان - وقد رأيته - حدثنا أبو المليح قال قال ميمون: ما أحب أن لي ما بين باب الرها إلى حوران بخمسة دراهمه.
وقال ميمون: يقول أحدهم: اجلس في بيتك واغلق عليك بابك وانظر هل يأتيك رزقك ؟ نعم والله لو كان له مثل يقين مريم وإبراهيم عليهما السلام، وأغلق عليه بابه، وأرخى عليه ستره، لجاءه رزقه.
وقال: لو أن
كل إنسان منا يتعاهد كسبه فلم يكسب إلا طيبا، فأخرج ما عليه، ما احتيج إلى الاغنياء، ولا احتاج الفقراء.
وقال أبو المليح عن ميمون قال: ما بلغني عن أخ لي مكروه قط إلا كان إسقاط المكروه عنه أحب إلي من تخفيفه عليه، فإن قال: لم أقل، كان قوله لم أقل أحب إلي من ثمانية يشهدون عليه، فإن قال: قلت ولم يعتذر، أبغضته من حيث أحببته.
وقال: سمعت ابن عباس يقول: ما بلغني عن أخ لي مكروه قط إلا أنزلته إحدى ثلاث منازل، إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان نظيري تفضلت عليه، وإن كان دوني لم أحفل به.
هذه سيرتي في نفسي، فمن رغب عنها فإن أرض الله واسعة.
وقال أبان بن أبي راشد القشيري: كنت إذا أردت الصائفة أتيت ميمون بن مهران أودعه، فما يزيدني على كلمتين.
اتق الله ولا يغرنك طمع ولا غضب.
وقال أبو المليح عن ميمون قال: العلماء هم ضالتي في كل بلدة، وهم أحبتي في كل مصر، ووجدت صلاح قلبي في مجالسة العلماء.
وقال في قوله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) [ الزمر: 10 ] قال: عزقا.
وقال: لان أتصدق بدرهم في حياتي أحب إلي من أن أتصدق بمائة درهم بعد موتي.
وقال: كان يقال: الذكر ذكران، ذكر الله باللسان (1)، وأفضل من ذلك أن تذكره عندما أحل وحرم، وعند المعصية فتكف عنها وقد أشرفت.
وقال: ثلاث الكافر والمؤمن فيهن سواء، الامانة تؤديها إلى من أئتمنك عليها من مسلم وكافر، وبر الوالدين وإن كانا كافرين، والعهد تفي به للمؤمن والكافر.
وقال صفوان عن خلف بن حوشب عن ميمون قال: أدركت من لم يكن يملا عينيه من السماء فوقا من ربه عزوجل.
وقال أحمد بن بزيغ: حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا هارون أبو محمد البريري، أن عمر بن
__________
(1) زيد في صفة الصفوة 4 / 194: حسن.
عبد العزيز استعمل ميمون بن مهران على الجزيرة وعلى قضائها وخراجها، فمكث حينا ثم كتب إلى عمر يستعفيه عن ذلك، وقال: كلفتني ما لا أطيق، أقضي بين الناس وأنا شيخ كبير ضعيف رقيق
فكتب إليه عمر: أجب من الخراج الطيب (1)، واقض بما استبان لك، فإذا التبس عليك أمر فارفعه إلى، فإن الناس لو كان إذا كبر عليهم أمر تركوه ما قام لهم دين ولا دنيا.
وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا كثير بن هشام، حدثنا جعفر بن برقان قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: إن العبد إذا أنب ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا تاب محيت من قلبه فترى قلب المؤمن مجليا مثل المرآة، ما يأتيه الشيطان من ناحية إلا أبصره، وأما الذي يتتابع في الذنوب فإنه كلما أذنب نكتت في قلبه نكته سوداء حتى يسود قلبه فلا يبصر الشيطان من أين يأتيه.
وقال الامام أحمد: حدثنا علي بن ثابت، حدثنا جعفر عن ميمون قال: ما أقل أكياس الناس: ألا يبصر الرجل أمره حتى ينظر إلى الناس وإلى أدوابه، وإلى ما قد أكبوا عليه من الدنيا، فيقول: ما هؤلاء إلا أمثال الاباعر، لا هم لها إلا ما تجعل في أجوافها، حتى إذا أبصر غفلتهم نظر إلى نفسه فقال: والله إني لاراني من شرهم بعيرا واحدا.
وبهذا الاسناد عنه: ما من صدقة أفضل من كلمة حق عند إمام جائر.
وقال: لا تعذب المملوك ولا تضر به على كل ذنب، ولكن احفظ ذلك له، فإذا عصى الله عز وجل فعاقبه على معصية الله وذكره الذنوب التي أذنب بينك وبينه.
وقال قتيبة: حدثنا جعفر بن برقان، سمعت ميمون بن مهران يقول: لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه، حتى يعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه (2)، أمن حلال ذلك أم من حرام ؟.
وقال أبو زرعة الدارمي: حدثنا سعيد بن حفص النفيلي، حدثنا أبو المليح، عن ميمون قال: الفاسق بمنزلة السبع فإذا كلمت فيه فخليت سبيله فقد خليت سبعا على المسلمين.
وقال جعفر بن برقان: قلت لميمون بن مهران: إن فلانا يستبطئ نفسه في زيارتك، قال: إذا ثبتت المودة في القلوب فلا بأس وإن طال المكث.
وقال أحمد: حدثنا ميمون الرقي حدثنا الحسن أبو المليح عن ميمون قال: لا تجد غريما أهون عليك من بطنك أو ظهرك.
وقال الامام أحمد أيضا: حدثنا عبد الله بن الميمون، حدثنا الحسن، عن حبيب بن أبي مرزوق قال: رأيت على ميمون جبة صوف تحت ثيابه فقلت له: ما هذا ؟ قال: نعم ! فلا تخبر به أحدا.
وقال عبد الله بن أحمد: حدثني
يحيى بن عثمان، حدثنا أبو المليح، عن ميمون قال: من أساء سرا فليتب سرا، ومن أساء علانية فليتب علانية، فإن الله يغفر ولا يعير، وإن الناس يعيرون ولا يغفرون.
__________
(1) في طبقات ابن سعد 7 / 478: إنما هو درهم تأحذه من حقه وتضعه في حقه فما استعفاؤك من هذا ؟ (2) زيد في صفة الصفوة 4 / 194: ومن أين ملبسه.
وقال جعفر قال ميمون: في المال ثلاث آفات، إن نجا صاحبه من واحدة لم ينج من اثنتين، وإن نجا من اثنتين كان قمينا أن لا ينجو من الثالثة، ينبغي أن يكون حلالا طيبا، فأيكم الذي يسلم كسبه فلم يدخله إلا طيبا ؟ فإن سلم من هذه فينبغي أن يؤدي الحقوق التي تلزمه في ماله، فإن سلم من هذه فينبغي أن يكون في نفقته ليس بمسرف ولا مقتر.
وقال: سمعت ميمونا يقول: أهون الصوم ترك الطعام والشراب.
وقال عبد الله بن أحمد: حدثنا يحيى بن عثمان الحربي، حدثنا أبو المليح، عن ميمون بن مهران قال: ما نال رجل من جسيم الخير نبي أو غيره إلا بالصبر.
وبهذا الاسناد قال: الدنيا حلوة خضرة قد حفت بالشهوات، والشيطان عدو حاضر، فيظن أن أمر الآخرة آجل، وأمر الدنيا عاجل.
وقال يونس بن عبيدة: كان طاعون قبل بلاد ميمون بن مهران، فكتبت إليه أسأله عن أهله، فكتب إلي: بلغني كتابك تسألني عن أهلي، وأنه مات من أهلي وخاصتي سبعة عشر إنسانا، وإني أكره البلاء إذا أقبل، فإذا أدبر لم يسرني أنه لم يكن، وأما أنت فعليك بكتاب الله، فإن الناس قد بهتوا عنه - يعني أيسوا - واختاروا الاحاديث، أحادث الرجال، وإياك والمرائي في الدين.
قال أبو عبيد في الغريب بهئوا به مهموزا، ومعناه: أنسوا به.
وقال عمر بن ميمون: كنت مع أبي ونحن نطوف بالكعبة فلقي أبي شيخ فعانقه، ومع الشيخ فتى نحو مني، فقال له أبي: من هذا ؟ قال: ابني.
فقال: كيف رضاك عنه ؟ فقال: ما بقيت خصلة يا أبا أيوب من خصال الخير إلا وقد رأيتها فيه، إلا واحدة.
قال: وما هي ؟ قال: أن يموت فأوجر فيه - أو قال فأحتسبه - ثم فارقه أبي، فقلت: من هذا الشيخ ؟ فقال: مكحول.
وقال: شر الناس العيابون، ولا يلبس الكتان إلا غني أو غوي.
وروى الامام أحمد عنه قال: يا بن آدم خفف عن ظهرك فإن ظهرك لا يطيق كل هذا الذي يحمل، من ظلم هذا، وأكل مال هذا، وغشم هذا، وكل هذا على ظهرك تحمله، فخفف عن ظهرك.
وقال: إن أعمالكم قليلة فأخلصوا هذا القليل.
وقال: ما أتي قوم في ناديهم المنكر إلا حق هلاكهم.
وروى عبد الله بن أحمد عنه أنه قرأ (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) [ يس: 59 ] ثم فارق حتى بكى، ثم قال: ما سمع الخلائق بنعت قط أشد منه.
وقال أبو عوانة: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا خالد، عن حصين بن عبد الرحمن عن ميمون قال: أربع لا تكلم فيهم: علي، وعثمان، والقدر، والنجوم.
وقال: احذروا كل هوى يسمى بغير الاسلام.
وروى شبابة عن فرات بن السائب قال: سألت ميمون أعلي أفضل عندك أم أبو بكر وعمر ؟ فارتعد حتى سقطت عصاه من يده ثم قال: ما كنت أظن أن أبقى إلى زمان يعدل بهما غيرهما، إنهما كانا رداءي الاسلام، ورأس الاسلام، ورأس الجماعة.
فقلت: فأبو بكر كان أول إسلاما أم علي ؟ فقال: والله لقد آمن من أبو بكر بالنبي (صلى الله عليه وسلم) زمن بحيرا الراهب حين مر به، وكان أبو بكر هو
الذي يختلف بينه وبين خديجة حتى أنكحها إياه.
وذلك كله قبل أن يولد علي، وكان صاحبه وصديقه قبل ذلك.
وروى ميمون بن مهران عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " قل ما يوجد في آخر الزمان درهم من حلال، أو أخ يوثق به ".
وروى عن ابن عمر أيضا عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " شر المال في آخر الزمان المماليك ".
وروى ابن أبي الدنيا عنه قال: من طلب مرضاة الاخوان بلا شئ فليصادق أهل القبور.
وقال: من ظلم أحدا ففاته أن يخرج من مظلمته فاستغفر له دبر كل صلاة خرج من مظلمته.
وهذا إن شاء الله يدخل فيه الاعراض والاموال وسائر المظالم.
وقال ميمون: القاتل والآمر والمأمور والظالم والراضي بالظلم، كلهم في الوزر سواء.
وقال: أفضل الصبر الصبر على ما تكره نفسك.
من طاعة الله عزوجل.
روى ميمون عن جماعة من الصحابة (1)، وكان يسكن الرقة، رحمه الله تعالى.
نافع مولى ابن عمر أبو عبد الله المدني أصله من بلاد المغرب، وقيل من نيسابور، وقيل من كابل، وقيل غير ذلك.
روى عن مولاه عبد الله بن عمر وجماعة من الصحابة، مثل رافع بن خديج، وأبي سعيد وأبي هريرة وعائشة وأم سلمة وغيرهم.
وروى عنه خلق من التابعين وغيرهم، وكان من الثقات النبلاء، والائمة الاجلاء، قال البخاري: أصح الاسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر، وقال غيره كان عمر بن عبد العزيز قد بعثه إلى مصر يعلم الناس السنن، وقد أثنى عليه غير واحد من الائمة ووثقوه ومات في هذه السنة على المشهور.
ذو الرمة الشاعر (2) واسمه غيلان بن عقبة (3) بن بهيس (4)، من بني عبد مناة بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر، أبو الحارث أحد فحول الشعراء، وله ديوان مشهور، وكان يتغزل في مي (5) بنت مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم المنقري، وكانت جميلة، وكان هو دميم الخلق أسود اللون، ولم يكن بينهما
__________
(1) ومنهم: عائشة وابن عمر، وابن عباس وابي هريرة.
(انظر تذكرة الحفاظ 1 / 99 صفة الصفوة 4 / 195).
(2) انظر ترجمته في: طبقات ابن سلام: 465 شرح شواهد المغني 52 الخزانة 1 / 50 وفيات الاعيان 4 / 11 الشعر والشعراء ص 437 الاغاني 18 / 1 الموشح ص 170 سمط اللآلي: 81 الشريشي 2 / 53 تزيين الاسواق 1 / 88.
(3) من المرجع السابقة، وفي الاصل عتبة.
(4) في ابن خلكان والمشتبه والقاموس واللآلي: بهيش، وفي الشريشي: غيلان بن عقبة بن بيهس، وفي الاغاني وتزيين الاسواق: غيلان بن عقبة بن مسعود.
(5) في الاغاني وابن خلكان: مية.
فحش ولا خنا ولم يكن رآها قط ولا رأته، وإنما كانت تسمع به ويسمع بها، ويقال: إنها كانت تنذر إن هي رأته أن تذبح جزورا، فلما رأته قالت: واسوأتاه واسوأتاه، ولم تبلد له وجهها قط إلا مرة
واحدة، فأنشأ يقول: على وجه مي لمحة من حلاوة * وتحت الثياب العار لو كان باديا (1) قال فانسلخت من ثيابها فقال: ألم تر أن الماء يخبث طعمه * وإن كان لون الماء أبيض (2) صافيا فقالت: تريد أن تذوق طعمه ؟ فقال: إي والله، فقالت: تذوق الموت قبل أن تذوقه.
فأنشأ يقول: فواضيعة الشعر الذي راح وانقضى * بمي ولم أملك ضلال فؤاديا قال ابن خلكان: ومن شعره السائر بين الناس ما أنشده: إذا هبت الارياح من نحو جانب * به أهل مي هاج شوقي (3) هبوبها هوى تذرف العينان منه وإنما * هوى كل نفس أين حل (4) حبيبها وأنشد عند الموت: يا قابض الارواح في جسمي إذا احتضرت * وغافر الذنب زحزحني عن النار (5)
__________
(1) البيت في الاغاني 18 / 26: على وجه مي مسحة من ملاحة * وتحت الثياب الخزي...وفي الخزانة 1 / 109: الشين.
(2) في الاغاني: في العين صافيا.
والشعر في ابن سلام 476 وأمالي الزجاجي والحماسة 4 / 53 والشعر والشعراء 519.
وأكثر المصادر على ان البيتين موضوعة على لسان ذي الرمة، وقد أنشدتهما كثيرة ابنة عم لمية من ولد قيس وهي أم سهم بن بردة، وكان ذو الرمة يمتعض من ذلك وحلف بجهد أيمانه أنه ما قالهما.
(3) في ابن خلكان 4 / 13 وديوانه 66 قلبي.
(4) في ابن خلكان: حيث كان.
(5) البيت في الاغاني: 18 / 44 وديوانه ص 667.
يا مخرج الروح من جسمي إذا احتضرت * وفارج الكرب...
ثم دخلت سنة ثماني عشرة ومائة فيها غزا معاوية وسليمان ابنا أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك بلاد الروم، وفيها قصد شخص يقال له: عمار بن يزيد، ثم سمى بخداش، إلى بلاد خراسان ودعا الناس إلى خلافة محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فاستجاب له خلق كثير، فلما التفوا عليه دعاهم إلى مذهب الخرمية (1) الزنادقة، وأباح لهم نساء بعضهم بعضا، وزعم لهم أن محمد بن علي يقول ذلك، وقد كذب عليه فأظهر الله عليه الدولة فأخذ فجئ به إلى خالد بن عبد الله القسري أمير العراق وخراسان، فأمر به فقطعت يده وسل لسانه ثم صلب بعد ذلك.
وفيها حج بالناس محمد بن هشام بن إسماعيل أمير المدينة، وقيل إن إمرة المدينة كانت مع خالد بن عبد الملك بن مروان، والصحيح أنه كان قد عزل وولي مكانه محمد بن هشام بن إسماعيل، وكان أمير العراق القسري.
وفيها كانت وفاة: علي بن عبد الله بن عباس (2) ابن عبد المطلب القرشي الهاشمي أبو الحسن، ويقال أبو محمد، وأمه زرعة بنت مسرح بن معد يكرب الكندي، أحد الملوك الاربعة الاقيال المذكورين في الحديث الذي رواه أحمد، وهم مسرح، وحمل، ومخولس، وأبضعة: وأختهم العمردة وكان مولد علي هذا يوم قتل علي بن أبي طالب، فسماه أبوه باسمه، وكناه بكنيته، وقيل إنه ولد في حياة علي وهو الذي سماه وكناه ولقبه بأبي الاملاك، فلما وفد على عبد الملك بن مروان أجلسه معه على السرير وسأله عن اسمه وكنيته فأخبره فقال له: ألك ولد ؟ قال: نعم ولد لي ولد سميته محمدا، فقال له: أنت أبو محمد، وأجزل عطيته، وأحسن إليه.
وقد كان علي هذا في غاية العبادة والزهادة والعلم والعمل وحسن الشكل والعدالة والثقة كان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة، قال عمرو بن علي الفلاس: كان من خيار الناس، وكانت وفاته بالجهمة (3) من أرض البلقاء في هذه السنة، وقد قارب الثمانين.
وقد ذكر ابن خلكان أنه تزوج لبابة بنت عبد الله بن جعفر، التي كانت تحت عبد الملك بن مروان، فطلقها،
وكان سبب طلاقه إياها أنه عض تفاحة ثم رمى بها إليها فأخذت السكين فحزت من التفاحة ما مس فمه منها، فقال: ولم تفعلين هذا ؟ فقالت: أزيل الاذى عنها - وذلك لان عبد الملك كان أبخر -
__________
(1) الخرمية: قال الاسفرائيني: هؤلاء صنفان صنف منهم كان قبل دولة الاسلام كالمزدكية الذين استباحوا المحرمات وزعموا ان الناس شركاء في الاموال والنساء، ودامت فتنة هؤلاء إلى أن قتلهم أنوشروان في زمانه.
والصنف الثاني: الخر مدينية ظهروا في دولة الاسلام (ص 201).
(2) ترجمته في وفيات الاعيان 4 / 274 طبقات ابن سعد 5 / 312 صفة الصفوة 3 / 59 العبر للذهبي 1 / 148 شذرات الذهب 1 / 148، وتاريخ الطبري 8 / 230 ابن الاثير 5 / 198.
(3) في ابن الاثير 5 / 198: من أرض الشام (وانظر الطبري 8 / 230).
فطلقها عبد الملك، فلما تزوجها علي بن عبد الله بن عباس هذا نقم عليه الوليد بن عبد الملك لاجل ذلك، فضربه بالسياط، وقال إنما أردت أن تذل بنيها من الخلفاء، وضربه مرة ثانية لانه اشتهر عنه أنه قال: الخلافة صائرة إلى بيته، فوقع الامر كذلك (1).
وذكر المبرد أنه دخل على هشام بن عبد الملك ومعه ابناه السفاح والمنصور وهما صغيران، فأكرمه هشام وأدنى مجلسه، وأطلق له مائة وثلاثين ألفا (2)، وجعل علي بن عبد الله يوصيه بابنيه خيرا، ويقول: إنهما سيليان الامر، فجعل هشام يتعجب من سلامة باطنه وينسبه في ذلك إلى الحمق، فوقع الامر كما قال.
قالوا: وقد كان علي في غاية الجمال وتمام القامة، كان بين الناس كأنه راكب، وكان إلى منكب أبيه عبد الله، وكان عبد الله إلى منكب أبيه العباس، وكان العباس إلى منكب أبيه عبد المطلب، وقد بايع كثير من الناس لابنه محمد بالخلافة قبل أن يموت علي هذا قبل هذه السنة بسنوات، ولكن لم يظهر أمره حتى مات فقام بالامر من بعده ولده عبد الله أبو العباس السفاح، وكان ظهوره في سنة اثنتين وثلاثين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
عمرو بن شعيب، وعبادة بن نسي، وأبو صخرة جامع بن شداد، وأبو عياش المعافري.
ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائة
ففيها غزا الوليد بن القعقاع بلاد الروم.
وفيها قتل أسد بن عبد الله القسري ملك الترك الاعظم خاقان، وكان سبب ذلك أن أسد بن عبد الله أمير خراسان عمل نيابة عن أخيه خالد بن عبد الله على العراق، ثم سار بجيوشه إلى مدينة ختل فافتتحها، وتفرقت في أرضها جنوده يقتلون ويأسرون ويغنمون، فجاءت العيون إلى ملك الترك خاقان أن جيش أسد قد تفرق في بلاد ختل، فاغتنم خاقان هذه الفرصة فركب من فوره في جنوده قاصدا إلى أسد، وتزود خاقان وأصحابه سلاحا كثيرا، وقديدا وملحا، وساروا في حنق عظيم، وجاء إلى أسد فأعلموه بقصد خاقان له في جيش عظيم كثيف، فتجهز لذلك وأخذ أهبته، فأرسل من فوره إلى أطراف جيشه، فلمها وأشاع بعض الناس أن خاقان قد هجم على أسد بن عبد الله فقتله وأصحابه، ليحصل بذلك خذلان لاصحابه، فلا يجتمعون إليه، فرد الله كيدهم في نحورهم، وجعل تدميرهم في تدبيرهم، وذلك أن المسلمين لما سمعوا بذلك أخذتهم حمية الاسلام وازدادوا حنقا على عدوهم، وعزموا على الاخذ بالثأر، فقصدوا الموضع الذي فيه أسد، فإذا هو حي قد اجتمعت عليه العساكر من كل جانب، وسار أسد نحو خاقان حتى أتى جبل الملح، وأراد أن يخوض نهر بلخ، وكان معهم أغنام كثيرة، فكره أسد أن يتركها
__________
(1) وفيات الاعيان 3 / 275 - 276.
(2) انظر الكامل للمبرد 1 / 368.
وفيه: ثلاثون ألف درهم.
وراء ظهره، فأمر كل فارس أن يحمل بين يديه شاة وعلى عنقه شاة، وتوعد من لم يفعل ذلك بقطع اليد، وحمل هو معه شاة وخاضوا النهر، فما خلصوا منه جيدا حتى دهمهم خاقان من ورائهم في خيل دهم، فقتلوا من وجدوه لم يقطع النهر وبعض الضعفة، فلما وقفوا على حافة النهر أحجموا وظن المسلمون أنهم لا يقطعون إليهم النهر، فتشاور الاتراك فيما بينهم، ثم اتفقوا على أن يحملوا حملة واحدة - وكانوا خمسين ألفا - فيقتحمون النهر، فضربوا بكؤساتهم ضربا شديدا حتى ظن المسلمون أنهم معهم في عسكرهم، ثم رموا بأنفسهم في النهر رمية واحدة، فجعلت خيولهم تنخر أشد النخير، وخرجوا منه إلى ناحية المسلمين فثبت المسلمون في معسكرهم، وكانوا قد خندقوا حولهم
خندقا لا يخلصون إليهم منه، فبات الجيشان تتراءى ناراهما، فلما أصبحا مال خاقان على بعض الجيش الذي للمسلمين فقتل منهم خلقا وأسر أمما وإبلا موقرة، ثم ان الجيشين تواجهوا في يوم عيد الفطر حتى خاف جيش أسد أن لا يصلوا صلاة العيد، فما صلوها إلا على وجل، ثم سار أسد بمن معه حتى نزل مرج بلخ، حتى انقضى الشتاء، فلما كان يوم عيد الاضحى خطب أسد الناس واستشارهم في الذهاب إلى مرو أو في لقاء خاقان، أو في التحصن ببلخ.
فمنهم من أشار بالتحصن، ومنهم من أشار بملتقاه والتوكل على الله، فوافق ذلك رأي أسد الاسد، فقصد بجيشه نحو خاقان، وصلى بالناس ركعتين أطال فيهما، ثم دعا بدعاء طويل، ثم انصرف وهو يقول: نصرتم إن شاء الله، ثم سار بمن معه من المسلمين فالتقت مقدمته بمقدمة خاقان، فقتل المسلمون منهم خلقا وأسروا أميرهم وسبعة أمراء معه، ثم ساق أسد فانتهى إلى أغنامهم فاستاقها، فإذا هي مائة ألف وخمسون ألف شاة، ثم التقى معهم، وكان خاقان إنما معه أربعة آلاف أو نحوها، ومعه رجل من العرب قد خامر إليه، يقال له الحارث بن سريج (1)، فهو يدلهم على عورات المسلمين، فلما أقبل الناس هربت الاتراك في كل جانب، وانهزم خاقان ومعه الحارث بن سريج (1) يحميه ويتبعه، فتبعهم أسد، فلما كان عند الظهيرة انخذل خاقان في أربعمائة من أصحابه، عليهم الخز ومعهم الكؤسات، فلما أدركه المسلمون أمر بالكؤسات فضربت ضربا شديدا ضرب الانصراف ثلاث مرات فلم يستطيعوا الانصراف، فتقدم المسلمون فاحتاطوا على معسكرهم فاحتازوه بما فيه من الامتعة العظيمة، والاواني من الذهب والفضة، والنساء والصبيان، من الاتراك ومن معهم من الاسارى من المسلمات وغيرهم، مما لا يحد ولا يوصف لكثرته وعظمه وقيمته وحسنه.
غير أن خاقان لما أحس بالهلاك ضرب امرأته بخنجر فقتلها، فوصل المسلمون إلى المعسكر وهي في آخر رمق تتحرك، ووجدوا قدورهم تغلي باطعماتهم، وهرب خاقان بمن معه حتى دخل بعض المدن فتحصن بها، فاتفق أنه لعب بالنرد مع بعض الامراء (2) فغلبه الامير فتوعده خاقان بقطع اليد، فحنق عليه
__________
(1) من الطبري وابن الاثير وابن الاعثم، وفي الاصل شريح وهو تحريف.
(2) في ابن الاثير 5 / 205: كور صول.
وانظر الطبري 8 / 238.
ذلك الامير ثم عمل على قتله فقتله، وتفرقت الاتراك يعدو بعضهم على بعض، وينهب بعضهم بعضا، وبعث أسد إلى أخيه خالد يعلمه بما وقع من النصر والظفر بخاقان، وبعث إليه بطبول خاقان - وكانت كبارا لها أصوات كالرعد وبشئ كثير من حواصله وأمتعته، فأوفدها خالد إلى أمير المؤمنين هشام ففرح بذلك فرحا شديدا، وأطلق للرسل أموالا جزيلة كثيرة من بيت المال وقد قال بعض الشعراء في أسد يمدحه على ذلك: - لو سرت في الارض تقيس الارضا * تقيس منها طولها والعرضا لم تلق خيرا إمرة ونقضا * من الامير أسد وأمضى افضى إلينا الخير حتى افضا * وجمع الشمل وكان ارفضا ما فاته خاقان إلا ركضا * قد فض من جموعه ما فضا يا بن سريج (1) قد لقيت حمضا * حمضا به تشفى صداع المرضى وفيها قتل خالد بن عبد الله القسري المغيرة بن سعيد وجماعة من أصحابه الذين تابعوه على باطله، وكان هذا الرجل (2) ساحرا فاجرا شيعيا خبيثا، قال ابن جرير: ثنا ابن حميد، ثنا جرير، عن الاعمش قال: سمعت المغيرة بن سعيد يقول: لو أراد أن يحيى عادا وثمودا وقرونا بين ذلك لاحياهم.
قال الاعمش: وكان المغيرة هذا يخرج إلى المقبرة فيتكلم فيرى مثل الجراد على القبور، أو نحو هذا من الكلام.
وذكر ابن جرير له غير ذلك من الاشياء التي تدل على سحره وفجوره.
ولما بلغ خالدا أمره أمر بإحضاره فجئ به في ستة نفر أو سبعة نفر، فأمر خالد فأبرز سريره إلى المسجد، وأمر باحضار أطناب القصب والنفط فصب فوقها، وأمر المغيرة أن يحتضن طنبا منها، فامتنع فضرب حتى احتضن منها طنبا واحدا وصب فوق رأسه النفط، ثم أضرم بالنار.
وكذلك فعل ببقية أصحابه.
وفي هذه السنة خرج رجل يقال له بهلول بن بشر ويلقب بكثارة، واتبعه جماعات من الخوارج دون المائة، وقصدوا قتل خالد القسري، فبعث إليهم البعوث فكسروا الجيوش واستفحل أمرهم جدا لشجاعتهم وجلدهم، وقلة نصح من يقاتلهم من الجيوش، فردوا العساكر من الالوف
المؤلفة، ذوات الاسلحة والخيل المسومة، هذا وهم لم يبلغوا المائه، ثم إنهم راموا قدوم الشام لقتل الخليفة هشام، فقصدوا نحوها، فاعترضهم جيش بأرض الجزيرة فاقتتلوا معهم قتالا عظيما، فقتلوا
__________
(1) من الطبري، وفي الاصل شريح.
(2) كان المغيرة بن سعيد من القائلين بالتجسيم أي أن الله على صورة رجل على رأسه تاج، وإن أعضاءه على عدد حروف الهجاء ويقول ما لا ينطق به لسان، ويقول بتكفير أبي بكر وعمر وان الله تعالى لما أراد أن يخلق تكلم باسمه الاعظم فطار فوقع على تاجه ثم كتب باصبعه على كفه أعمال عباده من المعاصي والطاعات.
(الفرق بين الفرق ص 181 - 182 ابن الاثير 5 / 208).
عامة أصحاب بهلول الخارجي.
ثم إن رجلا من جديلة يكنى أبا الموت ضرب بهلولا ضربة فصرعه وتفرقت عنه بقية أصحابه، وكانوا جميعهم سبعين رجلا (1)، وقد رثاهم بعض أصحابهم (2) فقال: بدلت بعد أبي بشر وصحبته * قوما علي مع الاحزاب أعوانا بانوا كأن لم يكونوا من صحابتنا * ولم يكونوا لنا بالامس خلانا يا عين أذري دموعا منك تهتانا * وابكي لنا صحبة بانوا وجيرانا خلوا لنا ظاهر الدنيا وباطنها * وأصبحوا في جنان الخلد جيرانا ثم تجمع طائفة منهم أخرى على بعض أمرائهم (3) فقاتلوا وقتلوا وقتلوا، وجهزت إليهم العساكر من عند خالد القسري، ولم يزل حتى أباد خضراءهم ولم يبق لهم باقية.
وفيها غزا أسد القسري بلاد الترك، فعرض عليه ملكهم طرخان خان ألف ألف فلم يقبل منه شيئا، وأخذه قهرا فقتله صبرا بين يديه، وأخذ مدينته وقلعته وحواصله ونساءه وأمواله.
وفيها خرج الصحارى بن شبيب الخارجي واتبعه طائفة قليلة نحو من ثلاثين رجلا، فبعث إليهم خالد القسري جندا فقتلوه وجميع أصحابه، فلم يتركوا منهم رجلا واحدا.
وحج بالناس في هذه السنة أبو شاكر مسلمة بن هشام بن عبد الملك، وحج معه ابن شهاب الزهري ليعلمه مناسك الحج، وكان أمير مكة والمدينة
والطائف محمد بن هشام بن إسماعيل، وأمير العراق والمشرق وخراسان خالد القسري، ونائبه على خراسان بكمالها أخوه أسد بن عبد الله القسري، وقد قيل إنه توفي في هذه السنة، وقيل في سنة عشرين فالله أعلم.
ونائب أرمينية وأذربيجان مروان الحمار.
والله أعلم.
سنة عشرين ومائة من الهجرة فيها غزا سليمان بن هشام بلاد الروم وافتتح فيها حصونا، وفيها غزا إسحاق بن مسلم العقيلي تومان شاه، وافتتحها وخرب أراضيها، وفيها غزا مروان بن محمد بلاد الترك، وفيها كانت وفاة أسد ابن عبد لله القسري أمير خراسان، وكانت وفاته بسبب أنه كانت له دبيلة في جوفه، فلما كان مهرجان هذه السنة قدمت الدهاقين - وهم أمراء المدن الكبار - من سائر البلدان بالهدايا والتحف على أسد، وكان فيمن قدم نائب هراة ودهقانها، واسم دهقانها خراسان شاه، فقدم بهدايا عظيمة وتحف عزيزة، وكان من جملة ذلك قصر من ذهب، وقصر من فضة، وأبا ريق من ذهب، وصحاف من
__________
(1) في ابن الاثير 5 / 210 والطبري 8 / 242 أربعون رجلا.
(2) هو الضحاك بن قيس كما في الطبري 8 / 244.
(3) ومنهم: عمرو اليشكري قتل فخرج العنزي صاحب الاشهب فقتل ثم خرج وزير السختياني.
ذهب وفضة، وتفاصيل من حرير تلك البلاد ألوان ملونة، فوضع ذلك كله بين يدي أسد حتى امتلا المجلس، ثم قام الدهقان خطيبا فامتدح أسدا بخصال حسنة، على عقله ورياسته وعدله ومنعه أهله وخاصته أن يظلموا أحدا من الرعايا بشئ قل أو كثر، وأنه قهر الخان الاعظم، وكان في مائة ألف فكسره وقتله، وأنه يفرح بما يفد إليه من الاموال، وهو بما خرج من يده أفرح وأشد سرورا، فاثنى عليه أسد وأجلسه، ثم فرق أسد جميع تلك الهدايا والاموال وما هناك أجمع على الامراء والاكابر بين يديه، حتى لم يبق منه شئ، ثم قام من مجلسه وهو عليل من تلك الدبيلة، ثم أفاق إفاقة وجئ بهدية كمثرى فجعل يفرقها على الحاضرين واحدة واحدة، فألقى إلى دهقان خراسان واحدة فانفجرت دبيلته وكان فيها حتفه، واستخلف على عمله جعفر بن حنظلة البهراني، فمكت أميرا
أربعة أشهر حتى جاء عهد نصر بن سيار في رجب منها، فعلى هذا تكون وفاة أسد في صفر من هذه السنة، وقد قال فيه ابن عرس العبدي يرثيه: نعى أسد بن عبد الله ناع * فريع القلب للملك المطاع ببلخ وافق المقدار يسري * وما لقضاء ربك من دفاع فجودي عين بالعبرات سحا * ألم يحزنك تفريق الجماع أتاه حمامه في جوف صيغ * وكم بالصيغ من بطل شجاع كتائب قد يجيبون المنادي * على جرد مسومة سراع سقيت الغيث إنك كنت غيثا * مريعا عند مرتاد النجاع وفيها عزل هشام خالد بن عبد الله القسري عن نيابة العراق، وذلك أنه انحصر منه لما كان يبلغه من إطلاق عبارة فيه، وأنه كان يقول عنه ابن الحمقاء، وكتب إليه كتابا فيه غلظة، فرد عليه هشام ردا عنيفا (1)، ويقال إنه حسده على سعة ما حصل له من الاموال والحواصل والغلات، حتى قيل إنه كان دخله في كل سنة ثلاثة عشر ألف ألف دينار، وقيل درهم، ولولده يزيد بن خالد عشرة آلاف ألف، وقيل إنه وفد إليه رجل من الزام أمير المؤمنين من قريش يقال له ابن عمرو (2)، فلم يرحب به ولم يعبأ به، فكتب إليه هشام يعنفه ويبكته على ذلك، وأنه حال وصول هذا الكتاب إليه يقوم من فوره بمن حوله من أهل مجلسه فينطلق على قدميه حتى يأتي باب ابن عمرو صاغرا ذليلا مستأذنا عليه، متنصلا إليه مما وقع، فإن أذن لك وإلا فقف على بابه حولا غير متحلل من مكانك ولا زائل، ثم أمرك إليه إن شاء عزلك وإن شاء أبقاك، وإن شاء انتصر، وإن شاء عفا.
وكتب إلى ابن عمرو يعلمه بما كتب إلى خالد، وأمره إن وقف بين يديه أن يضربه عشرين سوطا على رأسه، إن رأى
__________
(1) انظر نسخة كتاب خالد إلى هشام ورد هشام عليه في الطبري 8 / 251.
(2) من آل عمرو بن سعيد بن العاص.
ذلك مصلحة.
ثم إن هشاما عزل خالدا وأخفى ذلك، وبعث البريد إلى نائبه على اليمن وهو يوسف
ابن عمر فولاه إمرة العراق، وأمره بالمسير إليها والقدوم عليها في ثلاثين راكبا، فقدموا الكوفة وقت السحر، فدخلوها، فلما أذن المؤذن أمره يوسف بالاقامة: فقال: إلى أن يأتي الامام - يعني خالدا - فانتهره وأمره بالاقامة وتقدم يوسف فصلى وقرأ (إذا وقعت الواقعة) و (سأل سائل) ثم انصرف فبعث إلى خالد وطارق (1) وأصحابهما، فاحضروا فأخذ منهم أموالا كثيرة، صادر خالدا بمائة ألف ألف درهم، وكانت ولاية خالد في شوال سنة خمس ومائة، وعزل عنها في جمادى الاولى من هذه السنة - أعني سنة عشرين ومائة - وفي هذا الشهر قدم يوسف بن عمر على ولاية العراق مكان خالد بن عبد الله القسري، واستناب على خراسان جديع بن علي الكرماني، وعزل جعفر بن حنظلة الذي كان استنابه أسد، ثم إن يوسف بن عمر عزل جديعا في هذه السنة عن خراسان، وولى عليها نصر ابن سيار، وذهب جميع ما كان اقتناه وحصله خالد من العقار والاملاك وهلة واحدة، وقد كان أشار عليه بعض أصحابه لما بلغهم عتب هشام عليه أن يبعث إليه يعرض عليه بعض أملاكه، فما أحب منها أخذه وما شاء ترك، وقالوا له: لان يذهب البعض خير من أن يذهب الجميع مع العزل والاخراق فامتنع من ذلك واغتر بالدنيا وعزت نفسه عليه أن يذل، ففجأه العزل، وذهب ما كان حصله وجمعه ومنعه، واستقرت ولاية يوسف بن عمر على العراق وخراسان، واستقرت نيابة نصر بن سيار على خراسان، فتمهدت البلاد وأمن العباد ولله الحمد والمنة.
وقد قال سوار بن الاشعري في ذلك: أضحت خراسان بعد الخوف آمنة * من ظلم كل غشوم الحكم جبار لما أتى يوسفا أخبار ما لقيت * اختار نصرا لها نصر بن سيار وفي هذه السنة استبطأت شيعة آل العباس كتاب محمد بن علي إليهم، وقد كان عتب عليهم في اتباعهم ذلك الزنديق الملقب بخداش، وكان خرميا، وهو الذي أحل لهم المنكرات ودنس المحارم والمصاهرات، فقتله خالد القسري كما تقدم، فعتب عليهم محمد بن علي في تصديقهم له واتباعهم إياه على الباطل، فلما استبطأوا كتابه إليهم بعث إليهم رسولا يخبر لهم أمره، وبعثواهم أيضا رسولا، فلما جاء رسولهم أعلمه محمد بماذا عتب عليهم بسبب الخرمي، ثم أرسل مع الرسول
كتابا مختوما، فلما فتحوه لم يجدوا فيه سوى: بسم الله الرحمن الرحيم، تعلموا أنه إنما عتبنا عليكم بسبب الخرمي.
ثم أرسل رسولا إليهم فلم يصدقه كثير منهم وهموا به، ثم جاءت من جهته عصى ملويا عليها حديد ونحاس، فعلموا أن هذا إشارة لهم إلى أنهم عصاة، وأنهم مختلفون كاختلاف ألوان النحاس والحديد.
قال ابن جرير: وحج بالناس فيها محمد بن هشام المخزومي فيما قاله أبو
__________
(1) وهو طارق بن أبي زياد.
معشر، قال: وقد قيل إن الذي حج بالناس سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقيل ابنه يزيد بن هشام فالله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائة ففيها غزا مسلمة بن هشام الروم فافتتح مطامير وهو حصن، وافتتح مروان بن محمد بلاد صاحب الذهب، وأخذ قلاعه وخرب أرضه، فأذعن له بالجزية في كل سنة بألف رأس يؤديها إليه، وأعطاه رهنا على ذلك.
وفيها في صفر قتل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الذي تنسب إليه الطائفة الزيدية، في قول الواقدي، وقال هشام الكلبي: إنما قتل في صفر من سنة ثنتين وعشرين فالله أعلم.
وقد ساق محمد بن جرير سبب مقتله في هذه السنة تبعا للواقدي، وهو أن زيدا هذا وفد على يوسف بن عمر فسأله هل أودع خالد القسري (1) عندك مالا ؟ فقال له زيد بن علي: كيف يودعني مالا وهو يشتم آبائي على منبره في كل جمعة ؟ فأحلفه أنه ما أودع عنده شيئا، فأمر يوسف بن عمر باحضار خالد بن السجن فجئ به في عباءة، فقال: أنت أودعت هذا شيئا نستخلصه منه ؟ قال: لا، وكيف وأنا أشتم أباه كل جمعة ؟ فتركه عمر وأعلم أمير المؤمنين بذلك فعفا عن ذلك، ويقال بل استحضرهم فحلفوا بما حلفوا.
ثم إن طائفة من الشيعة التفت على زيد بن علي، وكانوا نحوا من أربعين ألفا، فنهاه بعض النصحاء عن الخروج، وهو محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، وقال له: إن جدك خير منك، وقد التفت على بيعته من أهل العراق ثمانون ألفا، ثم خانوه أحوج ما كان إليهم، وإني أحذرك من أهل العراق.
فلم يقبل بل استمر يبايع
الناس في الباطن في الكوفة، على كتاب الله وسنة رسوله حتى استفحل أمره بها في الباطن، وهو يتحول من منزل إلى منزل، وما زال كذلك حتى دخلت سنة ثنتين وعشرين ومائة، فكان فيها مقتله كما سنذكره قريبا.
وفيها غزا نصر بن سيار أمير خراسان غزوات متعددة في الترك، وأسر ملكهم كور صول في بعض تلك الحروب وهو لا يعرفه، فلما تيقنه وتحققه، سأل منه كور صول أن يطلقه على أن يرسل له ألف (2) بعير من إبل الترك - وهي البخاتي - وألف برذون، وهو مع ذلك شيخ كبير جدا، فشاور نصر من بحضرته من الامراء في ذلك، فمنهم من أشار باطلاقه، ومنهم من أشار بقتله.
ثم سأله نصر بن سياركم غزوت من غزوة ؟ فقال: ثنتين وسبعين غزوة، فقال له نصر: ما مثلك يطلق، وقد شهدت هذا كله، ثم أمر به فضربت عنقه وصلبه، فلما بلغ ذلك جيشه من قتله باتوا تلك الليلة يجعرون ويبكون عليه، وجذوا لحاهم وشعورهم وقطعوا آذانهم وحرقوا خياما
__________
(1) في رواية عند الطبري 8 / 260 وابن الاثير 5 / 230 وابن الاعثم 8 / 109 - 110 أن زيد بن خالد هو الذي ادعى انه اودع مالا لدى زيد بن علي ومحمد بن عمر بن علي بن أبي طالب (رض).
(2) في ابن الاثير 5 / 237: أربعة آلاف.
كثيرة، وقتلوا أنعاما كثيرة، فلما أصبح أمر نصر بإحراقه لئلا يأخذوا جثته، فكان حريقه أشد عليهم من قتله، وانصرفوا خائبين صاغرين خاسرين، ثم كر نصر على بلادهم فقتل منهم خلقا وأسر أمما لا يحصون كثرة، وكان فيمن حضر بين يديه عجوز كبيرة جدا من الاعاجم أو الاتراك، وهي من بيت مملكة، فقالت لنصر بن سيار: كل ملك لا يكون عنده ستة أشياء فهو ليس بملك، وزير صادق يفصل خصومات الناس ويشاوره ويناصحه، وطباخ يصنع له ما يشتهيه، وزوجة حسناء إذا دخل عليها مغتما فنظر إليها سرته وذهب غمه وحصن منيع إذا فزع رعاياه لجأوا إليه فيه، وسيف إذا قارع به الاقران لم يخش خيانته، وذخيرة إذا حملها فأين ما وقع من الارض عاش بها.
وحج بالناس فيها محمد بن هشام بن إسماعيل نائب مكة والمدينة والطائف، ونائب العراق يوسف بن عمر، ونائب خراسان نصر بن سيار، وعلى أرمينية مروان بن محمد.
ذكر من توفي فيها من الاعيان: زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب والمشهور أنه قتل في التي بعدها كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
مسلمة بن عبد الملك ابن مروان القرشي الاموي، أبو سعيد وأبو الاصبغ الدمشقي، قال ابن عساكر: وداره بدمشق في حجلة القباب عند باب الجامع القبلي، ولي الموسم أيام أخيه الوليد، وغزا الروم غزوات وحاصر القسطنطينية، وولاه أخوه يزيد إمرة العراقين، ثم عزله وتولى أرمينية.
وروى الحديث عن عمر بن عبد العزيز، وعنه عبد الملك بن أبي عثمان، وعبيد الله بن قزعة، وعيينة والد سفيان بن عيينة وابن أبي عمران، ومعاوية بن خديج، ويحيى بن يحيى الغساني.
قال الزبير بن بكار: كان مسلمة من رجال بني أمية، وكان يلقب بالجرادة الصفراء، وله آثار كثيرة، وحروب ونكاية في العدو من الروم وغيرهم.
قلت: وقد فتح حصونا كثيرة من بلاد الروم.
ولما ولي أرمينية غزا الترك فبلغ باب الابواب فهدم المدينة التي عنده، ثم أعاد بناءها بعد تسع سنين.
وفي سنة ثمان وتسعين غزا القسطنطينية فحاصرها وافتتح مدينة الصقالبة، وكسر ملكهم البرجان، ثم عاد إلى محاصرة القسطنطينية.
قال الاوزاعي: فأخذه وهو يغازيهم صداع عظيم في رأسه، فبعث ملك الروم إليه بقلنسوة وقال: ضعها على رأسك يذهب صداعك، فخشي أن تكون مكيدة فوضعها على رأس بهيمة فلم ير إلا خيرا، ثم وضعها على رأس بعض أصحابه فلم ير إلا خيرا، فوضعها على رأسه فذهب صداعه، ففتقها فإذا فيها سبعون سطرا هذه الآية (إن الله يمسك السموات والارض أن تزولا) [ فاطر: 41 ] الآية مكررة لا غير، رواه ابن عساكر.
وقد لقي مسلمة في حصاره القسطنطينية شدة عظيمة، وجاع المسلمون عندها جوعا شديدا، فلما ولي عمر بن عبد العزيز أرسل إليهم البريد يأمرهم بالرجوع إلى الشام، فحلف مسلمة أن لا يقلع عنهم حتى يبنوا له جامعا كبيرا بالقسطنطينية، فبنوا له جامعا ومنارة، فهو بها إلى الآن يصلي فيه
المسلمون الجمعة والجماعة، قلت: وهي آخر ما يفتحه المسلمون قبل خروج الدجال في آخر الزمان، كما سنورده في الملاحم والفتن من كتابنا هذا إن شاء الله.
ونذكر الاحاديث الواردة في ذلك هناك، وبالجملة كانت لمسلمة مواقف مشهورة، ومساعي مشكورة، وغزوات متتالية منثورة، وقد افتتح حصونا وقلاعا، وأحيا بعزمه قصورا وبقاعا، وكان في زمانه في الغزوات نظير خالد بن الوليد في أيامه، في كثرة مغازيه، وكثرة فتوحه، وقوة عزمه، وشده بأسه، وجودة تصرفه في نقضه وإبرامه.
وهذا مع الكرم والفصاحة، وقال يوما لنصيب الشاعر: سلني، قال: لا، قال: ولم ؟ قال: لان كفك بالجزيل أكثر من مسألتي باللسان.
فأعطاه ألف دينار.
وقال أيضا: الانبياء لا يتنابون كما يتناب الناس من ناب نبي قط وقد أوصى بثلث ماله لاهل الادب، وقال: إنها صنعة جحف أهلها.
وقال الوليد بن مسلم وغيره: توفي يوم الاربعاء لسبع مضين من المحرم سنة إحدى وعشرين ومائة، وقيل في سنة عشرين ومائة، وكانت وفاته بموضع يقال له الحانوت، وقد رثاه بعضهم، وهو ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك فقال: أقول وما العبد إلا الردى * أمسلم لا تبعدن مسلمه فقد كنت نورا لنا في البلاد * مضيئا فقد أصبحت مظلمه ونكتم موتك نخشى اليقين * فأبدى اليقين لنا الجمجه نمير بن قيس (1) الاشعري قاضي دمشق، تابعي جليل، روى عن حذيفة مرسلا وأبي موسى مرسلا وأبي الدرداء وعن معاوية مرسلا وغير واحد من التابعين، وحدث عنه جماعة كثيرون، منهم الاوزاعي وسعيد بن عبد العزيز ويحيى بن الحارث الذماري.
ولاه هشام بن عبد الملك القضاء بدمشق بعد عبد الرحمن بن الخشخاش العذري، ثم استعفى هشاما فعفاه وولى مكانه يزيد بن عبد الرحمن بن أبي ملك.
وكان نمير هذا لا يحكم باليمين مع الشاهد، وكان يقول: الادب من الآباء، والصلاح من الله.
قال غير واحد: توفي سنة إحدى وعشرين ومائة، وقيل سنة ثنتين وعشرين ومائة، وقيل سنة خمس عشرة ومائة، وهو غريب والله سبحانه أعلم.
__________
(1) في طبقات ابن سعد 7 / 456: أوس.
ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين ومائة ففيها كان مقتل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان سبب ذلك أنه لما أخذ البيعة ممن بايعه من أهل الكوفة، أمرهم في أول هذه السنة بالخروج والتأهب له، فشرعوا في أخذ الاهبة لذلك.
فانطلق رجل يقال له سليمان بن سراقة إلى يوسف بن عمر نائب العراق فأخبره - وهو بالحيرة يومئذ - خبر زيد بن علي هذا ومن معه من أهل الكوفة، فبعث يوسف بن عمر يتطلبه ويلح في طلبه، فلما علمت الشيعة ذلك اجتمعو عند زيد بن علي فقالوا له: ما قولك يرحمك الله في أبي بكر وعمر ؟ فقال: غفر الله لهما، ما سمعت أحدا من أهل بيتي تبرأ منهما، وأنا لا أقول فيها إلا خيرا، قالوا: فلم تطلب إذا بدم أهل البيت ؟ فقال: إنا كنا أحق الناس بهذا الامر، ولكن القوم استأثروا علينا به ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا، قد ولوا فعدلوا، وعملوا بالكتاب والسنة.
قالوا: فلم تقاتل هؤلاء إذا ؟ قال: إن هؤلاء ليسوا كأولئك، إن هؤلاء ظلموا الناس وظلموا أنفسهم، وإني أدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم)، وإحياء السنن وإماتة البدع، فإن تسمعوا يكن خيرا لكم ولي، وإن تابوا فلست عليكم بوكيل.
فرفضوه وانصرفوا عنه ونقضوا بيعته وتركوه، فلهذا سموا الرافضة من يومئذ، ومن تابعه من الناس على قوله سموا الزيدية، وغالب أهل الكوفة منهم رافضة، وغالب أهل مكة إلى اليوم على مذهب الزيدية، وفي مذهبم حق، وهو تعديل الشيخين، وباطل وهو اعتقاد تقديم علي عليهما، وليس علي مقدما عليهما، بل ولا عثمان على أصح قولي أهل السنة الثابتة، والآثار الصحيحة الثابتة عن الصحابة، وقد ذكرنا ذلك في سيرة أبي بكر وعمر فيما تقدم.
ثم إن زيدا عزم على الخروج بمن بقي معه من أصحابه، فواعدهم ليلة الاربعاء من مستهل صفر من هذه السنة.
فبلغ ذلك يوسف بن عمر، فكتب إلى نائبه على الكوفة وهو الحكم بن الصلت يأمره بجمع الناس كلهم في المسجد الجامع، فجمع الناس لذلك في يوم الثلاثاء سلخ المحرم، قبل خروج زيد بيوم، وخرج زيد ليلة الاربعاء في برد شديد، ورفع أصحابه النيران،
وجعلوا ينادون يا منصور يا منصور، فلما طلع الفجر إذا قد اجتمع معه مائتان وثمانية عشر (1) رجلا، فجعل زيد يقول: سبحان الله ! ! أين الناس ؟ فقيل: هم في المسجد محصورون.
وكتب الحكم إلى يوسف يعلمه بخروج زيد بن علي، فبعث إليه سرية إلى الكوفة، وركبت الجيوش مع نائب الكوفة، وجاء يوسف بن عمر أيضا في طائفة كبيرة من الناس، فالتقى بمن معه جرثومة منهم فيهن خمسمائة فارس، ثم أتى الكناسة فحمل على جمع من أهل الشام فهزمهم، ثم اجتاز بيوسف بن عمر وهو واقف فوق تل، وزيد في مائتي فارس ولو قصد يوسف بن عمر لقتله، ولكن أخذ ذات اليمين، وكلما لقي طائفة هزمهم، وجعل أصحابه ينادون: يا أهل الكوفة اخرجوا إلى الدين والعز والدنيا،
__________
(1) في ابن الاعثم 8 / 118: مائتان وعشرون رجلا.
فإنكم لستم في دين ولا عز ولا دنيا، ثم لما أمسوا انضاف إليه جماعة من أهل الكوفة، وقد قتل بعض أصحابه في أول يوم، فلما كان اليوم الثاني اقتتل هو وطائفة من أهل الشام فقتل منهم سبعين رجلا، وانصرفوا عنه بشر حال، وأمسوا فعبأ يوسف بن عمر جيشه جدا، ثم أصبحوا فالتقوا مع زيد فكشفهم حتى أخرجهم إلى السبخة، ثم شد عليهم حتى أخرجهم إلى بني سليم، ثم تبعهم في خيله ورجله حتى أخذوا على الساه (1)، ثم اقتتلوا هناك قتالا شديدا جدا، حتى كان جنح الليل رمي زيد بسهم فأصاب جانب جبهته اليسرى، فوصل إلى دماغه، فرجع ورجع أصحابه، ولا يظن أهل الشام أنهم رجعوا إلا لاجل المساء والليل، وأدخل زيد في دار في سكة البريد، وجئ بطبيب فانتزع ذلك السهم من جبهته، فما عدا أن انتزعه حتى مات من ساعته رحمه الله.
فاختلف أصحابه أين يدفنونه، فقال بعضهم: ألبسوه درعه وألقوه في الماء، وقال بعضهم: احتزوا رأسه وأتركوا جثته في القتلى، فقال ابنه: لا والله لا تأكل أبي الكلاب.
وقال بعضهم: أدفنوه في العباسية، وقال بعضهم: أدفنوه في الحفرة التي يؤخذ منها الطين (2)، ففعلوا ذلك وأجروا على قبره الماء لئلا يعرف، وانفتل أصحابه حيث لم يبق لهم رأس يقاتلون به، فما أصبح الفجر ولهم قائمة ينهضون بها، وتتبع يوسف بن عمر الجرحى هل يجد زيدا بينهم، وجاء مولى لزيد سندي قد شهد
دفنه فدل على قبره فأخذ من قبره، فأمر يوسف بن عمر بصلبه على خشبة بالكناسة، ومعه نضر بن خزيمة ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الانصاري، وزياد النهدي، ويقال إن زيدا مكث مصلوبا أربع سنين، ثم أنزل بعد ذلك وأحرق فالله أعلم.
وقد ذكر أبو جعفر بن جرير الطبري: أن يوسف بن عمر لم يعلم بشئ من ذلك حتى كتب له هشام بن عبد الملك: إنك لغافل، وإن زيد بن علي غارز ذنبه بالكوفة يبايع له، فألح في طلبه واعطه الامان، وإن لم يقبل فقاتله، فتطلبه يوسف حتى كان من أمره ما تقدم، فلما ظهر على قبره حز رأسه وبعثه إلى هشام، وقام من بعده الوليد بن يزيد فأمر به فأنزل وحرق في أيامه قبح الله الوليد بن يزيد.
فأما ابنه يحيى بن زيد بن علي فاستجار بعبد الملك بن بشر بن مروان، فبعث إليه يوسف بن عمر يتهدده حتى يحضره، فقال له عبد الملك بن بشر: ما كنت لآوي مثل هذا الرجل وهو عدونا وابن عدونا.
فصدقه يوسف بن عمر في ذلك، ولما هدأ الطلب عنه سيره إلى خراسان فخرج يحيى بن زيد في جماعة من الزيدية إلى خراسان فأقاموا بها هذه المدة.
قال أبو مخنف: ولما قتل زيد خطب يوسف بن عمر أهل الكوفة فتهددهم وتوعدهم وشتمهم
__________
(1) في الطبري 8 / 275: المسناة.
(2) في ابن الاعثم 8 / 122: دفن في السبخة.
وفي مروج الذهب 3 / 251: دفن في ساقية ماء وجعلوا على قبره التراب والحشيش وأجري الماء على ذلك.
وقال لهم فيما قال: والله لقد استأذنت أمير المؤمنين في قتل خلق منكم، ولو أذن لي لقتلت مقاتلتكم وسبيت ذراريكم، وما صعدت لهذا المنبر إلا لاسمعكم ما تكرهون.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة قتل عبد الله البطال في جماعة من المسلمين بأرض الروم، ولم يزد ابن جرير على هذا، وقد ذكر هذا الرجل الحافظ ابن عساكر في تاريخه الكبير فقال: عبد الله أبويحيى المعروف بالبطال كان ينزل إنطاكية، حكى عنه أبو مروان الانطاكي، ثم روى باسناده أن عبد الملك بن مروان
حين عقد لابنه مسلمة على غزو بلاد الروم، ولى على رؤساء أهل الجزيرة والشام البطال، وقال لابنه: سيره على طلائعك، وأمره فليعس بالليل العسكر، فإنه أمين ثقة مقدام شجاع.
وخرج معهم عبد الملك يشيعهم إلى باب دمشق.
قال: فقدم مسلمة البطال على عشرة آلاف يكونون بين يديه ترسا من الروم أن يصلوا إلى جيش المسلمين.
قال محمد بن عائذ الدمشقي: ثنا الوليد بن مسلمة حدثني أبو مروان - شيخ من أهل إنطاكية - قال: كنت أغازي مع البطال وقد أوطأ الروم ذلا، قال البطال فسألني بعض ولاة بني أمية عن أعجب ما كان من أمري في مغازي فيهم، فقلت له: خرجت في سرية ليلا فدفعنا إلى قرية فقلت لاصحابي: ارخوا لجم خيلكم ولا تحركوا أحدا بقتل ولا بشئ حتى تستمكنوا من القرية ومن سكانها، ففعلوا وافترقوا في أزقتها، فدفعت في أناس من أصحابي إلى بيت يزهر سراجه، وإذا امرأة تسكت ابنها من بكائه، وهي تقول له: لتسكتن أو لادفعنك إلى البطال يذهب بك، وانتشلته من سريره وقالت: خذه يا بطال، قال: فأخذته.
وروى محمد بن عائذ، عن الوليد بن مسلم، عن أبي مروان الانطاكي عن البطال قال: انفردت مرة ليس معي أحد من الجند، وقد سمطت خلفي مخلاة فيها شعير، ومعي منديل فيه خبز وشواء، فبينا أنا أسير لعلي ألقى أحدا منفردا، أو أطلع على خبر، إذا أنا ببستان فيه بقول حسنة، فنزلت وأكلت من ذلك البقل بالخبز والشواء مع النقل، فأخذني إسهال عظيم قمت منه مرارا، فخفت أن أضعف من كثرة الاسهال، فركبت فرسي والاسهال مستمر على حاله، وجعلت أخشى إن أنا نزلت عن فرسي أن أضعف عن الركوب، وأفرط بي الاسهال في السير حتى خشيت أن أسقط من الضعف، فأخذت بعنان الفرس ونمت على وجهي لا أدري أين يسير الفرس بي، فلم أشعر إلا بقرع نعاله على بلاط، فأرفع رأسي فإذا دير، وإذا قد خرج منه نسوة صحبة امرأة حسناء جميلة جدا، فجعلت تقول بلسانها: أنزلنه، فأنزلنني فغسلن عني ثيابي وسرجي وفرسي، ووضعنني على سرير وعملن لي طعاما وشرابا، فمكثت يوما وليلة مستويا، ثم أقمت بقية ثلاثة أيام حتى ترد إلي حالي، فبينا أنا كذلك إذا أقبل البطريق وهو يريد أن يتزوجها، فأمرت بفرسي فحول وعلق على الباب الذي أنا فيه، وإذا هو بطريق كبير فيهم، وهو إنما جاء لخطبتها، فأخبره من كان هنالك بأن هذا البيت فيه
رجل وله فرس، فهم بالهجوم علي فمنعته المرأة من ذلك، وأرسلت تقول له: إن فتح عليه الباب لم
أقض حاجته، فثناه ذلك عن الهجوم علي، وأقام البطريق إلى آخر النهار في ضيافتهم، ثم ركب فرسه وركب معه أصحابه وانطلق.
قال البطال: فنهضت في أثرهم فهمت أن تمنعني خوفا علي منهم فلم أقبل، وسقت حتى لحقتهم، فحملت عليه فانفرج عنه أصحابه، وأراد الفرار فألحقه فأضرب عنقه واستلبته وأخذت رأسه مسمطا على فرسي، ورجعت إلى الدير، فخرجن إلي ووقفن بين يدي، فقلت: اركبن، فركبن ما هنالك من الدواب وسقت بهن حتى أتيت أمير الجيش فدفعتهن إليه، فنفلني ما شئت منهن، فأخذت تلك المرأة الحسناء بعينها، فهي أم أولادي.
والبطريق في لغة ؟ مبارة عن الامير الكبير فيهم، وكان أبوها بطريقا كبيرا فيهم - يعني تلك المرأة - وكان البطال بعد ذلك يكاتب أباها ويهاديه.
وذكر أن عبد الملك بن مروان لما ولاه المصيصة بعث البطال سرية إلى أرض الروم، فغاب عنه خبرهم فلم يدر ما صنعوا، فركب بنفسه وحده على فرس له وسار حتى وصل عمورية، فطرق بابها ليلا فقال له البواب: من هذا ؟ قال البطال: فقلت أنا سياف الملك ورسوله إلى البطريق، فأخذ لي طريقا إليه، فلما دخلت عليه إذا هو جالس على سرير فجلست معه على السرير إلى جانبه، ثم قلت له: إني قد جئتك في رسالة فمر هؤلاء فلينصرفوا، فأمر من عنده فذهبوا، قال: ثم قام فأغلق باب الكنيسة علي وعليه، ثم جاء فجلس مكانه، فاخترطت سيفي وضربت به رأسه صفحا وقلت له: أنا البطال فأصدقني عن السرية التي أرسلتها إلى بلادك وإلا ضربت عنقك الساعة، فأخبرني ما خبرها، فقال: هم في بلادي ينتهبون ما تهيأ لهم، وهذا كتاب قد جاءني يخبر أنهم في وادي كذا وكذا، والله لقد صدقتك.
فقلت: هات الامان، فأعطاني الامان، فقلت: إيتني بطعام، فأمر أصحابه فجاؤوا بطعام فوضع لي، فأكلت فقمت لانصرف فقال لاصحابه: اخرجوا بين يدي رسول الملك فانطلقوا يتعادون بين يدي، وانطلقت إلى ذلك الوادي الذي ذكر فإذا أصحابي هنالك، فأخذتهم ورجعت إلى المصيصة.
فهذا أغرب ما جرى.
قال الوليد: وأخبرني بعض شيوخنا أنه رأى البطال وهو قافل من حجته، وكان قد شغل بالجهاد عن الحج، وكان يسأل الله دائما الحج ثم الشهادة، فلم يتمكن من حجة الاسلام إلا في السنة التي استشهد فيها رحمه الله تعالى، وكان سبب شهادته أن ليون ملك الروم خرج من القسطنطينية في مائة ألف فارس، فبعث البطريق - الذي البطال متزوج بابنته التي ذكرنا أمرها - إلى البطال يخبره بذلك، فأخبر البطال أمير عساكر المسلمين بذلك، وكان الامير مالك بن شبيب، وقال له: المصلحة تقتضي أن نتحصن في مدينة حران، فنكون بها حتى يقدم علينا سليمان بن هشام في الجيوش الاسلامية، فأبى عليه ذلك ودهمهم الجيش، فاقتتلوا قتالا شديدا والابطال تحوم بين يدي البطال ولا يتجاسر أحد أن ينوه باسمه خوفا عليه من الروم، فاتفق أن ناداه بعضهم وذكر اسمه غلطا منه، فلما سمع ذلك فرسان الروم حملوا عليه حملة واحدة، فاقتلعوه من سرجه برماحهم فألقوه إلى
الارض، ورأى الناس يقتلون ويأسرون، وقتل الامير الكبير مالك بن شبيب، وانكسر المسلمون وانطلقوا إلى تلك المدينة الخراب فتحصنوا فيها، وأصبح إليون فوقف على مكان المعركة فإذا البطال بآخر رمق فقال له ليون: ما هذا يا أبا يحيى ؟ فقال: هكذا تقتل الابطال، فاستدعى ليون بالاطباء ليداووه فإذا جراحه قد وصلت إلى مقاتله، فقال له ليون: هل من حاجة يا أبا يحيى ؟ قال: نعم، فأمر من معك من المسلمين أن يلوا غسلي والصلاة علي ودفني، ففعل الملك ذلك وأطلق لاجل ذلك أولئك الاسارى، وانطلق ليون إلى جيش المسلمين الذين تحصنوا فحاصرهم، فبينما هم في تلك الشدة والحصار إذ جاءتهم البرد بقدوم سليمان بن هشام في الجيوش الاسلامية، ففر ليون في جيشه الخبيث هاربا راجعا إلى بلاده، قبحه الله، فدخل القسطنطينية وتحصن بها.
قال خليفة بن خياط: كانت وفاة البطال ومقتله بأرض الروم في سنة إحدى وعشرين ومائة، وقال ابن جرير: في سنة ثنتين وعشرين ومائة، وقال ابن حسان الزيادي: قتل في سنة ثلاث عشرة ومائة، قيل وقد قاله غيره وإنه قتل هو والامير عبد الوهاب بن بخت في سنة ثلاث عشرة ومائة كما ذكرنا ذلك فالله أعلم، ولكن ابن جرير لم يؤرخ وفاته إلا في هذه السنة فالله أعلم.
قلت: فهذا ملخص ابن عساكر في ترجمة البطال مع تفصيله للاخبار واطلاعه عليها، وأما ما يذكره العامة عن البطال من السيرة المنسوبة إلى دلهمة والبطال والامير عبد الوهاب والقاضي عقبة، فكذب وافتراء ووضع بارد، وجهل وتخبط فاحش، لا يروج ذلك إلا على غبي أو جاهل ردي.
كما يروج عليهم سيرة عنترة العبسي المكذوبة، وكذلك سيرة البكري والدنف وغير ذلك، والكذب المفتعل في سيرة البكري أشد إثما وأعظم جرما من غيرها، لان واضعها يدخل في قول النبي (صلى الله عليه وسلم): " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ".
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان: أياس الذكي (1) وهو إياس بن معاوية بن مرة (2) بن إياس بن هلال بن رباب (3) بن عبيد بن دريد بن أوس بن سواه بن عمرو بن سارية بن ثعلبة بن ذبيان بن ثعلبة بن أوس بن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، هكذا نسبه خليفة بن خياط، وقيل غير ذلك
__________
(1) ترجمته في حلية الاولياء 3 / 123 الاذكياء لابن الجوزي 1 / 113 ميزان الاعتدال 1 / 283 وفيات الاعيان: 1 / 247 المعارف لابن قتيبة: 467 واخباره منثورة في البيان والتبيين والحيوان والكامل للمبرد والعقد الفريد وغيرها.
(2) في وفيات الاعيان 1 / 247: قرة.
(3) في ابن سعد 7 / 234: رئاب بن عبيد سواءة بن سارية بن ذبيان بن ثعلبة بن سليم بن أوس بن مزينة.
في نسبه، وهو أبو واثلة المزني قاضي البصرة، وهو تابعي ولجده صحبة، وكان يضرب المثل بذكائه.
روى عن أبيه عن جده مرفوعا في الحياء عن أنس وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب ونافع وأبي مجلز، وعنه الحمادان وشعبة والاصمعي وغيرهم.
قال عنه محمد بن سيرين: إنه لفهم إنه لفهم، وقال محمد بن سعد والعجلي وابن معين والنسائي: ثقة.
زاد بن سعد وكان عاقلا من الرجال فطنا، وزاد العجلي وكان فقيها عفيفا، وقدم دمشق في أيام عبد الملك بن مروان، ووفد على عمر بن عبد العزيز، ومرة أخرى حين عزله عدي بن أرطأة عن قضاء البصرة.
قال أبو عبيدة وغيره: تحاكم
إياس وهو صبي شاب وشيخ إلى قاضي عبد الملك بن مروان بدمشق، فقال له القاضي: إنه شيخ وأنت شاب فلا تساوه في الكلام، فقال إياس: إن كان كبيرا فالحق أكبر منه، فقال له القاضي: اسكت، فقال: ومن يتكلم بحجتي إذا سكت ؟ فقال القاضي: ما أحسبك تنطق بحق في مجلسي هذا حتى تقوم، فقال إياس: أشهد أن لا إله إلا الله، زاد غيره فقال القاضي: ما أظنك إلا ظالما له، فقال: ما على ظن القاضي خرجت من منزلي.
فقام القاضي فدخل على عبد الملك فأخبره خبره فقال: اقض حاجته واخرجه الساعة من دمشق لا يفسد على الناس.
وقال بعضهم: لما عزله عدي بن أرطاة عن قضاء البصرة فرمنه إلى عمر بن عبد العزيز فوجده قد مات، فكان يجلس في حلقة في جامع دمشق، فتكلم رجل من بني أمية فرد عليه إياس، فأغلظ له الاموى فقام إياس، فقيل للاموي: هذا إياس بن معاوية المزني، فلما عاد من الغد اعتذر له الاموي وقال: لم أعرفك، وقد جلست إلينا بثياب السوقة وكلمتنا بكلام الاشراف فلم نحتمل ذلك.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا نعيم بن حماد، ثنا ضمرة، عن أبي شوذب قال: كان يقال يولد في كل مائة سنة رجل تام العقل، فكانوا يرون أن إياس بن معاوية منهم.
وقال العجلي: دخل على إياس ثلاث نسوة فلما رآهن قال: أما إحداهن فمرضع، والاخرى بكر، والاخرى ثيب، فقيل له بم علمت هذا ؟ فقال: أما المرضع فكلما قعدت أمسكت ثديها بيدها، وأما البكر فكلما دخلت لم تلتفت إلى أحد، وأما الثيب فكلما دخلت نظرت ورمت بعينها.
وقال يونس بن صعلب.
ثنا الاحنف بن حكيم بأصبهان، ثنا حماد بن سلمة، سمعت إياس بن معاوية يقول: أعرف الليلة التي ولدت فيها، وضعت أمي على رأسي جفنة.
وقال المدائني: قال إياس بن معاوية لامه: ما شئ سمعته وأنت حامل بي وله جلبة شديدة ؟ قالت: ذاك طست من نحاس سقط من فوق الدار إلى أسفل، ففزعت فوضعتك تلك الساعة.
وقال أبو بكر الخرائطي عن عمر بن شيبة النميري قال: بلغني أن إياسا قال: ما يسرني أن أكذب كذبة يطلع عليها أبي معاوية.
وقال: ما خاصمت أحدا من أهل الاهواء بعقلي كله إلا القدرية، قلت لهم أخبروني عن الظلم ما
هو ؟ قالوا: أخذ الانسان ما ليس له، قلت: فإن الله له كل شئ قال بعضهم عن إياس قال:
كنت في الكتاب وأنا صبي فجعل أولاد النصارى يضحكون من المسلمين ويقولون: إنهم يزعمون أنه لا فضلة لطعام أهل الجنة، فقلت للفقيه - وكان نصرانيا (1): ألست تزعم أن في الطعام ما ينصرف في غذاء البدن ؟ قال: بلى، قلت فما ينكر أن يجعل الله طعام أهل الجنة كله غذاء لابدانهم ؟ فقال له معلمه: ما أنت إلا شيطان.
وهذا الذي قاله إياس وهو صغير بعقله قد ورد به الحديث الصحيح كما سنذكره إن شاء الله في أهل الجنة أن طعامهم ينصرف جشاء وعرقا كالمسك، فإذا البطن ضامر.
وقال سفيان: وحين قدم إياس واسط فجاءه ابن شبرمة بمسائل قد أعدها، فقال له: أتأذن لي أن أسألك ؟ قال: سل وقد ارتبت حين استأذنت، فسأله عن سبعين مسألة يجيبه فيها، ولم يختلفا إلا في أربع مسائل، رده إياس إلى قوله، ثم قال له إياس: أتقرأ القرآن ؟ قال: نعم ! قال أتحفظ قوله (اليوم أكملت لكم دينكم) ؟ [ المائدة: 3 ] قال: نعم ! قال: وما قبلها وما بعدها ؟ قال: نعم ! قال: فهل أبقت هذه الآية لآل شبرمة رأيا ؟ وقال عباس بن يحيى بن معين: حدثنا سعيد بن عامر بن عمر بن علي قال: قال رجل لاياس بن معاوية: يا أبا واثلة حتى متى يبقى الناس ؟ وحتى متى يتوالد الناس ويموتون ؟ فقال لجلسائه: أجيبوه فلم يكن عندهم جواب، فقال إياس: حتى تتكامل العدتان، عدة أهل الجنة، وعدة أهل النار.
وقال بعضهم: اكترى إياس بن معاوية بن الشام قاصدا الحج، فركب معه في المحارة غيلان القدري، ولا يعرف أحدهما صاحبه، فمكثا ثلاثا لا يكلم أحدهما الآخر، فلما كان بعد ثلاث تحادثا فتعارفا وتعجب كل واحد منهما من اجتماعه مع صاحبه، لمباينة ما بينهما في الاعتقاد في القدر، فقال له إياس: هؤلاء أهل الجنة يقولون حين يدخلون الجنة: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله) [ الاعراف: 43 ] ويقول أهل النار (ربنا غلبت علينا شقوتنا) [ المؤمنون: 106 ] وتقول الملائكة (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا)
[ البقرة: 32 ] ثم ذكر له من أشعار العرب وأمثال العجم ما فيه من إثبات القدر ثم اجتمع مرة أخرى إياس وغيلان عند عمر بن عبد العزيز فناظر بينهما فقهره إياس، وما زال يحصره في الكلام حتى اعترف غيلان بالعجز وأظهر التوبة، فدعا عليه عمر بن عبد العزيز إن كان كاذبا، فاستجاب الله منه فأمكن من غيلان فقتل وصلب بعد ذلك ولله الحمد والمنة.
ومن كلام إياس الحسن: لان يكون في فعال الرجل فضل عن مقاله خير من أن يكون في مقاله فضل عن فعاله.
وقال سفيان بن حسين: ذكرت رجلا بسوء عن إياس بن معاوية فنظر في وجهي وقال: أغزوت الروم ؟ قلت: لا ! قال: السند والهند والترك، قلت: لا.
قال: أفسلم منك
__________
(1) الخبر في وفيات الاعيان 1 / 248 وفيه ان الفقيه كان يهوديا.
الروم والسند والهند والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم ؟ قال: فلم أعد بعدها.
وقال الاصمعي عن أبيه: رأيت إياس بن معاوية في بيت ثابت البناني، وإذا هو أحمر طويل الذراع غليظ الثياب، يلون عمامته، وهو قد غلب على الكلام فلا يتكلم معه أحد إلا علاه، وقد قال له بعضهم: ليس فيك عيب سوى كثرة كلامك (1)، فقال: بحق أتكلم أم بباطل ؟ فقيل بل بحق، فقال: كلما كثر الحق فهو خير، ولامه بعضهم في لباسه الثياب الغليظة فقال: إنما ألبس ثوبا يخدمني ولا ألبس ثوبا أخدمه، وقال الاصمعي قال إياس بن معاوية: إن أشرف خصال الرجل صدق اللسان، ومن عدم فضيلة الصدق فقد فجع بأكرم أخلاقه.
وقال بعضهم: سأل رجل إياسا عن النبيذ فقال: هو حرام، فقال الرجل: فأخبرني عن الماء فقال: حلال، قال: فالكسور، قال: حلال، قال: فالتمر ؟ قال حلال، قال: فما باله إذا اجتمع حرم ؟ فقال إياس: أرأيت لو رميتك بهذه الحفنة من التراب أتوجعك ؟ قال: لا، قال: فهذه الحفنة من التبن ؟ قال لا توجعني، قال: فهذه الغرفة من الماء ؟ قال لا توجعني شيئا، قال: أفرأيت إن خلطت هذا بهذا وهذا بهذا حتى صار طينا ثم تركته حتى استحجر ثم رميتك أيوجعك ؟ قال: إي والله وتقتلني، قال: فكذلك تلك الاشياء إذا اجتمعت.
وقال المدائني: بعث عمر بن عبد العزيز عدي بن أرطاة على البصرة نائبا وأمره أن يجمع
بين إياس والقاسم بن ربيعة الجوشني (2)، فأيهما كان أفقه فليوله القضاء، فقال إياس وهو يريد أن لا يتولى: أيها الرجل سل فقيهي البصرة، الحسن وابن سيرين، وكان إياس لا يأتيهما، فعرف القاسم أنه إن سألهما أشارا به - يعني بالقاسم - لانه كان يأتيهما، فقال القاسم لعدي: والله الذي لا إله إلا هو إن إياسا أفضل مني وأفقه مني، وأعلم بالقضاء، فإن كنت صادقا فوله، وإن كنت كاذبا فما ينبغي أن تولي كاذبا القضاء.
فقال إياس: هذا رجل أوقف على شفير جهنم فافتدي منها بيمين كاذبة يستغفر الله، فقال عدي: أما إذ فطنت إلى هذا فقد وليتك القضاء.
فمكث سنة يفصل بين الناس ويصلح بينهم، وإذا تبين له الحق حكم به، ثم هرب إلى عمر بن عبد العزيز بدمشق فاستعفاه القضاء، فولى عدي بعده الحسن البصري.
قالوا: لما تولى إياس القضاء بالبصرة فرح به العلماء حتى قال أيوب: لقد رموها بحجرها، وجاءه الحسن وابن سيرين فسلما عليه، فبكى إياس وذكر الحديث (القضاة ثلاثة، قاضيان في النار وواحد في الجنة).
فقال الحسن (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) إلى قوله (وكلا آتينا حكما علما) [ الانبياء: 78 - 79 ] قالوا: ثم جلس للناس في المسجد واجتمع عليه الناس للخصومات، فما قام حتى فصل سبعين قضية، حتى يشبه بشريح القاضي.
وروى أنه كان إذا أشكل عليه شئ بعث
__________
(1) الخبر في ابن سعد 7 / 234 وفيه: قال إياس: إن من لا يعرف عيبه أحمق، قالوا: يا أبا واثلة فما عيبك أنت ؟ قال: كثرة الكلام...(2) في وفيات الاعيان 1 / 249: الحرشي.
إلى محمد بن سيرين فسأله منه.
وقال إياس: إني لاكلم الناس بنصف عقلي، فإذا اختصم إلي اثنان جمعت لهما عقلي كله.
وقال له رجل: إنك لتعجب برأيك فقال: لولا ذلك لم أقض به، وقال له آخر: إن فيك خصالا لا تعجبني، فقال: ما هي ؟ فقال تحكم قبل أن تفهم، ولا تجالس كل أحد، وتلبس الثياب الغليظة.
فقال له: أيها أكثر الثلاثة أو الاثنان ؟ قال: الثلاثة.
فقال: ما أسرع ما فهمت وأجبت، فقال أو يجهل هذا أحد ؟ فقال: وكذلك ما أحكم أنا به، وأما مجالستي لكل أحد فلان
أجلس مع من يعرف لي قدري أحب إلي من أن أجلس مع من لا يعرف لي قدري، وأما الثياب الغلاظ فأنا ألبس منها ما يقيني لا ما أقيه أنا.
قالوا، وتحاكم إليه اثنان فادعى أحدهما عند الآخر مالا، وجحده الآخر، فقال إياس للمودع: أين أودعته ؟ قال: عند شجرة في بستان.
فقال: انطلق إليها فقف عندها لعلك تتذكر، وفي رواية أنه قال له: هل تستطيع أن تذهب إليها فتأتي بورق منها ؟ قال: نعم ! قال فانطلق، وجلس الآخر فجعل إياس يحكم بين الناس ويلاحظه، ثم استدعاه فقال له: أوصل صاحبك بعد إلى المكان ؟ فقال: لا بعد أصلحك الله.
فقال له: قم يا عدو الله فأد إليه حقه، وإلا جعلتك نكالا.
وجاء ذلك الرجل فقام معه فدفع إليه وديعته بكمالها.
وجاء آخر فقال له: إني أودعت عند فلان مالا وقد جحدني، فقال له: اذهب الآن وائتني غدا، وبعث من فوره إلى ذلك الرجل الجاحد فقال له: إنه قد اجتمع عندنا ههنا مال فلم نر له أمينا نضعه عنده إلا أنت، فضعه عندك في مكان حريز.
فقال له سمعا وطاعة، فقال له: اذهب الآن وائتني غدا، وأصبح ذلك الرجل صاحب الحق فجاء فقال له: اذهب الآن إليه فقل له أعطني حقي وإلا رفعتك إلى القاضي، فقال له ذلك فخاف أن لا يودع إذا سمع الحاكم خبره، فدفع إليه ماله بكماله، فجاء إلى إياس فأعلمه، ثم جاء ذلك الرجل من الغدر رجاء أن يودع فانتهره إياس وطرده وقال له: أنت خائن.
وتحاكم إليه اثنان في جارية فادعى المشتري أنها ضعيفة العقل، فقال لها إياس: أي رجليك أطول ؟ فقالت: هذه، فقال لها: أتذكرين ليلة ولدت ؟ فقالت نعم فقال للبائع ردرد.
وروى ابن عساكر أن إياسا سمع صوت امرأة من بيتها فقال: هذه امرأة حامل بصبي، فلما ولدت ولدت كما قال، فسئل بم عرفت ذلك ؟ قال: سمعت صوتها ونفسها معه فعلمت أنها حامل، وفي صوتها ضحل فعلمت أنه غلام.
قالوا ثم مر يوما ببعض المكاتب فإذا صبي هنالك فقال: إن كنت أدري شيئا فهذا الصبي ابن تلك المرأة، فإذا هو ابنها.
وقال مالك عن الزهري عن أبي بكر قال شهد رجل عند إياس فقال له: ما اسمك ؟ فقال أبو العنفر فلم يقبل شهادته.
وقال الثوري عن الاعمش: دعوني إلى إياس فإذا رجل كلما فرغ من حدث أخذ في آخر.
وقال إياس:
كل رجل لا يعرف عيب نفسه فهو أحمق، فقيل له: ما عيبك ؟ فقال كثرة الكلام.
قالوا: ولما ماتت أمه بكى عليها فقيل له في ذلك فقال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فغلق أحدهما.
وقال له أبوه:
إن الناس يلدون أبناء وولدت أنا أبا.
وكان أصحابه يجلسون حوله ويكتبون عنه الفراسة، فبينماهم حوله جلوس إذ نظر إلى رجل قد جاء فجلس على دكة حانوت، وجعل كلما مر أحد ينظر إليه، ثم قام فنظر في وجه رجل ثم عاد، فقال لاصحابه: هذا فقيه كتاب قد أبق له غلام أعور فهو يتطلبه، فقاموا إلى ذلك الرجل فسألوه فوجدوه كما قال إياس، فقالوا لاياس: من أين عرفت ذلك ؟ فقال: لما جلس على دكة الحانوت علمت أنه ذو ولاية، ثم نظرت فإذا هو لا يصلح إلا لفقهاء المكتب، ثم جعل ينظر إلى كل من مر به فعرفت أنه قد فقد غلاما، ثم لما قام فنظر إلى وجه ذلك الرجل من الجانب الآخر، عرفت أن غلامه أعور.
وقد أورد ابن خلكان أشياء كثيرة في ترجمته، من ذلك أنه شهد عنده رجل في بستان فقال له: كم عدد أشجاره ؟ فقال له: كم عدد جذوع هذا المجلس الذي أنت فيه من مدة سنين ؟ فقلت: لا أدري وأقررت شهادته.
ثم دخلت سنه ثلاث عشرين ومائة ذكر المدائني عن شيوخه: أن خاقان ملك الترك لما قتل في ولاية أسد بن عبد الله القسري على خراسان، تفرق شمل الاتراك، وجعل بعضهم يغير على بعض، وبعضهم يقتل بعضا، حتى كادت أن تخرب بلادهم، واشتغلوا عن المسلمين.
وفيها سأل أهل الصغد من أمير خراسان نصر بن سيار أن يردهم إلى بلادهم، وسألوه شروطا أنكرها العلماء، منها أن لا يعاقب من ارتد منهم عن الاسلام، ولا يؤخذ أسير المسلمين منهم، وغير ذلك، فأراد أن يوافقهم على ذلك لشدة نكايتهم في المسلمين، فعاب عليه الناس ذلك، فكتب إلى هشام في ذلك فتوقف، ثم لما رأى أن هؤلاء إذا استمروا على معاندتهم للمسلمين كان ضررهم أشد، أجابهم إلى ذلك، وقد بعث يوسف بن عمر أمير العراق وفدا إلى أمير المؤمنين يسأل منه أن يضم إليه نيابة خراسان، وتكلموا في نصر بن سيار بأنه وإن كان شهما شجاعا، إلا أنه قد كبر وضعف بصره فلا يعرف الرجل إلا من قريب بصوته،
وتكلموا فيه كلاما كثيرا، فلم يلتفت إلى ذلك هشام، واستمر به على إمرة خراسان وولايتها.
قال ابن جرير: وحج بالناس فيها يزيد بن هشام بن عبد الملك، والعمال فيها من تقدم ذكرهم في التي قبلها.
وتوفي في هذه السنة ربيعة بن يزيد القصير من أهل دمشق، وأبو يونس سليمان بن جبير، وسماك بن حرب، ومحمد بن واسع بن حيان (1)، وقد ذكرنا تراجمهم في كتابنا التكميل ولله الحمد.
قال محمد بن واسع: أول من يدعى يوم القيامة إلى الحساب القضاة.
وقال: خمس خصال
__________
(1) في طبقات ابن سعد 7 / 241: هو محمد بن واسع بن جابر بن الاخنس بن عابد بن خارجة بن زياد بن شمس من ولد عمرو بن نصر بن الازد.
وكان يكنى أبا عبد الله.
له ترجمة في تاريخ الاسلام للذهبي 5 / 159 وتهذيب التهذيب 9 / 499.
تميت القلب: الذنب على الذنب، ومجالسة الموتى، قيل له: ومن الموتى ؟ قال: كل غني عرف، وسلطان جائر.
وكثرة مشاقة النساء، وحديثهن، ومخالطة أهله.
وقال مالك بن دينار: إني لاغبط الرجل يكون عيشه كفافا فيقنع به.
فقال محمد بن واسع: أغبط منه والله عندي من يصبح جائعا وهو عن الله راض.
وقال: ما آسي عن الدنيا إلا على ثلاث: صاحب إذا اعوججت قومني، وصلاة في جماعة يحمل عني سهوها وأفوز بفضلها، وقوت من الدنيا ليس لاحد فيه منة، ولا لله علي فيه تبعة.
وروى رواد بن الربيع قال: رأيت محمد بن واسع بسوق بزور وهو يعرض حمارا له للبيع، فقال له رجل: أترضاه لي ؟ فقال له رضيته لم أبعه.
ولما ثقل محمد بن واسع كثر عليه الناس في العيادة، قال بعض أصحابه: فدخلت عليه فإذا قوم قعود وقوم قيام، فقال: ماذا يعني هؤلاء عني إذا أخذ بناصيتي وقدمي غدا وألقيت في النار ؟ ! وبعث بعض الخلفاء مالا مستكثرا إلى البصرة ليفرق في فقراء أهلها، وأمر أن يدفع إلى محمد بن واسع منه فلم يقلبه ولم يلتمس منه شيئا، وأما مالك بن دينار فإنه قبل ما أمر له به، واشترى به أرقاء وأعتقهم ولم يأخذ لنفسه منه شيئا، فجاءه محمد بن واسع يلومه على قبوله جوائز السلطان.
فقال
له: يا مالك قبلت جوائز السلطان ؟ فقال له مالك: يا أبا عبد الله ! سل أصحابي ماذا فعلت منه، فقالوا له: إنه اشترى به أرقاء وأعتقهم، فقال له: سألتك بالله أقلبك الآن لهم مثل ما كان قبل أن يصلوك.
فقام مالك وحثى على رأسه التراب وقال: إنما يعرف الله محمد بن واسع، إنما مالك حمار إنما مالك حمار، وكلام محمد بن واسع كثير جدا رحمه الله.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائة فيها غزا سليمان بن هشام بن عبد الملك بلاد الروم فلقي ملك الروم إليون فقاتله فسلم سليمان وغنم.
وفيها قدم جماعة من دعاة (1) بني العباس من بلاد خراسان قاصدين إلى مكة فمروا بالكوفة (2) فبلغهم أن في السجن جماعة من الامراء من نواب خالد القسري، قد حبسهم يوسف بن عمر، فاجتمعوا بهم في السجن فدعوهم إلى البيعة لبني العباس، وإذا عندهم من ذلك جانب كبير، فقبلوا منهم ووجدوا عندهم في السجن أبا مسلم الخراساني، وهو إذ ذاك غلام يخدم عيسى بن معقل (3) العجلي، وكان محبوسا فأعجبهم شهامته وقوته واستجابته مع مولاه إلى هذا الامر، فاشتراه بكر بن
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 337 ذكرهم: سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم ولاهز بن قرط وقحطبة بن شبيب.
(انظر ابن الاثير 5 / 254).
(2) في الاخبار الطوال: بواسط.
(3) من الطبري 8 / 283 وابن الاثير 5 / 255 والاخبار الطوال ص 337.
وفي الاصل " مقبل " تحريف.
ماهان منه بأربعمائة درهم (1) وخرجوا به معهم فاستندبوه لهذا الامر، فكانوا لا يوجهونه إلى مكان إلا ذهب ونتج ما يوجهونه إليه، ثم كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى فيما بعد.
قال الواقدي: ومات في هذه السنة محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو الذي يدعو إليه دعاة بني العباس، فقام مقامه ولده أبو العباس السفاح، والصحيح أنه إنما توفي في التي بعدها.
قال الواقدي وأبو معشر: وحج بالناس فيها عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، ومعه امرأته أم مسلم (2) بن هشام بن عبد الملك، وقيل إنما حج بالناس محمد بن هشام بن إسماعيل قاله الواقدي، والاول ذكره
ابن جرير والله أعلم.
وكان نائب الحجاز محمد بن هشام بن إسماعيل يقف على باب أم مسلم (2) ويهدي إليها الالطاف والتحف ويعتذر إليها من التقصير، وهي لا تلتفت إلى ذلك، ونواب البلاد هم المذكورون في التي قبلها.
وفيها توفي: القاسم بن أبي بزة أبو عبد الله المكي القارئ، مولى عبد الله بن السائب، تابعي جليل، روى عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، وعنه جماعة، ووثقه الائمة.
توفي في هذه السنة على الصحيح، وقيل بعدها بسنة، وقيل سنة أربع عشرة، وقيل سنة خمس عشرة فالله أعلم.
الزهري محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة، أبو بكر القرشي الزهري أحد الاعلام من أئمة الاسلام، تابعي جليل، سمع غير واحد من التابعين وغيرهم.
روى الحافظ ابن عساكر عن الزهري قال: أصاب أهل المدينة جهد شديد فارتحلت إلى دمشق، وكان عندي عيال كثرة، فجئت جامعها فجلست في أعظم حلقة، فإذا رجل قد خرج من عند أمير المؤمنين عبد الملك، فقال: إنه قد نزل بأمير المؤمنين مسألة - وكان قد سمع من سعيد بن
__________
(1) ابو مسلم الخراساني: اختلفوا في نسبه اختلافا كثيرا فقال بعضهم هو من أصبهان وقال بعضهم من خراسان وقيل من العرب وادعى هو انه من سليط بن علي بن عبد الله بن عباس ونسبه أبو دلامة إلى الاكراد (المعارف ص 185) وفي وفيات الاعيان 3 / 145: قيل هو من ولد بزرجمهر الفارسي وكان أبوه من قرية سنجرد وفي مروج الذهب 3 / 289 انه من قرية يقال لها خرطينة من أهل البرس وكان قهرمانا لادريس بن ابراهيم العجلي.
وفي الطبري 8 / 283 وابن الاثير 5 / 255: من السراجين.
وقال ابن الاثير وكان اسمه ابراهيم ويلقب حيكان وسماه عبد الرحمن وكناه أبا مسلم ابراهيم الامام.
(2) في الطبري 8 / 283: ام سلمة بنت هشام.
المسيب فيها شيئا وقد شذ عنه في أمهات الاولاد يرويه عن عمر بن الخطاب - فقلت: إني أحفظ عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب،: فأخذني فأدخلني على عبد الملك: فسألني ممن أنت ؟ فانتسبت له، وذكرت له حاجتي وعيالي، فسألني هل تحفظ القرآن ؟ قلت: نعم والفرائض والسنن، فسألني عن ذلك كله فأجبته، فقضى ديني وأمر لي بجائزة، وقال لي: اطلب العلم فإني أرى لك عينا حافظة وقلبا ذكيا، قال: فرجعت إلى المدينة أطلب العلم وأتتبعه، فبلغني أن امرأة بقباء رأت رؤيا عجيبة، فأتيتها فسألتها عن ذلك، فقالت: إن بعلي غاب وترك لنا خادما وداجنا ونخيلات، نشرب من لبنها، ونأكل من ثمرها، فبينما أنا بين النائمة واليقظي رأيت كأن ابني الكبير - وكان مشتدا - قد أقبل فأخذ الشفرة فذبح ولد الداجن، فقال: إنه هذا يضيق علينا اللبن، ثم نصب القدر وقطعها ووضعها فيه، ثم أخذ الشفرة فذبح بها أخاه، وأخوه صغير كما قد جاء، ثم استيقظت مذعورة، فدخل ولدي الكبير فقال: أين اللبن ؟ فقلت: يا بني شربه ولد الداجن، فقال: إنه قد ضيق علينا اللبن، ثم أخذ الشفرة فذبحه وقطعه في القدر، فبقيت مشفقة خائفة مما رأيت، فأخذت ولدي الصغير فغيبته في بعض بيوت الجيران، ثم أقبلت إلى المنزل وأنا مشفقة جدا مما رأيت، فأخذتني عيني فنمت فرأيت في المنام قائلا يقول: مالك مغتمة ؟ فقلت: إني رأيت مناما فأنا أحذر منه فقال: يا رؤيا يا رؤيا، فأقبلت امرأة حسناء جميلة، فقال: ما أدرت إلى هذه المرأة الصالحة ؟ قالت: ما أردت إلا خيرا، ثم قال يا أحلام يا أحلام، فأقبلت امرأة دونها في الحسن والجمال، فقال: ما أردت إلى هذه المرأة الصالحة ؟ فقالت: ما أردت إلا خيرا، ثم قال: يا أضغاث يا أضغاث، فأقبلت امرأة سوداء شنيعة فقال: ما أردت إلى هذه المرأة الصالحة ؟ فقالت إنها امرأة صالحة فأحببت أن أعلمها ساعة، ثم استيقظت فجاء ابني فوضع الطعام وقال: أين أخي ؟ فقلت: درج إلى بيوت الجيران، فذهب وراءه فكأنما هدي إليه، فأقبل به يقبله، ثم جاء فوضعه وجلسنا جميعا فأكلنا من ذلك الطعام.
ولد الزهري في سنة ثمان وخمسين (1) في آخر خلافة معاوية، وكان قصيرا قليل اللحية، له شعرات طوال خفيف العارضين.
قالوا: وقد قرأ القرآن في نحو من ثمان وثمانين (2) يوما، وجالس
سعيد بن المسيب ثمان سنين، تمس ركبته ركبته، وكان يخدم عبيد الله بن عبد الله يستسقي له الماء المالح، ويدور على مشايخ الحديث، ومعه ألواح يكتب عنهم فيها الحديث، ويكتب عنهم كل ما سمع منهم، حتى صار من أعلم الناس وأعلمهم في زمانه، وقد احتاج أهل عصره إليه.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري قال: كنا نكره كتاب العلم حتى أكرهنا عليه
__________
(1) في وفيات الاعيان 4 / 178: سنة احدى وخمسين، وفي تذكرة الحفاظ 1 / 108: سنة خمسين وقال ابن الاثير 5 / 260 ولد سنة ثمان وخمسين، وقيل سنة خمسين.
(2) في تذكرة الحفاظ 1 / 110: في ثمانين يوما.
هؤلاء الامراء، فرأينا أن لا نمنعه أحدا من المسلمين.
وقال أبو إسحاق: كان الزهري يرجع من عند عروة فيقول لجارية عنده فيها لكنة: ثنا عروة ثنا فلان، ويسرد عليها ما سمعه منه، فتقول له الجارية: والله ما أدري ما تقول، فيقول لها: اسكتي لكاع، فإني لا أريدك، إنما أريد نفسي.
ثم وفد على عبد الملك بدمشق كما تقدم فأكرمه وقضى دينه وفرض له في بيت المال، ثم كان بعد من أصحابه وجلسائه، ثم كان كذلك عند أولاده من بعده، الوليد وسليمان، وكذا عند عمر بن عبد العزيز، وعند يزيد بن عبد الملك، واستقضاه يزيد مع سليمان بن حبيب، ثم كان حظيا عند هشام، وحج معه وجعله معلم أولاده إلى أن توفي في هذه السنة، قبل هشام بسنة.
وقال ابن وهب: سمعت الليث يقول: قال ابن شهاب: ما استودعت قلبي شيئا قط فنسيته، قال: وكان يكره أكل التفاح وسؤر الفأرة، ويقول: إنه ينسي، وكان يشرب العسل ويقول إنه يذكي، وفيه يقول فايد بن أقرم.
زرذا وأثن على الكريم محمد * واذكر فواضله على الاصحاب وإذا يقال من الجواد بماله * قيل الجواد محمد بن شهاب أهل المدائن يعرفون مكانه * وربيع ناديه على الاعراب يشري وفاء جفانه ويمدها * بكسور انتاج وفتق لباب
وقال ابن مهدي: سمعت مالكا يقول: حدث الزهري يوما بحديث فلما قام أخذت بلجام دابته فاستفهمته فقال: أتستفهمني ؟ ما استفهمت عالما قط، ولا رددت على عالم قط، ثم جعل ابن مهدي يقول فتلك الطوال وتلك المغازي.
وروى يعقوب بن سفيان: عن هشام بن خالد السلامي عن الوليد بن مسلم، عن سعيد - يعني ابن عبد العزيز - أن هشام بن عبد الملك سأل الزهري أن يكتب لبنيه شيئا من حديثه، فأملى على كاتبه أربعمائة حديث ثم خرج على أهل الحديث فحدثهم بها، ثم إن هشاما قال للزهري: إن ذلك الكتاب ضاع، فقال: لا عليك، فأملى عليهم تلك الاحاديث فأخرج هشام الكتاب الاول فإذا هو لم يغادر حرفا واحدا، وإنما أراد هشام امتحان حفظه.
وقال عمر بن عبد العزيز: ما رأيت أحدا أحسن سوقا للحديث إذا حدث من الزهري.
وقال سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار: ما رأيت أحدا أنص للحديث من الزهري، ولا أهون من الدينار والدرهم عنده، وما الدراهم والدنانير عند الزهري إلا بمنزلة البعر.
قال عمرو بن دينار: ولقد جالست جابرا وابن عباس وابن عمر وابن الزبير فما رأيت أحدا أسيق للحديث من الزهري.
وقال الامام أحمد: أحسن الناس حديثا وأجودهم إسنادا الزهري، وقال النسائي: أحسن الاسانيد الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده علي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وقال سعيد عن
الزهري: مكثت خمسا وأربعين سنة أختلف من الحجاز إلى الشام، ومن الشام إلى الحجاز، فما كنت أسمع حديثا أستطرفه.
وقال الليث: ما رأيت عالما قط أجمع من ابن شهاب، ولو سمعته يحدث في الترغيب والترهيب لقلت: ما يحسن غير هذا، وإن حدث عن الانبياء وأهل الكتاب قلت لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن الاعراب والانساب قلت: لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن القرآن والسنة كان حديثه بدعا جامعا، وكان يقول: اللهم إني أسألك من كل خير أحاط به علمك وأعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة.
قال الليث: وكان الزهري أسخى من رأيت، يعطي كل من جاء وسأله، حتى إذا لم يبق عنده شئ استسلف.
وكان يطعم الناس الثريد ويسقيهم
العسل، وكان يستمر على شراب العسل كما يستمر أهل الشراب على شرابهم، ويقول اسقونا وحدثونا، فإذا نعس أحدهم يقول له: ما أنت من سمار قريش، وكانت له قبة معصفرة، وعليه ملحفة معصفرة، وتحته بساط معصفر، وقال الليث: قال يحيى بن سعد: ما بقي عند أحد من العلم ما بقي عند ابن شهاب.
وقال عبد الرزاق: أنبأ معمر قال: قال عمر بن عبد العزيز: عليكم بابن شهاب فإنه ما بقي أحد أعلم بسنة ماضية منه، وكذا قال مكحول.
وقال أيوب: ما رأيت أحدا أعلم من الزهري، فقيل له: ولا الحسن ؟ فقال: ما رأيت أعلم من الزهري، وقيل لمكحول: من أعلم من لقيت ؟ قال: الزهري، قيل: ثم من ؟ قال: الزهري.
قيل: ثم من ؟ قال الزهري: وقال مالك: كان الزهري إذا دخل المدينة لم يحدث بها أحدا حتى يخرج.
وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة: محدثو أهل الحجاز ثلاثة، الزهري ويحيى بن سعيد وابن جريج.
وقال علي بن المديني: الذين أفتوا أربعة، الزهري، والحكم، وحماد وقتادة، والزهري أفقههم عندي.
وقال الزهري: ثلاثة إذا كن في القاضي فليس بقاض إذا كره الملاوم وأحب المحامد، وكره العزل.
وقال أحمد بن صالح: كان يقال فصحاء زمانهم الزهري وعمر بن عبد العزيز وموسى بن طلحة وعبيد الله، رحمهم الله.
وقال مالك عن الزهري: أنه قال: إن هذا العلم الذي أدب الله به رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأدب رسول الله به أمته أمانة الله إلى رسوله ليؤديه على ما أدي إليه، فمن سمع علما فليجعله أمامه حجة فيما بينه وبين الله عز وجل.
وقال محمد بن الحسين عن يونس عن الزهري قال: الاعتصام بالستة نجاة، وقال الوليد عن الاوزاعي عن الزهري قال: أمروا أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما جاءت.
وقال محمد بن إسحاق عن الزهري: إن من غوائل العلم أن يترك العالم حتى يذهب علمه، وفي رواية أن يترك العالم العمل بالعلم حتى يذهب، فإن من غوائله قلة انتفاع العالم بعلمه، ومن غوائله النسيان والكذب، وهو أشد الغوائل.
وقال أبو زرعة عن نعيم بن حماد، عن محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري قال: القراءة على العالم والسماع عليه سواء إن شاء الله تعالى.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري: إذا طال المجلس كان للشيطان فيه حظ ونصيب، وقد قضى عنه هشام مرة ثمانين ألف درهم، وفي رواية سبعة عشر ألفا، وفي رواية عشرين ألفا.
وقال الشافعي: عتب رجاء بن حيوة على الزهري في الاسراف وكان يستدين، فقال له: لا آمن أن يحبس هؤلاء القوم ما بأيديهم عنك فتكون قد حملت على أمانيك، قال: فوعده الزهري أن يقصر، فمر به بعد ذلك وقد وضع الطعام ونصب موائد العسل، فوقف به رجاء وقال: يا أبا بكر ما هذا بالذي فارقتنا عليه، فقال له الزهري: انزل فإن السخي لا تؤدبه التجارب.
وقد أنشد بعضهم في هذا المعنى: له سحائب جود في أنامله * أمطارها الفضة البيضاء والذهب يقول في العسر إن أيسرت ثانية * أقصرت عن بعض ما أعطى وما أهب حتى إذا عاد أيام اليسار له * رأيت أمواله في الناس تنتهب وقال الواقدي: ولد الزهري سنة ثمان وخمسين، وقدم في سنة أربع وعشرين ومائة إلى أمواله بثلاث بشعب زبدا، فأقام بها فمرض هناك ومات وأوصى أن يدفن على قارعة الطريق، وكانت وفاته لسبع عشرة من رمضان في هذه السنة، وهو ابن خمس وسبعين سنة، قالوا: وكان ثقة كثير الحديث والعلم والرواية، فقيها جامعا، وقال الحسين (1) بن المتوكل العسقلاني: رأيت قبر الزهري بشعب زبدا (2) من فلسطين مسنما مجصصا، وقد وقف الاوزاعي يوما على قبره فقال: يا قبركم فيك من علم ومن حلم * يا قبركم فيك من علم ومن كرم * وكم جمعت روايات وأحكاما.
وقال الزبير بن بكار: توفي الزهري بأمواله بشعب ثنين، ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة أربع وعشرين ومائة، عن ثنتين وسبعين سنة، ودفن على قارعة الطريق ليدعو له المارة، وقيل إنه توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقال أبو معشر: سنة خمس وعشرين ومائة، والصحيح الاول والله أعلم.
فصل وروى الطبراني: عن إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق عن معمر قال: أخبرني
صالح بن كيسان قال: اجتمعت أنا والزهري ونحن نطلب العلم فقلنا: نحن نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، ثم قال لي: هلم فلنكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنة، فقلت:
__________
(1) في صفة الصفوة 2 / 139: الحسن.
(2) في صفة الصفوة عن الحسن بن المتوكل: بأدامي وهي أول عمل فلسطين وآخر عمل الحجاز وقال ابن خلكان 4 / 178: دفن بأدامي وقيل أدمي وهي خلف شغب وبدا وهما واديان بين فلسطين والحجاز.
إنه ليس بسنة فلا نكتب، قال: فكتب ما جاء عنهم ولم أكتب، فأنحج وضيعت.
وروى الامام أحمد عن معمر قال: كنا نرى أنا قد أكثرنا عن الزهري حتى قتل الوليد، فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزانته يقول: من علم الزهري.
وروي عن الليث بن سعد قال: وضع الطست بين يدي ابن شهاب فتذكر حديثا فلم تزل يده في الطست حتى طلع الفجر وصححه، وروى أصبغ بن الفرج عن ابن وهب عن يونس عن الزهري قال: للعلم وإد فإذا هبطت وادية فعليك بالتؤدة حتى تخرج منه، فإنك لا تقطعه حتى يقطع بك.
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن يحيى تغلب حدثنا الزبير بن بكار، حدثني محمد بن الحسن بن زبالة، عن مالك بن أنس، عن الزهري قال: خدمت عبيد الله بن عتبة، حتى أن كان خادمه ليخرج فيقول: من بالباب ؟ فتقول الجارية: غلامك الاعيمش، فتظن أني غلامه، وإن كنت لاخدمه حتى أستقي له وضوءه.
وروى عبد الله بن أحمد، عن محمد بن عباد، عن الثوري، عن مالك بن أنس، أراه عن الزهري.
قال: تبعت سعيد بن المسيب ثلاثة أيام في طلب حديث.
وروى الاوزاعي عن الزهري قال: كنا نأتي العالم فيما نتعلم من أدبه أحب إلينا من علمه.
وقال سفيان: كان الزهري يقول حدثني فلان، وكان من أوعية العلم، ولا يقول كان عالما.
وقال مالك: أول من دون العلم ابن شهاب.
وقال أبو المليح: كان هشام هو الذي أكره الزهري على كتابة الحديث، فكان الناس يكتبون بعد ذلك.
وقال رشيد بن سعد قال الزهري: العلم خزائن وتفتحها المسائل.
وقال الزهري: كان يصطاد العلم بالمسألة كما يصاد الوحش.
وكان ابن شهاب
ينزل بالاعراب يعلمهم لئلا ينسى العلم، وقال: إنما يذهب العلم النسيان وترك المذاكرة.
وقال: إن هذا العلم إن أخذته بالمكابرة غلبك ولم تظفر منه بشئ، ولكن خذه مع الايام والليالي أخذا رفيقا تظفر به.
وقال: ما أحدث الناس مروءة أعجب إلي من الفصاحة.
وقال: العلم ذكر لا يحبه إلا الذكور من الرجال ويكرهه مؤنثوهم.
ومر الزهري على أبي حازم وهو يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال: مالي أرى أحاديث ليس لها خطم ولا أزمة ؟.
وقال: ما عبد الله بشئ أفضل من العلم.
وقال ابن مسلم أبي عاصم: حدثنا دحيم، حدثنا الوليد بن مسلم، عن القاسم بن هزان: أنه سمع الزهري يقول: لا يوثق الناس علم عالم لا يعمل به، ولا يؤمن بقول عالم لا يرضي.
وقال: ضمرة، عن يونس، عن الزهري قال: إياك وغلول الكتب، قلت: وما غلولها ؟ قال: حبسها عن أهلها.
وروى الشافعي عن الزهري قال: حضور المجلس بلا نسخة ذل.
وروى الاصمعي عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب قال: جلست إلى ثعلبة بن أبي معين فقال: أراك تحب العلم ؟ قلت: نعم ! قال: فعليك بذاك الشيخ - يعني سعيد بن المسيب - قال: فلزمت سعيدا سبع سنين ثم تحولت عنه إلى عروة ففجرت ثبج بحره.
وقال الليث: قال ابن شهاب: ما صبر أحد على العلم صبري، وما نشره أحد قط نشري، فأما عروة بن الزبير فبئر لا تكدره الدلاء، وأما ابن المسيب
فانتصب للناس فذهب اسمه كل مذهب.
وقال مكي بن عبدان: حدثنا محمد بن عبد العزيز بن عبد الله الاوسي، حدثنا مالك بن أنس: أن ابن شهاب سأله بعض بني أمية عن سعيد بن المسيب فذكر علمه بخير وأخبره بحاله، فبلغ ذلك سعيدا فلما قدم ابن شهاب المدينة جاء فسلم على سعيد فلم يرد عليه ولم يكلمه، فلما انصرف سعيد مشى الزهري معه فقال: مالي سلمت عليك فلم تكلمني ؟ ماذا بلغك عني وما قلت إلا خيرا ؟ قال له: ذكرتني لبني مروان ؟.
وقال أبو حاتم: حدثنا مكي بن عبدان حدثنا محمد بن يحيى، حدثني عطاف بن خالد المخزومي، عن عبد الاعلى بن عبد الله بن أبي فروة عن ابن شهاب قال: أصاب أهل المدينة حاجة زمان فتنة عبد اللمك بن مروان، فعمت أهل البلد، وقد خيل إلي أنه قد أصابنا أهل البيت من ذلك ما لم
يصب أحدا من أهل البلد، وذلك لخبرتي بأهلي، فتذكرت: هل من أحد أمت إليه برحم أو مودة أرجوا إن خرجت إليه أن أصيب عنده شيئا ؟ فما علمت من أحد أخرج إليه، ثم قلت: إن الرزق بيد الله عزوجل، ثم خرجت حتى قدمت دمشق فوضعت رجلي ثم أتيت المسجد فنظرت إلى أعظم حلقة رأيتها وأكبرها فجلست فيها، فبينا نحن على ذلك إذ خرج رجل من عند أمير المؤمنين عبد الملك، كأجسم الرجال وأجملهم وأحسنهم هيئة، فجاء إلى المجلس الذي أنا فيه فتحثحثوا له - أي أوسعوا - فجلس فقال: لقد جاء أمير المؤمنين اليوم كتاب ما جاءه مثله منذ استخلفه الله، قالوا: ما هو ؟ قال: كتب إليه عامله على المدينة هشام بن إسماعيل يذكر أن ابنا لمصعب بن الزبير من أم ولد مات، فأرادت أمه أن تأخذ ميراثا منه فمنعها عروة بن الزبير، وزعم أنه لا ميراث لها، فتوهم أمير المؤمنين حديثا في ذلك سمعه من سعيد بن المسيب يذكر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في أمهات الاولاد، ولا يحفظه الآن، وقد شذ عنه ذلك الحديث.
قال ابن شهاب فقلت: أنا أحدثه به، فقام إلى قبيصة حتى أخذ بيدي ثم خرج حتى دخل الدار على عبد الملك فقال: السلام عليك، فقال له عبد الملك مجيبا: وعليك السلام.
فقال قبيصة: أندخل ؟ فقال عبد الملك ادخل، فدخل قبيصة على عبد الملك وهو آخذ بيدي وقال: هذا يا أمير المؤمنين يحدثك بالحديث الذي سمعته من ابن المسيب في أمهات الاولاد.
فقال عبد الملك: إيه، قال الزهري فقلت: سمعت سعيد بن المسيب يذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بأمهات الاولاد أن يقومن في أموال أبنائهن بقيمة عدل ثم يعتقن، فكتب عمر بذلك صدرا من خلافته، ثم توفي رجل من قريش كان له ابن من أم ولد، وقد كان عمر يعجب بذلك الغلام، فمر ذلك الغلام على عمر في المسجد بعد وفاة أبيه بليال، فقال له عمر: ما فعلت يا بن أخي في أمك ؟ قال: فعلت يا أمير المؤمنين خيرا، خيروني بين أن يسترقوا أمي (1) فقال عمر: أو لست إنما أمرت في ذلك بقيمة عدل ؟ ما أرى رأيا وما أمرت بأمر إلا قلتم فيه، ثم قام فجلس على المنبر فاجتمع الناس إليه حتى إذا رضي من جماعتهم قال: أيها
__________
(1) كذا بالاصل، وفي السياق نقص ظاهر.
الناس ! إني قد كنت أمرت في أمهات الاولاد بأمر قد علمتموه، ثم حدث رأي غير ذلك، فأنما امرئ كان عنده أم ولد فملكها بيمينه ما عاش، فإذا مات فهي حرة لا سبيل له عليها.
فقال لي عبد الملك: من أنت ؟ قلت أنا محمد بن مسلم بن عبيد بن شهاب، فقال: أما والله إن كان أبوك لابا نعارا في الفتنة مؤذيا لنا فيها.
قال الزهري فقلت: يا أمير المؤمنين قل كما قال العبد الصالح: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم) [ يوسف: 92 ] فقال: أجل ! (لاتثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم) قال: فقلت: يا أمير المؤمنين افرض لي فإني منقطع من الديوان، فقال: إن بلدك ما فرضنا فيه لاحد منذ كان هذا الامر.
ثم نظر إلى قبيصة وأنا وهو قائمان بين يديه، فكأنه أوما إليه أن افرض له، فقال: قد فرض إليك أمير المؤمنين، فقلت: إني والله ما خرجت من عند أهلي إلا وهم في شدة وحاجة ما يعلمها إلا الله، وقد عمت الحاجة أهل البلد.
قال: قد وصلك أمير المؤمنين.
قال قلت: يا أمير المؤمنين وخادم يخدمنا، فإن أهلي ليس لهم خادم إلا أختي، فإنها الآن تعجن وتخبز وتطحن قال: قد أخدمك أمير المؤمنين.
وروى الاوزاعي عن الزهري أنه روى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ".
فقلت للزهري: ما هذا ؟ فقال: من الله العلم، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم، أمروا أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما جاءت.
وعن ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال: (2) كان عمر بن الخطاب يأمر برواية قصيدة لبيد بن ربيعة التي يقول فيها: إن تقوى ربنا خير نفل * وباذن الله ريثي والعجل أحمد الله فلا ند له * بيديه الخير ما شاء فعل من هداه سبل الخير اهتدى * ناعم البال ومن شاء أضل وقال الزهري: دخلت على عبيد الله بن عبد الله بن عتبة منزلة فإذا هو مغتاظ ينفخ، فقلت: مالي أراك هكذا ؟ فقال: دخلت على أميركم آنفا - يعني عمر بن عبد العزيز - ومعه عبد الله بن عمرو بن عثمان فسلمت عليهما فلم يردا علي السلام، فقلت: لا تعجبا أن تؤتيا فتكلما * فما حشى الاقوام شرا من الكبر
ومسا تراب الارض منه خلقتما * وفيها المعاد والمصير إلى الحشر فقلت: يرحمك الله ! ! مثلك في فقهك وفضلك وسنك تقول الشعر ؟ ! فقال: إن المصدور إذا نفث برأ.
وجاء شيخ إلى الزهري فقال: حدثني، فقال: إنك لا تعرف اللغة، فقال الشيخ: لعلي أعرفها، فقال: فما تقول في قول الشاعر: صريع ندامى يرفع الشرب رأسه * وقد مات منه كل عضو ومفصل ؟
ما المفصل ؟ قال: اللسان، قال: عد علي أحدثك.
وكان الزهري يتمثل كثيرا بهذا: ذهب الشباب فلا يعود جمانا * وكأن ما قد كان لم يك كانا فطويت كفي يا جمان على العصا * وكفى جمان بطيها حدثانا وكان نقش خاتم الزهري: محمد يسأل الله العافية.
وقيل لابن أخي الزهري: هل كان عمك يتطيب ؟ قال: كنت أشم ريح المسك من سوط دابة الزهري.
وقال: استكثروا من شئ لا تمسه النار، قيل: وما هو ؟ قال: المعروف.
وامتدحه رجل مرة فأعطاه قميصه، فقيل له: أتعطي على كلام الشيطان ؟ فقال: إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر.
وقال سفيان: سئل الزهري عن الزاهد فقال: من لم يمنع الحلال شكره، ولم يغلب الحرام صبره.
وقال سفيان: قالوا للزهري: لو أنك الآن في آخر عمرك أقمت بالمدينة، فقعدت إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ودرجت وجلسنا إلى عمود من أعمدته فذكرت الناس وعلمتهم ؟ فقال: لو أني فعلت ذلك لوطئ عقبي، ولا يبغي لي أن أفعل ذلك حتى أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة.
وكان الزهري يحدث أنه هلك في جبال بيت المقدس بضعة وعشرون نبيا، ماتوا من الجوع والعمل.
كانوا لا يأكلون إلا ما عرفوا، ولا يلبسون إلا ما عرفوا وكان يقول: العبادة هي الورع والزهد، والعلم هو الحسنة، والصبر هو احتمال المكاره، والدعوة إلى الله على العمل الصالح.
وممن توفي في خلافة هشام بن عبد الملك ما أورده ابن عساكر: بلال بن سعد
ابن تميم السكوني أبو عمرو، وكان من الزهاد الكبار، والعباد الصوام القوام، روى عن أبيه وكان أبوه له صحبة، وعن جابر وابن عمر وأبي الدرداء وغيرهم، وعنه جماعات منهم أبو عمر الاوزاعي وكان الاوزاعي يكتب عنه ما يقوله من الفوائد العظيمة في قصصه ووعظه، وقال: ما رأيت واعظا قط مثله.
وقال أيضا: ما بلغني عن أحد من العبادة ما بلغني عنه، كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة.
وقال غيره وهو الاصمعي: كان إذا نعس في ليل الشتاء ألقى نفسه في ثيابه في البركة، فعاتبه بعض أصحابه في ذلك فقال: إن ماء البركة أهون من عذاب جهنم.
وقال الوليد بن مسلم: كان إذا كبر في المحراب سمعوا تكبيره من الاوزاع.
قلت: وهي خارج باب الفراديس.
وقال أحمد بن عبد الله العجلي: هو شامي تابعي ثقة.
وقال أبو زرعة الدمشقي: كان أحد العلماء قاصا حسن القصص، وقد اتهمه رجاء بن حيوة بالقدر حتى قال بلال يوما في وعظه: رب مسرور مغرور، ورب مغرور لا يشعر، فويل لمن له الويل وهو لا يشعر، يأكل ويشرب، ويضحك، وقد حق عليه في قضاء الله أنه من أهل النار، فياويل لك روحا، يا ويل لك جسدا، فلتبك ولتبك عليك البواكي لطول الابد.
وقد ساق ابن عساكر شيئا حسنا من كلامه في مواعظه البليغة، فمن ذلك قوله: والله لكفى به ذنبا أن الله يزهدنا في الدنيا ونحن نرغب فيها، زاهدكم راغب، وعالمكم جاهل، ومجتهدكم مقصر.
وقال أيضا: أخ لك كلما لقيك ذكرك بنصيبك من الله، وأخبرك بعيب فيك، أحب إليك، وخير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك دينارا.
وقال أيضا: لا تكن وليا لله في العلانية وعدوه في السر ولا تكن عدو إبليس والنفس والشهوات في العلانية وصديقهم في السر، ولا تكن ذا وجهين وذا لسانين فتظهر للناس أنك تخشى الله ليحمدوك وقلبك فاجر.
وقال أيضا: أيها الناس إنكم لم تخلقوا للفناء وإنما خلقتم للبقاء، ولكنكم تنتقلون من دار إلى دار، كما نقلتم من الاصلاب إلى الارحام، ومن الارحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى القبور، ومن القبور إلى الموقف، ومن الموقف إلى الجنة والنار.
وقال أيضا: عباد الرحمن: إنكم تعملون في أيام قصار لايام طوال، وفي دار زوال إلى دار
مقام، وفي دار حزن ونصب لدار نعيم وخلود، فمن لم يعمل على يقين فلا تنفعن، عباد الرحمن لو قد غفرت خطاياكم الماضية لكان فيما تستقبلون لكم شغلا، ولو عملتم بما تعلمون لكان لكم مقتدا وملتجأ، عباد الرحمن أماما وكلتم به فتضيعونه، وأما ما تكفل الله لكم به فتطلبونه، ما هكذا نعت الله عباده الموقنين، أذوو عقول في الدنيا وبله في الآخرة، وعمي عما خلقتم له بصراء في أمر الدنيا ؟ فكما ترجون رحمة الله بما تؤدون من طاعته، فكذلك اشفقوا من عذابه بما تنتهكون من معاصيه، عباد الرحمن ! هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئا من أعمالكم قد تقبل منكم ؟ أو شيئا من خطاياكم قد غفر لكم ؟ (أم حسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) [ المؤمنون: 116 ] والله لو عجل لكم الثواب في الدنيا لاستقللتم ما فرض عليكم.
أترغبون في طاعة الله لدار معمورة بالآفات ؟ ولا ترغبون وتنافسون في جنة أكلها دائم وظلها، وعرضها عرض الارض والسموات (تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار) [ الرعد: 35 ] وقال أيضا: الذكر ذكران ذكر الله باللسان حسن جميل، وذكر الله عندما أحل وحرم أفضل.
عباد الرحمن يقال لاحدنا: تحب أن تموت ؟ فيقول: لا ! فيقال له: لم ؟ فيقول: حتى أعمل، فيقال له: اعمل، فيقول سوف أعمل، فلا تحب أن تموت، ولا تحب أن تعمل، وأحب شئ إليه يحب أن يؤخر عمل الله، ولا يحب أن يؤخر الله عنه عرض دنياه.
عباد الرحمن إن العبد ليعمل الفريضة الواحدة من فرائض الله وقد أضاع ما سواها، فما يزال يمنيه الشيطان ويزين له حتى ما يرى شيئا دون الجنة، مع إقامته على معاصي الله.
عباد الرحمن قبل أن تعملوا أعمالكم فانظروا ماذا تريدون بها، فإن كانت خالصة فامضوها وإن كانت لغير الله فلا تشقوا على أنفسكم، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا، فإنه قال (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) [ فاطر: 10 ] وقال أيضا: إن الله ليس إلى عذابكم بالسريع، يقبل المقبل ويدعو المدبر، وقال أيضا: إذا رأيت الرجل متحرجا لحوحا مماريا معجبا برأيه فقد تمت خسارته.
وقال الاوزاعي: خرج الناس بدمشق يستسقون فقام بهم بلال بن سعد فقال: يا معشر من حضر ! ألستم مقرين بالاساءة ؟ قالوا: نعم، فقال: اللهم
إنك قلت (ما على المحسنين من سبيل) [ التوبة: 91 ] وقد أقررنا بالاساءة فاعف عنا واغفر لنا.
قال: فسقوا يومهم ذلك.
وقال أيضا: سمعته يقول: لقد أدركت أقواما يشتدون بين الاغراض، ويضحك بعضهم إلى بعض، فإذا جثهم الليل كانوا رهبانا.
وسمعته أيضا يقول: لا تنظر إلى صغر الذنب وانظر إلى من عصيت.
وسمعته يقول: من بادأك بالود فقد استرقك بالشكر.
وكان من دعائه: اللهم إني أعوذ بك من زيغ القلوب، ومن تبعات الذنوب، ومن مرديات الاعمال ومضلات العين.
وقال الاوزاعي عنه أنه قال: عباد الرحمن لو أنتم لم تدعوا إلى الله طاعة إلا عملتموها ولا معصية إلا اجتنبتموها، إلا أنكم تحبون الدنيا لكفاكم ذلك عقوبة عند الله عز وجل.
وقال: إن الله يغفر الذنوب لمن تاب منها، ولكن لا يمحوها من الصحيفة حتى يوقف العبد عليها يوم القيامة.
ترجمة الجعد بن درهم هو أول من قال بخلق القرآن، وهو الذي ينسب إليه مروان الجعدي، وهو مروان الحمار، آخر خلفاء بني أمية.
كان شيخه الجعد بن درهم، أصله من خراسان، ويقال إنه من موالي بني مروان، سكن الجعد دمشق، وكانت له بها دار بالقرب من القلاسيين إلى جانب الكنيسة، ذكره ابن عساكر.
قلت: وهي محلة من الخواصين اليوم غربيها عند حمام القطانين الذي يقال له حمام قلينس.
قال ابن عساكر وغيره: وقد أخذ الجعد بدعته عن بيان بن سمعان، وأخذها بيان عن طالوت ابن اخت لبيد بن أعصم، زوج ابنته، وأخذها لبيد بن أعصم الساحر الذي سحر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن يهودي باليمن، وأخذ عن الجعد الجهم بن صفوان الخزري، وقيل الترمذي، وقد أقام ببلخ، وكان يصلي مع مقاتل بن سليمان في مسجده ويتناظران، حتى نفي إلى ترمذ، ثم قتل الجهم بأصبهان، وقيل بمرو، قتله نائبها سلم بن أحوز رحمه الله وجزاه عن المسلمين خيرا، وأخذ بشر المريسي عن الجهم، وأخذ أحمد بن أبي دواد عن بشر، وأما الجعد فإنه أقام بدمشق حتى أظهر القول بخلق القرآن، فتطلبه بنو أمية فهرب منهم فسكن الكوفة، فلقيه فيها الجهم بن صفوان فتقلد هذا القول عنه، ثم إن خالد بن عبد الله القسري قتل الجعد يوم عيد الاضحى بالكوفة، وذلك أن خالدا خطب الناس فقال في خطبته تلك: أيها الناس ضحوا يقبل الله ضحاياكم، فإني مضح
بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا.
ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا.
ثم نزل فذبحه في أصل المنبر.
وقد ذكر هذا غير واحد من الحفاظ منهم البخاري وابن أبي حاتم والبيهقي وعبد الله بن أحمد وذكره ابن عساكر في التاريخ، وذكر أنه كان يتردد إلى وهب بن منبه، وأنه كان كلما راح إلى وهب يغتسل ويقول: أجمع للعقل، وكان يسأل وهبا عن صفات الله عزوجل فقال له وهب يوما: ويلك يا جعد، اقصر المسألة عن ذلك، إني لاظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يدا ما قلنا ذلك، وأن له عينا ما قلنا ذلك، وأن له نفسا ما قلنا ذلك، وأن له سمعا ما قلنا ذلك، وذكر
الصفات من العلم والكلام وغير ذلك، ثم لم يلبث الجعد أن صلب ثم قتل.
ذكره ابن عساكر، وذكر في ترجمته أنه قال للحجاج بن يوسف ويروى لعمران بن حطان: ليث علي وفي الحروب نعامة * فتخاء تجفل من صفير الصافر هلا برزت إلى غزالة في الوغى * بل كان قلبك في جناحي طائر ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا رزق الله بن موسى ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ثنا عبد الملك بن زيد عن مصعب بن مصعب عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ترفع زينة الدنيا سنة خمس وعشرين ومائة، وكذا رواه أبو يعلى في مسنده عن أبي كريب، عن ابن أبي فديك، عن عبد الملك بن سعيد بن زيد بن نفيل، عن مصعب بن مصعب عن الزهري به.
قلت: وهذا حديث غريب منكر، ومصعب بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري تكلم فيه وضعفه علي بن الحسين بن الجنيد: وكذا تكلم في الراوي عنه أيضا والله أعلم.
وفيها غزا النعمان بن يزيد بن عبد الملك الصائفة من بلاد الروم، وفي ربيع الآخر منها توفي أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك بن مروان.
ذكر وفاته وترجمته رحمه الله
هو هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو الوليد القرشي الاموي الدمشقي، أمير المؤمنين.
وأمه أم هشام بنت هشام بن إسماعيل المخزومي، وكانت داره بدمشق عند باب الخواصين، وبعضها اليوم مدرسة نور الدين الشهيد التي يقال لها النورية الكبيرة، وتعرف بدار القبابين - يعني الذين يبيعون القباب وهي الخيام - فكانت تلك المحلة داره والله أعلم.
وقد بويع له بالخلافة بعد أخيه يزيد بن عبد الملك بعهد منه إليه، وذلك يوم الجمعة لاربع بقين من شعبان (1) سنة خمس ومائة (2)، وكان له من العمر يومئذ أربع وثلاثون سنة، وكان جميلا أبيض أحول يخضب بالسواد، وهو الرابع من ولد عبد الملك الذين ولوا الخلافة، وقد كان عبد الملك رأى في المنام كأنه بال في المحراب أربع مرات، فدس إلى سعيد بن المسبب من سأله عنها ففسرها له بأنه يلي الخلافة من ولده أربعة، فوقع ذلك، فكان هشام آخرهم، وكان في خلافته حازم الرأي جماعا للاموال يبخل، وكان ذكيا مدبرا له بصر بالامور جليلها وحقيرها، وكان فيه حلم وأناة، شتم مرة رجلا من الاشراف فقال: أتشتمني وأنت خليفة الله في
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 249: لخمس بقين من شوال.
(2) في الامامة والسياسة 2 / 125: ست ومائة.
الارض ؟ فاستحيا وقال: اقتص مني بدلها أو قال بمثلها، فقال: إذا أكون سفيها مثلك، قال فخذ عوضا قال: لا أفعل، قال: فاتركها لله، قال: هي لله ثم لك، فقال هشام عند ذلك: والله لا أعود إلى مثلها.
وقال الاصمعي: أسمع رجل هشاما كلاما فقال له: أتقول لي مثل هذا وأنا خليفتك ؟ وغضب مرة على رجل فقال له: اسكت وإلا ضربتك سوطا، وكان علي بن الحسين قد اقترض من مروان بن الحكم مالا أربعة آلاف دينار، فلم يتعرض له أحد من بني مروان، حتى استخلف هشام فقال: ما فعل حقنا قبلك ؟ قال: موفور مشكور، فقال ! هو لك.
قلت: هذا الكلام فيه نظر، وذلك أن علي بن الحسين مات سنة الفقهاء، وهي سنة أربع
وتسعين، قبل أن يلي هشام الخلافة بإحدى عشرة سنة، فإنه إنما ولي الخلافة سنة خمس ومائة، فقول المؤلف: إن أحدا من خلفاء بني مروان لم يتعرض لمطالبة علي بن الحسين حتى ولي هشام فطالبه بالمال المذكور، فيه نظر ولا يصح، لتقدم موت علي على خلافة هشام، والله سبحانه وتعالى أعلم وكان هشام من أكره الناس لسفك الدماء، ولقد دخل عليه من مقتل زيد بن علي وابنه يحيى أمر شديد وقال: وددت أني افتديتهما بجميع ما أملك وقال المدائني عن رجل من حيي عن بشر مولى هشام قال: أتي هشام برجل عنده قيان وخمر وبربط، فقال: اكسروا الطنبور على رأسه، فبكى الشيخ، قال بشر: فضربه (1)، قال أتراني أبكي للضرب، إنما أبكي لا حتقارك البربط حتى سميته طنبورا.
وأغلظ لهشام رجل يوما في الكلام فقال: ليس لك أن تقول هذا لامامك.
وتفقد أحد ولده يوم الجمعة فبعث إليه مالك لم تشهد الجمعة ؟ فقال: إن بغلتي عجزت عني، فبعث إليه أما كان يمكنك المشي، ومنعه أن يركب سنة، وأن يشهد الجمعة ماشيا.
وذكر المدائني أن رجلا أهدى إلى هشام طيرين فأوردهما السفير إلى هشام، وهو جالس على سرير وسط داره، فقال له: أرسلهما في الدار، فأرسلهما، ثم قال: جائزتي يا أمير المؤمنين فقال: ويحك وما جائزتك على هدية طيرين ؟ خذ أحدهما، فجعل الرجل يسعى خلف أحدهما، فقال: ويحك ما بالك ؟ فقال أختار أجودهما: قال: وتختار أيضا الجيد وتترك الردئ ؟ ثم أمر له بأربعين أو خمسين درهما.
وذكر المدائني عن قحذم (2)، كاتب يوسف بن عمر.
قال: بعثني يوسف إلى هشام بياقوتة حمراء ولؤلؤة كانتا لرابعة (3)، جارية خالد بن عبد الله القسري، مشترى الياقوتة ثلاثة وسبعون ألف دينار، قال: فدخلت عليه وهو على سرير فوقه فرش لم أر رأس هشام من علو تلك
__________
(1) في رواية ابن الاثير 5 / 262: فقال (يعني بشر): عليك بالصبر.
(2) من الطبري 8 / 288 وفي الاصل محرم.
تحريف.
(3) في الطبري: رائقة.
الفرش، فأوريتها له، فقال: كم زنتها ؟ فقلت: إن مثل هذه لا مثل لها، فسكت.
قالوا: ورأى
قوما يفرطون الزيتون فقال القطوه لقطا ولا تنفضوه نفضا، فتفقأ عيونه وتكسر غصونه، وكان يقول: ثلاثة لا يضعن الشريف: تعاهد الصنيعة، وإصلاح المعيشة، وطلب الحق وإن قل.
وقال أبو بكر الخرائطي: يقال إن هشاما لم يقل من الشعر سوى هذا البيت: إذا أنت تعص الهوى قادك الهوى * إلى كل ما فيه عليك مقال وقد روي له شعر غير هذا، وقال المدائني عن ابن يسار الاعرجي: حدثني ابن أبي بجيلة، عن عقال بن شبة قال: دخلت على هشام وعليه قباء فتك أخضر، فوجهني إلى خراسان، ثم جعل يوصيني وأنا أنظر إلى القباء، ففطن فقال: مالك ؟ قلت: عليك قباء فتك أخضر، كنت رأيت عليك مثله قبل أن تلي الخلافة، فجعلت أتأمل هذا هو ذاك أم غيره، والله الذي لا إله غيره هو ذاك، مالي قباء غيره، وما ترون من جمعي لهذا المال وصونه إلا لكم.
قال عقال: وكان هشام محشوا بخلا.
وقال عبد الله بن علي عم السفاح: جمعت دواوين بني أمية فلم أر أصلح للعامة والسلطان من ديوان هشام.
وقال المدائني عن هشام بن عبد الحميد: لم يكن أحد من بني مروان أشد نظرا في أصحابه ودواوينه، ولا أشد مبالغة في الفحص عنهم من هشام، وهو الذي قتل غيلان القدري، ولما أحضر بين يديه قال له: ويحك قل ما عندك، إن كان حقا اتبعناه، وإن كان باطلا رجعت عنه، فناظره ميمون بن مهران فقال لميمون أشياء فقال له: أيعصي الله كارها ؟ فسكت غيلان فقيده حينئذ هشام وقتله (1).
وقال الاصمعي عن أبي الزناد عن منذر بن أبي منذر قال: أصبنا في خزائن هشام اثني عشر ألف قميص كلها قد أثر بها.
وشكى هشام إلى أبيه ثلاثا إحداهن: أنه يهاب الصعود إلى المنبر، والثانية قلة تناول الطعام، والثالثة أن عنده في القصر مائة جارية من حسان النساء لا يكاد يصل إلى واحدة منهن.
فكتب إليه أبوه: أما صعودك إلى المنبر فإذا علوت فوقه فارم ببصرك إلى مؤخر الناس فإنه أهون عليك، وأما قلة الطعام فمر الطباخ فليكثر الالوان فعلك أن تتناول من كل لون لقمة، وعليك بكل بيضاء بضة، ذات جمال وحسن.
وقال أبو عبد الله الشافعي: لما بنى هشام بن عبد الملك الرصافة قال: أحب أن أخلو بها يوما لا يأتيني فيه خبر غم، فما انتصف النهار حتى أتته
ريشة دم من بعض الثغور، فقال: ولا يوما واحدا ؟ ! وقال سفيان بن عيينة: كان هشام لا يكتب إليه بكتاب فيه ذكر الموت.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا إبراهيم بن المنذر الخزامي ثنا حسين بن زيد (2) عن شهاب بن عبد ربه، عن عمر بن علي قال: مشيت مع محمد بن علي - يعني ابن الحسين
__________
(1) في الطبري 8 / 285: فأمر بقطع يديه ورجليه.
وفي ابن الاثير 5 / 263: فقطعت يداه ورجلاه ثم امر به فصلب.
(2) في الطبري 8 / 288: يزيد.
ابن علي بن أبي طالب - إلى داره عند الحمام فقلت له: إنه قد طال ملك هشام وسلطانه، وقد قرب من العشرين سنة، وقد زعم الناس أن سليمان سأل ربه ملكا لا ينبغي لاحد من بعده، فزعم الناس أنها العشرون، فقال: ما أدري ما أحاديث الناس، ولكن أبي حدثني عن أبيه عن علي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " لن يعمر الله ملكا في أمة نبي مضى قبله ما بلغ ذلك النبي من العمر في أمته، فإن الله عمر نبيه (صلى الله عليه وسلم) ثلاث عشرة سنة بمكة وعشرا بالمدينة ".
وقال ابن أبي خيثمة: ليس حديث فيه توقيت غير هذا، قرأه يحيى بن معين على كتابي فقال: من حدثك به ؟ فقلت: إبراهيم، فتلهف أن لا يكون سمعه، وقد وراه ابن جرير في تاريخه عن أحمد بن زهير عن إبراهيم بن المنذر الحزامي.
وروى مسلم بن إبراهيم، ثنا القاسم بن الفضل، حدثني عباد بن المعرا الفتكي عن عاصم بن المنذر بن الزبير عن عبد الله بن الزبير أنه سمع عليا يقول: هلاك ملك بني أمية على رجل أحول - يعني هشاما -.
وروى أبو بكر بن أبي الدنيا، عن عمر بن أبي معاذ النميري، عن أبيه، عن عمرو بن كليع، عن سالم كاتب هشام بن عبد الملك ؟ قال خرج علينا يوما هشام وعليه كآبة وقد ظهر عليه الحزن، فاستدعى الابرش بن الوليد فجاءه فقال: يا أمير المؤمنين مالي أراك هكذا ؟ فقال: مالي لا أكون وقد زعم أهل العلم بالنجوم أني أموت إلى ثلاث وثلاثين من يومي هذا.
قال: فكتبنا ذلك، فلما كان آخر ليلة من ذلك جاءني رسوله في الليل يقول: احضر معك دواء للذبحة، وكان قد أصابته
قبل ذلك، فاستعمل منه فعوفي، فذهبت إليه ومعي ذلك الدواء فتناوله وهو في وجع شديد، واستمر فيه عامة الليل، ثم قال: يا سالم اذهب إلى منزلك فقد وجدت خفة وذر الدواء عندي، فذهبت فما هو إلا أن وصلت إلى منزلي حتى سمعت الصياح عليه، فجئت فإذا هو قد مات.
وذكر غيره أن هشاما نظر إلى أولاده وهم يبكون حوله فقال: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما جمع، وتركتم له ما كسب، ما أسوأ منقلب هشام إن لم يغفر الله له.
ولما مات جاءت الخزنة فختموا على حواصله وأرادوا تسخين الماء فلم يقدروا له على فحم حتى استعاروا له، وكان نقش خاتمه الحكم للحكم الحكيم.
وكانت وفاة بالرصافة يوم الاربعاء لست بقين (1) من ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة، وهو ابن بضع وخمسين سنة، وقيل إنه جاوز الستين، وصلى عليه الوليد بن يزيد بن عبد الملك (2)، الذي ولى الخلافة بعده، وكانت خلافة هشام تسع عشرة سنة وسبعة أشهر وأحد عشر يوما، وقيل وثمانية أشهر وأيام فالله أعلم.
وقال ابن أبي فديك: ثنا عبد الملك بن زيد، عن مصعب، عن الزهري، عن أبي سلمة بن
__________
(1) في الطبري 8 / 283 وابن الاثير 5 / 261 ومروج الذهب 3 / 258 خلون.
(2) في الطبري وابن الاثير: صلى عليه ابنه مسلمة بن هشام.
وفي الامامة والسياسة 2 / 130: مات هشام والوليد غائب فلم يدفن حتى قدم.
عبد الرحمن، عن أبيه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " ترفع زينة الدنيا سنة خمس وعشرين ومائة ".
قال ابن أبي فديك: زينتها نور الاسلام وبهجته، وقال غيره - يعني الرجال - والله أعلم.
قلت: لما مات هشام بن عبد الملك مات ملك بني أمية، وتولى وأدبر أمر الجهاد في سبيل الله واضطرب أمرهم جدا، وإن كانت قد تأخرت أيامهم بعده نحوا من سبع سنين، ولكن في اختلاف وهيج، وما زالوا كذلك حتى خرجت عليهم بنو العباس فاستلبوهم نعمتهم وملكهم، وقتلوا منهم خلقا وسلبوهم الخلافة كما سيأتي إن شاء الله تعالى ذلك مبسوطا مقدرا في مواضع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وذكر غيره أن هشاما نظر إلى أولاده وهم يبكون حوله فقال: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما جمع، وتركتم له ما كسب، ما أسوأ منقلب هشام إن لم يغفر الله له.
ولما مات جاءت الخزنة فختموا على حواصله وأرادوا تسخين الماء فلم يقدروا له على فحم حتى استعاروا له، وكان نقش خاتمه الحكم للحكم الحكيم.
وكانت وفاة بالرصافة يوم الاربعاء لست بقين (1) من ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة، وهو ابن بضع وخمسين سنة، وقيل إنه جاوز الستين، وصلى عليه الوليد بن يزيد بن عبد الملك (2)، الذي ولى الخلافة بعده، وكانت خلافة هشام تسع عشرة سنة وسبعة أشهر وأحد عشر يوما، وقيل وثمانية أشهر وأيام فالله أعلم.
وقال ابن أبي فديك: ثنا عبد الملك بن زيد، عن مصعب، عن الزهري، عن أبي سلمة بن
__________
(1) في الطبري 8 / 283 وابن الاثير 5 / 261 ومروج الذهب 3 / 258 خلون.
(2) في الطبري وابن الاثير: صلى عليه ابنه مسلمة بن هشام.
وفي الامامة والسياسة 2 / 130: مات هشام والوليد غائب فلم يدفن حتى قدم.
عبد الرحمن، عن أبيه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " ترفع زينة الدنيا سنة خمس وعشرين ومائة ".
قال ابن أبي فديك: زينتها نور الاسلام وبهجته، وقال غيره - يعني الرجال - والله أعلم.
قلت: لما مات هشام بن عبد الملك مات ملك بني أمية، وتولى وأدبر أمر الجهاد في سبيل الله واضطرب أمرهم جدا، وإن كانت قد تأخرت أيامهم بعده نحوا من سبع سنين، ولكن في اختلاف وهيج، وما زالوا كذلك حتى خرجت عليهم بنو العباس فاستلبوهم نعمتهم وملكهم، وقتلوا منهم خلقا وسلبوهم الخلافة كما سيأتي إن شاء الله تعالى ذلك مبسوطا مقدرا في مواضع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * * بحمد الله قد تم الجزء التاسع من البداية والنهاية ويليه الجزء العاشر وأوله خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك
البداية والنهاية - ابن كثير ج 10
البداية والنهاية
ابن كثير ج 10
البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774 ه حققه ودقق اصوله وعلق حواشيه علي شيري الجزء العاشر دار إحياء التراث العربي
خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك قال الواقدي: بويع له بالخلافة يوم مات عمه هشام بن عبد الملك يوم الاربعاء لست خلون من ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة.
وقال هشام بن الكلبي: بويع له يوم السبت في ربيع الآخر، وكان عمره إذ ذاك أربعا وثلاثين سنة (1).
وكان سبب ولايته أن أباه يزيد بن عبد الملك كان قد جعل الامر من بعده لاخيه هشام ثم من بعده لولده الوليد هذا، فلما ولي هشام أكرم ابن أخيه الوليد حتى ظهر عليه أمر الشراب وخلطاء السوء ومجالس اللهو، فأراد هشام أن يقطع ذلك عنه فأمره على الحج سنة ست (2) عشرة ومائة، فأخذ معه كلاب الصيد خفية من عمه، حتى يقال إنه جعلها في صناديق فسقط منها صندوق فيه كلب فسمع صوته فأحالوا ذلك على الجمال فضرب على ذلك.
قالوا: واصطنع الوليد قبة على قدر الكعبة، ومن عزمه أن ينصب تلك القبة فوق سطح الكعبة ويجلس هو وأصحابه هنالك، واستصحب معه الخمور وآلات الملاهي وغير ذلك من المنكرات، فلما وصل إلى مكة هاب أن يفعل ما كان قد عزم عليه، من الجلوس فوق ظهر الكعبة خوفا من الناس ومن إنكارهم عليه ذلك، فلما تحقق عمه ذلك منه نهاه مرارا فلم ينته، واستمر على حاله القبيح، وعلى فعله الردئ، فعزم عمه على خلعه من الخلافة - وليته فعل - وأن يولي بعده مسلمة بن هشام، وأجابه إلى
ذلك جماعة من الامراء، ومن أخواله، ومن أهل المدينة ومن غيرهم، وليت ذلك تم.
ولكن لم ينتظم حتى قام هشام يوما للوليد: ويحك ! والله ما أدري أعلى الاسلام أنت أم لا، فإنك لم تدع شيئا من المنكرات إلا أتيته غير متحاش ولا مستتر.
فكتب إليه الوليد:
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 258: كانت ولايته سنة وشهرين واثنين وعشرين يوما، وقتل هو ابن اربعين سنة، يعني يكون لما تولى الخلافة ابن ثمان وثلاثين وأشهر.
(2) في الطبري 8 / 288: تسع عشرة.
ولعله سهو منه لانه عاد وذكر أن هشام ولى ابنه مسلمة على الموسم سنة 119.
يا أيها السائل عن ديننا * ديني (1) على دين أبي شاكر نشربها صرفا وممزوجة * بالسخن أحيانا وبالفاتر فغضب هشام على ابنه مسلمة، وكان يسمى أبا شاكر، وقال له: تشبه الوليد بن يزيد وأنا أريد أن أرقيك إلا الخلافة، وبعثه على الموسم سنة تسع (2) عشرة ومائة فأظهر النسك والوقار، وقسم بمكة والمدينة أموالا، فقال مولى لاهل المدينة: يا أيها السائل عن ديننا * نحن على دين أبي شاكر الواهب الجرد (3) بأرسانها * ليس بزنديق ولا كافر ووقعت بين هشام وبين الوليد بن يزيد وحشة عظيمة بسبب تعاطي الوليد ما كان يتعاطاه من الفواحش والمنكرات فتنكر له هشام وعزم على خلعه وتولية ولده مسلمة ولاية العهد، ففر منه الوليد إلى الصحراء (4)، وجعلا يتراسلان بأقبح المراسلات، وجعل هشام يتوعده وعيدا شديدا، ويتهدده، ولم يزل كذلك حتى مات هشام والوليد في البرية، فلما كانت الليلة التي قدم في صبيحتها عليه البرد بالخلافة، قلق الوليد تلك الليلة قلقا شديدا، وقال لبعض أصحابه: ويحك قد أخذني الليلة قلق عظيم فاركب لعلنا نبسط، فسارا ميلين يتكلمان في هشام وما يتعلق به، من كتبه إليه بالتهديد والوعيد، ثم رأيا من بعد رهجا وأصواتا وغبارا، ثم انكشف ذلك عن برد يقصدونه بالولاية، فقال لصاحبه: ويحك ! إن هذه رسل هشام، اللهم اعطنا خيرها، فلما اقتربت البرد منه
وتبينوه ترجلوا إلى الارض وجاؤوا فسلموا عليه بالخلافة، فبهت وقال: ويحكم أمات هشام ؟ قالوا: نعم، قال: فمن بعثكم ؟ قالوا: سالم بن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل، وأعطوه الكتاب فقرأه ثم سألهم عن أحوال الناس وكيف مات عمه هشام، فأخبروه.
فكتب من فوره بالاحتياط على أموال هشام وحواصله بالرصافة وقال: ليت هشاما عاش حتى يرى * مكياله الاوفر قد طبعا كلناه بالصاع الذي كاله * وما ظلمناه به إصبعا
__________
(1) في الطبري 8 / 289 وابن الاثير 5 / 265: نحن.
قال في الاغاني 7 / 3: ويقال: قال ذلك عبد الصمد بن عبد الاعلى - مؤدبه - ونحله إياه وذكر في الفخري أبياتا كتب بها الوليد إلى هشام ص 134 ومنها فيه وفي الاغاني 7 / 8: كفرت يدا من منعم لو شكرتها * جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمن (2) في الاغاني 7 / 4: سبع عشرة.
(3) في الاغاني: البزل.
والبازل من الابل: الذي استكمل السنة الثامنة وطعن في التاسعة.
(4) نزل بالازرق بين أرض بلقين وفزارة على ماء يقال له الاغدف (ابن الاثير 5 / 265 الطبري 8 / 289) وفي الاغاني 7 / 8: بالابرق.
وما أتينا ذاك عن بدعة * أحله الفرقان لي أجمعا وقد كان الزهري يحث هشاما على خلع الوليد هذا ويستنهضه في ذلك، فيحجم هشام عن ذلك خوف الفضيحة من الناس، ولئلا تتنكر قلوب الاجناد من أجل ذلك، وكان الوليد يفهم ذلك من الزهري ويبغضه ويتوعده ويتهدده، فيقول له الزهري: ما كان الله ليسلطك علي يا فاسق، ثم مات الزهري قبل ولاية الوليد، ثم فر الوليد من عمه إلى البرية فلم يزل بها حتى مات، فاحتاط على أموال عمه ثم ركب من فوره من البرية وقصد دمشق، واستعمل العمال وجاءته البيعة من الآفاق، وجاءته الوفود، وكتب إليه مروان بن محمد - وهو إذ ذاك نائب أرمينية - يبارك له في خلافة الله له على
عباده والتمكين في بلاده، ويهنئه بموت هشام وظفره به، والتحكم في أمواله وحواصله، ويذكر له أنه جدد البيعة له في بلاده وأنهم فرحوا واستبشروا بذلك، ولولا خوفه من الثغر لاستناب عليه وركب بنفسه شوقا إلى رؤيته، ورغبة في مشافهته، ثم إن الوليد سار في الناس سيرة حسنة بادي الرأي وأمر باعطاء الزمنى والمجذومين والعميان لكل إنسان خادما، وأخرج من بيت المال الطيب والتحف لعيالات المسلمين، وزاد في أعطيات الناس، ولا سيما أهل الشام والوفود، وكان كريما ممدحا شاعرا مجيدا، لا يسأل شيئا قط فيقول لا، ومن شعره قوله يمدح نفسه بالكرم: ضمنت لكم إن لم تعقني عوائق * بأن سماء الضر عنكم ستقلع سيوشك إلحاق معا وزيادة * وأعطية مني إليكم (1) تبرع محرمكم ديوانكم وعطاؤكم * به يكتب الكتاب شهرا وتطبع وفي هذه السنة عقد الوليد البيعة لابنه الحكم ثم عثمان، على أن يكونا وليي العهد من بعده، وبعث البيعة إلى يوسف بن عمر أمير العراق وخراسان، فأرسلها إلى نائب خراسان نصر بن سيار، فخطب بذلك نصر خطبة عظيمة بليغة طويلة، ساقها ابن جرير بكمالها، واستوثق للوليد الممالك في المشارق والمغارب، وأخذت البيعة لولديه من بعده في الآفاق، وكتب الوليد إلى نصر بن سيار بالاستقلال بولاية خراسان، ثم وفد يوسف بن عمر على الوليد فسأله أن يرد إليه ولاية خراسان فردها إليه كما كانت في أيام هشام، وأن يكون نصر بن سيار ونوابه من تحت يده، فكتب عند ذلك يوسف بن عمر إلى نصر بن سيار يستوفده إلى أمير المؤمنين بأهله وعياله، وأن يكثر من استصحاب الهدايا والتحف.
فحمل نصر بن سيار ألف مملوك على الخيل، وألف وصيفة وشيئا كثيرا من أباريق الفضة والذهب، وغير ذلك من التحف، وكتب إليه الوليد يستحثه سريعا ويطلب منه أن يحمل معه طنابير وبرابط ومغنيات وبازات وبراذين فره، وغير ذلك من آلات الطرب والفسق، فكره الناس ذلك منه وكرهوه.
وقال المنجمون لنصر بن سيار: إن الفتنة قريبا ستقع بالشام، فجعل يتثاقل في
__________
(1) في الطبري 8 / 294 وابن الاثير 5 / 268: عليكم.
سيره، فلما أن كان ببعض الطريق جاءته البرد فأخبروه بأن الخليفة الوليد قد قتل وهاجت الفتنة العظيمة في الناس بالشام، فعدل بما معه إلى بعض المدن فأقام بها، وبلغه أن يوسف بن عمر قد هرب من العراق واضطربت الامور، وذلك بسبب قتل الخليفة على ما سنذكره، وبالله المستعان.
وفي هذه السنة ولى الوليد يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي ولاية المدينة ومكة والطائف وأمره أن يقيم إبراهيم ومحمدا ابني هشام بن إسماعيل المخزومي بالمدينة مهانين لكونهما خالي هشام، ثم يبعث بهما إلى يوسف بن عمر نائب العراق فبعثهما إليه.
فما زال يعذبهما حتى ماتا وأخذ منهما أموالا كثيرة.
وفي هذه السنة ولى يوسف بن محمد يحيى بن سعيد الانصاري قضاء المدينة، وفيها بعث الوليد بن يزيد إلى أهل قبرص جيشا مع أخيه وقال: خيرهم فمن شاء أن يتحول إلى الشام، ومن شاء أن يتحول إلى الروم، فكان منهم من اختار جوار المسلمين بالشام، ومنهم من انتقل إلى بلاد الروم.
قال ابن جرير: وفيها قدم سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم ولاهز بن قريظ وقحطبة بن شبيب [ مكة ] (1) فلقوا - في قول بعض أهل السير - محمد بن علي فأخبروه بقصة أبي مسلم فقال: أحر هو أم لا ؟ فقالوا: أما هو فيزعم أنه حر، وأما مولاه فيزعم أنه عبده، فاشتروه فأعتقوه، ودفعوا إلى محمد بن علي مائتي ألف درهم وكسوة بثلاثين ألفا، وقال لهم: لعلكم لا تلقوني بعد عامكم هذا، فإن مت فإن صاحبكم إبراهيم بن محمد - يعني ابنه - فإنه ابني، فأوصيكم به.
ومات محمد بن علي في مستهل ذي القعدة في هذه السنة بعد أبيه بسبع سنين.
وفيها قتل يحيى بن زيد بن علي بخراسان.
وحج بالناس فيها يوسف بن محمد الثقفي أمير مكة والمدينة والطائف.
وأمير العراق يوسف بن عمر، وأمير خراسان نصر بن سيار، وهو في همة الوفود إلى الوليد بن يزيد أمير المؤمنين بما معه من الهدايا والتحف، فقتل الوليد قبل أن يجتمع به.
وممن توفي فيها من الاعيان: محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس أبو عبد الله المدني، وهو أبو السفاح والمنصور، روى عن أبيه وجده وسعيد بن جبير وجماعة، وحدث عنه جماعة منهم ابناه الخليفتان، أبو العباس عبد الله السفاح، وأبو
جعفر عبد الله المنصور، وقد كان عبد الله بن محمد بن الحنفية أوصى إليه بالامر من بعده وكان عنده علم بالاخبار، فبشره بأن الخلافة ستكون في ولدك، فدعا إلى نفسه في سنة سبع وثمانين، ولم يزل أمره يتزايد حتى توفي في هذه السنة، وقيل في التي قبلها، وقيل في التي بعدها، عن ثلاث وستين سنة، وكان من أحسن الناس شكلا، فأوصى بالامر من بعده لولده إبراهيم، فما أبرم الامر إلا لولده السفاح، فاستلب من بني أمية الامر في سنة ثنتين وثلاثين كما سيأتي.
__________
(1) من الطبري 8 / 299 وابن الاثير 5 / 274 سقطت من الاصل.
وأما يحيى بن يزيد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فإنه لما قتل أبوه زيد في سنة إحدى وعشرين ومائة، لم يزل يحيى مختفيا في خراسان عند الحريش بن عمرو بن داود ببلخ، حتى مات هشام، فكتب عند ذلك يوسف بن عمر إلى نصر بن سيار يخبره بأمر يحيى بن زيد، فكتب نصر بن سيار إلى نائب بلخ مع عقيل بن معقل العجلي، فأحضر الحريش فعاقبه ستمائة سوط فلم يدل عليه، وجاء ولد الحريش فدلهم عليه فحبس، فكتب نصر بن سيار إلى يوسف بذلك، فبعث إلى الوليد بن يزيد يخبره بذلك، فكتب الوليد إلى نصر بن سيار يأمره باطلاقه من السجن وإرساله إليه صحبة أصحابه، فأطلقهم وأطلق لهم وجهزهم إلى دمشق، فلما كانوا ببعض الطريق توسم نصر منه غدرا، فبعث إليه جيشا عشرة آلاف فكسرهم يحيى بن زيد، وإنما معه سبعون رجلا، وقتل أميرهم (1) واستلب منهم أموالا كثيرة، ثم جاءه جيش آخر (2) فقتلوه واحتزوا رأسه وقتلوا جميع أصحابه رحمهم الله.
ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة فيها كان مقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك وهذه ترجمته هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، أبو العباس الاموي الدمشقي، بويع له بالخلافة بعد عمه هشام في السنة الخالية بعهد من أبيه كما قدمنا.
وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثقفي.
وكان مولده سنة تسعين، وقيل ثنتين وتسعين، وقيل سبع وثمانين، وقتل يوم
الخميس لليلتين بقيتا في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، ووقعت بسبب ذلك فتنة عظيمة بين الناس بسبب قتله، ومع ذلك إنما قتل لفسقه، وقيل وزندقته.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا أبو المغيرة ثنا ابن عياش، حدثني الاوزاعي وغيره عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب قال: ولد لاخي أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم غلام فسموه الوليد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (سميتموه باسم فراعينكم، ليكونن: في هذه الامة رجل يقال له الوليد، لهو أشد فسادا لهذه الامة من فرعون لقومه " (3).
قال الحافظ ابن عساكر: وقد رواه الوليد بن مسلم ومعقل بن زياد ومحمد بن كثير وبشر بن بكر عن الاوزاعي فلم يذكروا عمر في إسناده وأرسلوه، ولم يذكر ابن كثير سعيد بن المسيب، ثم ساق طرقه هذه كلها بأسانيدها وألفاظها.
وحكي عن البيهقي أنه قال: هو مرسل حسن، ثم ساق من طريق محمد عن محمد بن عمر بن عطاء، عن زينب بنت أم سلمة عن أمها
__________
(1) وهو عمرو بن زرارة وكان ذلك في بيهق (انظر الطبري 8 / 301 وابن الاثير 5 / 271).
(2) وذلك بالجوزجان وقاتله سالم بن أحوز (مروج الذهب 3 / 258 الطبري 8 / 301 ابن الاثير 5 / 271).
(3) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 505.
قالت: " دخل النبي صلى الله عليه وسلم وعندي غلام من آل المغيرة اسمه الوليد، فقال: من هذا يا أم سلمة ؟ قالت: هذا الوليد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد اتخذتم الوليد خنانا (حسانا) غيروا اسمه، فإنه سيكون في هذه الامة فرعون يقال له الوليد ".
وروى ابن عساكر من حديث عبد الله بن محمد بن مسلم، ثنا محمد بن غالب الانطاكي، ثنا محمد بن سليمان بن أبي داود، ثنا صدقة، عن هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني، عن أبي عبيدة بن الجراح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزال هذا الامر قائما بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية " (1).
مقتله وزوال دولته كان هذا الرجل مجاهرا بالفواحش مصرا عليها، منتهكا محارم الله عز وجل، لا يتحاشى من معصية.
وربما اتهمه بعضهم بالزندقة والانحلال من الدين، فالله أعلم، لكن الذي يظهر أنه كان
عاصيا شاعرا ماجنا متعاطيا للمعاصي، لا يتحاشاها من أحد، ولا يستحي من أحد، قبل أن يلي الخلافة وبعد أن ولي، وقد روي أن أخاه سليمان كان من جملة من سعى في قتله، قال: أشهد أنه كان شروبا للخمر ما جنا فاسقا، ولقد أرادني على نفسي الفاسق.
وحكى المعافى بن زكريا عن ابن دريد، عن أبي حاتم، عن العتبي: أن الوليد بن يزيد نظر إلى نصرانية من حسان نساء النصارى اسمها سفري فأحبها، فبعث يراودها عن نفسها فأبت عليه، فألح عليها وعشقها فلم تطاوعه، فاتفق اجتماع النصارى في بعض كنائسهم لعيد لهم، فذهب الوليد إلى بستان هناك فتنكر وأظهر أنه مصاب، فخرج النساء من الكنيسة إلى ذلك البستان، فرأينه فأحدقن به، فجعل يكلم سفري ويحادثها وتضاحكه ولا تعرفه، حتى اشتفى من النظر إليها، فلما انصرفت قيل لها: ويحك أتدرين من هذا الرجل ؟ فقالت: لا ! فقيل لها هو الوليد.
فلما تحققت ذلك حنت عليه بعد ذلك وكانت عليه أحرص منه عليها قبل أن تحن عليه.
فقال الوليد في ذلك أبياتا: أضحك (2) فؤادك يا وليد عميدا * صبا قديما للحسان صيودا في حب واضحة العوارض طفلة * برزت لنا نحو الكنيسة عيدا ما زلت أرمقها بعيني وامق * حتى بصرت بها تقبل عودا عود الصليب فويح نفسي من رأى * منكم صليبا مثله معبودا فسألت ربي أن أكون مكانه * وأكون في لهب الجحيم وقودا وقال فيها أيضا لما ظهر أمره وعلم بحاله الناس، وقيل إن هذا وقع قبل أن يلي الخلافة: ألا حبذا سفري وإن قيل إنني * كلفت بنصرانية تشرب الخمرا
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 467.
(2) في حاشية امالي المرتضى 1 / 131: أضحى.
يهون علينا أن نظل نهارنا * إلى الليل لا ظهرا نصلي ولا عصرا (1) قال القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري المعروف بابن طرار النهرواني بعد إيراده هذه
الاشياء: للوليد في نحو هذا من الخلاعة والمجون وسخافة الدين ما يطول ذكره، وقد ناقضناه في أشياء من منظوم شعره المتضمن ركيك ضلاله وكفره.
وروى ابن عساكر بسنده أن الوليد سمع بخمار صلف بالحيرة فقصده حتى شرب منه ثلاثة أرطال من الخمر، وهو راكب على فرسه، ومعه اثنان من أصحابه، فلما انصرف أمر للخمار بخمسمائة دينار.
وقال القاضي أبو الفرج: أخبار الوليد كثيرة قد جمعها الاخباريون مجموعة ومفردة، وقد جمعت شيئا من سيرته وأخباره، ومن شعره الذي ضمنه ما فجر به من جرأته وسفاهته وحمقه وهزله ومجونه وسخافة دينه، وما صرح به من الالحاد في القرآن العزيز، والكفر بمن أنزله وأنزل عليه، وقد عارضت شعره السخيف بشعر حصيف، وباطله بحق نبيه شريف، وترجيت رضاء الله عزوجل واستيجاب مغفرته.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا سليمان بن أبي شيخ، ثنا صالح بن سليمان، قال: أراد الوليد بن يزيد الحج وقال: أشرب فوق ظهر الكعبة الخمر، فهموا أن يفتكوا به إذا خرج، فجاؤوا إلى خالد بن عبد الله القسري فسألوه أن يكون معهم فأبى، فقالوا له: فاكتم علينا، فقال: أما هذا فنعم، فجاء إلى الوليد فقال: لا تخرج فإني أخاف عليك، فقال: ومن هؤلاء الذين تخافهم علي ؟ قال: لا أخبرك بهم.
قال: إن لم تخبرني بهم بعثت بك إلى يوسف بن عمر، قال: وإن بعثت بي إلى يوسف بن عمر، فبعثه إلى يوسف فعاقبه حتى قتله.
وذكر ابن جرير أنه لما امتنع أن يعلمه بهم سجنه ثم سلمه إلى يوسف بن عمر يستخلص منه أموال العراق فقتله، وقد قيل إن يوسف لما وفد إلى الوليد اشترى منه خالد بن عبد الله القسري بخمسين ألف ألف يخلصها منه، فما زال يعاقبه ويستخلص منه حتى قتله، فغضب أهل اليمن من قتله، وخرجوا على الوليد.
قال الزبير بن بكار: حدثنا مصعب بن عبد الله قال: سمعت أبي يقول: كنت عند المهدي فذكر الوليد بن يزيد فقال رجل في المجلس: كان زنديقا، فقال المهدي: خلافة الله عنده أجل من أن يجعلها في زنديق.
وقال أحمد بن عمير بن حوصاء الدمشقي: ثنا عبد الرحمن بن الحسن، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا حصين بن الوليد، عن الازهري بن الوليد قال: سمعت أم الدرداء تقول: إذا قتل الخليفة الشاب من بني أمية بين الشام والعراق مظلوما لم يزل طاعة مستخف بها ودم مسفوك على وجه الارض
بغير حق.
قال الامام أبو جعفر بن جرير الطبري:
__________
(1) في امالي المرتضى: يهون علي أن تظل نهارها * إلى الليل لا أولى نصلي ولا عصرا
قتل يزيد بن الوليد الناقص للوليد بن يزيد قد ذكرنا بعض أمر الوليد بن يزيد وخلاعته ومجانته وفسقه وما ذكر عن تهاونه بالصلوات واستخفافه بأمر دينه قبل خلافته وبعدها.
فإنه لم يزدد في الخلافة إلا شرا ولهوا ولذة وركوبا للصيد وشرب المسكر ومنادمة الفساق، فما زادته الخلافة على ما كان قبلها إلا تماديا وغرورا، فثقل ذلك على الامراء والرعية والجند، وكرهوه كراهة شديدة، وكان من أعظم ما جنى على نفسه حتى أورثه ذلك هلاكه، إفساده على نفسه بني عميه هشام والوليد بن عبد الملك مع إفساده اليمانية، وهي أعظم جند خراسان (1)، وذلك أنه لما قتل خالد بن عبد الله القسري وسلمه إلى غريمه يوسف بن عمر الذي هو نائب العراق إذ ذاك، فلم يزل يعاقبه حتى هلك، انقلبوا عليه وتنكروا له وساءهم قتله كما سنذكره في ترجمته.
ثم روى ابن جرير بسنده أن الوليد بن يزيد ضرب ابن عمه سليمان بن هشام مائة سوط وحلق رأسه ولحيته وغربه إلى عمان فحبسه بها، فلم يزل هناك حتى قتل الوليد، وأخذ جارية كانت لآل عمه الوليد بن عبد الملك، فكلمه فيها عمر بن الوليد فقال: لا أردها، فقال: إذا تكثر الصواهل حول عسكرك.
وحبس الافقم يزيد بن هشام، وبايع لولديه الحكم وعثمان، وكانا دون البلوغ، فشق ذلك على الناس أيضا ونصحوه فلم ينتصح، ونهوه فلم يرتدع ولم يقبل.
قال المدائني في روايته: ثقل ذلك على الناس ورماه بنو هاشم وبنو الوليد بالكفر والزندقة وغشيان أمهات أولاد أبيه، وباللواط وغيره، وقالوا: قد اتخذ مائة جامعة على كل جامعة اسم رجل من بني هاشم ليقتله بها، ورموه بالزندقة، وكان أشدهم فيه قولا يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وكان الناس إلى قوله أميل، لانه أظهر النسك والتواضع، ويقول ما يسعنا الرضا بالوليد حتى حمل الناس على الفتك به، قالوا: وانتدب للقيام عليه جماعة من قضاعة واليمانية وخلق من أعيان الامراء وآل
الوليد بن عبد الملك، وكان القائم بأعباء ذلك كله والداعي إليه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وهو من سادات بني أمية، وكان ينسب إلى الصلاح والدين والورع، فبايعه الناس على ذلك، وقد نهاه أخوه العباس بن الوليد فلم يقبل، فقال: والله لو لا أني أخاف عليك لقيدتك وأرسلتك إليه، واتفق خروج الناس من دمشق من وباء وقع بها، فكان ممن خرج الوليد بن يزيد أمير المؤمنين في طائفة من أصحابه نحو المائتين، إلى ناحية مشارف دمشق (2)، فانتظم إلى يزيد بن الوليد أمره وجعل أخوه العباس ينهاه عن ذلك أشد النهي، فلا يقبل، فقال العباس في ذلك: إني أعيذكم بالله من فتن * مثل الجبال تسامى ثم تندفع إن البرية قد ملت سياستكم * فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا
__________
(1) في الطبري 9 / 3: أهل الشام.
(2) في ابن الاثير 5 / 286: نزل بالاغدف من عمان
لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم * إن الذباب (1) إذا ما ألحمت رتعوا لا تبقرن بأيديكم بطونكم * فثم لا حسرة تغني ولا جزع فلما استوثق ليزيد بن الوليد أمره، وبايعه من بايعه من الناس، قصد دمشق فدخلها في غيبة الوليد فبايعه أكثر أهلها في الليل، وبلغه أن أهل المزة قد بايعوا كبيرهم معاوية بن مصاد، فمضى إليه يزيد ماشيا في نفر من أصحابه، فأصابهم في الطريق خطر شديد، فأتوه فطرقوا بابه ليلا ثم دخلوا فكلمه يزيد في ذلك فبايعه معاوية بن مصاد، ثم رجع يزيد من ليلته إلى دمشق على طريق القناة وهو على حمار أسود، فحلف أصحابه أنه لا يدخل دمشق إلا في السلاح، فلبس سلاحا من تحت ثيابه فدخلها، وكان الوليد قد استناب على دمشق في غيبته عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف الثقفي، وعلى شرطتها أبو العاج كثير بن عبد الله السلمي، فلما كان ليلة الجمعة اجتمع أصحاب يزيد بين العشائين عند باب الفراديس، فلما أذن العشاء الآخرة دخلوا المسجد، فلما لم يبق في المسجد غيرهم بعثوا إلى يزيد بن الوليد فجاءهم فقصدوا باب المقصورة ففتح لهم خادم، فدخلوا فوجدوا أبا
العاج وهو سكران، فأخذوا خزائن بيت المال وتسلموا الحواصل، وتقووا بالاسلحة، وأمر يزيد بإغلاق أبواب البلد، وأن لا يفتح إلا لمن يعرف، فلما أصبح الناس قدم أهل الحواضر من كل جانب فدخلوا من سائر أبواب البلد، كل أهل محلة من الباب الذي يليهم، فكثرت الجيوش حول يزيد بن الوليد بن عبد الملك في نصرته، وكلهم قد بايعه بالخلافة.
وقد قال فيه بعض العشراء في ذلك: فجاءتهم أنصارهم حين أصبحوا * سكاسكها أهل البيوت الصنادد وكلب فجاءوهم بخيل وعدة * من البيض والابدان ثم السواعد فأكرم بها أحياء أنصار سنة * هم منعوا حرماتها كل جاحد وجاءتهم شيبان والازد شرعا * وعبس ولخم بين حام وذائد وغسان والحيان قيس وتغلب * وأحجم عنها كل وإن وزاهد فما أصبحوا إلا وهم أهل ملكها * قد استوثقوا من كل عات ومارد وبعث يزيد بن الوليد عبد الرحمن بن مصاد في مائتي فارس إلى قطنا (2) ليأتوه بعبد الملك بن محمد بن الحجاج نائب دمشق وله الامان، وكان قد تحصن هناك، فدخلوا عليه فوجدوا عنده خرجين في كل واحد منهما ثلاثون ألف دينار، فلما مروا بالمزة قال أصحاب ابن مصاد: خذ هذا المال فهو خير من يزيد بن الوليد، فقال: لا والله لا تحدث العرب أني أول من خان، ثم أتوا به يزيد بن الوليد فاستخدم من ذلك المال جندا للقتال قريبا من ألفي فارس، وبعث به مع أخيه عبد العزيز بن
__________
(1) في الطبري 9 / 8 وابن الاثير 5 / 284: دئاب...إن الذئاب.
(2) في الطبري 9 / 10: قطن، وفي ابن الاثير 5 / 285: ليأخذوه من قصره.
الوليد بن عبد الملك خلف الوليد بن يزيد ليأتوا به، وركب بعض موالي الوليد فرسا سابقا فساق به حتى انتهى إلا مولاه من الليل، وقد نفق الفرس من السوق، فأخبره الخبر فلم يصدقه وأمر بضربه، ثم تواترت عليه الاخبار فأشار عليه بعض أصحابه أن يتحول من منزله إلى حمص فإنها حصينة.
وقال الابرش سعيد بن الوليد الكلبي: أنزل على قومي بتدمر، فأبى أن يقبل شيئا من ذلك، بل ركب بمن
معه، وهو في مائتي فارس، وقصد أصحاب يزيد فالتقوا بثقلة في أثناء الطريق فأخذوه، وجاء الوليد فنزل حصن البخراء الذي كان للنعمان بن بشير، وجاءه رسول العباس بن الوليد إني آتيك - وكان من أنصاره - فأمر الوليد بإبراز سريره فجلس عليه وقال: أعلي يتوثب الرجال وأنا أثب على الاسد وأتخصر للافاعي ؟ وقدم عبد العزيز بن الوليد بمن معه، وإنما كان قد خلص معه من الالفي فارس ثمانمائة فارس، فتصافوا فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل من أصحاب العباس جماعة حملت رؤوسهم إلى الوليد، وقد كان جاء العباس بن الوليد لنصرة الوليد بن يزيد، فبعث إليه أخوه عبد العزيز فجئ به قهرا حتى بايع لاخيه يزيد بن الوليد، واجتمعوا على حرب الوليد بن يزيد، فلما رأى الناس اجتماعهم فروا من الوليد إليهم، وبقي الوليد في دل وقل من الناس، فلجأ إلى الحصن فجاؤوا إليه وأحاطوا به من كل جانب يحاصرونه، فدنا الوليد من باب الحصن فنادى ليكلمني رجل شريف، فكلمه يزيد بن عنبسة السكسكي، فقال الوليد: ألم أدفع الموت (1) عنكم ؟ ألم أعط فقراءكم ؟ ألم أخدم نساءكم (2) ؟ فقال يزيد (3): إنما ننقم عليك انتهاك المحارم وشرب الخمور ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله عزوجل.
فقال، حسبك يا أخا السكاسك، لقد أكثرت وأغرقت، وإن فيما أحل الله لي لسعة عما ذكرته.
ثم قال: أما والله لئن قتلتموني لا ترتقن فتنتكم ولا يلم شعثكم ولا تجتمع كلمتكم.
ورجع إلى القصر فجلس ووضع بين يديه مصحفا فنشره وأقبل يقرأ فيه وقال: يوم كيوم عثمان، واستسلم، وتسور عليه أولئك الحائط، فكان أول من نزل إليه يزيد بن عنبسة، فتقدم إليه وإلى جانبه سيف فقال: نحه عنك، فقال الوليد: لو أردت القتال به لكان غير هذا، فأخذ بيده وهو يريد أن يحبسه حتى يبعث به إلى يزيد بن الوليد، فبادره عليه عشرة من الامراء فأقبلوا على الوليد يضربونه على رأسه ووجهه بالسيوف حتى قتلوه (4)، ثم جروه برجله ليخرجوه، فصاحت النسوة فتركوه، واحتز أبو علاقة القضاعي رأسه، واحتاطوا على ما كان معه مما كان خرج به في وجهه ذلك، وبعثوا به إلى يزيد مع عشرة نفر، منهم منصور بن جمهور وروح بن مقبل وبشر مولى كنانة من بني كلب، وعبد الرحمن
__________
(1) في الطبري 9 / 15 وابن الاثير 5 / 287: المؤن.
(2) في الطبري وابن الاثير: زمناكم.
(3) في الامامة والسياسة 2 / 135: عبد السلام.
وذكر كلاما له علاقة بمقتل خالد بن عبد الله القسري.
(4) في ابن الاثير 5 / 288: ضربه عبد السلام اللخمي على رأسه وضربه السندي بن زياد بن أبي كبشة في وجهه.
ثم احتز رأسه عبد السلام (انظر الطبري).
الملقب بوجه الفلس، فلما انتهوا إليه بشروه بقتل الوليد وسلموا عليه بالخلافة، فأطلق لكل رجل من العشرة عشرة آلاف، فقال له روح بن بشر بن مقبل: أبشر يا أمير المؤمنين بقتل الوليد الفاسق، فسجد شكرا لله ورجعت الجيوش إلى يزيد، فكان أول من أخذ يده للمبايعة يزيد بن عنبسة السكسكي فانتزع يده من يده وقال: اللهم إن كان هذا رضى لك فأعني عليه، وكان قد جعل لمن جاءه برأس الوليد مائة ألف درهم، فلما جئ به - وكان ذلك ليلة الجمعة وقيل يوم الاربعاء - لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة.
فأمر يزيد بنصب رأسه على رمح وأن يطاف به في البلد، فقيل له إنما ينصب رأس الخارجي، فقال: والله لانصبنه، فشهره في البلد على رمح ثم أودعه عند رجل شهرا ثم بعث به إلى أخيه سليمان بن يزيد، فقال أخوه بعدا له: أشهد أنك كنت شروبا للخمر ماجنا فاسقا ولقد أرادني على نفسي هذا الفاسق وأنا أخوه، لم يأنف من ذلك.
وقد قيل إن رأسه لم يزل معلقا بحائط جامع دمشق الشرقي مما يلي الصحن حتى انقضت دولة بني أمية، وقيل إنما كان ذلك أثر دمه، وكان عمره يوم قتل ستا وثلاثين سنة، وقيل ثمانيا وثلاثين، وقيل إحدى وثلاثين، وقيل ثنتان وقيل خمس، وقيل ست وأربعون سنة.
ومدة ولايته سنة وستة أشهر على الاشهر، وقيل ثلاثة أشهر.
قال ابن جرير: كان شديد البطش طويل أصابع الرجلين، كانت تضرب له سكة الحديد في الارض ويربط فيها خيط إلى رجله ثم يثب على الفرس فيركبها ولا يمس الفرس، فتنقلع تلك السكة من الارض مع وثبته.
خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان وهو الملقب بالناقص لنقصه الناس من أعطياتهم ما كان زاده الوليد بن يزيد في أعطياتهم، وهي عشرة عشرة، ورده إياهم إلى ما كانوا عليه في زمن هشام (1)، ويقال إن أول من لقبه بذلك مروان بن
محمد، بويع له بالخلافة بعد مقتل الوليد بن يزيد، وذلك ليلة الجمعة لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة من هذه السنة - حتى سنة ست وعشرين ومائة - وكان فيه صلاح وورع قبل ذلك، فأول ما عمل انتقاصه من أرزاق الجند ما كان الوليد زادهم، وذلك في كل سنة عشرة عشرة، فسمي الناقص لذلك، ويقال في المثل الاشج والناقص أعدلا خلفاء بني مروان - يعني عمر بن عبد العزيز وهذا - ولكن لم تطل أيامه، فإنه توفي من آخر هذه السنة، واضطربت عليه الامور، وانتشرت الفتن واختلفت كلمة بني مروان فنهض سليمان بن هشام، وكان معتقلا في سجن الوليد بعمان فاستحوز على أموالها وحواصلها، وأقبل إلى دمشق فجعل يلعن الوليد ويعيبه ويرميه بالكفر، فأكرمه يزيد ورد عليه أمواله التي كان أخذها من الوليد، وتزوج يزيد أخت سليمان، وهي أم هشام بنت هشام، ونهض أهل
__________
(1) في فوات الوفيات 4 / 333: قال المدائني: ناقص الوركين، ولذلك قيل له الناقص.
حمص إلى دار العباس بن الوليد التي عندهم فهدموها، وحبسوا أهله وبنيه، وهرب هو من حمص فلحق بيزيد بن الوليد إلى دمشق، وأظهر أهل حمص الاخذ بدم الوليد بن يزيد، وأغلقوا أبواب البلد، وأقاموا النوائح والبواكي على الوليد، وكاتبوا الاجناد في طلب الاخذ بالثأر، فأجابهم إلى ذلك طائفة كبيرة منهم، على أن يكون الحكم بن الوليد بن يزيد الذي أخذ له العهد هو الخليفة، وخلعوا نائبهم، وهو مروان بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان، ثم قتلوه وقتلوا ابنه وأمروا عليهم معاوية بن يزيد بن حصين، فلما انتهى خبرهم إلى يزيد بن الوليد كتب إليهم كتابا مع يعقوب بن هانئ، ومضمون الكتاب أنه يدعو إلى أن يكون الامر شورى، فقال عمرو بن قيس: فإذا كان الامر كذلك فقد رضينا بولي عهدنا الحكم بن الوليد، فأخذ يعقوب بلحيته وقال: ويحك ! لو كان هذا الذي تدعو إليه يتيما تحت حجرك لم يحل لك أن تدفع إليه ماله، فكيف أمر الامة، فوثب أهل حمص على رسل يزيد بن الوليد فطردوهم عنهم وأخرجوهم من بين أظهرهم.
وقال لهم أبو محمد السفياني: لو قدمت دمشق لم يختلف علي منهم اثنان، فركبوا معه وساروا نحو دمشق وقد أمروا عليهم السفياني، فتلقاهم سليمان بن هشام في جيش كثيف قد جهزهم معه يزيد، وجهز أيضا عبد العزيز بن الوليد (1) في ثلاثة
آلاف يكونون عند ثنية العقاب، وجهز هشام بن مصاد المزي في ألف وخمسمائة ليكونوا على عقبة السلمية (2)، فخرج أهل حمص فساروا وتركوا جيش سليمان بن هشام ذات اليسار وتعدوه، فلما سمع بهم سليمان ساق في طلبهم فلحقهم عند السليمانية فجعلوا الزيتون عن أيمانهم والجبل عن شمائلهم والجباب (3) من خلفهم، ولم يبق تخلص إليهم إلا من جهة واحدة، فاقتتلوا هنالك في قبالة الحر قتالا شديدا، فقتل طائفة كثيرة من الفريقين، فبينما هم كذلك إذ جاء عبد العزيز بن الوليد بمن معه فحمل على أهل حمص فاخترق جيشهم حتى ركب التل الذي في وسطهم، وكانت الهزيمة، فهرب أهل حمص وتفرقوا، فأتبعهم الناس يقتلون ويأسرون، ثم تنادوا بالكف عنهم على أن يبايعوا ليزيد بن الوليد، وأسروا منهم جماعة، منهم أبو محمد السفياني ويزيد بن خالد [ بن يزيد ] (4) بن معاوية، ثم ارتحل سليمان وعبد العزيز فنزلا عذراء ومعهم الجيوش وأشراف الناس، وأشراف أهل حمص من الاسارى ومن استجاب من غير أسر، بعدما قتل منهم ثلاثمائة نفس، فدخلوا بهم على يزيد بن الوليد، فأقبل عليهم وأحسن إليهم وصفح عنهم، وأطلق الاعطيات لهم، لا سيما لاشرافهم، وولى عليهم الذي اختاروه وهو معاوية بن يزيد بن الحصين، وطابت عليه أنفسهم، وأقاموا عنده في دمشق سامعين مطيعين له.
__________
(1) في الطبري 9 / 24 وابن الاثير 5 / 293: ابن الحجاج.
(2) في الطبري: حقبة السلامية (انظر ابن الاثير).
(3) من الطبري، وفي الاصل: والحيات وهو تحريف.
(4) من الطبري 9 / 25 وابن الاثير 5 / 294، وقد سقطت من الاصول.
وفيها بايع أهل فلسطين يزيد بن سليمان بن عبد الملك، وذلك أن بني سليمان كانت لهم أملاك هناك، وكانوا يتركونها يبذلونها لهم، وكان أهل فلسطين يحبون مجاورتهم، فلما قتل الوليد بن يزيد كتب سعيد بن روح بن زنباع - وكان رئيس تلك الناحية - إلى يزيد بن سليمان بن عبد الملك يدعوهم إلى المبايعة له، فأجابوه إلى ذلك.
فلما بلغ أهل الاردن خبرهم بايعوا أيضا محمد بن عبد
الملك بن مروان، وأمروه عليهم، فلما انتهى خبرهم إلى يزيد بن الوليد أمير المؤمنين بعث إليهم الجيوش مع سليمان بن هشام في الدماشقة وأهل حمص الذين كانوا مع السفياني، فصالحهم أهل الاردن أولا ورجعوا إلى الطاعة، وكذلك أهل فلسطين.
وكتب يزيد بن الوليد ولاية الامرة بالرملة وتلك النواحي إلى أخيه إبراهيم بن الوليد (1)، واستقرت الممالك هنالك، وقد خطب أمير المؤمنين يزيد بن الوليد الناس بدمشق فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد أيها الناس، أما والله ما خرجت أشرا ولا بطرا ولا حرصا على الدنيا، ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء نفسي إني لظلوم لنفسي، إن لم يرحمني ربي فإني هالك، ولكني خرجت غضبا لله ولرسوله ولدينه، وداعيا إلى الله وكتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، لما هدمت معالم الدين، وأطفئ نور أهل التقوى، وظهر الجبار العنيد المستحل لكل حرمة، والراكب كل بدعة (2)، مع أنه والله ما كان مصدقا بالكتاب، ولا مؤمنا بيوم الحساب، وإنه لابن عمي في النسب، وكفوي في الحسب، فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره، وسألته أن لا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل ولايتي، وسعيت فيه حتى أراح الله منه العباد والبلاد، بحول الله وقوته لا بحولي ولا بقوتي.
أيها الناس ! إن لكم علي أن لا أضع حجرا على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكرى نهرا ولا أكثر مالا ولا أعطيه زوجة، ولا ولدا.
ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد حتى أسد ثغر ذلك البلد، وخصاصة أهله بما يغنيهم، فإن فضل عن ذلك فضل نقلته إلى البلد الذي يليه ممن هو أحوج إليه، ولا أجمركم في ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهليكم، ولا أغلق بابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم ويقطع سبلهم (3)، وإن لكم عندي أعطياتكم في كل سنة، وأرزاقكم في كل شهر، حتى تستدر المعيشة بين المسلمين، فيكون أقصاهم كأدناهم، فإن أنا وفيت لكم بما قلت فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن أنا لم أوف لكم أن تخلعوني وإلا أن تستتيبوني، فإن تبت قبلتم مني، وإن
__________
(1) في الطبري 90 / 26 وابن الاثير 5 / 295: استعمل ضبعان بن روح على فلسطين، وابراهيم بن الوليد على الاردن.
(2) بعدها في العقد الفريد 2 / 144: فلما رأيت ذلك اشفقت إذ غشيتكم ظلمة لا تقلع على كثير من ذنوبكم وقسوة من
قلوبكم واشفقت ان يدعو كثيرا من الناس إلى ما هو عليه فيجيبه من أجابه منكم فاستخرت الله...(الفخري ص 136).
(3) في الطبري 9 / 27: نسلكم.
علمتم أحدا من أهل الصلاح والدين يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيكم فأردتم أن تبايعوه فأنا أول من يبايعه ويدخل في طاعته.
أيها الناس ! إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (1)، إنما الطاعة طاعة الله فمن أطاع الله فأطيعوه ما أطاع الله، فإذا عصى أو دعا إلى معصية فهو أهل أن يعصى ولا يطاع، بل يقتل ويهان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وفي هذه السنة عزل يزيد بن الوليد يوسف بن عمر عن إمرة العراق لما ظهر منه من الحنق على اليمانية، وهم قوم خالد بن عبد الله القسري، حتى قتل الوليد بن يزيد، وكان قد سجن غالب من ببلاده منهم، وجعل الارصاد على الثغور خوفا من جند الخليفة، فعزله عنها أمير المؤمنين يزيد بن الوليد، وولى عليها منصور بن جمهور مع بلاد السند وسجستان وخراسان، وقد كان منصور بن جمهور أعرابيا جلفا، وكان يدين بمذهب الغيلانية القدرية، ولكن كانت له آثار حسنة، وعناء كثير في مقتل الوليد بن يزيد، فحظي بذلك عند يزيد بن الوليد، ويقال إنه لما فرغ الناس من الوليد ذهب من فوره إلى العراق فأخذ البيعة من أهلها.
إلى يزيد، وقرر بالاقاليم نوابا وعمالا وكر راجعا إلى دمشق في آخر رمضان، فلذلك ولاه الخليفة ما ولاه والله أعلم.
وأما يوسف بن عمر فإنه فر من العراق فلحق ببلاد البلقاء، فبعث إليه أمير المؤمنين يزيد فأحضره إليه، فلما وقف بين يديه أخذ بلحيته - وكان كبير اللحية جدا، ربما كانت تجاوز سرته وكان قصير القامة - فوبخه وأنبه ثم سجنه وأمر باستخلاص الحقوق منه.
ولما انتهى منصور بن جمهور إلى العراق قرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين إليهم في كيفية مقتل الوليد، وأن الله أخذه أخذ عزيز مقتدر، وأنه قد ولى عليهم منصور بن جمهور لما يعلم من شجاعته ومعرفته بالحرب، فبايع أهل العراق ليزيد بن الوليد، وكذلك أهل السند وسجستان.
وأما نصر بن سيار نائب خراسان فإنه امتنع من السمع والطاعة لمنصور بن جمهور، وأبى أن ينقاد لاوامره، وقد كان نصر هذا جهز هدايا كبيرة للوليد بن يزيد فاستمرت له.
وفي هذه السنة كتب مروان الملقب بالحمار كتابا إلى عمر بن يزيد أخي الوليد بن يزيد، يحثه على القيام بطلب دم أخيه الوليد، وكان مروان يومئذ أميرا على أذربيجان وأرمينية، ثم إن يزيد بن الوليد عزل منصور بن جمهور عن ولاية العراق وولى عليها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وقال له: إن أهل العراق يحبون أباك فقد وليتكها، وذلك في شوال، وكتب له إلى أمراء الشام الذين بالعراق يوصيهم به خشية أن يمتنع منصور بن جمهور من تسليم البلاد إليه، فسلم إليه وسمع وأطاع وسلم.
وكتب الخليفة إلى نصر بن سيار باستمراره بولاية خراسان مستقلا بها، فخرج عليه رجل يقال له الكرماني، لانه ولد بكرمان، وهو أبو علي جديع بن علي بن شبيب المعني، واتبعه خلق كثير بحيث أنه كان يشهد الجمعة في نحو من
__________
(1) زيد في الطبري: ولا وفاء له بنقض عهد.
ألف وخمسمائة، وكان يسلم على نصر بن سيار ولا يجلس عنده، فتحير نصر بن سيار وأمراؤه فيما يصنع به، فاتفق رأيهم بعد جهد على سجنه، فسجن قريبا من شهر، ثم أطلقه فاجتمع إليه ناس كثير، وجم غفير، وركبوا معه، فبعث إليهم نصر من قاتلهم فقتلهم وقهرهم وكسرهم واستخف جماعات من أهل خراسان بنصر بن سيار وتلاشوا أمره وحرمته، وألحوا عليه في أعطياتهم وأسمعوه غليظ ما يكره وهو على المنبر، بسفارة سلم بن أحوز أدى إليه ذلك، وخرجت الباعة من المسجد الجامع وهو يخطب، وانفض كثير من الناس عنه، فقال لهم نصر فيما قال: والله لقد نشرتكم وطويتكم وطويتكم ونشرتكم فما عندي عشرة منكم على دين، فاتقوا الله فوالله لئن اختلف فيكم سيفان ليتمنين الرجل منكم أن ينخلع من أهله وماله وولده، ولم يكن رآها، ثم تمثل بقول النابغة: فإن يغلب شقاؤكم عليكم * فإني في صلاحكم سعيت وقال الحارث بن عبد الله بن الحشرج بن الورد بن المغيرة الجعد: - أبيت أرعى النجوم مرتفقا * إذا استقلت نحوي (1) أوائلها
من فتنة أصبحت مجللة * قد عم أهل الصلاة شاملها من بخراسان والعراق ومن * بالشام كل شجاه شاغلها يمشي السفيه الذي يعنف بال * جهل سواء فيها وعاقلها فالناس منها في لون مظلمة * دهماء ملتجة غياطلها والناس في كربة يكاد لها * تنبذ أولادها حواملها يغدون منها في كل مبهمة * عمياء تمنى لهم غوائلها لا ينظر الناس من (2) عواقبها * إلا التي لا يبين قائلها كرغوة البكر أو كصيحة حب * لى طرقت حولها قوابلها فجاء فينا تزرى (3) بوجهته * فيها خطوب حمر زلازلها وفي هذه السنة أخذ الخليفة البيعة من الامراء وغيرهم بولاية العهد من بعده لاخيه إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، ثم من بعد إبراهيم لعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بن مروان، وذلك بسبب مرضه الذي مات فيه.
وكان ذلك في شهر [ ذي ] الحجة منها، وقد حرضه على ذلك جماعة من الامراء والاكابر والوزراء.
وفيها عزل يزيد عن إمرة الحجاز يوسف بن محمد الثقفي وولى عليها عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، فقدمها في أواخر ذي القعدة منها، وفيها أظهر مروان الحمار الخلاف
__________
(1) في الطبري: 9 / 38: تجري.
(2) في الطبري: في.
(3) في الطبري: أزرى.
ليزيد بن الوليد، وخرج من بلاد أرمينية يظهر أنه يطلب بدم الوليد بن يزيد، فلما وصل إلى حران أظهر الموافقة وبايع لامير المؤمنين يزيد بن الوليد.
وفيها أرسل إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أبا هاشم بكير بن ماهان إلى أرض خراسان، فاجتمع بجماعة من أهل خراسان بمرو، فقرأ عليهم كتاب إبراهيم بن محمد الامام إليه وإليهم، ووصيته، فتلقوا ذلك بالقبول، وأرسلوا معه ما
كان عندهم من النفقات.
وفي سلخ ذي القعدة، وقيل في سلخ ذي الحجة، وقيل لعشر مضين منه، وقيل بعد الاضحى منها كان وفاة أمير المؤمنين.
يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان هو يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي.
أبو خالد الاموي، أمير المؤمنين، بويع له بالخلافة أول ما بويع بها في قرية المزة، من قرى دمشق، ثم دخل دمشق فغلب عليها، ثم أرسل الجيوش إلى ابن عمه الوليد بن يزيد فقتله، واستحوذ على الخلافة في أواخر جمادى الآخرة من هذه السنة، وكان يلقب بالناقص لنقصه الناس العشرات التي زادهم إياها الوليد بن يزيد، وقيل إنما سماه بذلك مروان الحمار، وكان يقول: الناقص ابن اليد، وأمه شاهفرند بنت فيروز بن يزدجرد بن كسرى، كسروية.
وقال ابن جرير: وأمه شاه آفزيد (1) بنت فيروز بن يزدجرد بن شهريار بن كسرى، وهو القائل: أنا ابن كسرى وأبي مروان * وقيصر جدي وجدي خاقان وإنما قال ذلك لان جده فيروز، وأم أمه بنت قيصر، وأمه شيرويه وهي بنت خاقان ملك الترك، وكانت قد سباها قتيبة بن مسلم، هي وأخت لها فبعثهما إلى الحجاج، فأرسل بهذه إلى الوليد واستبقى عنده الاخرى، فولدت هذه الوليد بن يزيد الناقص هذا، وهذه أخذها الحجاج فكانت عنده بالعراق، وكان مولده في سنة تسعين، وقيل في سنة ست وتسعين، وقد روى عنه الاوزاعي مسألة السلم.
وقد ذكرنا كيفية ولايته فيما سلف في هذه السنة، وأنه كان عادلا دينا محبا للخير مبغضا للشر.
قاصدا للحق.
وقد خرج يوم عيد الفطر من هذه السنة إلى صلاة العيد بين صفين من الخيالة والسيوف مسللة عن يمينه وشماله، ورجع من المصلى إلى الخضراء كذلك، كان رجلا صالحا، يقال في المثل الاشج والناقص أعدلا بني مروان، والمراد عمر بن عبد العزيز وهذا.
وقد قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم بن محمد المروزي، عن أبي عثمان الليثي قال: قال يزيد بن الوليد الناقص:
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 273: سارية.
يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل المسكر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فإنه داعية الزنا.
وقال ابن عبد الحكيم عن الشافعي: لما ولي يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان الذي يقال له الناقص دعا الناس إلى القدر وحملهم عليه وقرب غيلان.
قاله ابن عساكر.
قال: ولعله قرب أصحاب غيلان، لان غيلان قتله هشام بن عبد الملك.
وقال محمد بن المبارك: آخر ما تكلم به يزيد بن الوليد الناقص واحزناه واشقاآه.
وكان نقش خاتمه العظمة لله.
وكانت وفاته بالخضراء (1) من طاعون أصابه، وذلك يوم السبت لسبع مضين من ذي الحجة، وقيل يوم الاضحى منه، وقيل بعده بأيام، وقيل لعشر بقين منه، وقيل في سلخه، وقيل في سلخ ذي القعدة من هذه السنة.
وأكثر ما قيل في عمره ست وأربعون سنة، وقيل ثلاثون سنة، وقيل غير ذلك فالله أعلم.
وكانت مدة ولايته ستة أشهر على الاشهر، وقيل خمسة أشهر وأيام (2).
وصلى عليه أخوه إبراهيم بن الوليد، وهو ولي العهد من بعده رحمه الله.
وذكر سعيد بن كثير بن عفير أنه دفن بين باب الجابية وباب الصغير، وقيل إنه دفن بباب الفراديس، وكان أسمر نحيفا حسن الجسم حسن الوجه.
وقال علي بن محمد المديني: كان يزيد أسمر طويلا صغير الرأس بوجهه خال، وكان جميلا، في فمه بعض السعة وليس بالمفرط.
وحج بالناس فيها عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو نائب الحجاز، وأخوه عبد الله نائب العراق، ونصر بن سيار على نيابة خراسان، والله سبحانه أعلم.
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان: خالد بن عبد الله بن يزيد ابن أسد بن كرز بن عامر بن عبقري، أبو الهيثم البجلي القسري الدمشقي، أمير مكة والحجاز للوليد ثم لسليمان، وأمير العراقين لهشام خمس عشرة سنة.
قال ابن عساكر: كانت داره بدمشق في مربعة القز وتعرف اليوم بدار الشريف اليزيدي، وإليه ينسب الحمام الذي داخل باب توما، روى عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " يا أسد (3) أتحب الجنة ؟ قال: نعم ! قال: فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك ".
رواه أبو يعلى عن عثمان بن أبي شيبة عن هيثم عن سيار من أبي
الحكم أنه سمعه على المنبر يقول ذلك.
وممن روى عنه إسماعيل بن أوسط وإسماعيل بن أبي خالد، وحبيب بن أبي حبيب، وحميد الطويل.
وروى أنه روى عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم في تكفير المرض الذنوب.
وكانت أمه نصرانية، وذكره أبو بكر بن عياش في الاشراف، فيمن أمه نصرانية.
وقال
__________
(1) في مروج الذهب 3 / 268 وابن الاعثم 8 / 141: بدمشق.
(2) في مدة ولايته ومقدار عمره عندما توفي اختلاف انظر الطبري 9 / 46، ابن الاثير 5 / 310 مروج الذهب 3 / 268 ابن الاعثم 8 / 141 الامامة والسياسة 2 / 136 الفخري ص 136 المعارف ص 160 الاخبار الطوال ص 350.
(3) في ابن عساكر 5 / 67: يا يزيد بن أسد.
(انظر المعارف ص 175).
المدائني: أول ما عرف من رياسته أنه وطأ صبيا بدمشق بفرسه فحمله فأشهد طائفة من الناس أنه هو صاحبه، فإن مات فعليه ديته، وقد استنابه الوليد على الحجاز من سنة تسع وثمانين إلى أن توفي الوليد ثم سليمان، وفي سنة ست ومائة استنابه هشام على العراق إلى سنة عشرين ومائة، وسلمه إلى يوسف بن عمر الذي ولاه مكانه فعاقبه وأخذ منه أموالا ثم أطلقه، وأقام بدمشق إلى المحرم من هذه السنة فسلمه الوليد بن يزيد إلى يوسف بن عمر يستخلص منه خمسين ألف ألف، فمات تحت العقوبة البليغة، كسر قدميه ثم ساقيه ثم فخذيه، ثم صدره (1)، فمات ولا يتكلم كلمة واحدة، ولا تأوه حتى خرجت روحه رحمه الله.
قال الليثي عن أبيه: خطب خالد القسري يوما فأرتج عليه فقال: أيها الناس ! إن هذا الكلام يجئ أحيانا ويعزب أحيانا، فيتسبب عند مجيئه سببه ويتعذر عند عزوبه مطلبه، وقد يرد إلى السليط بيانه ويثيب إلى الحصر كلامه، وسيعود إلينا ما تحبون، ونعود لكم كما تريدون.
وقال الاصمعي وغيره: خطب خالد القسري يوما بواسط فقال: يا أيها الناس تنافسوا في المكارم وسارعوا إلى المغانم واشتروا الحمد بالجود، ولا تكتسبوا بالمطل ذما، ولا تعتدوا بمعروف لم تعجلوه، ومهما تكن لاحد منكم نعمة عند أحد لم يبلغ شكرها فالله أحسن له جزاء، وأجزل عطاء، واعلموا أن حوائج الناس
إليكم نعم فلا تملوها فتحول نقما، فإن أفضل المال ما كسب أجرا وأورث ذكرا، ولو رأيتم المعروف لرأيتموه رجلا حسنا جميلا يسر الناس إذا نظروا إليه، ويفوق العالمين.
ولو رأيتم البخل لرأيتموه رجلا مشوها قبيحا تنفر منه القلوب وتغض دونه الابصار.
إنه من جاد ساد، ومن بخل ذل، وأكرم الناس من أعطى من لا يرجوه، ومن عفا عن قدرة، وأفضل الناس من وصل عن قطيعة، ومن لم يطب حرثه لم يزك نبته، والفروع عند مغارسها تنمو، وبأصولها تسمو.
وروى الاصمعي عن عمر بن الهيثم أن أعرابيا قدم على خالد فأنشده قصيدة امتدحه بها يقول فيها: إليك ابن كرز الخير أقبلت راغبا * لتخبر مني ماؤها وتبددا إلى الماجد البهلول ذي الحلم والندى * وأكرم خلق الله فرعا ومحتدا إذا ما أناس قصروا بفعالهم * نهضت فلم تلق هنالك مفقدا فيا لك بحرا يغمر الناس موجه * إذا يسأل المعروف جاش وأزبدا بلوت ابن عبد الله في كل موطن * فألفيت خير الناس نفسا وأمجدا فلو كان في الدنيا من الناس خالد * لجود بمعروف لكنت مخلدا فلا تحرمني منك ما قد رجوته * فيصبح وجهي كالح اللون أربدا
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 348: وضع (يوسف بن عمر) على خالد المضرسة - وهي حجر غليظ جدا خشن الوطئ.
وجعل يعذبه بها حتى قتله.
قال: فحفظها خالد، فلما اجتمع الناس عند خالد قام الاعرابي ينشدها فابتدره إليها خالد فأنشدها قبله وقال: أيها الشيخ إن هذا شعر قد سبقناك إليه.
فنهض الشيخ فولى ذاهبا فأتبعه خالد من يسمع ما يقول فإذا هو ينشد هذه الابيات: ألا في سبيل الله ما كنت أرتجي * لديه وما لاقيت من نكد الجهد دخلت على بحر يجرد بماله * ويعطي كثير المال في طلب الحمد فخالفني الجد المشوم لشقوتي * وقاربني نحسي وفارقني سعدي
فلو كان لي رزق لديه لنلته * ولكنه أمر من الواحد الفرد فرده خالد وأعلمه بما كان يقول فأمر له بعشرة آلاف درهم.
وقال الاصمعي: سأل أعرابي خالدا القسري أن يملا له جرابه دقيقا فأمر بملئه له دراهم، فقيل للاعرابي حين خرج: ما فعل معك ؟ فقال: سألته بما أشتهي فأمر لي بما يشتهي هو.
وقال بعضهم: بينما خالد يسير في موكبه إذ تلقاه أعرابي فسأله أن يضرب عنقه، فقال ويحك ولم ؟ أقطعت السبيل ؟ أأخرجت يدا من طاعة ؟ فكل ذلك يقول لا ! قال: فلم ؟ قال: من الفقر والفاقة.
فقال: سل حاجتك، قال ثلاثين ألفا.
فقال خالد: ما ربح أحد مثل ما ربحت اليوم، إني وضعت في نفسي أن يسألني مائة ألف فسأل ثلاثين فربحت سبعين.
ارجعوا بنا اليوم، وأمر له بثلاثين ألفا.
وكان إذا جلس يوضع [ المال ] بين يديه ويقول: إن هذه الاموال ودائع لا بد من تفرقتها.
وسقط خاتم لجاريته رابعة يساوي ثلاثين ألفا، في بالوعة الدار، فسألت أن تؤتى بمن يخرجه، فقال: إن يدك أكرم علي من أن تلبسه بعد ما صار إلى هذا الموضع القذر، وأمر لها بخمسة آلاف دينار بدله.
وقد كان لرابعة هذه من الحلى شئ عظيم، من جملة ذلك يا قوتة وجوهرة، كل واحد بثلاثة وسبعين ألف دينار.
وقد روى البخاري في كتاب أفعال العباد، وابن أبي حاتم في كتاب السنة، وغير واحد ممن صنف في كتب السنة أن خالد بن عبد الله القسري خطب الناس في عيد أضحى فقال: أيها الناس، ضحوا يقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر.
قال غير واحد من الائمة: ؟ الجعد بن درهم من أهل الشام، وهو مؤدب مروان الحمار، ولهذا يقال له مروان الجعدي، فنسب إليه، وهو شيخ الجهم بن صفوان الذي تنسب إليه الطائفة الجهمية الذين يقولون إن الله في كل مكان بذاته، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وكان الجعد بن درهم قد تلفى هذا المذهب الخبيث عن رجل يقال له أبان بن سمعان، وأخذه أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم، عن خاله لبيد بن أعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط وماشطة وجف طلعة ذكر له، وتحت راعوفة ببئر ذي أروان كان ماؤها نقاعة الحناء.
وقد ثبت الحديث بذلك في الصحيحين
وغيرهما.
وجاء في بعض الاحاديث أن الله أنزل بسبب ذلك سورتي المعوذتين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب : القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد محمد بن علي بن محمد الشوكاني

كتاب : القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد محمد بن علي بن محمد الشوكاني    القول المفيد للشوكاني إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ون...